نخشى ألا يكون قد بقي متسع لكمال الصليبي، هيرودوتس العرب، في بيت بمنازل كثيرة. فعاف البيت والمنازل وبارح الدار/ محمود شباط


مع رحيل طيور أيلول رحل كاتب "طائر على السنديانة" ، غادرنا المؤرخ الباحث كمال الصليبي، سافر دون حقيبة ولكنه بقي في أذهاننا عبر " تاريخ لبنان الحديث" ، "تاريخ الجزيرة العربية"، "بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى"، بيت بمنازل كثيرة" ، "التوراة جاءت من جزيرة العرب" وغيرها من أعمال قيمة أثرت التاريخ والمؤرخين والمكتبات والقراء في العالمين العربي والغربي.
بأسلوب سلس وبانسيابية سائغة أورثنا كمال الصليبي معلومات تاريخية دقيقة رزينة متزنة، وبنزاهة أكاديمية ومهنية واقتدار المؤرخ جاد يراعه بالتحليل العلمي الرصين كما لو أنه خـُـلِـقَ ليكتب التاريخ .
في كتابه "بيت بمنازل كثيرة، الكيان اللبناني بين التصور والواقع" الصادر في العام 1990 ، أي قبيل انتهاء محنة السبع عشرة سنة، والذي يبرز الهدف منه فور قراءة مقدمته، حيث يتبين بأنه ، وإلى حد كبير، مخصص ليعظ اللبنانيين بأنهم محكومون بضبط عقارب ساعاتهم على نبض الوطن، وتصحيح اتجاه البوصلات الضالة الشاردة نحو الخارج شطر قلب بيروت وكل ذرة من تراب لبنان، وبأن قدرهم التوافق، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضوج التي يزعمونها لأنفسهم، والتي يسبغها عليهم الآخرون انبهاراً بما سمعوه عن لبنان، وها نحن بعد عقدين ونيف من الزمن لم نصل بعد إلى النضوج المتوخى.
في تلك الموسوعة الصغيرة-الكبيرة يثبت كمال الصليبي حقائق ويدحض أخرى أسهمت في بث الفرقة بين المذاهب والطوائف التي يعتبرها مؤرخنا الكبير بأنها أقرب إلى العشائرية والقبلية منها إلى أتباع الكتب السماوية.
في كل صفحة من كتاب "بيت بمنازل كثيرة" سوف يلقى القارىء ما يذكره ببؤس واقعنا العربي بشكل عام ، واللبناني بشكل خاص. ولكن ما يواسينا بفقد كمال الصليبي هو أنه عاش لترى عيناه هالة فجر الربيع العربي، وأذناه سمعتا بإرهاصات بوادر التغيير، ولعله أدرك بحسه كمؤرخ بأن الشباب العربي شرع في رمي الحصى على سطح مياه المستنقع الراكد الآسن. ولكننا نخاله يتساءل : " وماذا بعد الفجر" ؟ هل ستطلع شمس الحرية وتسطع عبر مساحة شاسعة بين المحيط والخليج، "من الشام لبغدان" ، وما الذي سيتمخض عن تعكير المياه الرائقة من أعلى والنتة تحت طبقة سطحها؟ هل ستتنقى من طحالب التفرقة الطائفية ويرقات المذهبية؟ أم أن الربيع العربي مجرد حمل كاذب أو جنين خديج أو مخلوق مشوه نأمل ألا يفاجئنا بدمامته. وماذا عن لبنان ؟ ماذا عما قيل لنا بأنه لنا فأنشدنا بحماس وصدق : "كلنا للوطن" .
في أكثر من موقع يشير هيرودوتس العرب إلى مكمن الداء بأنه الطائفية وضعف الإنتماء الوطني، وسوف أقتبس مقطعاً من كتاب كمال الصليبي "بيت بمنازل كثيرة" ص 57 و ص 58 ، حيث نكاد نسمع صوته يكلمنا عن بواكير نشأة لبنان ودور بنيه في زرع بذور انقسامهم ، وللأمانة فإن ذلك ينطبق على معظم الدول العربية المتعددة المذاهب والأثنيات :
" منذ البدايات الأولى، كانت هنالك في لبنان قوة اجتماعية اسمها العروبة، تعمل من خارج البلد ومن داخله، تقف وجهاً لوجه أمام قوة اجتماعية أخرى تتمثل بالخصوصية اللبنانية، وكانت القوتان تتصادمان حول موضوع أساسي بشأن البلد، مما منع التطور الطبيعي للدولة وأبقى شرعيتها السياسية وإمكانية ديمومتها موضع جدل مستمر لم يصل إلى نهاية بعد. وكانت كل قوة من القوتين تدعي ، على المستوى الداخلي ، أنها تمثل مبدأ وغاية تتعلقان بمفهوم خاص لهوية البلد القومية. يبقى لنا أن ننظر إلى ما كان يمكن في الواقع وراء كل من الطرحين المتناقضين لكي تتجلى لنا الطبيعة الحقيقية للمشكلة. فصحيح أنه كان هنالك في لبنان أفراد وجماعات آمنوا بالصلاحية التاريخية والسياسية اللبنانية بكل إخلاص، وأن آخرين من أهل لبنان التزموا بالعروبة بإخلاص مماثل. ولكن الملاحظ بالتأكيد هو أن الطارحين الأساسيين لفكرة الخصوصية اللبنانية للبلد كانوا أصلاً من المسيحيين ، وعلى رأسهم الموارنة، وأن أكثر طارحي العروبة تصلباً ، كجماعة، كانوا أصلاً من المسلمين، وعلى رأسهم السنة. ومن الواضح في الحالتين أن ما يقال في العلن بشأن الطرحين المبدئيين إنما يستر شيئاً آخر يقف وراءه ، هو أصل المشكلة. فما ذاك الشيء المضاف المستور الذي جعل المواقف المعلنة للطرفين من شعب لبنان تتباعد عن التوافق إلى درجة أبقت المسألة اللبنانية مسألة معلقة إلى أجل لا حدود له ؟ علينا ، ولا شك، أن نبحث في ما وراء الستار لكي نعثر على الجواب" . ( انتهى الإقتباس ) وبقي رجع الصدى.
تكر الأعوام ، يتغير اللاعبون دون أن يحيدوا عن أصول قواعد اللعبة، حيث كانت في الماضي مارونية - سنية فأحالتها طموحات البعض إلى شيعية – سنية. زهقت الأجيال وقرفت تلك اللعبة . نرجوكم يا سادة يا سياسيينا الكرام ، نريد أن نحيا كبقية خلق الله ، من حقنا أن نحيا كما يليق بنا. كفى !!!!
تغمد الله راحلنا الكبير بواسع رحمته وألهمنا السير على نهجه والإتعاظ بدرر مناجمه الغنية القيمة.

CONVERSATION

0 comments: