المرأة الخلاسية/ علي بختاوي

قصة قصيرة
قلت لقلبي إهدأ . كف عن نواحك وسط حرائق العمر . طريقك هذا لا يؤدي بك سوى الى التيه و الظلام . أنت إن بقيت تحدق إليها بهذا الشكل حتما لن تقبض سوى الريح . المرأة التي تقفز كالغزال من مكان الى آخر لا تُؤتمن . تنصهر من الداخل . من أعماقها . من العَصَب الذي تظن أنك ستضعفه يوما . لكنها تبقى واقفة . ألم تثق بعد في أن المرأة التي تحب الغسيل لا ينقصها الماء . حاول أن تقتنع . عنادك سلّم . تتطلع من خلاله اليها . الى الوجه الصافي الجميل . نساء السيليساو ي يقتلن الواحد ويمشين في جنازته . من النافذة المقابلة لبيتها تترك عينيك تخطفان تقاسيم الجسد الضاج بالشهوة . بالإقتتال بين أعضائه . الفائر . المتسائل عن رجل يدلكه . يغزوه . يعود به الى أيام الفتوحات البرتغالية . أهل الريقي لا يثقن في أي كان . لكنهن غبيات . التاريخ لا ينسى . يذكر ذلك بإستمرار و إصرار . هنا على أرض الدورادو الخيالية التي لم ينجو منها أحد . حيث المطر له عهد مع المسكونة الخضراء . حيث الوطواط . مصّاص الدماء . عفريت الأساطير الساخرة . و أوراق الكوكا التي يزعم الكثيرين أن ربا مزعوما رماها على المرتفعات في غضب وقلق متطرّف . شدّت انتباهي . سكنت دمي . لا أرى سواها في هذا الحشد الهائل من النساء .
- أستاذ . يعطي دروسا في الفرنسية . اهتمّ كثيرا بالأدب البرازيلي الى أن رمته المقادير هنا . هنا في بلادكم . بلادكم جميلة لكنها خطيرة يامونيكا .
- أنت منذ زمن بعيد هنا ؟
لم أجبها إجابة واضحة . جليّة . مريحة . لعل وعسى
تركتها تتلوّى كالأفعى في مكانها الذي بدا لي كالسماوات ذات الصدع . هروبها من عباراتي أدركته لأول وهلة . رأيتها تهمّ بالذهاب . لا أدري الى أين . لكني متأكد ان وراءها شغل . عمل مجهد ستقوم به . من يومين الى ثلاثة تأتي الى بيتها المقابل للعمارة التي أسكنها منذ سبع سنوات . تراقب الى أين وصلت يد البنّائين في ترميمه . تسأل . تقترح . تأمر . تنهى . لا تبالغ في النهي . لذلك ملامحها تهدأ و تنفرج عن وجه ملائكي كلما رماها أحد البنّائين بنظرة . في وجودها يكثر الكلام . يعزف كل واحد على الوتر الذي ينال رضاها . يبدي رأيه حتى و إن كان على خطأ . حتى ترضى . حتى تأخذ ملاحظة لطيفة من أحد ما . أنا كذلك إندمغت مع الحشد . ابديت رأيي بثبات . عزفت لها نشيدي المقهور . وَتَري الإستثنائي منحها ثقة ما . جعلها تردد على مسامعهم ماقلته . مااقترحته . ماجادت به قريحتي في الهندسة المعمارية العربية . سرجيو . الأمين على إدارة أشغال بيتها . عضّ على شفته السفلى . خامره الشك في أن يضيع عمله . قوت أولاده . المسكين . لم يدر أني أريد ترميم بيتها الداخلي . من القلب . الى المشاعر الجريحة المستباحة . أنا متأكد أنّها تعذّبت على مدار السنوات الماضية . لي ما يبرّر ذلك . لم أر . لم أعاين . لم يدلي أحد لي بأي سرّ . لكن حدسي لا أكذّبه . معظم المغاليق الغامضة التي تنبأ بها احساسي صارت حقيقة مرئية . إذن أنا في الطريق الصحيح . منذ اليوم . من هذه الساعة . عليّ أن أبرهن على مدى دهائي و ذكائي . عليّ مكاشفتها من الجانب الذي أراه مناسبا لي و لها . من المستحيل الممكن انها تتحابب مع رجل ما . في الحقيقة لا أدري . لكن أجمل النساء كتاب مفتوح . حين ترفع رأسها وتميله يسارا تسقط خصلة من شعرها على جبينها الحليبي . أما نهداها كأنهما يتغامزان لتسلق سلالم هوائية واللحاق بشيء ما . مرّة واحدة ساعفني الحظ فرأيت ساقها . لم تهجره عيني من اللحظة التي لحسته الى الآن . أمامها يتلوّى القلب و يهمس : هذه المرأة وراءها سرّ .. ! . أبدأ في حساب الأيام التي تأتي فيها خلال الأسبوع . الأحد . الثلاثاء . الجمعة . أما الزمن غير محدّد . متروك للظروف والطواريء . بالنسبة لي يتباطأ الوقت . يتثاقل . حتى توهمّت أنّ التوقيت البرازيلي لا يمشي إلا حسب عقرب ساعتها . قفزي . بحثي الدائم والحثيث . تمركزي لفترات طويلة أمام أبواب ومحلاّت في حواري شتى كي أضبط خروجها و دخولها من العمل أمر مقطوع به . لكن عبثا عثرت لها على مخرج او دخول . في صغري لم أتعب في العثور على أعشاش اليمام والعصافير . صديقي ابن يقعوب اندهش . ركبته حيرة يوما فسأل : هل اشتريت الحظ أم وهبته ؟ . ''اتبعني فقط '' . أجبته .
قالت ذات ضياع : أراك حزينا . ملتفا حول نفسك كثيرا
- الأيام يامونيكا
خفت الزلل . اذا حدث وسقطت مَنْ ينتشلني . كان لابد من الإقدام بحذر . تعمدّت التريث والمشي خلفها لأرى تناسق جذعها . لا تلتفت وراءها . هل كانت تعرف وتداري . تتغابى . تستميلني وتغريني من حيث لا أدري أو أدري . ؟. ويلي اذا انحنت كي تهندس بعود حطب على صفحة الرمل . تخط التصاميم . تنزع بابا لتستبدله بدهليز يؤدي حتى الى الحديقة . أعرق . أنتعض . يلفني دوار رهيب . قالت أنها شغفت حبا بتصاميم البيوت العربية القديمة . جابت امريكا اللاتينية كلها . أروبا . افريقيا . طافت الدنيا . لم تجد مثيلا لقوس النصر بتيمقاد . بل للبنايات العتيقة للتيمقاد . حين تفرش الثلوج لحافها الأبيض فوقها تبدو الكابيتول كعرائس ملائكية تريد العودة الى السماء . قالت بلادي شاسعة . صعبت على البرتغاليين . اجتياحها عسير . غاباتها الكثيفة المليئة بالوجوه الهندية الحاقدة والنبال الحادة . حتى ''بدرو'' الفارس لم يتوغل بسفنه الى العمق . اكتفى ببعض المناطق : سانتوس . باهيا . رسيفي .. الإخضرار و الأمطار والأزهار التي تلف بلدي من أقصاها الى أقصاها . لا تترك عيوني مزغللة مثل الهندسات التي سحرتني و أكدت لي أن تاريخكم متجذر عميق الصلة بالإنسان . مرّة وهي تسكب مشروب الكوكاكولا في كأس من الفخار الغامق بلونه البنّي . قبّلت حافة الكأس . '' دعني أعيش ذكرياتي بالجزائر معك . هل تصدّق اذا صرّحت لك أني الآن مهوسة بك . آه لو تتركني أقبّل ثيابك . ربما تحمل ريحا أو رائحة ما من بلدكم الطيب الجميل . هذا الكأس البني اقتنيته من هناك . أنت لا تدري كم هو عزيز لدي . فتحت أزار قميصي عن صدري المزغب خطفا . لعل وعسى . من يدري . ربما لحظتي . المرأة مهبولة بالجزائر . بأرضها الضاربة في القدم و التاريخ والوجود .و أنا متطرف بجنوني . بإنصهاري نحو تينك الردفين . هي تسأل ''متى تعود الى بلدك أعود معك'' . و أنا أمضغ سؤالي في شهوة حرّى . ''متى تعودين الى هذا البيت الذي قارب نهاية الترميم و الزخرفة والطلاء '' . بعد شهر . نعم . بعد شهر كامل . أتذكر هذا جيدا . عادت بأثاثها ولوازم بيتها . من خلف الستارة الشفافة لنافذتي الزجاجية رأيتها تحدد الأمكنة التي ستضع فيها تجهيزات بيتها . عيني لا ترقب سوى السرير بخشبه الأحمر . أين مكانه من بين الخمسة غرف التي تحتل مساحة منزلها . أين ؟ . العاملون كثر . الأيادي تصفف . ترتب في تردد مشوب بقلق وخوف . السيجارة لا تفارق فمها الصغير مثل فتحة خاتم في أصبع أمير عربي . من فترة لأخرى تترك يديها حول خاصرتها . تقدم رجلا وتؤخر أخرى . هل تعبت ؟ . ماذا لو نزلت وجاهدت واجتهدت في مساعدتها ؟ . ستفرح . تنسى هذه الفوضى التي ألمّت ببيتها . ستقول في نفسها مثلما ظنّت فوثقت . ''العرب كرماء'' . سأكبر في عينها مثل الكابيتول . و أنال . أنال ماعزّ على غيري من أبناء جلدتها . نفيت فكرة النزول خارج رأسي . لأسباب جمة . منها سرجيو . وبعض معاونيه . البرازيلي يغار . مآسي الكابوكلو في السرتون وآلام الزنجي في كامبوس لا تدعه من أن لا يحقد . يحسد . يترصدني في حارة ما ويطعنني فأغدو نسيا منسيا . لا . لو منحت السرّ لخادمي سيصبح سيدي . أنا لا أريد أن أكون خادما . ساعيا أجتهد . أمهّد . أراوغ . لكن في الظل . بالسر أتوّج أميرا . بعد أسبوع زرتها . ''باقة ورد تكفي مع وضع قليل من الزيت في العجينة '' . نحن أصْيَد خلق الله على الأرض . دم الوليد بن يزيد يسري في أعصابنا و أوصالنا . إذن كيف لا أصل ؟ . حييتها . حللت عقدة لساني . طردت تقطيبتي التي ظلت تكسو ملامحي لأسابيع بسبب بعدها عني . لعل وعسى . قالت حيّرني اختفاؤك . حتى شككت أنك قفلت راجعا الى بلدك دون أن أسمع . فحيح من حلقي الى مابين فخذي . أمسكتني رعشة ساخنة فارتججت . توعدّتها في السر . ''سألتهمك الليلة'' . على طاولة من الرخام المنقط بالأبيض والرمادي صبّت كأسا من البيرة المثلجة . شنشنة تصعد من فقاعات وسط الكأس الأبيض الشفاف . لو سألتها أين كأس الفخار الجزائري و أجابتني انه تكسّر أثناء ترتيب البيت سأكون وضعت نهاية علاقتي بها . سيتغير مزاجها . تحزن . غمامة رصاصية اللون تلفها . سأدع حكاية الكأس هذه الى وقت لاحق . ثم ماعلاقتي بالكأس . ليذهب الى الزبالة . الى الجحيم . مايهمني هي . تمددها أمامي . حمحمتي . تصلّب عروقي لدى القبلة الأولى . الإنجذابة التي تتركني مشطورا و مكسورا . بهزة من رأسي أجبتها : ''أجل اليوم سأشرب . نخب البيت الجديد سأشرب و بكثرة'' . وقفت متثاقلا . دنوت . اودعت عيوني لدى من عذبتني ليال طويلة . دق كأسي كأسها . قهقهتْ . بيسراي أحطت ظهرها . دقّت نظراتها في وجهي . لم أفهم . حاولت . لكن غبيا كنت . ضغطت بصدري على نهديها النافرين . لم أحسب المسافة التي كانت بين فمها و فمي . في الدقيقة التي هممت أن أقترب و أقبّل رمت الكأس من يدها . فتوزع شظايا على البلاط الناصع البياض . ''من سوّل لك أن تقبلني في فمي ؟ . أنت صديقي ولست عشيقي . أنتم الرجال . كلهم من طينة واحدة '' . ثم جمعت يديها على صدرها واتجهت صوب النافذة التي تطل على البحر . لم تستدر حين جررت رجلي خارجا و في دمي يصرخ الوليد بن يزيد : أنت لست من تلاميذي ... !! ؟

CONVERSATION

0 comments: