أقامَ منتدى حيفا الثقافي حفلَ إشهارٍ وتوقيعٍ للدّيوان (لاجئةٌ في وطنِ الحداد) للشاعرة سلمى جبران، والصّادر عام 2014 من دار نينوى في الشام حيفا، وذلك بتاريخ 8-1-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وقد رحّبَ الأستاذ المحامي فؤاد نقارة؛ رئيس نادي حيفا الثقافيّ، بالحضور، وتخلّلتِ الأمسية وصلاتِ عزفٍ على العود، أدّاها الفنان حبيب شحادة، وتضمّنت الأمسيةُ مداخلةً للأديب فتحي فوراني، وحوارًا وقراءاتٍ شعريّةً أدّتها سلمى جبران، وقد أدار الأمسية المُربّية رنا صُبُح، وكان للحضور مُداخلاتٍ فعّالةً حولَ شخصِ المُحتفى بها، ومن ثمّ شكرت سلمى جبران الحضورَ والمُشاركين، وتمّ التقاط الصُّور التذكاريّة.
جاءَ في كلمةِ رنا صُبُح الترحيبيّة: تتحوّلُ الكلمة مِن رسْمٍ على الورقِ، إلى إنتاجٍ يتنفّسُ ويتأوّهُ ويتمرّدُ، يَصدُقُ ويُصادقُ، يَعشقُ ويُفارقُ. يتحوّلُ إلى إنسانٍ مُغادِرٍ وغادِرٍ، مُقيمٍ ومُسافرٍ، مُتقلّبٍ وحائرٍ.
سلمى: يَسرُّني ويُشرّفني أن أقفَ هنا أمامَ هذا الحضورِ المُميّزِ النّوعيّ، لأختصرَ رحلةً كانتْ طويلة، فيها حِرْتِ واحترقتِ، ومِنَ الرّمادِ خرَجْتِ عنقاءَ وشاعرةً.
الحضورُ الكريم، نحتفلَ بإصدارِ الشّاعرةِ سلمى جبران مَجموعتِها الشّعريّةِ الأولى؛ (لاجئةٌ في وطنِ الحِداد)، والتي جاءتْ في أربعةِ دواوين: {دائرة الفقدان، والحُلمُ خارجَ الدائرة، ومتاهة الحُبّ، وحوارٌ معَ الذات}، والتي صَدرَتْ عن دار نينوى في الشام وحيفا. وبما أنّ الدّواوينَ الأربعةَ صَدرَتْ في آنٍ واحدٍ، إلّا أنّها مُتسلسِلةٌ في مَراحلِها الوجدانيّة، تِباعًا لِما مَرّتْ بهِ الشاعرة مِن تجاربَ، فظهَرَتِ فيها بقامةٍ شِعريةٍ فارعةٍ لها خاصيتِها، وفي هذا المَقام، لا يَسعُني سوى تقديم باقاتِ المَحبةِ والتقدير لسلمى، على إضافتِها النوعية للشعر العربي عامة، والفلسطيني تحديدًا، وأخصُّ بالشكرِ فؤاد نقارة؛ رئيس نادي حيفا الثقافي، التابع للمجلس المِلّي الأرثوذكسيّ الوطنيّ، إذ سَعى لنلتقي هنا، وأشكرُ جميعَ الأعضاءِ المُضيفينَ، فلكُم منا أنقى مشاعر الشكرِ والتقديرِ، على الاستقبال الطيب الدافئ في هذا اليوم القارس، وأقدّم أعطرَ باقاتِ الشكرِ للفنّان حبيب شحادة، الذي سيُرافقنا على أوتارِ عودِهِ الشجيّ في فقراتٍ فنّيّةٍ مُستقلّةٍ، والشُّكرُ الجزيلُ لتلفزيون نورسات على بثّ الأمسيةِ، وأصدقُ التحيّاتِ أُقدمُها لكم أيها الحضور، وأدفأ المُنى بأمسيةٍ شعريةٍ مُمتعةٍ، ويُرصَدُ ريعُ الديوان لجمعية السّوار النسويّة، ومشاريعِها في مؤازرة المرأةِ، ومساعدةِ النّاجياتِ مِن الاعتداءاتِ الجنسيّة.
طرحت عريفةُ الأمسيةِ رنا صُبُح مجموعةً محوريةً وشاملةً من الأسئلةِ حول شخص وشعر سلمى.
1*رنا صبح- مَن تكونُ سلمى جبران الشاعرة والإنسان؟
سلمى أجابتْ بنَصٍّ بعنوان (صلاة): يا رَبِّي علِّمْني أن/ أغفِرَ حِقدًا/ أَنْ أَنسى/ علِّمني كيفَ أواجهُ/ كرهًا، حجرًا أَمسى/ يضربُ أَطفالي ويحطِّمُ/ حُبِّـي ويهيِّئُ لي رمسا/ لا أعرفُ إن كانَ الحاقِدُ/ والغاضِبُ جِنًّا أم أنسا/ يا ربِّي اجعلني أُغنيةً/ يسمعُها الحاقِدُ تُطربُهُ/ علِّمني كيفَ أَرُدُّ يديَّ/ وأَقوى! روحي تضربُهُ/ وأرْشِدْني كيف أَسيرُ/ وكيفَ يهونُ عـليَّ تجنُّبُهُ/ علِّمْني كيفَ أُحيلُ عذابي/ كأسًا من خمرٍ أَشربُهُ/ علِّمني كيفَ تصيرُ حياتي/ حنجرةً تشدو للحُـبِّ فأَكتبُهُ/ وانصُرْ في قلبي أملًا حـيًّا/ يغزوهُ الحـاقِدُ يسـلبـهُ/ وامنحْهُ حُـبًّا وفـؤادًا/ وضميرًا ينهاهُ فيُرهِـبُهُ/ واجعلني مرساةً لـلآثِمِ/ ففؤادي يتواضَعُ مطـلبُهُ:/ هل يأْتـي يومٌ يصحو فيـهِ ضميرٌ؟/ أَنتظِرُ اليومَ وأَرقُـبُهُ !!
2* لماذا غبتِ عن السّاحةِ الأدبيّة، ما دُمتِ تكتبينَ مِن زمَنٍ؟
اعتقدتُ أنّ ما أكتبُ هو علاجٌ ذاتيٌّ ومُختلفٌ وغريبٌ، ولم أعرفْ أنّ مَن سيتلقّاهُ سيأخذُهُ لأماكنَ أخرى، ولكن أقولُ نصًّا (ما عادَ يُخفيها سِتارٌ): يا قلبُ بُحْ إنَّ/ المواجعَ خمرتي/ وشرابُها نارُ/ يا قلب أُنشرْ/ حرقةً تكويك/ لا خجلٌ يدثرِّها/ ولا عارُ/ فمحبّتي غابَ المُعمّدُ/ في دماها حطّمتْ/ أسرارَها الأقدارُ/ وتعطّلت كلُّ الحكايا/ في سرائرها/ وحطّم سرَّها إعصارُ/ وتصاعدت لهبًا/ أزاهيرُ الهوى/ ما عاد يُخفيها ستارُ/ أُنشرْ مواجعَكَ/ التي نامتْ قرونًا/ شقّ عتمتَها نهارُ/ ألمي وحرماني تحوّل/ لذّةً وأحال نومي/ صحوةً تنساب/ بين عروقها أشعارُ/ وأظلُّ أعجزُ أنْ/ أصُدَّ تدفّقًا منها/ فلا يبقى لدى قلمي خيارُ/ يا ربِّ اسْحقْني/ وانْشُرْني رمادًا/ في الفضا إن كنتَ/ تعلمُ أنّ حبِّي لحظةً/ سيموتُ أو ينهارُ/ يا ربِّ فيكَ ومن هُداكَ محبّتي/ اِرفقْ بها، فلديكَ / يُنصفُني القرارُ...
3*تميلُ الشاعرة جبران إلى الذاتيّةِ في دواوينِها، ونجدُها حالمةً فلسفيّةً في رُؤاها؟
أجابتْ سلمى: فلسفتي هي أنّ أبسطَ الأمورِ أعمَقُها، فأقولُ بنصٍّ بعنوان (حقيقتي): بين المضائق في أحشاءِ/ ظلماتِ القرونِ/ يعيشُ إنسانٌ يعاني/ فتصمُّ آذانُ الورى/ من صوتِ صيحتِهِ المعقّدةِ المعاني/ ويهبُّ في أعماقِهِ وعيٌ يجرّدهُ/ ويُنسيهِ قوانينَ اللسانِ/ فيعيشُ يأكلُ صرخةً/ تُحيي عظامًا مزّقتْها/ عقدةُ الإنسانِ/ فيهبُّ من بين العظامِ/ بصيصُ نورٍ لا يحبُّ/ حرائرَ الأكفانِ/ فحقيقتي في عُرفهم/ كفرٌ تخطّى كلَّ حدٍّ/ في الزمانِ أو المكان.
4*رنا صبح: مِن أين تستمِدّينَ حُلمَكِ وأمَلَكِ؟
أجابت سلمى بنَصٍّ عنوانُهُ (حُلمُ امرأَةٍ عربيّة): دومًا أتخبَّطُ، أركضُ/ وأُفتِّشُ عن حُلُمي/ حُلُمي سرقتهُ منذ قرونٍ/ كلُّ "فُتُوّاتِ" العُرْبِ/ وأَبقتْ لي/ عقلًا يقتلُ وهْمي/ لم تعرفْ أنّي/ يومًا قد أقوى/ أو أخرجُ مِن عدمي/ تركَتْني إذ قطعَتْ فيَّ لساني/ و"ارتاحت من هَمِّي"/ لم تعرف أنّي/ أملكُ قلمًا أو أنّي أقدرُ/ أن أسكُبَ روحي في قلمي/ تركَتْني أحيا/ في زنزانةِ عُرْفٍ/ وأُعاني وأُردِّدُ قَسَمي:/ إنّي لن أَقبلَ بعد اليوم/ بسجنٍ هدمتْهُ/ هجرَتْهُ قِيَمي/ فتراءى لي حُلُمي/ يسطعُ نورًا/ في وجهي إذ يكشفُ/ وجهَ الغجريّةِ فـيهِ../ فأهيمُ وأصرخُ: / هــذا حُلُمــي ...
5* رنا صبح: لمن تكتبين؟
قالتْ سلمى: أكتبُ لِنفسي كعِلاجٍ ذاتيٍّ، وللإنسانِ المَظلومِ الّذي لم يَأخذْ مَكانَهُ الطبيعيَّ في الحياة، وشِعريًّا أقولُ نصًّا بعنوان (آتي لخابيتي): آتي لخابيتي/ فإلى متى ستظلّ/ خابيتي تعتِّق خمرَها/ وتذيب أشواقي/ الحميمةَ بين ظهرانيه؟ِ!/ فأصبُّ ماءَ العمرِ/ في أحشائها .. في خمرها/ يومًا فيومًا علّني أطفيه/ لكنّ رشفة قطرةٍ منه تزيد حرارتي/ وتدبّ في قلبي/ جراح الحبِّ؛ تضنيهِ/ سأظلّ أرشفُ كلّ يوم قطرةً/ منه لكي يبقى فؤادي، هاجعًا/ يقضي لياليهِ/ سأظلّ إن طال الحنين إلى الهوى/ وتخدَّرَ القلب الذبيحُ من النوى/ آتي لخابيتي أُصحّيهِ/ قلبي تعوّد أن يطيبَ/ برشفةٍ من خمرها/ من قلبها، لمّا تكسّر/ كأْسُهُ في فيهِ/ يا ربِّ بارك خمرَها/ لتظلّ ملأى خمرةً/ ومحبةً تروي/ حنيني للهوى، تُحييهِ/ ليظلّ في قلبي هواي/ معمِّرًا ويردّ لي/ سرّ الحياة مصلّيًا/ ومردّدًا أشهى مغانيه...
6* رنا صبح: كيف تُحوّلينَ الموتَ إلى حياةٍ، والبكاءَ إلى نبعٍ، يَمنحُ الحياةَ للكروم والمَحبّةَ للبَشر؟
أجابتْ سلمى: الموتُ هو الجذعُ اليابسُ الّذي يُقلَّمُ، فتَنهضُ الحياةُ، والدّموعُ تَجلو الرّوحَ ومَحبّةَ البشر.
7* رنا صبح: وكيفَ تَظهرُ المرأةُ العاشقة في شِعرِك؟
أجابتْ سلمى بنَصٍّ عنوانُهُ (تُعَمِّدُني بأُغنيةٍ): كـلَّما حـنَّ فؤادي للهوى/ صارَ الهوى أَكبَرَ، أَجـمَلْ/ فتزورُني روحٌ تعانقني/ وتقتلُ وحدتي../ وتُعيدُ لي تاريخِيَ الأولْ/ وتصهَرُني، تُعَمِّدُني بأُغنيةٍ/ تحكي حكايةَ فارسٍ يرحَلْ/ وصبيَّةٍ عبَثَ الجُنونُ بها/ إذ راحَ فارِسُها ولم يُمْهِلْ/ فتعثَّرَتْ في نفسِها الكَلِماتُ/ عزَّ فُؤادُها أَنْ يُقـتَلْ/ فتحوَّلَتْ آهاتُها حُـبًّا/ يعانقُ روحَها، لا يغفلْ/ ويرُدُّ جرأَتَـها وينصُرُها/ ويُعطيـها فلا يبخـلْ
وبنصٍّ عنوانُهُ (كي يرقى عشقي): أتعاطى العشْقَ/ بقلبٍ يسكُنُ جُمجُمتي/ أشربُهُ كأْسًا/ من خمرٍ يُخرجُني/ من عتمةِ أقبيَتي/ إنّي أتشهّى طعمَ/ الحرّيّةِ كي أرقى/ كي يرقى عشقي/ كي يُنتزَعَ خمارُ الظُّلْمِ/ الأسوَدِ عن أوجُهِ شعبي/ إنّي أعشقُ كلَّ حضاراتِ/ العالمِ كي أعشَقَ شعبي/ مُبتَذِلًا عُقَدَ الماضي/ من كلِّ زواياهُ../ إنّي أترقَّبُ مأْساةً/ قد تصهَرُ فينا كلَّ/ معاناةِ التاريخِ الماضي/ منذُ قرونٍ ولَّتْ/ لا تبصِرُ فرقًا بينَ/ دماءِ شهيدٍ وشهيدهْ/ قد تنجبُ فينا/ رجلاً آخر وامرأَةً أُخرى../ قد تخلقُ فينا/ معنىً آخرَ للحرّيّهْ/ قد تنجبُ منّا أجيالًا/ تفهمُ أكثرَ منّا/ تبصرُ أبعدَ ممّا نبصِرْ/ تنقذُنا، تعطينا/ معنىً آخرَ للحرّيّهْ/ تعطينا معنىً آخرَ/ للإنسانيَّة..
8*رنا صبح: للنقدِ الاجتماعيِّ نصيبٌ في شِعرِ سلمى جبران، وفي قصائدِكِ تُوجّهينَ انتقادًا شديدًا ولاذعًا لفئةٍ مِن البَشر، فئةٍ استغلاليّةٍ، مُنافِقةٍ، مُتعاليةٍ، مُختالةٍ ومُحتالة.
بنصّ (رسالةٌ غريـبةٌ) قالتْ سلمى: تصِلُنـي في كلِّ ليلةٍ/ رسالةٌ أوراقُها/ كلامُها، حروفُها غريبهْ/ أَفتحُهـا تسيلُ من/ طيَّـاتِها دموعْ../ تَغيبُ بي حروفُها وتختفي/ والحبرُ في سطورِهـا يذوبْ/ تختلِطُ الحروفُ في صفحتِـها/ فيصبحُ الكلامُ/ صورةً مظلِـمةً مُريبـهْ/ لبشرٍ تشابكتْ أَطرافُهُـمْ/ والتحمتْ أَجسادُهُمْ/ فكوَّنَتْ دائرةً رهيبهْ!
9*رنا صبح: كيف تعاملتِ مع الصّورِ البَشريّةِ التي اعترضَتْ طريقَ إنسانيّتِكِ وأمومتِكِ وأنوثتِك؟
أجابتْ سلمى: (المّحبّةُ في دمي): بيني وبينك ما لم يحتمل جدلا/ بيني وبينك عشق/ دَهْرٍ عاشَ حُرًّا وانجلى/ كُـنَّا نعاقِرُ فيهِ خمْرًا بالمحـبَّةِ مُثـقَلا/ نشْقى ونحمِلُ جرحَنا/ بمحـبَّةٍ ونقولُ للأحقادِ لا/ فتعمَّدَتْ بالحُـبِّ دُنيانا/ وكُـنَّا للبساطةِ معقِلا/ عُمُرٌ قضيْناهُ وصانَ/ الحُـبُّ فيهِ المنزِلا/ زرَعَ الهوى فيهِ الحياةَ/ وغــابَ وارتَحَـلا/ بقِيَتْ بنفسي مِنْـهُ/ روحٌ تبعَثُ الأملا/ وتَصُـدُّ عَنِّـي الشَّـرَّ/ والأحقــادَ والعـَذَلا/ يا حُــبُّ علِّمـني صلاتي/ فالمحَبَّةُ في دمي صارتْ صلا...
10*رنا صبح: وهل هناكَ دوْرٌ لسَلمى الأمّ في شِعرك؟ وكيفَ تظهرُ الصّورة؟
أجابتْ سلمى: خـذْ كُـلَّ متاعِ الـدُّنـيا/ خذْ منهُ الجِـسْمَ/ وخذْ منهُ الإسْـمَ/ وخذْ منهُ اليـدْ/ خُـذْ كُـلَّ متاعِ
الـدُّنـيا وارتـدّْ/ خُذ شِعرًا خُذ فـنًّا / يُعطيكَ المجْدْ/ واترُكْ لي روحًا أعشقُـها/ وحنينًا وصغارًا أَحضـنهُمْ/ هذا يُغنيني عن/ كُـلِّ كنوزِ الأرضْ.
11*رنا صبح: وأين الوطنُ في شِعر سلمى؟
أجابتْ سلمى: في قصيدةٍ لمْ ترَ النّورَ بَعدُ أقولُ: وطني يسكُنُني ويهاجِرُ بي/ يودِعُني سِرًّا/ أرَّقَ مضجَعَهُ/ لا يفقهُ إن كانَ/ بكاءً أم شدوًا/ أو كانَ نعيمًا أم نارًا واقِعُهُ/ يتوطَّأُ أرضًا/ يَعتنقُ الحُلْمَ فيصحو/ لا يجِدُ مكانًا في دنيا/ باتت تتزاحمُ فيها أضدادٌ/ ما فيها أحدٌ مَعَهُ/ فارتادَ بقاعَ الدُّنيا/ ينشُدُ وطنًا/ في الرّيحِ مواقِعُهُ/ وتهاوى الحُلْمُ/ تحوَّلَ وطني روحًا/ في كلِّ حواسي مَوْقِعُهُ !
12*رنا صبح: الحزنُ في شِعرِكِ يَبدو مُختلفًا، فهل الفرَحُ يَبدو مُختلفا؟
أجابتْ سلمى: الحزنُ والفرحُ يَتماثلانِ بحِدّةِ المَشاعرِ، فأقولُ بنَصِّ (لحنُ السُّكون): قلبي تخدَّرَ/ من خمورِ الحزنِ/ واسترخى بمثواهُ/ ليرقُدَ متعَبًا/ في أضلُعي/ فأحسُّ في نبضاتِهِ/ لحنَ السُّكونِ/ يريحُني، يُطفي/ حرارةَ أدمُعي/ وتزولُ من جسدي/ شراراتُ الهوى/ لـكنَّ نورَ حقيقتي/ لا ينطفي/ يبقى معي..
13*رنا صبح: باعتقادِكِ، ما هو أخطرُ شيْءٍ على الشاعر؟
أجابَتْ سلمى: الخطرُ ممّنْ يَتطرّفونَ، ولا يَتقبّلونَ ماذا يُفكّرُ الآخرُ، ومِن تحويلِ المَشاعرِ إلى مواقف.
14*رنا صبح: أينَ شاعرتُنا مِن مَواقعِ التّواصُلِ الاجتماعيّ؟
أجابتْ سلمى: هذهِ المواقعُ تَلبسُ الثوبَ الّذي تُقرّرينَهُ لها، وعَلّمَني الفيسبوك أنّ الناسَ تتلقّى القصيدة مِنْ مَواقعَ مُختلفةٍ، وتأخذُها إلى أبعادٍ وأماكنَ مُختلفةٍ، وهذا يُعطيني اكتفاءً ومُتعةً فكريّةً وحِسّيّةٍ.
15*رنا صُبُح: مَن يُعجبُكَ مِنَ الشّعراءِ العرَبِ والمَحليّين؟
أجابتْ سلمى: "في البدءِ كانتِ الكلمة"، وتعجبُني الكلمةَ الصّادقةَ العفويّةَ الشّاعرةَ، دونَ التّأثُّرِ بمَنْ كتبَها.
16*رنا صُبُح: وكيف تكتبين؟ هل تحتاجينَ إلى أجواءٍ مُعيّنةٍ للكتابة؟
أجابتْ سلمى: في كلّ الحالاتِ، القصيدةُ تَفرضُ نفسَها عليّ، وليسَ لي قوْل كيف، وأين، ومتى، ولماذا؟
وفي مداخلةِ الأديبِ فتحي الفوراني جاء: سلمى جبران.. لاجئةٌ في وطنِ الحداد!
لقد صدَقَ حبيبُنا الشاعرُ توفيق زياد، عندما وَصَفَ قرية البقيعة بأنّها قريةُ الشّعراء، فهذهِ القرية الطيّبة جامعةٌ للشّعر، تخرّجَ مِن مِعطفِها كوكبةٌ مِنَ الشّعراءِ، الّذين ساهموا في بناءِ المَشهدِ الشّعريّ في هذا الوطن، مِنهم الشّعراءُ الرّاحلون: مُنيب مخّول، ونخلة مَخّول، وسلمان أسعد فضول، وسالم جبران، وسميح صبّاغ، والإخوة الشّعراء الباقون: نايف سليم، وحسين مهنّا، ومروان مخّول، وسامي مهنا، أمَدّ اللهُ في أعمارِهم جميعًا، ثمّ جاءتْ صديقتنا الشاعرة سلمى جبران، لتؤكّدَ مَقولةَ توفيق زياد، وتضيفَ نورًا على نور. وبدءًا مِن سلمى، تُصبحُ هذهِ القريةُ الجليليّةُ قريةَ الشّعراءِ والشاعرات، زادتْها بهاءً، فأضفتْ نكهةً مُميّزةً للمَشهد الشّعريّ.
جاءَ في تراثِ الأمثال، أنّ أوّلَ الغيثِ قطرٌ ثمّ يَنهمرُ، ولم تشأ سلمى، منذ اللّحظة الأولى والإبداعِ الأوّل، إلّا أن تقفزَ عن القطر، فتكونُ غيْثًا وطوفانًا تسوناميًّا، يَحملُ في خضمّهِ أربعةَ شلّالات، انصبّتْ على المشهدِ الشّعريّ دُفعةً واحدة، فقد تلبّدَتْ سماءٌ بالغيوم، وبلا سابقِ إنذارٍ فتحتْ أبوابَها، ثمّ هطلتْ أمطارَ الإبداعِ غزيرةً، وامتلأتِ الدّنيا كبًّا مِنَ الرّبّ، فارتوَتِ الأرضُ العطشى، ثمّ جاءَ الرّبيعُ مُختالًا فرحًا، وفتحَ صدرَهُ ليَحتضِنَ سلمى وإبداعاتِها الأربعةَ، ويُشبعَها ضَمًّا وتقبيلًا. إنّهُ العطاءُ الأنثويُّ الإبداعيُّ بأبهى تجلّياتِهِ، فأهلًا وسهلًا باللّاجئةِ في وطنِ الحداد.
لقد عشتُ يوميْنِ كامليْنِ معَ الدّواوينِ الأربعة، فوجدتُ نفسي أمامَ دنيا كبيرةٍ، تزخرُ بفيضٍ مِنَ المَشاعرِ الصادقة. حاولتُ جَسَّ النّبضِ، فوجدتُ عروقَ القصائدِ تنبضُ بفيْضٍ مِنَ العاطفةِ الجيّاشةِ، التي تخرُجُ منَ القلبِ، وتدخلُ مباشرةً إلى القلب، بلا شور ولا دستور ولا استئذان، كما اعتادَ النّقادُ أنْ يَقولوا. تقفُ سلمى على خشبةِ المسرحِ، يَعتصرُها ألمٌ غيرُ عاديٍّ، وفي صِراعِها معَ الألمِ، تظلُّ شامخةً مرفوعةَ الرّأسِ، وصوْتُها يُجلجلُ عاليًا: ها أنذا/ وهذه قصائدي/ أنا كما أنا/ كطعامِ الفقراء/ فقد خرجتُ من رَحمِ البُسَطاء/ ها أنذا أقفُ أمامَكُم/ بلا رتوشٍ/ وبلا أقنعة/ هذه أنا كما أريد/ وليس كما يُراد لي/ هذه أنا!/ ولن أرفع الرّايةَ البيضاء!
أيُّها الأحبّةُ، في عصرِ الدّجلِ الشّعريّ تَروجُ القصائدُ المُلثّمةُ، الّتي لا نعرفُ مَلامحَ وجْهِها، ولا لوْنَ عيْنيْها، ولا نُحسُّ بلفْحِ أنفاسِها! إنّها ترتدي الزّيَّ الأسودَ مِنْ رأسِها حتّى أخمص قدميْها، تُحيطُها أسوارٌ فولاذيّةٌ خانقةٌ، ويقفُ على بابِها حُرّاسٌ لا قلوبَ لهم. هذهِ القصائدُ المُلثّمةُ هي ما يُميّزُ العديدَ مِنَ الكلماتِ الدّعيّةِ، مَغموزةِ النّسَبِ والمَرصوفةِ عشوائيًّا، والّتي تنتمي إلى عائلةِ ما بعد بعد الحداثة. نقفُ على أبوابِها ونحاولُ الدّخولَ، فنجدُها مُغلقةً إغلاقًا مُحْكَمًا. نحاولُ أنْ نكسرَ الأقفالَ، لندخلَ إلى عالم الأفهام، فيَستعصي فهمُها على النّخبةِ مِنَ المُثقّفين، ولا يَبقى أمامَنا إلّا أنْ نلجأ إلى المُنجّمينَ والعرّافين وقارئات الفناجين، فمسرحيّاتُ الدّجلِ الشّعريِّ على أشُدِّها!
وعلى الشّاطئِ الآخَرِ مِنَ النّهرِ الشّعريّ، تقفُ سلمى وقفةَ عِزٍّ وإباء، وتُميطُ اللّثامَ عن مَشاعرِها الصّادقة، فتقفُ شامخةً لتقولَ لهؤلاء بتواضعٍ وكبرياء: لكُم دينُكُم ولي دين! وتُعلنُ عن إقامةِ دولتِها الشّعريّةِ المُستقلّةِ، الّتي تأبى أن تكونَ شبيهةً لأحدِ أيًّا كانَ مِنَ الشّعراء. إنّها هي هي سلمى جبران، تحفلُ أبجديّتُها بصِدقِ مَشاعرِها، وبَساطتِها الشّامخةِ التي تتوثّبُ عِزّةً وكبرياء! إنّها تقفُ بَعيدًا عن الصّنعةِ الّتي تَحفلُ بالزّخارفِ والبهلوانيّاتِ اللّفظيّةِ. تقفُ بعيدًا عن الغموضِ والإبهامِ، والانغلاقِ الّذي يُعتبَرُ سيّدَ المَرحلة. تقفُ بعيدًا عن الدّجلِ الشّعريّ الّذي أصبحَ سيّدَ المرحلة، ويَحملُ شِعارًا كُتبَ عليهِ: أَغْرِبْ تُعْجِبْ!
مِن قاع الألمِ تنطلقُ عصافيرُ الفرح، وهي تؤمنُ بالصّدقِ معَ النفس، ويشعرُ القارئُ بهذا الصّدقِ في كلّ كلمةٍ مِن سيرتِها الشّعريّةِ، ورغمَ دربِ الآلامِ المَليئةِ بالحواجزِ والأسلاكِ الشّائكةِ والألغام، فقد عرفتْ كيفَ تتحدّى وتظلُّ شامخةً مرفوعةَ الرّأس، لا تُلقي سِلاحَها، بل وتُواصِلُ المَسيرة، وعرَفتْ كيفَ تكونُ سفيرةَ المُعذَّبينَ في الأرض، وإذا دخلنا إلى أعماق الشّاعرة، نكتشفُ ثقتَها بنفسِها وإيمانِها العميق، بأنّها تملكُ القُدرةَ على التّغيُّرِ والتّغيير، وأنّها عرفتْ كيفَ تُحوّلُ الألمَ إلى فرح، فتخرجُ مِن قاعِ الأحزانِ، وتَنهضُ كالعنقاءِ مِنَ الرّمادِ، وتنطلقُ بجَناحيْها لِمُعانقةِ شمسِ نيسان الخضراء.
عرفتُ سلمى زميلةً لي في الكليّةِ الأرثوذكسيّة، وكانتْ تُجاهرُ بعلاقتِها الحميمةِ مع العمّ شكسبير، والخال جيمس جويس، وابن العم وليم بليك، وباقي الشلّة الناطقة باللغة الإنجليزيّة، ولم يَكنْ في أحاديثِنا اليوميّةِ في ساعاتِ الفراغِ، ما يُوحي أو يَشي بالينابيع الارتوازيّةِ السّرّيّةِ التي تسري في أعماقها، إلى أنْ جاءتْ عصفورةٌ زرقاءُ، وألقتْ بين يديَّ رسالةً مكتوبةً على ورقِ الورد الجوريّ، فأزالتِ السّتارَ عن الطفولةِ الشّعريّةِ لهذه البُنيّة، وتكشّفتْ أمامي المعلومةُ المثيرةُ، فقد بدأتْ علاقةُ سلمى بربّةِ الإلهامِ الشّعريِّ منذ نعومةِ أظفارِها، وبدأتْ تُعاقرُ خمرةَ الشّعر، وهي طفلةٌ عمرُها اثنا عشر عامًا! وطيلةَ هذه الفترةِ الّتي جمعَتْنا تحتَ خيمةِ التّدريس، نجحَتْ في التستُّرِ على هذه العلاقةِ السّرّيّةِ بينَها وبينَ ربّةِ الشّعر! جاءَ في الأمثال العامّيّةِ: تحت السّواهي دواهي، وقد اكتشفتُ أنّ تحت سواهي سلمى الجبرانيّة نبعًا ثرًّا من الدّواهي الشّعريّة!
ختامًا لا بدَّ مِنَ المِسك، ولا بدّ مِن مُلاحظةٍ هامّةٍ، فقد رَصَدتْ سلمى ريْعَ رباعيّتِها تبرُّعًا لجمعيّةِ السّوارِ الدّاعمةِ للمُعذّباتِ في الأرضِ، اللّواتي سقطنَ ضحايا الاعتداءاتِ الجنسيّةِ، فلها نُوجّهُ باسْمكُم أصدقَ التّحيّاتِ، ونَشدُّ على يديْها.. كثر الله من أمثالها.
أيّتُها العزيزة سلمى، نتمنّى لكِ المزيدَ مِنَ العطاءِ الإبداعيِّ، والمزيدَ مِنَ الصُّمودِ والتّحدّي في وجهِ العواصفِ. لا تأبَهي يا سلمى بهدى ولا بغير هدى، فأنتِ فوقَ العواصف! إلى اللقاءِ مع رباعيّةٍ أخرى، مِن يَنابيعِكِ المِعطاءة. شكرًا لك على هذهِ الكلماتِ الصّادقةِ.. شكرًا للعزيزة رنا صديقتي وتلميذتي في عشق اللغة العربية. والسلام عليكم وكل عام وأنتم وشعبنا بألف خير.
0 comments:
إرسال تعليق