رحلة عمل في الصحراء/ محمود شباط

جهانجير هو اسم العامل الآسيوي الشاب الذي التقيته صدفة على الطريق السريع في منطقة نائية في الصحراء، يبيع سندويشات ومعلبات ومرطبات ووقود معبأ بأواني بلاستيكية وزيت محركات ويتعاطى بأمور الميكانيك، كل ذلك في سيارة فان قديمة متهالكة ، ينقلها من مكان إلى آخر على طول ذلك الطريق. تعرَّفتُ عليه خلال زيارة عمل إلى مشروع في منطقة الشيبة، أحد منابع الخير الوفير في أقصى جنوب شرق صحراء الربع الخالي.
التقيت في تلك الرحلة بمثقف تعيس هرسه طاحون الغربة، تغرغر بعلقمها وأذاقني مُرَّ الرعب بأفاعيه وعقاربه وحيوان الضب الذي يربيه كطفل مدلل، هددني بالقتل بساطوره وأرهبني. ورغم كل ما فعله أحببته وتعاطفت معه.
بدأ مسلسل رحلتي حين استقليت سيارة الدفع الرباعي صباحاً وانطلقت بها من الخبر صوب صحراء الربع الخالي. مررت بهُجَرٍ ومزارع و قرى وبلدات ومدن لا أذكرها أسماءها كلها ، ولكن ... لا يمكن لمن يعبر قرب أبقيق و شدغم ومصنع إسمنت الشرقية وواحات النخيل الرائعة ومدينة الهفوف في منطقة الإحساء أن ينسى تلك الأسماء، أو روعة الأشكال الجمالية الطبيعية المنثورة على الربى المتسلسلة على جانبي "طريق الدمام- الحسا" كمنحوتات صخرية رملية حلوة يغار الفن منها.
عَرَّجْتُ في الهفوف على محطة وقود، اشتريت من بقالة المحطة علبة مكسرات وعصائر ومرطبات وخبزاً وعلبة لبنة وخضار، ذلك لأني لا أستسيغ تناول وجبات من المطاعم الشعبية المنتشرة على الطرقات السريعة. تزودت بالوقود حيث ملأت الخزان الإحتياطي أيضاً، ملأت ترمس المياه بالماء البارد مع مكعبات الثلج، "شَيَّكْتُ" على أدوات الأمان والسلامة التي توصي بها أرامكو، تأكدت من وجود اللَوْحَيْنِ الفولاذيين اللذين يضعهما السائق تحت إطارات السيارة فيما لو علقت بالرمال بعد أن يرفعها بالرافعة الهيدروليكية، استأنفت رحلتي بعد صلاة الظهر سالكاً طريق قطر- سلوى المؤدي إلى حقول الغاز في منطقة الشيبة. بعد مسيرة ساعتين شعرت بالنعاس فصرت أقاومه تارة بمضغ اللبان و طوراً بوضع منشفة صغيرة مبللة بالمياه الباردة على عيني ومسح وجهي بها، صمدتُ مقاوماً جحافل الكرى إلى أن وصلتُ إلى محطة وقود فركنت السيارة ونمت. وحين استيقظت كنت أشعر بالجوع فأكلت، ثم تناولت كوب شاي في "بوفيه" المحطة وانطلقت.
بعيد مسيرة دقائق كنت قد بلغت مفترق الشيبة – سلوى. انعطفت يميناً نحو الشيبة في طريقي الصحراوي الطويل.
ضايقني بهير شمس الغروب فشوش رؤيتي بعد اجتيازي لمفترق قرية محدار، بدأ الليل يسدل غلالته السوداء. الوقت ينسل ببطء وسط سباق صامت بين السكون والعتمة. حلَّ الليل المُوشَّى بضوء قمر فضي. لمحت على بعد مئات الأمتار ضوء كشاف كهربائي ينذرني بوجوب التوقف. أبنت للعنصرين الأمنيين بطاقة إقامتي ورخصة قيادة السيارة والتفويض الصادر من الشركة المصدق من الغرفة التجارية، استجوباني عن مهمتي فأجبتهما، سمحا لي بالسير بعد أن أوصياني بعدم مغادرة السيارة وبأخذ الحيطة والحذر من الخروج عن الطريق الرئيسي الذي تشوه بعض معالمه العواصف الرملية بين الحين والآخر كي لا أصبح وليمة سائغة لذئاب الصحراء أو عقاربها وأفاعيها وعناكبها السامة.
أثناء قيادتي في تلك القفار النائية عن كل مكان من العمران، بدا لي بأن لانهاية لذلك الطريق. يستقيم أحياناً لمسافات طويلة كالمسطرة ثم يتلوى كأفعى سوداء عملاقة وسط رمال الصحراء. أدرت المذياع فكان استقباله ضعيفا ومشوشاً، استغثت بصوت فيروز المسجل. هبَّت فجأة عاصفة رملية فحجبت ضوء القمر والطريق و عزلتني عن العالم فصرت أقود باحتراس أكثر، غامت معالم الطريق فغرزت السيارة في الرمل، حاولت إخراجها ولكنها كانت تعاند و يغوص أطاراها في الرمل إلى أعمق كلما حاولت. استسلمت وقررت بأنه من الأفضل لي ألا أخرج من السيارة، و أن انتظر لغاية شروق الشمس. تمددت على المقعد الخلفي وغطيت في غفوة يتخللها عويل الريح في الصحراء وسفع حبيبات الرمل لزجاج السيارة.
أيقظتني حرارة الشمس حوالي السادسة صباحاً. نظرت في كل الاتجاهات لأتأكد من خلو المنطقة من حيوانات شرسة. ثم استطلعت السماء المغبرة المكفهرة لأتأكد من خلوها من الطيور الكواسر وبدأت مهمتي بتخليص إطاري السيارة من الرمل.
رفعت الإطارين العالقين، وضعت تحتهما اللوحين المعدنيين وأقلعت فتجاوزت السيارة بقعة الخطر في الرمل العميق الناعم كالرماد إلى نقطة أكثر ثباتاً ثم إلى الإسفلت. أرجعت اللوحين إلى مكانهما في الصندوق الخلفي واستأنفت القيادة ببطء وبحذر شديدين باتجاه الشيبة.
لمحت على بعد مئات الأمتار سيارة فان قديمة زرقاء مركونة في فسحة أعلى من الطريق بقليل وعلى يمينه. قصدتها، وجدتُ هناك شاباً آسيوياً قال لي بأن اسمه "المهندس جهانجير" ، يصلح السيارات ويبيع الوقود والمعلبات والخبز والمياه الباردة والمرطبات للمسافرين. طلبت منه أن يكشف على زيت المحرك ومياه المبرد ففعل بينما كنت أراقبه من بعيد. أنهى عمله وعاد، دعاني إلى "سكنه" في داخل الفان، أزاح ملاءة سرير قديمة رثة يسميها الستارة ودخلنا، طلب مني أن أجلس برفق وعلى مهل على سريره كي لا يهبط بي. ثم أحضر كوبا من الشاي وجلس على الأرض. بدا لي ذلك الفتى بحدود منتصف العشرينات، وسيم صبوح مثقف، عيناه تومضان بطيب حزين، حيي مرتبك، قدرت أن تكون عزلته وغربته المديدة قد فعلتا فعلهما بأعصابه، قدم لي كوب الشاي بيد مرتعشة كيد عجوز تسعيني، بادرني بالسؤال بإنكليزيته السليمة جداً : من أين أنت ؟
- لبناني .
- ما هي طبيعة عملك ؟
- موظف إداري .
- وما هي مهنتك على بطاقة إقامتك ؟
- حلاق
يا لحظك الطيب ! قالها بابتسامة ثم أردف : يبدو لي بأن لديك كفيل جيد . سمسارك لم يخدعك كما خدعني سمساري ، منحني تأشيرة مزارع ووعدني بأن أعمل كسكرتير في مكتب مدير الشركة. وحين وصلت إلى منزل كفيلي لم أجد شركة، واجهت صعوبة في فهم ما يقوله لي بالعربية رغم أني أتكلم الفصحى التي تعلمتها في بلدي. لقد حاول كفيلي اختباري في مجال الزراعة ولكنه قطع الحديث وخرج غاضباً من الغرفة حين قلت له بأني أتيت للعمل كسكرتير. عاد بعد دقائق برفقة قريب له اسمه مشاري وسألني: أتجيد قيادة السيارة . قلت نعم فقال : خذه يا مشاري "يترزق الله" مقابل ثمانمائة ريال بالشهر. جُلْتُ ومشاري على عدة مناطق كانت كلها محجوزة لفانات تبيع "الأيس كريم" والمرطبات والبسكويت وما شابه إلى أن وصل بي إلى منطقة الحسا. كان ذلك منذ خمس سنوات، يأتيني مرة في الأسبوع ، يحاسبني ويرحل، وحين يجدد لي إقامتي أو رخصة قيادة السيارة يتقاضى أضعاف أضعاف الرسوم.
خبط جهانجير بقبضته على رجله بعنف وغضب. تغيرت ملامحه، غشت مسحة من اللون الأزرق وجهه، ازداد ارتعاش شفتيه وعضلات وجهه وصار يرمش بسرعة، خمس سنوات ولم أتمكن من الإدخار، كم سنة ستمضي بعد كي أعود إلى أهلي ودياري؟ توفيت والدتي في غيابي جراء انفجار ولم أتمكن من وداعها. خبط رأسه بيده ثم انحنى يبكي. اقتربت منه لأهون الأمر عليه فزجرني بكلمات سريعة بصوت عال كأمر العسكر: أريد أن أعَرِّفـَكَ إلى صديقي "هامان".
تراجعت عنه حين بدأت عيناه ترشقان شعاعاً خلته أحمر، جَوُّ الفزع الذي أثاره التبدل المفاجىء في شكل جهانجير ولهجته دفعني للتفكر في طريقة للخروج من سيارته ، اعتذرت منه بلباقة بأني مستعجل وعليَّ إكمال طريقي لتنفيذ مهمتي فصرخ بي : لا تـُغْضِبَ "هامان" .
استسلمت لأمره : حسناً ، ولكن بسرعة من فضلك !
أحضر صندوقاً خشبياً، وضعه على الأرض وكشف الغطاء فقفز منه حيوان ضب ضخم مرعب مقزز وهجم نحوي فرفسته رفسة خائف قرف من شكله ، طار الحيوان عدة أمتار واصطدم بجسم السيارة من الداخل مما أغضب جهانجير الذي زعق بي ودفعني بعنف وأمرني بالجلوس وهددني : أبقَ مكانك وسوف أتفقد "هامان" ، إن كُسِرَتْ إحدى قوائمه سوف أكسر رجلك أو يدك، وإن كسرت إحدى أسنانه سوف أكسر سنك، وإن سُمِلـتْ عينه سأسمل عينك، وإن تضرر أنفه سأجدع أنفك ، وإن مات فسوف أقتلك ثم هوى بالساطور بعنف وشراسة نحوي لينغرز عميقاً في الفراش على بعد شبر مني.
يا للمصيبة ! لقد تحوَّلَ ذلك السرير الذي أجلس عليه إلى كرسي إعدام كهربائي يستمد طاقته من فوران وغليان جهانجير الذي هرع صوب الضب هامان ليطمئن إلى سلامته.
عاد بعد لحظات حاملاً "هامان" يُقبـِّـله ويراضيه وطلب مني أن أعتذر منه فاعتذرت. وضع الحيوان بجانبي وأمره بلغته بعدم الحركة، انتزع الساطور من الفراش وطلب مني البقاء في مكاني كي يُعرِّفني على أصدقائه الآخرين : الأفعى "ميمونة" و قطيع من العناكب والعقارب والسحالى، عدَّدَ لي أسماءها ببطء وتدليع ولكني لم أحفظها. ثم أحضر عدة علب بلاستيكية صغيرة مغطاة بغشاء شريطي منخلي. كل فئة على حدة مع طعامها. أما ميمونة فكانت تحت السرير ولبت نداءه حين انحنى ودعاها للتفضل لبدء الحفلة فخرجت رافعة رأسها العريض ترمقني بتطفل.
أجبرني جهانجيرعلى البقاء في وسط مخلوقاته الأثيرة وجلب مزماراً عزف عليه فرقصت "ميمونة" . سألني عن رأيي برقص الأفعى فأطريت على روعته. قال لي : قم وامنحها قبلة في فمها كي لا تغضب منك وتلدغك. ثم رفع الساطور في الهواء فوق رأسي ووقف خلفي.
أذعنت لتعليمات جهانجير، وقفت احتراماً لقدر ميمونة التي بدت تواقة لقبلتي لها فباغتتني بإطلاق العنان للسانها المشعب المتراقص بوجهي ما دفعني للإرتداد برعب والاصدام بجهانجير الذي انقلب على قفاه فشج رأسه وأغمي عليه. وجدتها سانحة للفرار، فكّرت ، كيف لي أن أترك بشرياً بائساً فاقد الوعي وسط تلك المخلوقات الخطرة. غسلت جرحه ورششته بالملح وضمدته، ثم سكبت ماء بارداً على وجهه فأفاق واسترد وعيه، نظر حوله وسألني : من أحضر ميمونة وهامان والعقارب والعناكب والسحالى ؟
- أنت أحضرتها .
هز رأسه باشمئزاز وتذمر من تصرفه، شرع بالبكاء واحتضنني وراح يعتذر.
شعر بثقة بي بعد أن صفحت عنه وهونت الأمر عليه فقال : أريد أن أحول مئة دولار إلى والدي ، هل يمكنك إسداء هذا المعروف لي ؟
أجبته بالإيجاب، رفع فانيلته وانتزع من قميصه القطني قطعة قماش ملفوفة بعناية ومشكولة بدبوس، حلها وسلمني المئة دولار الوحيدة في "محفظته" .
ما أضعف قلبك يا قلبي !
قلت لجهانجير أن يبقيها معه فقد يحتاج إليها لشراء طعامه : " أعدك بأني سأحول المبلغ إلى أبيك ، أعطني عنوانه ورقم هاتفه" .
تردد وفي عينيه وميض تقدير وعرفان. بدا لي بأنه بحاجة إليها فعلاً، شكرني :"اعتبرها دينا ! سأفيك دينك في رحلتك القادمة". ثم كتب عنوان والده على قصاصة ورق.
استأذنته بالانصراف فواكبني بمودة إلى أن صعدت سيارتي وانطلقت. رأيته في المرآة واقفاً في منتصف الطريق يلوح لي بيده إلى أن ابتعدت وغاب عن ناظري، أكملت طريقي نحو الشيبة، أنهيت عملي وعدت بلهفة مراهق مندفع للقاء فتاته الأولى إلى الخبر التي أحببتها. ولكني سأعود لرؤية جهانجير حين تسنح لي الفرصة لأطمئن عليه. وأعرف فيما إذا أسعفه الحظ لنقل كفالته.

CONVERSATION

0 comments: