تعتبر الكتابة للأطفال من أصعب أنواع الكتابة والتأليف في الأدب العربي عامة؛ فقد نجد كاتبًا يتكلف الصياغة للطفل ويدقق في اختيار الألفاظ، وآخر يعتني في الدلالة والمعاني، وثالثًا يهتم بالصور والرسومات، ورابعًا يحاول أن يدخل عالم الأطفال حتى يستطيع أن يعبّر عما يجيش في نفوسهم من خلال قصة أو حكاية أو معلومة أو حتى طرفة، وهناك من يسعى لخلق كتابية اسلوبية جديدة تمزج بين اللغة والصورة والمضمون في وحدة عضوية متينة.
ولعلّ قصة الكاتب القسماوي نعمان عبد القادر " المطر الأول "يمكن أن تشكل نموذجًا جيدًا لهذا النوع من الكتابة التوليدية التي تجمع بين الشكل (اللغة والصور) والمضمون (المعاني والدلالة) في بنية كتابية إبداعية واحدة. وهنا يجدر التنويه أننا لا ننوي في هذه القراءة الدخول في مغامرة نقدية قد لا تعطي هذا العمل الإبداعي حقه. وإنما سنحاول أن نقف على الأسلوب الكتابي الجديد الذي انفرد به الكاتب في هذا العمل الجاد، ومن ثم عرض القيم التربوية التثقيفية التي تجلت فيه. ولكن قبل الدخول في هذا العرض رأينا ان نقف على ملخص عام لموضوع القصة مما يفيدنا في طرح الموضوع ومناقشته.
تدور أحداث "المطر الأول" حول ولد صغير اسمه باسم، يناديه اخوته الكبار "بسوم". يخرج مع أهله إلى الكرم ليشاركهم في قطف ثمار الزيتون. كانت فرحته كبيرة حين راح يجمع الثمار ويضعها في دلو صغير ثم يديرها في الكيس بعد أن يمتليء الدلو. وازدادت فرحته بعد أن حضر الجيران ومعهم الصغار من أجل مساعدة عائلته في جني الثمار؛ فيخرج مع سلوى وياسمينة ورفيق إلى الوادي القريب ليستمتعوا بجمال الطبيعة ومشاهدة أشجار اللوز والخروب والتين. ثم يقرر الأطفال أن يلعبوا لعبتهم المحببة إليهم "الطميمة" فيختبئون، تبحث عنهم سلوى ولم تعثر عليهم، ولكنّ المطر الأول ساعدها في اخراجهم من مخابئهم وراحوا يرقصون ويصرخون ويستحمون تحت زخات المطر. فتناديهم أمّه من أجل العودة إلى البيت وارتداء ملابس الشتاء. فيعودون فرحين مسرورين وهم يغنون:
ما أجمل السماء ما أروع المطر
ما ألطف الهواء يأتينا بالقطر
ثم ينهي القصيدة:
يا أرضنا العطشى من فوقك الحجر
قولي إلى السماء ما أجمل المطر
وما يجدر ذكره أن هذه القصيدة من الممكن تلحينها لأن كلماتها موزونة.
ما الذي يميز قصة المطر الأول؟
تختلف قصة "المطر الأول" من حيث الإخراج الفني عن غيرها من القصص، فقد تلاءمت الرسومات الملوّنة الجذّابة مع الأحداث. فلم نجد استباقًا للأحداث لأي منهما كما يحدث عادة مع باقي القصص، ولعلّ أكثر ما يثير الالتفات هو تحويل النص القصصي إلى نص تعليمي من الدرجة الأولى، فقد استعمل الكاتب جميع الأفعال الموجودة في القصة ليجعل منها درسًا تعليميًا في النحو واللغة، حيث أبرز الأفعال الماضية فيها باللون الأزرق، والأفعال والمضارع باللون الأحمر، أما فعل الأمر فقد خصص له اللون الأخضر، وبعد ذلك جعل لنا في الصفحة الأخيرة فعالية دمجت مهارتين هامتين من مهارات التفكير العليا : التصنيف والمقارنة إذ طلب فيها تصنيف الأفعال في مجموعات والمقارنة بينها. يبدو ان هذا الأسلوب الكتابي التعليمي كان نتيجة واضحة لكون الكاتب يعمل في مهنة التعليم معلمًا ومرشدًا لموضوع اللغة العربية في منطقة المثلث الجنوني تحديدًا يتنقل من مدرسة ومن محاضرة إلى محاضرة أخرى.
من هنا نستطيع القول: إنّ القصة المذكورة آنفًا ، على ما يبدو ، لم يكن غرضها الأول غرضًا تجاريًّا، إنّما هو غرض تعليميٌّ تربويٌّ في الدرجة الأولى. ولعل خير ما يؤكد ذلك هو تخصيص صفحة كاملة، في نهاية القصة، لقيم تربوية وتعليمية تمكن الأم في البيت، أو مربية الأطفال في المدرسة أن تستفيدا منها وغرسها في نفوس التلاميذ: كحب الأرض، والمحافظة على الشجرة المباركة التي ذكرت في القرآن الكريم، وتعليم الطفل عن فوائدها، بالإضافة إلى التعاون الأسري والاجتماعي، وتهذيب الطفل على حب الطبيعة والتنزه فيها، وتعليمه عن أهمية المطر للنباتات والأشجار والبشر. والظاهر أن اختيار الكاتب لشجرة الزيتون لم يكن عبثيًّا ولا عشوائيًّا، بل ربما كان مقصودًا ومتعمّدًا اذ أنّ هذه الشجرة معانٍ مختلفةٍ ودلالاتٍ واضحة.
لماذا المطر الأول؟
المطر الأول هو مرحلة انتقالية تأتي ما بين الصيف والشتاء. وهو الحبيبات المائية الأولى التي ينتظرها الناس بعد حرّ وجفاف طويلين. وفيها الطفل يحس بالمتعتة حين يتبلل لأول مرة من أمطار السماء وتبقى في ذاكرته. فهي كضيف جديد يحلّ في البلدة ويخرج الناس جميعًا لاستقباله. والمطر الأول لا يأتي في موسم الزيتون فحسب، بل يحلّ في الفصل الأول من السنة الدراسية إذ تستطيع المعلّمة توظيف القصة واستخدام المناسبة لتجعل منها درسًا راسخًا في الذاكرة الطفوليّة. كما تستطيع أن تخرج مع الأطفال إلى المحيط القريب لتجسيد القصة وتمثيلها أمامهم على أرض الواقع.
لعلّ ما يجعل القصة مثيرة للانتباه كتابتها بأسلوب سهل وبلغة سلسة وبسيطة لا تعقيد فيها، ذلك أنّ الجمل والأحداث قريبة جدًا من حياة الطفل اليومية، وبات الطفل يشعر بالأحداث ويتفاعل معها كأنها جزء من أحداث واقعه المعيش. وعلى هذا الصعيد تبرز مقدرة الكاتب الإبداعية؛ فنحن نرى أن البساطة في أدب الأطفال تعتبر من العوائق الحقيقية أمام كثير من الأدباء وبخاصة كتاب أدب الأطفال؛ فالتبسيط عادة ما يتطلب جهدًا إضافيًا من الكاتب كي يستطيع أن ينزل المعاني في ألفاظ وجمل سهلة مفهومة تخلو من الطول والتعقيد والغموض والغرابة مع الاحتفاظ بالتشويق والجمال في نفس الوقت. يبدو لنا أن الكاتب اختار أن يكتب قصة تناسب لغة ومضمونًا، أجيالاً مختلفةً ابتداءً من رياض الأطفال غير الإلزاميّة وانتهاءً بالصف الرابع والخامس؛ فلغتها السهلة البسيطة تتناغم مع الأجيال الأولى إذ تثريهم بمفردات جديدة تقوم المربية بتبسيطها وتمثيلها. ولعلّ قراءة القصة قراءة معبّرة مع إيماءت مناسبة عدة مرات تمكن الطفل من فهم القصة وإعادة سردها.
وخلاصة القول: إن الكاتب استطاع أن يؤكد في قصة "المطر الأول" على أهمية الكتابة الإبداعية؛ فجمع النحو مع الأدب، والشعر مع النثر، والفكرة مع الأسلوب، واللون مع الكلمة. هذه القصة التي تضاف إلى مجموعة قصص الأطفال لا شك أنها ستثري أدبنا العربي الخاص بالأطفال، وتغني المكتبة العربية التي تفتقر للقصص التربوية الهادفة. فما أحوجنا اليوم لمثل هذا اللون من القصص لإثراء أطفالنا لغويًا ثم إعادة هيبة لغتنا العربية في الوقت الذي يعلم فيه الجميع ما آلت إليه لغتنا الفصحى من طمس وضياع.
0 comments:
إرسال تعليق