شقة رقم خمسة عشر/ امينة اوبنزكري


كعادته يبحث في علبة رسائله الصدئة المثبتة في ردهة العمارة حيث يسكن , كمن ينتظر رسالة مهمة ... أو كأنما يوهم نفسه بذلك . عله يكسر رتابة يومه المتصدع . يدخل يمناه ويتحسس جوف الصندوق المهترئ ... فيجده فارغا ككل يوم , ويجد نفسه ملزما بالعودة إلى شقته مذيلا بخيبات الأمل ... يجر خطواته في تثاقل الى أن يبلغ عتبة داره ...
وبينما هو منشغل بالبحث عن المفتاح الذي أظله في جيبه, تبادر الى مسمعيه صوت خافت قادم من الشقة رقم خمسة عشر , تلك الشقة المدفونة هناك , في آخر الممر , والتي تضاربت حولها قصص سكان العمارة , من روايات عابثة ظلوا يختلقونها في مجالسهم حتى باتوا يصدقونها. حول سيدة عجوز , مات زوجها مذ سنوات فأصبح شبحا يزورها في كل انتصاف ليل , يئنس وحدتها بين جدران شقتها الهرمة ...
"سخافات ... سخافات ", ظل يتمتم بتلك الكلمات بنبرة مختنقة وهو يتحسس جيوبه بحثا عن المفتاح , بينما ظل بصره يجاري فضوله ويمده الى اخر الممر عله يأتيه بالخبر اليقين , لكن نظراته الثاقبة لم تشبع فضوله المتصابي , فقد تسيدته رغبة جامحة لمعرفة مصدر الصوت , أو لربما تسلل اليه الشك حول قصص الجيران العابثة ,أو أنه يحاول كسر رتابة يومه الذي يشبه كل الأيام في جداول معصمه الهزيل ...من يدري فيما يفكر ...
ظل يتوغل في الممر باتجاه الشقة رقم خمسة عشر , وكله توجس ... الى أن تلاشت معالمه في ظلمة المكان , اقترب من باب الشقة , ومد سمعه عله يتحصل على اجابات شافية لفضوله المتؤجح , فضول بالكاد يتعرفه اليوم مجددا , بعد مضي وقت على انعزاله بشقته وطمسه لمعالم الانسانية بداخله . فبات مجرد كيان هزيل تتقاذفه الأهوال في الدروب الجائعة للتجارب , حتى انعدم لديه الاحساس بالزمن أو بالاخرين من حوله ...
اقترب من عتبة الباب , وظل متخشبا في مكانه بينما يسمع صوت السيدة العجوز وهي تحاكي زوجها المتوفى . فاندثر غبار الشك من على يقينه , وتأكد من أن قصص الجيران مجرد سخافات , وأن العجوز تعاني من هوس جعلها تحاكي نفسها ظنا منها أنها تحاكي زوجها ...
عاد أدراجه الى شقته وهو يرثي السيدة الذي حز في خاطره حالها كثيرا , وجعل ينساق مع واقعه المرير الذي يكاد يشبه حالها , فهي تنتظر زوجها الميت بل وتحاكيه حتى باتت تصدق بوجوده معها , بينما هو ينتظر مرسالا من شخص كان يوما عزيزا على قلبه , تركه وحيدا بين أربعة جدران يتجرع فيها مرار الوحدة... استحضر شريط ذكرياته , مذ أن هجرته , فوجد أن حياته قد توقفت مذ ذلك الحين , وانه اختار الانتحار على ضفاف جحودها بينما هي تغدق بالحياة بعيدا عنه , اكتشف أنه يدفن شبابه تحت أنقاض معاناته , وأنه سيأتي عليه يوم يحل فيه محل العجوز في العمارة , ويصبح مجرد رواية عابثة يتسلى بها الجيران ...
فاكتشف أنها لا تستحق الانتظار , وأن عليه المضي قدما في حياته ... وأيقن أن علبة رسائله الصدئة ستظل دائما فارغا ان ظل هو على ماهو عليه الان ...


CONVERSATION

0 comments: