المكان في القصة القصيرة بين "غزالة الموج" و "الشكل المستطاع"/ عبد الكريم عليان

(هذا البحث كان محورا من محاور أيام القصة القصيرة التي أقيمت في غزة فترة أيلول ـ تشرين الثاني العام 2011 بإشراف يوتوبيا المعرفة وبدعم من القنصلية البريطانية.)

لعنصر المكان في القصة القصيرة أهمية بالغة إذ بدون "المكان" لا توجد قصة، حيث لكل قصة شخوصها وأحداثها، وبالطبع لا يمكن لهذا الفعل أن يتم في الفراغ، أو اللامكان.. فالمكان يصنع الشخصيات والشخصيات تصنع أماكنها الخاصة بها، وتتبدّى الحبكة أو المفارقة موصولة بانفعالات المكان الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو غير ذلك.. في مقدمة ( الملهاة الإنسانية ) كتب بلزاك طارحا بشكل جزئي مذهبه الأدبي: "الحيوان هو تكوين يكتسب شكله الخارجي أو بعبارة أدق، فوارق شكله وفق المحيط الذي يقرر نموه. وتنشأ الأصناف في عالم الحيوان من هذه الفوارق.. ولقد لاحظت أن المجتمع شبيه بالطبيعة من هذه الناحية، ألا يخلق المجتمع الإنسان بالاعتماد على الوسط الذي تتطور فيه حياته؟ أليس هناك أناس مختلفون كما الحال مع الأصناف في عالم الحيوان؟ إن الفوارق بين الجندي والعامل والموظف والمحامي والمتسكع والعالم ورجل الدولة والبائع والبحار والشاعر والمُعدم والقس هي، رغم أنه يصعب مسكها، شبيه بالأخرى القائمة بين الذئب والأسد والحمار والغراب وقرش البحر والفقمة والحمل". (بلزاك: الملهاة الإنسانية، ترجمة: ميشيل خوري، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1995) .

البعد الأيديولوجي في منظومة قيمه تؤثر في الشخصيات، كما البعد الذاتي في رؤاه التخيلية، بُعدان توجّههُما معطيات مكانية وتؤثر فيهما، فالبيئة المكانية فاعلة في البيئة الزمانية وموجهة لها، وهناك عالمان للمكان في القصة القصيرة والرواية؛ أولهما : العالم المألوف في أجزائه الواسعة ومكوناته اللافتة. وثانيهما : العالم المصغر كالسفينة أو المركبة أو الزورق أو الزنزانة، غير أن الشائع في القصص القصيرة أن يحدث الفعل القصصي في مكان أو موضع. وقد يُعرف تعريفاً غامضاً، أو يشار إليه في وصف عارض تماما. وفي القصّ الواقعي، والكتابة الطبيعية المتطرفة في واقعيتها، حيث توصف البيئة أنها قوة فعالة مؤثرة في حياة الشخوص، قد يكون الموضع مسهبا في تفصيله، لكي يمنح القارئ الإحساس بصدق الواقع أو يصوّر موقعاً هو في حقيقة أمره مشارك في الفعل القصصي؛ وسواء كتب الموضع بأسلوب جريء، لا يتردد عن ذكر أي شيء فيه أم كان فوتوغرافيا دقيقا في تصويره، فإنه قد يمد بموقع ليحْتلّه الفعل القصصي لا غير، أو قد يزيد في تقديم فحواه، أو فحاياه إما : بان يهيئ الجو المناسب أو يعكس العلائق في الفعل القصصي أو الحبكة عكساً رمزيا، وتهيمن دلالة المكان أو الموضع أو الحيز على كيفية رواية القصة، بما تكون عناصرها خاضعة لمؤثرات مكانية في توجيه القصة عامة، وانفعال الراوي بدلالة ذلك بوصفه فاعلاً مؤثراً موجها، وبما يكون المروي له ناظراً إلى دلالة المكان أو الموضع أو الحيز منطلقا من تلك الدلالة كلياً أو غالباً؛ فإن ذلك كله يستدعي الصدور عن بنية المكان القصصي في القراءة؛ وصفاً أو تحليلاً أو تصنيفاً..

ومن هذه الأهمية دأب كثير من النقاد في البحث والتحليل للمكان في كثير من القصص والروايات.. ونعتقد أن المكان في القصة الفلسطينية هو القصة نفسها بحكم ظروفه الجغرافية والسياسية والثقافية والتاريخية، وانعكاس ذلك على حياة المجتمع الفلسطيني، وكما الفعل الفلسطيني منذ زمن طويل محصورا في تحرير المكان/ الوطن.. كان أيضا الفعل الفني بمختلف أشكاله؛ فتصدرت القصة القصيرة أيضا هذا الفعل على حساب العمل الفني وذائقته الجمالية والرؤيوية من جهة، وحركة الإنسان بأنشطته المختلفة ظنا من الكاتب أن ذلك سيساهم أيضا في التحرير من جهة أخرى، أو أن ذلك الفعل جاء طبيعيا لحركة الإنسان الفلسطيني..

الراصد لحركة القصة القصيرة الفلسطينية يستنتجُ أنها قصة "مقاومة" وكما أطلقوا على الشعر "شعر مقاوم" لماذا لا نطلق على القصة القصيرة أيضا "قصة مقاومة" حيث أن القصة القصيرة أقرب إلى الشعر من أي جنس أدبي آخر؟ لكنها لا يمكن أن تكون تحريضية وثورية كالشعر.. فبقيت توثيقية أو تسجيلية أو نقدية، ونعتقد هنا مكمن الخلل حيث لم تعد الرواية ولا القصة في هذا الزمن صالحة لذلك.. حيث كثرت المؤسسات التي تقوم بتوثيق الحدث بالصوت والصورة أكثر دقة وشفافية.. وتجدر الإشارة إلى أن القصة القصيرة حتى وقت قريب كانت تحسب جغرافيا لغزة، والشعر للضفة الفلسطينية ـ فترة السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات، ويؤكد هذه النظرة ظهور كتاب روّاد القصة القصيرة في غزة ـ جيل ما بعد السبعينات ـ نذكر منهم: علي لبد، محمود صالحة، زكي العيلة، صبحي حمدان، عبد الله تايه، غريب عسقلاني، محمد أيوب، عثمان أبو جحجوح، عمر حمش، سليم عوض عيشان، ومعظمهم ساهموا في تأسيس اتحاد الكتاب في غزة، بالطبع نحن نتحدث عن الكتاب الذين يعيشون في غزة، وليس الغزيين خارج غزة.. وحتى بداية التسعينات لم تظهر في غزة كاتبة قصة واحدة، ونعتقد أن من سبق ذكرهم برعوا في كتابة القصة القصيرة، لكنهم هجروها إلى كتابة الرواية ظنا منهم أيضا أن القصة القصيرة لا توصلهم للشهرة المطلوبة.. ولسنا هنا في محل لإصدار الأحكام، ولا نقلل من أهمية ما صدر من أعمال روائية أو قصصية، لكنه يمكن الإشارة إلى ما ذكره موريس نادو M. Nadeau: " أن الرواية التي لا تغير المؤلف ولا القرّاء ليست بالضرورية.." ولو قرأنا رواية (المحاكمة) لكافكا فلن نكون كما في السابق، وهكذا حصل لكافكا نفسه، فهو لم يبق كما كان قبل المحاكمة.. (سباتو، أرنستو: الكاتب وكوابيسه، ترجمة عدنان المبارك،أزمنة للتشر، ط ـ 1 عمان 1999). ونعتقد أن ذلك ينطبق على كل الأعمال الفنية إذا ما كان الفنان، أو الكاتب دائم التجريب، وأن الأجمل لم يأت بعد..

مما يثير الانتباه كما أسلفنا أنه لم تظهر في غزة حتى بداية التسعينات كاتبة قصة واحدة، وهذه وحدها محل دراسة نتمنى على الباحثين أن يقوموا بعمل هكذا دراسات.. لكنه برز بعدها عدد من كاتبات القصة القصيرة، أمثال: نهيل مهنا، هداية شمعون، سماح الشيخ، أسماء الغول، يسرا الخطيب، بالإضافة لعدد من الناشئات نشرت لهم مؤسسة تامر ووزارة الثقافة مقتطفات لأعمالهم الأدبية، ومن الواضح أن أعمال القاصات نشرت بعد العام 2000 وعلى هذا الأساس سنقوم بالمقارنة بين عملين، أحدهما بعنوان: "غزالة الموج" للقاص الأديب: غريب عسقلاني، ونشرته المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي ـ رام الله 2003، والعمل الآخر بعنوان: "الشكل المستطاع" للقاصة الأديبة: سماح الشيخ، ونشرته أوغاريت ـ رام الله 2007. اختياري لهذين العملين لم يكن مقصودا بقدرما أنني وجدت فيهما حداثة النشر والبيئة الواحدة التي تجمع الكاتبين.. وسبق أن أشرت في مقالة سابقة إلى أن القاصات رغم حداثة أعمارهن ومشاويرهن ألأدبية، سنجد في أعمالهن الأدبية رؤية إنسانية أكثر تنوعا، وأعمق فكرا، ولغة أجمل من أعمال بعض الكتاب الذين لم يتجاوزوا أنآهم، ومازالوا مسحورين بها.. وغير قادرين على الرضوخ لمخيّلة الخلق والإبداع.. من هنا سنحاول استقراء المكان في العملين موضع البحث، ودلالة الأمكنة فيهما، ونرى كيف برز المكان في العملين، وأثره على الكتابة عند كل منهما.. ولنبدأ بـ :

غزالة الموج، للقاص: غريب عسقلاني

" غزالة الموج" مجموعة قصصية جاءت في سبعة وثمانين صفحة من القطع المتوسط ، ونشرت بعد مشوار طويل للكاتب غريب عسقلاني، إذ نَشر قبلها أربعَ مجموعات قصصية وسبعة روايات، المجموعة الأولى "الخروج من الصمت" ورواية "الطوق" نشرتا عام 1979 . وتوالت بعدها المجموعات والروايات الأخرى... الكتاب الذي بين يدينا ضم بين دفتيه ثمان قصص (قصيرة) حملت العناوين التالية: غزالة الموج، صدمة طائر الرخ العجوز، كرسي القلب، ظلال الأرقام الرمادية، أميجو، الليزر، القرية البيضاء، حول جب الحيرة.

"غزالة الموج" هي ابنة الحارة التي كبرت مع الكاتب في مخيم للاجئين واقتسم معها ما كانت تقدمه الأونروا في مركز التغذية الإضافية في المخيم، وتعرض للضرب من قبل أولاد الحارة بعدما ضرب أحدهم انتقاما لزميلته حين تعرض لها.. تكبر الفتاة وتلتحق مع الراوي بجامعة الإسكندرية، يزوران المتحف البحري وقلعة قايتباي، يصف الكاتب حبيبته وصفا حسيا أيروسيا من خلال وصفه لعروس البحر.. يسافران بالقطار إلى القاهرة.. يسقط شعارات المذيع أحمد سعيد في أثناء الحرب، بأن السمك سيبقى جائعا للحم اليهود.. تنقطع بينهما الأوصال، بعد غياب طويل تعود للمخيم مع العائدين بعد أوسلو، يصف الكاتب رحلتها وتجاربها بمعاركها مع العدو وما تعرضت له من إسقاطات، لكنها بقيت تمتلك أسلحتها.. في أثناء رحلتها الطويلة تلتقي غزالة بابن الكاتب في أوروبا وتضاجعه، تشارك في سفينة العودة قبل أوسلو.. عند عودتها تعذبت في الحصول على رقم وطني.. فيسخر الكاتب من الحالة السياسية التي وصلنا إليها، ويقرر أن الرقم الوطني هو في الاتجاه شمالا إشارة للعودة إلى فلسطين وليس لغزة فقط ! حيث أن الكاتب لاجئ يسكن غزة قسريا والحل بالنسبة له ولكل لاجئي غزة هو الاتجاه شمالا حيث توجد قراهم ومدنهم التي هجرّوا منها بالقوة..

إذن "غزالة" هي الثورة التي كبر معها الكاتب في المخيم وأحبها، وورثها لابنه أيضا في الخارج لكنها لم تعط الثمار التي يريد.. امتد زمن القصة مع زمن الكاتب منذ صغره في الخمسينات إلى نهاية القرن الماضي، وجاءت الأمكنة في القصة كثيرة وممتدة من المخيم بحاراته وأزقته ومدارسه ومركز التغذية فيه وأثر كل ذلك في بطل القصة وهو الكاتب نفسه.. إلى المدن والعواصم والصحاري إلى بلاد الثلج، إلى البحر وشواطئه الممتدة لبحرنا، في إشارة لتشتت الفلسطيني..

"صدمة طائر الرخ العجوز" القصة الثانية في الكتاب، وتحدث فيها الكاتب عن والده الذي هاجر إلى غزة، وقبل الهجرة شارك في حراسة خط سكة الحديد من هجوم المستوطنين اليهود.. وكان يناوبه في الحراسة شريكه في دكان الحبوب، هو: محمد عبد اللطيف، الذي كان قد نقله إلى المستشفى عندما أصيب في خلال الحراسة، واستقرت رصاصة في عظمه لم يستطع الأطباء في حينها استخراجها، فبقيت في عظمه.. يذكر الكاتب بعض من طفولة أبيه حيث كان يحرس الكرم ذو شجيرات التين والتوت، وقن للدجاج، يحيطها صريف من الصبر، وحين كبر وصار صبيا يافعا صار يبيع ما يجود به الكرم في أسواق القرى المجاورة.. هاجر طير الرخ كما أسماه ابنه/ الكاتب، وعمره ثلاثين عاما، حاملا ابنه الكاتب وهو صغير على ظهره، بينما كانت جدته راكبة على دابة، محتضنة صندوقها وفي نفس الوقت تجر رسن الحمار الذي يحمل أمه التي كانت تحضن أخته الرضيعة.. طائر الرخ يقص لابنه بأنه خبأ بارودته ولحق برئيس البلدية الذي هاجر إلى غزة.. في غزة يهرم الرخ ويقارب الثمانين فيصير عجوزا هشا يجلس بباب الدار يهدر الوقت مع الصِبْية ويعيد إليهم ألقاب جدودهم وشيء من تراثهم، يستمر على هذا المنوال إلى أن صدمته سيارة في الحارة فطار ووقع كومة لحم مهشمة.. نقل إلى المستشفي في حالة صعبة.. يسامح السائق على فعلته دون أن يعرف أنه كان ابن شريكه محمد عبد اللطيف.

جاءت الأماكن في القصة دالة على أحداثها دون تغيير أو ترميز من الكرم بأشجاره إلى الدار وسكة الحديد والمستوطنة ودكان الحبوب والأسفلت والطريق والمستشفى وقسم الطوارئ وغرفة العناية... وامتد زمن القصة منذ فترة الانتداب البريطاني إلى ما بعد الثمانينات وهو عمر والد الكاتب الذي هو بطل القصة..

في هذه القصة قدم الكاتب مغالطة تاريخية.. أو بالأحرى كان بإمكانه أن لا يقحمها في القصة، وهي كما جاءت في صفحة 27: " كانت نوبتي في حراسة خط السكة الحديد، لأن يهود المستوطنة حاولوا نسفه أكثر من مرة، ليلتها، أصبت خلال الاشتباك.." كيف يمكننا أن نفهم فعل المقاومة أو الحراسة لخط السكة الحديد الذي تمتلكه قوات الانتداب البريطاني المتواطئة أصلا مع اليهود والتي كانت الداعم الرئيسي لهم في استيطانهم للأراضي الفلسطينية..؟؟ والسؤال الثاني موجه للكاتب في هذه القصة، هو: كيف يفهم القارئ أن يباع ثمر الكروم في أسواق القرى المجاورة؟ إذ أن جميع القرى المجاورة تجود بأنواع كثيرة من ثمر الكروم وغيرها من الفواكه من جهة؟ وحسب معلوماتنا أن معظم القرى لم يكن بها أسواق، وعلى أحسن حال كان في كل قرية دكانا أو اثنتين، وأن أهل القرى المذكورة هم من كانوا يبيعون محاصيلهم من الفواكه والخضار والحبوب إلى المدن كغزة ويافا والمجدل..؟

"ظلال الأرقام الرمادية" من قصص المجموعة، والأرقام الرمادية ما هي إلا أرقام لموظفي الوزارة التي كان يعمل فيها الكاتب والتي لوّنَها بالرمادي بشكل ساخر من لون امرأة باهرة الجمال انتقلت إلى الوزارة التي يعمل فيها الكاتب بقرار سيادي للعمل بدرجة مدير دائرة.. جمال المرأة، ولون أزيائها الرمادية، خطفت لُباب مدير عام الوزارة وأدهشت جميع الموظفين وخطفت أنظارهم مما دفعتهم للبحث و التقصي عنها بدون الوصول إلى جواب شاف عن مؤهلاتها وحالتها الاجتماعية.. المدير العام الذي غير من هيئته وتزين باللون الرمادي راح يبتكر الخطط كي يجد لها حجرة ومكتبا ودائرة، علما بأن هناك مديرا بدون دائرة ولا مكتبا يجلس خلفه.. المديرة الجديدة تثير اللغط والارتباك والحيرة والتظلم بين الموظفين، لكنهم في نفس الوقت تمنّوا لو حازوا على جمالها بما فيها الكاتب الذي تلعثم في مقابلته معها، لكن الأمر أخذ أبعادا أخرى عند المدير العام من خلال تغييره لمكاتب المدراء وتخصيص مكتب أنيق يليق بجمالها الأخاذ، وكذلك في تقديمه لها كل صباح زنبقة ليلكية في إشارة إلى التوافق والانسجام بينها وبين المدير العام..! وحتى أنها تدخلت لدى إدارة المستشفى عندما نقل المدير العام بسيارة الإسعاف في حالة غيبوبة، وعندما أفاق المدير من غيبوبته خاف على وظيفته من تقرير المستشفى وحدث خلاف بينه وبين الأطباء بشأن حالته؛ فتدخلت المديرة وانتزعت بيانا من الناطق الإعلامي للمستشفي يفيد بأن المدير العام قام بزيارة تفقدية لأقسام المستشفى، والاطمئنان على المرضى.. تنتهي القصة بمفاجأة غير متوقعة على الأقل لدى بعض الموظفين في صدور قرار بنقلها إلى وزارة أخرى بدرجة مدير عام..

إذن القصة تطرح نوعا من الفساد الذي انتشر في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ولولا المكان الذي يعمل فيه الراوي لأمكننا التعميم على عدد من الوزارات أو مؤسسات السلطة الفلسطينية؛ فلو أحد القراء يعرف الكاتب، أو بحث في سيرته الذاتية فسيخص الفساد بالوزارة التي عمل فيها الكاتب، وبالتالي سيعرف المدير العام، والموظفة الرمادية أيضا..!، من جهة أخرى أظهر الكاتب في قصته نظرة المجتمع الذكري إلى المرأة خصوصا إذا كانت جميلة، وكيف يمكنها من خلال جمالها الوصول إلى موقع متميز دون الحصول على مؤهلات علمية لذلك.. أما الأماكن الأخرى في القصة فجاءت تلقائية تخدم النص دون أن يكون لها دلالة أخرى، لولا إقحام الكاتب لبعض الأماكن التي جاءت للتشبيه، من مثل: قاعات البورصة، مساحات شاسعة مترامية، مزارع وحقول، وكذلك أماكن أخرى مثل: خانيونس، عبسان، شاطئ غزة، المرج.. تلك أمكنة بعيدة عن مسرح القصة، ولو أنها جاءت لإثبات أحداث أخرى ليست محلها في القصة القصيرة..

"حول جب الحيرة" القصة الأخيرة في المجموعة والحيرة الكبيرة هنا.. والتي حيرت كُثْر ممن عرفوا أو عملوا مع "محمد الديب" العائد من المنافي، فجمعه العمل مع الكاتب/الراوي في حجرة واحدة بوزارة الثقافة في غزة، محمد الديب الدكتور الفنان في الخطوط والباحث في التراث.. يحاول الكاتب لملمة بعض الحكايات من زميله الصامت، ينقلها لنا في قصة هي أقرب للرثاء من قصة لها بداية وحبكة ومن ثم نهاية.. محمد الديب هاجر مع أسرته إلى العراق من قرية (إجزم) الحيفاوية، وكان ابن السادسة، قدم إلى غزة مع العائدين، لكنه بقي في جبه الصامت حكايات وحكايات.. زار حيفا موطنه الأصلي والتقى عمته خضرة وابنها نايف، في محاولة معرفة رفات أخيه خالد الذي قدم مع القوات العراقية قبل حرب 67 وسجن بعدها في غزة وأفرج عنه فيما بعد ليغادر غزة، لكنه استشهد في كمين نصب له ولمجموعته الفدائية بالقرب من بحيرة طبريا، ومن ثم يدفن برقم سري في مقبرة الأرقام المحفوظة لدى (الموساد الإسرائيلي) وباءت محاولات ابن عمته خضرة من حيفا بالفشل في معرفة الرقم السري.. يعود محمد الديب إلى غزة من بوابة (إيرز) كما غادرها بتصريح (عبري).. بعد وقت من الصمت يتفاجأ الكاتب والعاملون في الوزارة بموت زميلهم محمد الديب، ليشيعوه إلى مقبرة غزة..

الأماكن التي وردت في القصة كثيرة كثرة رحلة البطل من المنافي إلى غزة وشواطئها والوزارة بمكاتبها وحديقتها، إلى بوابة رفح وبوابة إيرز إلى حيفا واجزم والفراديس المجاورة لها إلى طبريا والوديان وسفوح الجبال و المروج والسهول و(الكيبوتسات) و(الموشافات) ـ كلمات عبرية الأولى تعني: القرى التعاونية حسب النظام الشيوعي، والثانية تعني: المستوطنات الريفية ـ إلى العراق والبصرة وبغداد والفرات..

مع أن الكاتب له تجربة كبيرة في كتابة القصة والرواية إلا أن مجموعته القصصية هذه والتي جنسها الكاتب (بقصص قصيرة) تميزت بما يلي:

· الإغراق في الوصف والتفاصيل والبهرجة اللفظية وكثرة الشخوص والأحداث مما أضعفت من تماسك القصص وقوتها وأصالتها.

· اعتمد الكاتب في أسلوبه على الاسترجاع كثيرا مما أضعف من الوحدة العضوية للقصص فتُشتت عقل القارئ وتدفعه للملل ولا تصل به إلى تيار الوعي.

· تدخل الكاتب في كثير من الأحداث، قد يكون راجعا لمعايشته لمعظم قصصه، وبدلا من أن يضفي الكاتب روحا وخلقا جديدا ذو قيمة رؤيوية (الهدف) يستفيد منها القارئ، زاد من التفاصيل الغير ضرورية في القصة القصيرة.

· الكاتب يملك ثروة لغوية شعرية ومعرفية يمكنه أن يوظفها بما يخدم تماسك القصص وقوتها.

· قصص المجموعة تتميز بطولها وتعدد الشخصيات والأحداث فيها بحيث يطغى عليها النفس الروائي وليست القصص القصيرة.



الشكل المستطاع، للقاصة: سماح الشيخ

"الشكل المستطاع" مجموعة قصصية بحجم خمسة وتسعين صفحة من القطع المتوسط ، لكنها احتوت على ثمانية وأربعين قصة قصيرة، تعتبر العمل الأدبي الأول للأديبة سماح الشيخ، عدا مشاركتها للكاتب علي أبو خطاب في مجموعة قصصية للأطفال بعنوان: "غابة الحكايات" نشرتها مؤسسة الثقافة والفكر الحر عام 2008 . بالطبع لا يمكننا عرض كافة قصص المجموعة بقدرما نستطيع الوصول للشكل المستطاع التي تروم إليه الكاتبة.. والشكل المستطاع هنا هل هو: الجسد؟ أم الشريك؟ أم المكان؟ أم الزمان؟ أم الأسرة والأطفال؟ أم العمل والحياة؟؟ أم..؟؟ سوف نرى أن قصص سماح الشيخ متنوعة وكثيرة، وقد شكل عامل التجريب والبحث الدائم لديها الهاجس الأول، ففي كل قصة موضوع جديد؛ والشكل المستطاع لديها هو السؤال الأمثل نحو الممكن المتغير والثابت، القبح والجمال.. أسئلة فلسفية مبكرة لدى كاتبة صغيرة السن نسبيا وحديثة الكتابة أيضا، لعلّها اكتنزتها في مخيلتها منذ الصغر مرورا بتجربتها الحياتية وثقافتها المتنوعة إلى أن تدفقت غزيرة في مجموعتها بأسلوب حداثوي مميز، بعد أن اعتصرت أساليب القصّ التقليدية..

"الشكل المستطاع" هي قصة تحكي لنا رحلة البحث عن الشكل المستطاع، وبطلة القصة هي الراوية ضمن مجموعة صغيرة، تدخل باحة فسيحة مظلمة يتحسس الجميع طريق الوصول للشكل المستطاع.. وتقرر الراوية منذ البداية أنها كانت تخبئ في جوفها بأن الشكل المستطاع ليس دائرة ولا مثلثا ولا شكلا هندسيا في الأصل، كما أنه عديم اللون والمذاق والرائحة.. في أثناء الرحلة شعرت البطلة بأحد أفراد مجموعتها كما لو أنه يبحث عن خاتم صغير سيلمع حتما يلتقطه ويحفظه فيغيظ به الآخرين لوصوله أولا، كما شعرت بأخرى من المجموعة تحمي رأسها بذراعيها وتحرك أصابعها بحثا، وكأنها ستصطدم بشكل عملاق.. هو أمر عادي فلكل منا تصوره عن هذا الشكل الذي لا نعرف إن كان يقبع حقا في بقعة ما أم أننا نحن من يعبث في جوفه؟! بعد سنين من الغباء عثر على الشكل المستطاع، هلاميا سخيفا نحيلا هزيلا ضعيفا نحيفا.. وتساءل الجميع حين تلمسوا وجهه الممتلئ بالدمامل.. وتكشف القاصة في النهاية بأن قصتها كانت فسحة ومحاضرة في رحلة البحث عن الشكل المستطاع الذي لم يستطعه أحد؟؟

إذن المكان هنا هو شيء رمزي خيالي مظلم غير معلوم جغرافيا، ويمكن أن يكون لدى أي إنسان على الأرض، ويمكن أن يكون كل مكان يقبع هو في جوفه، وقد يكون هو الشيء الذي يبحث عنه الإنسان بشكل دائم.. هكذا هو الإنسان رحلة في عالم المستطاع/الممكن..؟؟

"سترة" السترة ما هي إلا بطلة قصتنا هذه وهي عبارة عن لباس على شكل (جاكيت) بلون الخشب بين ملابس أخرى في دولاب الملابس، عاشت بينهما في هم وغم، حيث سخرت منها البناطيل والقمصان والفساتين وحتى الأحذية المعزولة في آخر رف في الدولاب سخرت منها هي الأخرى، وهي لم تعد تطيق مسحوق الغسيل وأكلانه لها؛ فقررت التمرد.. اندست بين إخوتها في غير حبّ ! ليتلاشى خط النور الخفيف المتسرب من باب الدولاب وأخذت تحلم.. فسافرت إلى صاحب آخر، وزارت أماكن مختلفة، فلم يعجبها.. فتساءلت: لماذا لا تكون شيء آخر مثل طبق أو ممحاة، أو لمبة، أو أي شيء آخر؟؟ ونتيجة تمردها وحلمها الغير منطقي أقر المجلس الأعلى للأشياء معاقبتها بشدة نتيجة لحزنها وبأسها الشديد واعتراضها على تهميشها وعدم استخدامها لشدة الحرّ معظم السنة.. تآكلت السترة وهي ترجو وتستجدي الملابس الأخرى، ولا أحد استطاع مساعدتها؛ لكن حلمها تحقق أخيرا..

المكان هنا هو الدولاب/الخزانة ولا مكان آخر غيره في القصة.. لكننا لو أنسنا الأشياء لصار الدولاب هو النظام الظالم للمجتمع والوطن أو أفراد منه، ولا مفرّ للإنسان المظلوم إلا أن يثور ويتمرد كي يحقق ما يبتغيه..

"عقاب شتوي" طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره لا يرتدي ما يقيه من البرد في ليلة جليدية ـ حسب وصف الكاتبة ـ الطفل يدور بين أذرع الجندي المجهول يبيع الشاي في ساعة متأخرة من الليل، لا يعود إلى بيته ليلا أو نهارا.. قررت الكاتبة وزوجها التضحية بالشيكل في أواخر الشهر، في إشارة إلى ضنك الحياة التي يعيشها الموظف؛ وتضحية ببعض الشواكل في أواخر الشهر تضحية كبيرة.. دفعت ثمن الشاي للطفل البائع، وإذ بطفل آخر لم يتجاوز عمره السادسة يتجه صوبهم، حالته وملابسه أكثر حزنا ويأسا من الطفل السابق، اقترب منهم ولم يتفوه بحرف ويعلق آمالا على أن يبيعهم مما في صندوقه الصغير.. بعد ثوان معدودة داهمهم طفل آخر يحمل قراطيس صغيرة تحتوي على الفستق أو بذور البطيخ، وهذا الأخير أكثر جرأة يلتصق بهم ويلحّ عليهم بالشراء منه، مما اضطرت أن تعطي كل منهم شيكلا بدون أن تشتري شيئا.. بعد لحظات التف حولهم ثلاثة آخرون اضطرتها لدفع ثلاثة شواكل أخرى والانسحاب من المكان تحت سوط الأسئلة والمقارنة بطفولتها المرهفة بعض الشيء..

المكان في القصة هو مكان عام، لكن الحدث وقع في منتزه الجندي المجهول بغزة.. إلا أن الحدث منتشر في المدينة وعلى شاطئ البحر وفي الأسواق وحيث تنتشر الناس؛ فالأطفال الباعة والمتسولة ظاهرة منتشرة في معظم المدن التي تضم فيها أو حولها ضواحي فقيرة، دون اهتمام ورعاية من الحكم الفاشي المستبد، إنها صورة لوحشية النظام وسادية المجتمع.

"رسالة إلكترونية" قصة لعاشقة تكتب رسالة لصديقها، إلا أن البريد الإلكتروني الذي حل محل البريد العادي خطرا مخيفا على ضياع الرسالة في خطوط العوالم الرقمية، أو ظلمة الحواسيب.. العاشقة التي سهرت الليالي وهي تكتب رسالتها، وتأنت حتى تخرج رسالتها وعباراتها في أجمل صورة، وضمنتها أبياتا من الشعر كي يرق قلب المحبوب.. تعطل الجهاز أو البرنامج أفقدها الرسالة دون أن تتمكن من استعادتها.. بعد أن يئست العاشقة أعادت كتابة رسالة أخرى أجمل من الأولى، وقامت بإرسالها عبر الخطوط العنكبوتية إلا أن صديقها كان قد مل الانتظار وأغلق بريده بلا رجعة عقابا لعشيقته.. فبقيت الرسالة ضائعة لم تستطع حتى الانتحار لأن هذا العالم الإلكتروني المخيف احتفظ بها...

لم يظهر المكان في القصة كموقع جغرافي محدد المعالم والشكل، بل جاء ضمنيا حيث يقيم الإنسان الذي يستخدم الحاسوب سواء في البيت أو المكتب أو المؤسسة، وحاليا حيث يكون سائرا في الشارع، أو جالسا تحت شجرة، إلا أن الخوف من ضياع ما ينتجه باستخدام العوالم الرقمية المظلمة يبقى ينتابه..!

"فوبيا" الفوبيا مرض ذهاني وهو الخوف الرهابي من الأشياء، يصيب الأشخاص ذوي المناصب والمواقع الحساسة في الغالب. وفي قصتنا تناولت الكاتبة حالة الموظف الحكومي في المؤسسة أو الوزارة، ومنذ البداية تقرر أن: " كم هو مؤسف أن تتحول كل تلك العادية إلى هذا الرعب المقيم " فهي تتحدث عن خوف الموظف الحكومي، والرعب الذي ينتابه بشكل دائم إذا ما استمر في عمله الحكومي، فسجلت انتقاله من مرحلة كان فيها يشرب قهوة الصباحات ويسمع الفيروزيات، فطور يليه اجتماع، يليه عمل وكد حتى ما بعد الظهيرة، مناسبات تجمع الموظفين في أيام معينة من السنة.. يبدو أن تلك المرحلة كانت مع بدايات عمل مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومن ثم انتقلت إلى مرحلة توحشت فيها الصباحات وتحولت ساعات الدوام إلى دهر من الآلام والملل والقتال والنعاس والغثيان.. زاد عنف الاجتماعات وسخف العمل، وساء طعم الإفطار، لم تعد رائحة القهوة سوى ذكرى سيئة لبداية النهار الحكومي.. تنتقل الكاتبة لسبر غور الموظف بأحاسيسه وانفعالاته حين يتعامل مع الأشياء فيرتجف مع كل رنة هاتف أو طرقة باب، وكيف تتحول خرخشة الملفات إلى زلزال عميق يزعزع جدران الروح، ويصبح الديكور الجديد للمكتب تقرحات صدئة لا تطاق.. تتساءل كاتبتنا: بأي حق تتشوه هذه الساعات من العمر وهي تشكل أكثر من ربعه، وتصبح الأرباع الثلاثة الباقية انتظارا مخيفا لهذا الربع البشع؟ ثم تجيب: عندما يتم اقتراح حل لتلك الفوبيا غير المبررة، تكون النتيجة أدوية نفسية باهظة الثمن.. هو ذا الحل: عدم الوعي بالأشياء يقلل الخوف منها.

إذن المكان في القصة واحد وحيد يلائم الحدث والموضوع، هو المؤسسة الحكومية والمكتب الذي يمارس من خلفه الموظف عمله الرسمي. وإذا كان لدى الموظف الحكومي فوبيا فمن الأفضل له أن يبقي الأشياء خارج وعيه.

"المرايا تفرح" هل للمرايا عيون تراقبنا دائما؟ المرايا التي نستخدمها لأغراض عدة هي موجودة في كل مكان نمارس فيه حياتنا كبشر، لكن هل لها عقل إنسان يحتفظ بصورنا ويخزنها في ذاكرته؟ ويسخر منا عند تغير أشكالنا في مراحل العمر المختلفة؟ أم أن عيون المرايا هي عيون البشر من حولنا وتقوم بمراقبتنا كالمرآة ؟؟ أسئلة مشروعة للإنسان نسجتها لنا الكاتبة في قصة قصيرة، بطلتها فتاة مراهقة حديثا وأعين المرايا تتوق لهتك حياءها.. تراقب عن كثب تغيرات جسدها، حب الشباب الذي أشعل وجنتيها كالحريق، ثقل الثديين الصغيرين وآلامهما المبرحة عند اصطدامهما بأي شيء، المرايا تسخر من أنفها الذي ودع الجسم الطفولي وأخذ في التشكل الجديد غير المرضي، وتسخر من حاجبها الذي كان حتى الأمس مهندما.. المرايا لم تنعم بنظرة واحدة إلى أماكن خصوصيتها؛ فهي تختبئ من انعكاس الصورة عندما ترتدي ملابسها.. مرآة الحمام، مرآة السيارة، المرآة الأكبر في زوجي عيون كل آخر..! والأهم مرآة نفسها ونظراتها لكل ما بدأ يستدير في جسدها، مراياها قلقة لرعب انتظار العلامة الفارقة عند البلوغ الحتمي، مراياها تفرح الآن وهي تستعد لموعد غرامي حسب معطيات المراهقة، لا بد أنها سمعت ما يطربها حتى وثقت في نفسها قبل الوثوق بالآخر.. المرايا تستعد لما هو أكبر...

لم يتضح المكان في القصة، لكنه موجود حيث وجدت البطلة والمرآة التي تلازمها أينما وجدت سواء في البيت أم الشارع أم السيارة، وإن كانت المرايا هي التي أثارت تساؤلات البطلة وخوفها من مراقبتها لها أينما وجدت فالخوف الأكبر هو عيون الآخرين لها أينما ذهبت وأينما حلت...

نكتفي بهذا العرض لبعض من قصص سماح الشيخ الكثيرة والمتنوعة في الشكل والمضمون, وهنا نتذكر رد الكاتب الكبير أنطوان تشيخوف، عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره وكان قد كتب أربعمائة قصة قصيرة، فسأله أحد أصدقائه كيف يختار موضوعات قصصه؟ فنظر تشيخوف إلى الطاولة فوجد منفضة للسجائر، فقال لصديقه: أستطيع كتابة قصة في هذه المنفضة.. وبالفعل في اليوم التالي كانت قصته منشورة في إحدى الصحف الروسية.. من يقرأ قصص الشكل المستطاع سيكتشف أن سماح الشيخ تستطيع كتابة قصة في أي شيء بسرعة وإتقان ومهارة عالية لا يجاريها أحد من أترابها، ومن الجدير قوله أن سماح تعشق المسرح، وتمثل ببراعة كبيرة على خشبته..! ولعلنا نستنتج أن قصص الشكل المستطاع قد تميزت بما يلي:

· القصص تميزت بالحداثة وتنوعت ما بين القصص القصيرة والقصيرة جدا.

· الصراع في قصصها تناول الظروف والأقدار بين الشخصيات، والصراع داخل الشخصية نفسها.

· تأثر الكاتبة بقصص "كليلة ودمنة" دفعها لأنسنة الأشياء واستخدامها للرمزية بكثرة.

· يمكننا أن ننسب قصص سماح للأدب النسائي، حيث تتموضع في إطار المفارقة بين الوعي والوجود، أو بين الموروث الاجتماعي الذي يضع الوعي في إطار من النمطية المؤطرة، وهذا يعني الخروج من شرنقة الحصار نحو فضاء التعبير المفتوح..

· اهتمام الكاتبة بالمسرح أضفى على قصصها حركة كبيرة ومثيرة وناقدة، حيث تنمو شخوصها وتتطور تطورا سليما مفعما بالروح والفكر معا.

· قصص سماح تبدو غير منتهية، والقارئ هو من يكملها أو يطورها؛ فالخلق يحصل في ذهن القارئ.

بعد هذا العرض لكلا المجموعتين نجد أن: هناك فرقا كبيرا بين قصص سماح الشيخ وقصص غريب عسقلاني؛ فثقافة التاريخ والمكان الجغرافي والسياسي حاضرين بقوة في عمل غريب، بينما جاء المكان باهتا رمزيا غير محدد جغرافيا أو سياسيا بقدر ما يسير مع حركة الإنسان محور القصة والصيرورة أينما كان دون تحديد جنسيته، وهذا يمنحها صفة العالمية أو البعد الإنساني عند سماح الشيخ. لعل الكاتب غريب حاضر كليا في معظم قصصه، كذلك سماح الشيخ في بعض من قصصها إلا أنها حاولت التخلص من عشوائية الطفولة الكتابية, ونؤكد هنا أن ثقافة الوجدان المجيّرة على الذات من أخطر طرق تدمير النص السردي، حيث تستغرق في الإنشاء والتعبير في إطار المتكلم "المخاتل" وعدم الدقة في التمييز بين الحكي والصراخ الفاجع.. وإذا ما حسبنا هذا النوع من الأدب على السيرة الذاتية؛ فطبيعة الإنسان تحول ذلك إلى كذب محتوم بفضل الأقنعة الشخصية، وسواء اتصفت بالكرنفالية أم الأدبية.. الناس ستتجرأ على إظهار حقائقها الرهيبة..

أخيرا نقول: ليس غريبا أن تتميز المرأة بحساسية استثنائية في التقاط التفاصيل الدقيقة، والتملك المعنوي والعاطفي لأحوال الوجود، وما نراه متهورا في ردود أفعالها ليس إلا تعبيرا عن توتر وجداني تجاه الثوابت والتقلبات، ولهذا السبب للمرأة القدرة على أن تكون حامي حما التوازن في مختلف أشكل تجلياته، كذلك إن علم جمال الشكل يتميز في حضوره عند المرأة؛ فهي أقدر على إبداع النمنمة والرقش والزخارف سواء بالمعنى التشكيلي، أو بالمعنى الكلامي الأدبي، كما أنها أكثر صبرا وتؤدة عندما تتعاطى مع الإبداع..

CONVERSATION

0 comments: