وأنْ نظلّ، هكذا، شبابا
يفورُ مهما مرّت الأيّام
بهذا الأمل وهذه الثقة وهذا الإصرار، انطلق سالم جبران في سنوات الخمسين الأخيرة من القرن الماضي (القرن العشرين) مع كوكبة من شبابنا المبدع المتمرّد على الواقع القائم أمثال: راشد حسين وشكيب جهشان وعمر حمود الزعبي ومحمود الدسوقي وسميح القاسم ومحمود درويش مع الذين سبقوهم أمثال توفيق زيّاد وحنا إبراهيم وحنا أبي حنا وعصام العباسي وعيسى لوباني وغيرهم ليغيّروا المفاهيم واللغة والحياة برمّتها.
كانت ساحات المدارس الثانوية في الناصرة وكفر ياسيف والرامة يومها، تفور وتضجّ، وترفدُ ساحات قرانا ومدننا بعيّنات من الشباب المتميّز الذي انطلق ليغيّر كلّ شيء، رغم خوف الأهل وحرصهم، ورغم ظلم الحاكم العسكري بكل ما يملك من وسائل قَهْر وظلم وإغراءات.
وكان سالم جبران، ابن قرية البقيعة الجليليّة، واحدا من هؤلاء المتميّزين بين المتميّزين، وصاحبَ الصوت الواضح القويّ الذي اختار الطريقَ الصّعب، وكله ثقة وأمل أنّه المنتصر، وأنّه المحقّق للأمل والحلم الكبير.
وفي سنوات قليلة استطاع سالم ورفاقه أن يكونوا الصوتَ العالي للجماهير العربية في إسرائيل، وحوّلوا ساحات مدننا وقرانا إلى ساحات نضال وثورة وحِراك شعبي، وأصبحت قصائدُهم التي يُنشدونها ما تُردّده هذه الجماهير في كل مناسباتها الوطنيّة.
واخترقت قصائدُهم الحصارَ الكبير، وعبرت الحدود إلى العالم العربي لتُبهر الإخوةَ هناك، ولينطلق غسان كنفاني، بكل الفرح والسعادة، ليُعلنَ بصوته العالي القويَ : هؤلاء إخوتي، هؤلاء شعراء المقاومة في الوطن المحتلّ. وهذا هو شعر المقاومة الذي كُنّا نبتهل إليه.
وتحوّلت أسماؤهم وقصائدهم لتكون التّمائمَ التي تُعلّق على صدور الثوّار والمقاتلين الأحرار في كلّ الوطن العربي.
وعندما كتبتُ مقالتي التي أثارت حفيظة الكثيرين، ونشرتها في صحيفة الاتحاد يوم 6/3/1987 "أن تكون شاعرًا.. يعني أن تموتَ قابضا على حجر"، وطرحتُ السؤال المثير للكثيرين: "لماذا هؤلاء الأربعة؟ ولماذا هذا التّمحور في كل العالم العربي حول الأربعة أسماء وبالتّرتيب المتكرّر: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زيّاد وسالم جبران"، كنتُ على يقين وإدراك وثقة أنّ هؤلاء هم الذين رسموا مسيرة شعرنا العربي ، بكلّ ما اتّسم به من تميّز وتفرّد، وأسّسوا لمدارسَ سار على هَديها العديدُ من الشباب المبدعين.
صحيح أنّ سالم جبران ترك الشعرَ وانصرف للعمل الصّحافي والكتابة النثرية والعمل الحزبي، ولكنه ظلّ في موقعه الثوريّ المعطاء المتميّز، وظل لمقالاته الأسبوعية في الاتحاد والجديد والغد، ولمحاضراته السياسية التحليليّة في معظم قرانا ومدننا، السحرُ الخاص والأثرُ الخاص، بما تُنير الدربَ، وتُعطي الأمل، وتُثير الحماسَ للعمل ورفض الخنوع والاستسلام.
كانت كلماتُه حادّة، موجزة، واضحة وقويّة، وكانت تحليلاته عميقة ومقنعة وثوريّة، يعرف كيف يبسّطها ليفهمها كلّ إنسان، وكيف يَشحنها ليعتنقها ويؤمن بها ويعمل بهديها كلّ سامع.
كان سالم يؤمن أنّ الإنسان هو القيمة الأساسية والمهمة في الحياة، وأنّ الوجودَ بكلّ ما فيه خُلق للإنسان ورفاهيّته وسعادته، وأنّ ما نجده من طغيان وظلم واستغلال هو نتيجة للفكر المناقض لطبيعة الطبيعة وللشرائع السماويّة، ودورنا في الحياة أن نعمل على قهر هذا الفكر، والعمل للانتصار عليه، وخلق العالم الذي نحلم به، ونسعى إليه، عالم تسوده المحبّة، ويتعاون فيه الجميع لبناء مستقبل أفضل.
كان سالم يعرف أنّ الواقع ليس الذي يحلم به، وأنّ واقع شعبه الفلسطيني هو واقع التشرّد والضياع والاستغلال من قبل الأنظمة المتحكمة بالشعوب العربية في كل قطر وقطر والدول الاستعمارية والفكر الرأسمالي المدَمّر الشّرس، ولهذا لم يكن متفاجئا عندما وصل إلى مدينة صفد التي أمل أنْ يجدها كما حلم بها، ففاجأه أهلُها الجدد بالرفض والطّرد، فوقف مُردّدا حزينا مقهورًا:
غريب أنا يا صفد
وأنتِ غريبة
تقول البيوتُ: هلا
ويأمرُني ساكنوها: ابتعدْ.
لكنه لم يُصَب باليأس، ولم يعتزل الساحة ويهرب من المواقف الصّعبة ويهجر المبدأ، كما فعل كثيرون أمام أوّل أو ثاني صدمة أو تهديد أو إغراء. وإنّما ظلّ صاحبَ الموقف والطريق والحلم. وظل يُردّد بكل ثقة:
أحبّ أنْ أعيشَ ألفَ عام
وأنْ نظلّ، هكذا، شبابا
يفورُ مهما مرّت الأيّام
رغم أنّه يدرك بأنّ عمر الواحد محدود:
فنحنُ لن نعيشَ ألفَ عامْ!
ويؤمن بقوله تعالي: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"
ألف سلام لك يا سالم وألف تحيّة.
نمّ هادئا مُستريحا يا رفيق، فيومُ البعث حلم لا يزال، ونحن كما قال شاعرنا ورفيقُ دَربك سميح القاسم:
"أبدا على هذا الطريق".
alkasemnabih@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق