الجزء الثاني من الفصل السادس: شباط 1988/ د. عدنان الظاهر

شباط 1988

نفذت في الثالث عشر من شهر شباط عام 1988 سفرتي او مغامرتي السندبادية الطويلة والمعقدة بعض الشئ اذ خططت واعددت نفسي للقيام بزيارة الدنمارك وبلدين من البلدان السكندنافية هما فنلندا والسويد . لم أزرْ سابقا أيا ً من هذه البلدان علما اني فشلت في الحصول على تاشيرة دخول الدنمارك حينما قررت زيارة هذا البلد صيف عام 1983 وقتما كنت في العاصمة الليبية طرابلس . لم تبين لي سفارة الدنمارك سبب امتناعهم عن منحي الفيزا المطلوبة لدخول اراضيهم كسائح . الا اني اتذكر جيدا ان احدى موظفات هذه السفارة كانت تتكلم اللغة العربية . فبعد صمت طويل خلال مراجعاتي للوقوف على قرارهم نطقت لتقول لي ـ ويا للمفاجاة !! ـ انك عراقي ولست مواطن البلد الذي تحمل جواز سفره !! مفاجاة المفاجآت !! هل كانت هذه السيدة الخبيثة هي سبب حرماني من تاشيرة دخول كوبنهاكن ؟ لِمَ ظلت طوال العديد من الايام صامتة حتى حانت اللحظة الاشد حرجا لتكشف نفسها وتبين دورها فيما وقع لي ؟ وما الضرر في ان اكون عراقيا حاملا جواز سفر غير عراقي ؟ في مراجعتي الاخيرة للسفارة اعتذرت مني بكل ادب وحرارة سيدة في غاية اللطف كنت اعرف انها هي القنصل في السفارة . اردت إغاضتها فعرضت امامها جواز سفري وكانت فيه تاشيرتا دخول كل من بريطانيا والمانيا وقلت لها اني اساسا لست بحاجة ماسة لزيارة بلدكم ... هيا انظري وقارني. صمتت واجمة ً وهي تقلب صفحات الجواز ثم قالت بصعوبة : لِمَ لم تقلْ ذلك قبلا ؟ مع هذه التاشيرات كنا سنمنحك تاشيرتنا دون الرجوع الى وزارة خارجيتنا في كوبنهاكن . قلت لها سوف لن احاول زيارة بلدكم مهما كانت الدواعي والاسباب . ها اني اليوم وبوثيقة سفر المانية قادر على دخول الدنمارك بدون تاشيرة دخول فاين السيدة القنصل لكي اكايدها واباهيها واين تلك السيدة الخبيثة التي كشفت امري باطلا وليس حقا وكيف عرفت اني عراقي ؟
قصة الفيزا الفنلندية
راجعت القنصلية الفنلندية في مدينة ميونيخ مستفسرا عن شروط منح تاشيرة دخول الاراضي الفنلندية واذا ما كانت هناك ثمة من شروط . اخبرني القنصل أنَّ عليَّ ان أملأ استمارات خاصة ارفقها بصورتين صغيرتين لكي يرسلها بدوره وحسب التعليمات الى وزارة خارجيتهم في هلسنكي حيث هناك القرار وليس في القنصلية . قال إنَّ المسالة تستغرق شهرا ً كاملا . عبأت الاستمارات وسلمتها مع صورتين للقنصل صباح اليوم التالي . قال سنكتب لك على عنوان بيتك حال حصولنا على قرار السلطات الفنلندية المختصة . جاءتني من القنصل بعد مرور اقل من شهر رسالة يبين فيها موافقة حكومته على منحي الفيزا المطلوبة . زرت القنصلية ففوجئت بسيدة تشغل مكتب القنصل . وضعت رسالتهم امامها مع وثيقة السفر الالمانية التي بحوزتي . قالت لدينا صلاحية لمنحك فترة شهر واحد تقضيه في بلادنا . قلت لها ربما لا يكفي هذا الشهر لانجاز الغرض من زيارتي لبلدكم ، لذا أقترح منحي ثلاثة أشهر. سالتني عن ماهية هذا الغرض فأفضتُ في شرح تفاصيل مشروعي للبحث في مكتباتهم وأسواق ومحلات بيع الكتب وجمع المصادر والوثائق الخاصة بموضوع العرب وكيمياء الذهب . ثم سازور بعض جامعاتهم والتقي ببعض الاساتذة في حقل اختصاصي . شعرت السيدة بشئ من الحرج والتردد وهي تقول انها ستتصل بوزارة خارجيتهم لاستطلاع الامر . رفعت بالفعل التلفون وتكلمت مع طرف ثان باللغة الفنلندية وبعد قليل قالت حصلت الموافقة على منحك ثلاثة اشهر بدل الشهر الواحد المالوف . قالت هل معك تذاكر السفر ذهابا وجيئة ؟ سلمتها نسخة منها وكانت لحسن الحظ معي في حقيبتي اليدوية . قالت ربما سيسالك رجال الحدود هل معك ما يكفيك من نقود وربما يطلبون منك عرضها امامهم لاحصائها . قلت أجل ، معي كفاية من النقود . ختمت الفيزا على جوازي وتمنت الموفقية لي في سفرتي هذه . هكذا تيسرت الامور الصعبة بسرعة ومرونة وتفهم عميق لحاجات الناس واحترام مشاعرهم والثقة فيما يقولون ويدعون . لا مجال للمقارنة بين هذا الوضع وحالي في سفارة الدنمارك في طرابلس فشتان ما بين الحالين . كنت هناك احمل جواز سفر بلد عربي وانا هنا احمل وثيقة سفر المانية ، وثيقة سفر وليس جواز سفر !! هل منشأ الجواز يقرر مصير الانسان ؟ هل تتقرر قيمة هذا الانسان بنوع ما يحمل من جواز سفر ؟
رحلة السندباد البرمائية
كانت السفرة مزيجا ما بين السفر بالحافلات والبواخر . غادرت الحافلة
( الباص ) مدينة ميونيخ في الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت الموافق الثالث عشر من شهر شباط 1988 فوصلنا في المساء ميناء ترافيمونده الالماني
Travemuende
ومن هناك اخذتنا باخرة حديثة كبيرة حتى مدينة مالمو السويدية
Malmo.
استغرقت السفرة بالباخرة بضعة ساعات فقط لم ينم أحد ٌ من المسافرين خلالها رقصا ً وصخبا ً وموسيقى وغناءً إذ كانت أيام أعياد الازياء المعروفة
Fasching
ثم عيد الحب ( القديس فالنتاين )
Valentines Day
الذي يصادف الرابع عشر من شهر شباط .
لم تفارقني سيدة جميلة لا في سفرة الحافلة ولا على سطح الباخرة أبدا ً . أخذت مجلسها في الحافلة بجانبي ثم ادّعت انها سيدة فنلندية تعمل في المانيا وانها ذاهبة الى هناك لزيارة والدتها . خففت رفقتها وأحاديثها معي من وطأة تعب الطريق ولم تتدخل في شؤوني الشخصية ولم تسال من اكون وما الهدف من زيارتي لبلدها فنلندا . لطف المرأة وجمالها روحا ووجها ينسيان الرجل متاعبه وهمومه ويخففان من وطاة الزمن والشعور بالوحدة والفراغ فكنت مسرورا برفقتها . عاملتها بكل أدب وعفة وقدمت لها بعض ما كان معي من حلوى وماكولات أخرى فكانت تتقبلها شاكرة . بل ودعوتها الى مطعم الباخرة لنتناول طعام العشاء معا فلبت فورا دعوتي وشاركتني طعامي .
عند وصولنا الى ميناء مالمو السويدي انزلونا من الباخرة ومعنا حافلتنا التي لم نفارقها ولم تفارقنا طوال الرحلة حتى العاصمة الفنلندية هلسنكي .
اخذتنا الحافلة واتجهت بنا صوب العاصمة السويدية ستوكهولم . لفت نظري كثرة الغابات والبحيرات على طول الطريق لكني شعرت بضيق حقيقي من تواضع الشارع الرئيس الذي سنقطعه حتى العاصمة . ممر واحد ضيق يكفي بالكاد لمرور سيارتين . رأيته لا شئَ مقارنة ً مع الطرقات والشوارع الالمانية المعروفة بسعتها وتعدد ممراتها في اتجاهين متعاكسين منفصلين تماما . المسافة بين مالمو وستوكهولم 650 كيلومترا بالتمام . ركبنا وحافلتنا باخرة اخرى فاخذتنا الى ميناء ( توركو ) الفنلندي في سفرة استغرقت ليلة كاملة . قضيت معظم الوقت امتع النفس بمشاهد البحر الليلية وقطع الثلوج الضخمة تتلاصق حينا مع بعضها وتنفصل احيانا ً أخرى . انتبهت ان باخرة ثانية عملاقة كانت تتبع باخرتنا ليس بعيدا عنا متخذة الطريق الذي مهدته لها باخرتنا بتحطيم قطع الجليد وفصلها عن بعضها . كانت الباخرة الثانية تتوهج بأضوية حُمر ٍ قوية شديدة السطوع مثبتة على واجهاتها الامامية . رايتها لوحة رائعة نادرة وسط ظلام البحر الدامس وقطع الجليد الذي يتكسر أمام وحول باخرتنا . وصلنا مدينة توركو
Turku
الفنلندية فودعتني السيدة الفنلندية رفيقة السفرة قائلة انها ستبقى في هذه المدينة لمدة اسبوع او اسبوعين .
ركبنا حافلتنا صباح اليوم الخامس عشر من شهر شباط متجهين صوب هدفي النهائي : العاصمة الفنلندية هلسنكي
Hilsinki .
المسافة بين مدينة توركو وهلسنكي 150 كيلومترا فقط . طريق ضيق جميل . وصلنا هلسنكي الساعة الثانية عشرة منتصف نهار الخامس عشر من شباط 1988 فاخذت ابحث عن سكن مناسب في المنطقة القريبة من محطة الحافلات الرئيسة في وسط المدينة . وجدت الفنادق غالية جدا فاخترت انسبها : 210 مارك فنلندي أي 80 دولارا امريكيا في اليوم لغرفة بحمام وبقية المرافق ولكن بدون وجبة إفطار . ليس الفطور الصباحي بمشكلة بالنسبة لي ، ذاك أني عادة ً ولأزمان طويلة لا اتناول طعاما في الصباح ولا أحسُّ بجوع أو رغبة في الطعام . اخترت هذا الفندق بالذات اذ جذبني اسمه اليه : فندق فنلندا ( فينلاند ) ... اسم على مسمى . فوجئت أني الزبون الوحيد في هذا الفندق ففي الشتاء لا تكاد تجد سائحا في هلسنكي او هكذا قدرتُ وخمنت . مع ذلك كان في الفندق كثرة من العاملين بين موظفي استقبال وعاملات تنظيف دخلت احداهن يوما غرفتي دون استئذان وكنت وقتها مستغرقا في قراءة مجلة نيوزويك الامريكية الاسبوعية لمتابعة اخبار العالم ... اقرأ في المجلة وأحتسي بين آونة واخرى جرعات من زجاجة الفودكا التي ابتعتها من مخازن الباخرة التي تبيع باسعار سياحية مُخفّضة . افتعلت السيدة جفلة من فوجئ بأمر غير متوقع ثم انسحبت سريعا معتذرة وكان عذرها أتعس من فعلها : قالت حسبتك غير موجود في غرفتك !! يا للغباء او الخبث ! دخلت علي َّ غرفتي دون ان تطرق الباب وما كان الباب اصلا مقفلا فكيف اكون خارج غرفتي ؟؟ كانوا جميعا في غاية اللطف والادب يجيبونني على أيما سؤال ومسالة ... كنت ضيفهم الوحيد العراقي القادم اليهم في عز برد الشتاء حاملا وثيقة سفر المانية . الاكثر غرابة ان ادارة الفندق لحظة وصولي وتسجيلي حسب الاصول لم تطلب مني تسديد اجور اقامتي التي حددتها لهم باسبوع واحد . .. كما هو العرف الجاري في بريطانيا او المانيا مثلا . قالوا تستطيع التسديد متى شئت . كانت غرفتي واسعة مريحة مزودة بتلفون وجهاز تلفزيون أعانني على تحمل الوحدة والبعد وبرد شتائهم الذي يُذكّرني ببرد شتاء موسكو . تمشيت طويلا في شوارع هلسنكي ودخلت الكثير من مخازنها وتعرفت سريعا على اهم معالمها ولا من غرابة ، فالمدينة صغيرة قياسا لباقي عواصم الدنيا . اكتشفت على الفور اوجه الشبه الكثيرة بين نساء فنلندا والنساء الروسيات حتى اني حسبت نفسي اتمشى في شارع كوركي في مركز مدينة موسكو وخاصة نساء مدينة ليننغراد وغيرهن من اقصى الشمال .
هل حقا انا في هلسنكي ؟ كنت احلم أنْ أرى هذه المدينة منذ عهود الشباب اذ كنت اتابع اخبار ما كان يعقد فيها من مؤتمرات عالمية سياسية وعلمية ومهرجانات رياضية ثم كنت أعرف انها كانت يوما ً جزءا ً من روسيا القيصرية . جبت شوارعها في يومي الاول فيها وفي راسي طيفا شخصين عزيزين علي َّ احدهما المرحوم اسامة كاظم حسن الذي اقام هناك وتزوج سيدة فنلندية لكنه فارق للاسف الحياة اواسط سبعينيات القرن الماضي في حادث سيارة مؤسف . زار هلسنكي شقيقه طبيب الاسنان السيد عصام خصيصا ليصطحب جثمان اخيه لدفنه تحت تراب وطنه العراق لكن السلطات الفنلندية لم تسمح بذلك . قالوا لعصام ان اخاك مواطن فنلندي ولا يدفن الا في بلده . كان اسامة ضابطا في الجيش العراقي حتى انقلاب الثامن من شهر شباط عام 1963 حيث اعتقل وسجن ثم أقصي عن الجيش. لوالد اسامة قصة تستحق الذكر لانها هي الاخرى تمثل بحد ذاتها صفحة من صفحات سفر محنة وماساة العراق والعراقيين زمان فترة حكم حزب البعث للعراق . أُعتقِل اللواء المتقاعد كاظم حسن الشطري عام 1970 وتعرض للتعذيب والاذلال في قصر النهاية . اطلقوا سراحه بعد وساطات وتدخلات عشائرية واخرى مناطقية كان البعثي القيادي ( نعيم حداد ) احد اطرافها . نعم ، اطلقوا سراحه ولم يقتلوه في معتقله لكنهم قرروا التخلص منه بقتله في الشارع اذ تعرض لحادث دهس بسيارة مجهولة اثناء محاولة عبوره شارع الرشيد في قلب بغداد . نجا الرجل من المحاولة ولكن تحطمت عظامه وفارق الحياة بعد زمن قصير . صفحة اخرى حالكة السواد في تاريخ حكم حزب البعث . كان المرحوم ابو اسامة قبل احالته على التقاعد احد ضباط العهد الملكي المعروفين وخاصة خلال فترة خدمته العسكرية في اللواء الاول في حامية المسيب سوية مع آمر اللواء محمد نجيب الربيعي وآمر احد الافواج عبد الكريم قاسم نفسه اذ شدتهم جميعا اواصر صداقة شخصية فضلا عن رفقة العسكرية والسلاح . لذا كرمته ثورة تموز فاعادته الى الخدمة مديرا عاما للمزارع الحكومية . اما الطيف الثاني فانه طيف صديقي وزميلي في كلية علوم جامعة بغداد الدكتور رياض رشيد . كنت اعرف انه دأب على زيارة هلسنكي في كل عطلة صيفية وقيل في حينه إنَّ له هناك صديقة فنلندية وربما مصالح تجارية من قبيل محطة بنزين وبعض المخازن . فارق اسامة الحياة فهل من سبيل او فرصة للقاء الآخر ؟ ربما . ربما أحال رياض نفسه على التقاعد وجاء ليستقر مع صديقته نهائيا في هلسنكي وينقذ نفسه من بلاوي صدام وحزبه ومن مغامرات صدام . اتفرس في وجوه المارة لعلي اعثر بينهم عليه . وأطيل النظر في المطاعم الصغيرة عسى ان اعثر على وجه امراة تدير أحدها وتدعوني قائلة : تفضلْ أدخلْ ... لدينا اكلات عراقية ... يبدو من وجهك انك عراقي واكيد تعرف زوجي العراقي الراحل أسامة كاظم حسن !! دارت كل هذه الخواطر في راسي وكنت كالواثق أني ساعثر عليها او هي التي ستكتشفني . كان المرحوم وزوجه يملكان مطعما وشركة سياحية . لم أيأس ، قلت ساجدها او سالتقي صديقي رياض غدا او بعد غد . ظل الامل قويا جدا . عدت متعبا الى الفندق ونمت احلم بلقاء .
انقل بعض ما كتبت في دفتر مذكراتي الصغير :
الثلاثاء الموافق 16.02.1988
تمشيات استكشافية طويلة . مخازن انيقة ولكن البضائع غالية جدا . الناس ودودون مؤدبون يساعدون الغريب . الغداء دجاج مشوي ، نصف دجاجة تكلف ستة ماركات المانية اي ضعف ثمنها في المانيا . عودة بعد الغداء للفندق . حمام ساخن ثم فنجان قهوة مع بعض الحلوى . مشاهدة التلفزيون. تركت الفندق بعد استراحة غير طويلة لاتجول في شوارع المدينة على غير هدى . اين رياض ؟ اين مطعم السيدة ؟ دخلت مخزن اطعمة كبير فوجدت تمرا عراقيا مجففا فكانت فرحتي تفوق الوصف . ها انا ثانية في العراق ومع اهلي في العراق . ما سر وما سحر وما سبب قوة تاثير تمور نخيل العراق على الغرباء من امثالي وممن نالهم الكثير من الحيف والظلم في وطنهم من قبل بعض بني جلدتهم ؟ ابتعت كمية كبيرة من هذا التمر على امل ان يبقى او ان ابقي شيئا منه أعود به الى المانيا !! لم أترك منه بعد اسبوع الا النوى .
الاربعاء 17.02
ريح وبرد ودرجة الحرارة 8 مئوية تحت الصفر. تمشيات في مناطق جديدة وفي منطقة الميناء . الغداء كباب مشوي ورز في مطعم نظيف صغير لم تعرني صاحبته أي إهتمام . اذا ً هي ليست زوج المرحوم أسامة كاظم حسن . عدت بعد الغداء للفندق باقصى سرعة يسمح بها البرد وملابسي الثقيلة المبطنة بفراء صوف الغنم ... إسهال شديد !! سوف لن امر ثانية على هذا المطعم الذي يقدم الرز الجيد والكباب المشوي الممتاز. كباب شهي جيد يليه إسهال حاد ثم ان صاحبته لم تتعرف عليَّ ولم تكشف لي عن هويتها وعمن تكون فقد تكون وقد لا تكون هي السيدة التي ابحث عنها . صرت بعد ذلك أرتاد مطاعمَ أخَرَ منها الراقي ومنها الشعبي .
الخميس .18.02
نديف ثلج مستمر ودرجة الحرارة 5 مئوية تحت الصفر . زرت المتحف الوطني الفنلندي . يفتح ابوابه الساعة الحادية عشرة ضُحى . لا يعكس المُتحف تاريخ هذا البلد ، مظلم ومعروضاته قليلة متآكلة . كتبت لهم ملاحظات في الدفتر الخاص بتسجيل ملاحظات الزائرين عبرت فيها عن وجهة نظري فيما رايت . العشاء دجاج مشوي .
الجمعة 19.02
درجة الحرارة 8 تحت الصفر . ريح قوية . زرت متحف مدينة هلسنكي . صغير ، معظم معروضاته لوحات رسم . محتويات غرفتين رسوم ومعروضات لضباط سويديين . عرض افلام مع موسيقى رائعة . تمشيت طويلا رغم البرد . العشاء في غرفتي ، دجاج مع قهوة .
السبت 20.02
تمشيات في مناطق جديدة ودخول مجمع اسواق لطيف . ثلج خفيف . ابتعت كمية اخرى من تمر مجفف رايته كالتمر العراقي المسمى خستاوي شكلا ثم مذاقا .
الاحد 21.02
ثلوج وتمش ٍ وليس من جديد . درجة الحرارة 10 تحت الصفر . امضيت الامسية في غرفتي في فندق فنلندا مع عشاء خفيف وقهوة . كتبت [ بوست كارد ] لابنتي قرطبة في ميونيخ . في هذه الامسية وفي هذا الوقت دخلت عليَّ عاملة الفندق دونما استئذان ثم اعتذرتْ فخجلتُ انا لكنها لم تخجلْ !! قالت حسبتك خارج الفندق !! كنت حسب التعليمات اترك مفتاح غرفتي اذ اغادر الفندق مع المدير المسؤول الذي يعلقه بدوره في اللوح الخاص بالمفاتيح . وحين اكون في غرفتي من الطبيعي ان يكون المكان الخاص بمفتاحها خاليا . والمنظفات عادة ً يأخذن المفاتيح من اللوح الخاص حوالي العاشرة صباح كل يوم لتنظيف الغرف ، فكيف ظنت السيدة اياها اني ما زلت في المدينة خارج غرفتي والوقت مساء ؟ اما كان الواجب يقتضيها ان تطرق الباب مستاذنة ً قبل ان تدخل غرفتي التي لم تكن مقفلة اساسا ً ؟ هل كانت تروم لاسبابها الخاصة معرفة ما كنت افعله حين اكون وحيدا في غرفتي ؟ كرهتها واحتقرتها ولم أعدْ أحييها حين التقيها في ارجاء الفندق .
الاثنين 22.02
10 تحت الصفر . ثلوج ثلوج وبرد . تمشيت على طول الساحل . البواخر محاطة بالثلوج .
الثلاثاء 23.02
زرت متحف
Ateneum.
لوحات قديمة من القرن الثامن عشر والتاسع عشر . في مدخل المتحف لوحة عملاقة لإمرأة عارية آية في جمال الوجه والجسد تمد يدها في صندوق خشبي عتيق ... ما دلالة الجمع بين الجمال الساحر وصندوق خشب قديم ؟ على البحر عصراً حيث الميناء والبواخر التي غادرت وتلك التي ستغادر . غدا السفر الى السويد .
ملخص الزيارة /
لم ازرْ جامعة هلسنكي ولا اي معهد للكيمياء ، بل لم احاول معرفة العناوين . لم يشجعني وضع المدينة ولا طقسها على البقاء فيها لاجراء ابحاث علمية وهو الهدف الاساس من السفرة . مدينة صغيرة كل ما فيها غال ونساؤها كالروسيات مكتنزات بالشحم . ذكرتني هلسنكي بكل اوجاع معدتي التي عانيت منها طويلا اعوام دراستي في ستينيات القرن الماضي في موسكو وخاصة خلال الاعوام 1065 ـ 1967 . نفس الثلوج ونفس البرد . اذا ً فلاتعرف على المدينة جيدا ثم اغادرها لاحاول ايجاد فرصة بحث او عمل في العاصمة السويدية ستوكهولم أو في الدنمارك أو في بريطانيا .
الاربعاء 24.02
المغادرة الى ستوكهولم .
غادرت هلسنكي الساعة السادسة والربع بالحافلة صوب مدينة توركو . سفرة مريحة ، ومن توركو أخذنا الباخرة العملاقة الى ستوكهولم عاصمة السويد . تسوقت من اسواق الباخرة الحرة .
الخميس 25.02
الوصول صباحا مبكرا الى ستوكهولم
Stockholm
وصلنا العاصمة ستوكهولم الساعة السابعة صباحا وكانت المدينة لم تزلْ مقفلة . انتظرت بجوار مكتب الاستعلامات لاحجز مكانا لي في احد الفنادق . فتح المكتب ابوابه في تمام الساعة التاسعة وكنت اول زبون في ذلك الصباح يطلب استئجار غرفة لمدة اسبوع . سالني الموظف هل ادفع الاجور مقدما ؟ قلت أجلْ . قال ذلك يعطيك تخفيضا وتذاكر للسفر في كافة وسائط النقل في ستوكهولم فضلا عن الحق في زيارات مجانية لكافة المتاحف والمعالم السياحية في المدينة . كان الفندق قريبا من وسط المدينة مطلا على البحر من جهة وعلى القصور الملكية من الجهة الاخرى اذ كنت اشرف عليها من غرفتي في الطابق السادس . فندق رفيع المستوى يقدم الفطور السخي صباحا على طريقة ( البوفيه ) اي اخدم نفسك بنفسك.
الغرفة واسعة مع مرافق صحية كاملة وتلفون وتلفزيون ملون كل هذا مقابل خمسين دولارا امريكيا في اليوم فشتان ما بين فندق هلسنكي وفنادق ستوكهولم . قبل ان استلم مفتاح غرفتي طلب مني مدير الفندق ان املأ استمارة استبيان خاصة فيها اسئلة عن الاسم الكامل وعنوان الاقامة الدائمة واسم البلد الذي أتيتُ منه ثم اسم البلد الذي ساقصده بعد مغادرتي السويد ورقم جواز السفر وتاريخ صدوره والجهة التي اصدرته وتاريخ نفاد صلاحيته . يا ساتر !! تشاءمت !! اكره من كل قلبي مثل هذه الاسئلة ، انها اسئلة شرطة تحقيق . لم يحصل مثل هذا الامر في هلسنكي . ما سر هذا التفاوت بين العواصم ؟
تركت حقيبتي في غرفتي ورحت اتجول في مركز المدينة وهو مني قريب. عدت بعد اقل من ساعتين لغرفتي فقد كنت متعبا مع حاجتي الملحة لاخذ حمام ساخن وهو شعور وحاجة ماسة احس بهما عادة ً كلما عبرت من بلد لاخر وتغير تبعا لذلك الناس والطقس والعادات . نمت عميقا استعدادا ليوم جديد في عاصمة جديدة عليَّ .
الجمعة 26.02
تجوال عام في المدينة ودراسة خرائطها السياحية وشبكة خطوط المواصلات فيها .
السبت 27.02
سالت قبيل الفطور مدير الفندق كيف السبيل للعثور على صديق اعرف انه غادر العراق أوائل سبعينيات القرن الماضي واقام لاجئا في السويد . قال ابحث عن رقم تلفونه مقابل اسمه في كتب التلفونات المتوفرة في غرفتك حسب الحروف الابجدية . عدت بعد الافطار لغرفتي لاقلب الصفحات فلم اعثر على اسم صديقي . رجعت للمدير واخبرته اني لم اجد اسم صديقي في كتب التلفونات فقال : ذلك امر طبيعي ما دام صاحبك لاجئا . سالته عن الحل قال هاك استمارة خاصة إملأها لاقدمها للشرطة وساخبرك بالنتيجة لاحقا . اخبرني صباح اليوم التالي ان الشرطة ليست مخولة بكشف عنوان او رقم تلفون هذا الشخص لانه تحت حماية الدولة .
لكم كنت اود لقاء الصديق الدكتور ( ن.خ. ) الذي ترك بلده العراق مبكرا كانه كان واثقا مما سيؤول اليه امر العراق تحت حكم وتسلط البعث وصدام حسين .
زرت المدينة القديمة ومتحف القصر الملكي . لم أرَ في حياتي ماسا اكبر ولا اروع مما رايت على احد التيجان الملكية .
الاحد 28.02
قضيت النهار في المدينة السياحية المسماة سكانسن
Skansen
وزرت المتحف البايولوجي ومتحفا آخرَ يسمى نورديسكا
Nordiska
ثم المتحف التاريخي . في الطريق سقطت على ثلوج الشارع فالتوت قدمي اليسرى ولم اصل الفندق الا بشق الانفس . مشكلة ، مشكلة حقيقية يواجهها السائح اذا ما حدث له عارض او مكروه غير متوقع بعيدا عن اهله وبلد اقامته . اخذت حماما شديد السخونة وقمت بتدليك القدم المصاب عنيفا وطويلا فشعرت بالراحة . لا كسور اذا ً في عظام قدمي لكني بقيت يومين امشي (( كمشية العَرَنْجلي )) ... أضلع ُوأتمايلُ يَمنةً ويَسرةً وأتحاملُ وأُحمِّل جسدي فوق ما يطيق من اجل ان اتعرف على هذه العاصمة جيدا وان اتمكن من تنفيذ بعض مشاريعي فيها .
الاثنين 29.02 [[ السنة كبيسة في هذا العام 1988 / زيادة يوم على شهر شباط ]] .
قضيت النهار في مدينة أوبسالا
Uppsala
قررت ان ازور جامعة اوبسالا التي تربطها بكلية العلوم / جامعة بغداد اتفاقية علمية تمنح هذه الجامعة بموجبها اساتذة قسم الكيمياء في كلية العلوم مُنَحا لاجراء ابحاث علمية في مختبراتها تتراوح آمادها بين شهر وعام دراسي كامل . سبق وان رشحت نفسي لاحدى هذه المنح لكن رئيس القسم وكالة ( س.ع.م. ) نصحني أنْ أسحب ترشيحي إذ أفاد أنَّ [[ الجماعة ]] تضع شروطا ً لهذه الزمالات وغيرها غير متوفرة فيك وأن ليس ثمّة َ من أمل أمامك !! والحر تكفيه الاشارة !! لقد احبط الاتحاد الوطني لطلبة البعث في الكلية وعناصر أمنه ومخابراته هذا المشروع وغيره قبله وبعده من المشاريع فسحبت ترشيحي في انتظار الفرج في فرصة اخرى قد تسنح يوما ما . حرموني من واحد من ابسط حقوقي الاكاديمية . اقول بهذه المناسبة لشخص معتوه موسوس غبي وأعمى ومشبوه من أيتام الفاشي مكارثي وأحد [[ القنادر الإسرائيكية ]] ومن عبَدة النجمة السداسية ...اقول له واود ان يعرف لو يستطيع ان يعرف ... إنَّ جامعة اوبسالا لا ولم ولن ترفض أستاذا ً عراقيا ترشحه كليته وجامعة بغداد لاجراء أبحاث فيها ... لم يحصل ذلك أبدا ً .
لم تكن تلك المحاولة الاولى ولا الاخيرة في مسلسل التمييز والاجرام بحق العراقيين ، فلقد وافقت بعد ذلك بعام واحد جامعة بغداد ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية عام 1977 على ايفادي عاما كاملا لاجراء ابحاث في احد حقول الكيمياء في جامعة ( هالة ) في المانيا الدمقراطية يومذاك لكن امانة سر مجلس قيادة الثورة لم تسمح لي بالتمتع بهذا الايفاد !! لديَّ اليوم كتاب موافقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتوقيع الوزير الدكتور محمد المشاط آنذاك .
ركبت القطار المتجه صوب مدينة اوبسالا فاستغرقت الرحلة 45 دقيقة مقابل 76 كرونا سويديا . فوجئت أن َّ مقاعد عربة القطار محجوزة سَلفاً فكنت كلَّ مرة اجلس فيها على مقعد ياتي شخص ويطلب مني اخلاء المكان لانه محجوز له . هل انا في طائرة ام في قطار ؟ بقيت واقفا والقطار يجري مسرعا لاكثر من نصف ساعة حتى شغر مكان فاشار لي احد الراكبين ان احد الامكنة اصبح فارغا فهُرعت اليه وأرحتُ جسدي عليه (( طركاعة على راسي !! )) . كنت اشعر بالكثير من الضيق والحرج حين أُضطر ان أترك المقعد الذي شغلت ويخالجني إحساس مرٌّ كاني لص والجمهور يسخر مني : غريب لا يعرف اصولنا وعاداتنا وتقاليدنا !! كانت تلك تجربة لا انساها لانها كانت الاولى لي مع قطارات اوربا والتي غدت فيما بعد شيئا مالوفا لكني صرت بعدها اكره السفر بالقطار وافضل السفر بالطائرة او الحافلة ... ولم يزل هذا دأبي وخياري .
في جامعة أوبسالا : سالت عن اقسام الكيمياء غير العضوية فدلوني على احدها . قابلت رئيس احد المجاميع وسالته عن بروفسور اعرفه زار مرة ً قسم الكيمياء في كلية العلوم / جامعة بغداد فاخبرني انه غير موجود . سالته عن امكانية الالتحاق بمجموعته للبحث فقال انصحك ان لا تحاول ! ليس لدينا ما يكفي من مال لمواصلة الابحاث التي نريد ، نواجه ازمة في تمويل الابحاث . ثم تبسّط الرجل البروفسور في الحديث معي وشرح لي طبيعة ما يقومون به من ابحاث وقدم لي كتيبا صغيرا فيه عناوين الابحاث التي نشرها مع فريق مجموعته للبحث خلال عامين . ودعته شاكرا وعدت للعاصمة بخفي حنين .
الثلاثاء 01.03.1988
ها انا اليوم في شهر آذار / مارس اول شهور الربيع .
زرت متحف الفن الوطني
Art National Museum
متحف هائل وجدير بالمشاهدة . بالقرب منه متحفان لم أشأ ان ازورهما فقد انهكتني زيارة المتحف الكبير ثم بسبب الالم في قدمي اليسرى .
الاربعاء 02.03.1988
زرت اربع متاحف اذ شعرت بتحسن ملحوظ في وضع قدمي بعد نوم عميق ثم حمام صباحي شديد السخونة . المتاحف هي : متحف التكنولوجيا وهو متحف طريف / ومتحف الاتصالات / ومتحف الاجناس البشرية وفيه جناح خاص مخصص لقبائل الطوارق في النايجر والجزائر / ثم متحف مدينة ستوكهولم وهو لحسن الحظ قريب من الفندق . بعد الغداء واستراحة قصيرة في غرفتي سحت في المدينة ثانية ً ثم صعدت بالمصعد الكهربائي برج المدينة الشاهق المكون من ثلاثين طابقا . شربت فنجان قهوة في مقهى على احد طوابقه العليا وتمتعت من هناك بمرأى منظر المدينة الممتدة تحت البرج .
ستوكهولم كمدينة افضل لا ريب من هلسنكي لكنها كذلك صغيرة ومتواضعة في مخازنها وشوارعها ومبانيها مقارنة مع لندن ونيويورك وميونيخ على سبيل المثال .


CONVERSATION

0 comments: