مطر يثقب الذكريات و يحفر القلب . الساعة الرابعة والثلث عصرا في أوتاوا .
" أتعلمين أيَّ حزن يبعث المطر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع "
بلا انتهاء كالدم المراق ، كالجياع ، لقد أمطرت حتما قبل أن أُولَد ، على أمي وهي حامل بي ، و في طفولتي نزل المطر الحقيقي على عيوني .
المطر البعيد يحمل رائحة الإنكسار في هذا الركن البعيد . تعال واجلس إلى جانبي . نعم أنا بخير أيها المطر ، وأنت كيف حالك يا صديقي ؟ . رائحتك مفعمة بالحياة والبروق . أنا الشاعر الذي لم يظهر مثله في الأقاليم البعيدة وأنكره أهله كل هذه السنوات .
لقد أنجبتُ فتاة في عيونها مطر كثير . وجهها مكسور ، وملامحها مبتعدة كغروب قمر شاحب .
شاعرة يا للحزن يا صديقي المطر .
تعال واشرب من كأسي ، ماؤك و ذكرياتي يا معطف الحضارات .
عندما تعمل بمحطة وقود ، في الليل ، وترى الرجال الوحيدين الذين تجاوزوا الخمسين ، وهم يشترون الواقي الجنسي بثلاثة دولارات . ربما تعتذر لزوجتك حين تعود إلى البيت . تخاف على بناتك ، قلبك العراقي الجسور يتلفت من الخوف ، وأنت تسحب الغطاء على أطفالك .
هؤلاء الذين يشترون الحب يثيرون الرعب حقاً .
مع هذا على الإنسان الحر أن يكون شجاعا ، و أن يواجه الحياة بمفرده . لا يخشى جثث القتلى في هذه الساحة الكبيرة .
إنني أرفع رأسي وأرفض القطيع المتضامن ، والعائلة ، والحماية الدينية ، والعزاء . بشجاعة رجل وحيد الى الأمام أيتها الأيام .
إن الإنسان مجرد شجاعة ، هذا هو المهم في النهاية . المعارك العظيمة ليست تلك الحماقات التي ارتكبتها الجيوش بشكل جماعي ، وإنما هي تلك التي خاضها إنسان واحد بمفرده .
أنا في الحقيقة معلم ، وأبحث عن تلاميذي
خصوصا بعد أن هجرتني نسائي و بناتي
أن نكتب معناه أن نتوقف عن الحياة . هذه قضية يصعب تفسيرها . لكن الشعب الذي لا يستطيع حماية هؤلاء الهامشيين من الضياع ينتهي إلى النسيان .
عندما أنظر إلى حياتي كلها ، ليس فيها شيء خاص ، ولا حتى أية حكاية مهمة .
إنك تفارق الحياة ، لا تريد شيئا لنفسك ، فكل شيء للكتابة . غير أن ما يؤلمك حقاً ، هؤلاء الذين شاركوك تلك الولادة العسيرة .الذين أطعموك ، حملوك إلى الطبيب ، سكبوا على رأسك الماء في ليالي الهلوسة ، و أغلقوا خلفك باب الحمام لكي لا يسمعك الأطفال وأنت تحدث نفسك .
ابنتك التي أمسكت بردائك ما كانت تعلم بأنك تتعلم معنى الأبوة . حبيبتك التي تركت عطورها في فراشك ، لم تكن تعلم بأنك تتهجاها في كتابك .
لابد أن تفارق باستمرار حتى يأتي الفراق العظيم ، وتتحول إلى ريح مسافرة على شاطيء نهر .
نكهة الأعالي في كلماتي ، بسبب أسلافي البدو المحاربين . غير أنني لا أشبههم تماما فقد أذلَّتني الحياة ، و ألقت بوجهي إلى الأرض .
بمرور الوقت آمنت بأسلافي وأصبحتُ عقيدة صامتة ، علمت بأن مملكتي ليست من هذا العالم .
الفقر وطن جذاب نشتاق إليه ، نرتكب أفظع الحماقات كي نعود وندفن فيه ، وكم أحببت كنية علي بن أبي طالب ( أبو تراب ) قبل أن يفجعني به الذين يجمعون الذهب باسمه .
هناك أشياء لا يمكن أن أموت قبل أن أحدثكم عنها .
لعلي آخر المحاربين المأساويين في العراق . عندي روح فارس عربي ، غير أن قلبي يرتعد من الخوف ، لأن في دمي أيضاً ذلك العبد المغني الذي اشتراه المأمون في طريقه من خراسان إلى بغداد . تلك الطريق المشؤومة التي كان يفكر فيها الأخ بهدم بغداد و ذبح أخيه .
حين أدفع الذئاب عن فراخي تنبت لي مخالب ، و حين أغني مع العصافير المهاجرة فجراً تنبت لي قوادم و خوافي . هل يمكن طرد الذئاب بالغناء ؟ . الذين ينتقدون ما أكتب يظنون بأنني مستمتع بهذا العمل . أصابعي تتنمل و رأسي يدور . إنني أدمر نفسي لأجل شعبي . أشعر باغتراب شديد . لا تعجبني حياة الشرق بسبب العنف ، ولا تعجبني حياة الغرب المادية . أعتقد بإحساسي البعيد إن الإنسان قد ضل الطريق . في الماضي كانت هناك أديرة و خلوات يفر إليها ذوي الإحساس العميق بوجع الحياة .
" إذا زرتُ أرضاً بعد طول اجتنابها
فقدتُ حبيباً والبلادُ كما هيا
0 comments:
إرسال تعليق