أين هو الخيط الأبيض؟/ محمود شباط

يتسنم مستشفى "الأمل" لعلاج الأمراض العصبية ربوة تخضوضر بأحراج الصنوبر. يبدأ دربه عند الطريق البحري ويلتف حلزونياً إلى أن يبلغ باحة المستشفى المسورة بأشجار السرو الباسقة.
هناك كان الدكتور الشاب أسامة أسامة يتصفح العناوين الرئيسية لصحف ذلك اليوم. قرأ أخبار ما بعد انتفاضة تونس وصحوة مصر، ثم راح يتنقل إلى أخبار وتعليقات حول ما بعد ما بعد ما بعد تونس ومصر، يحتسي قهوته الصباحية ويتفكر في وضع الشباب وعالمه العربي . يتساءل ويتمرمر. ثم أدار التلفاز .
إحدى الفضائيات تنقل مقابلة مع مسؤول أميركي يحث الشعوب العربية والحكام على انتهاج الديمقراطية. صرخ بذلك المسؤول بصمت : ألستم أنتم من وأد أحلام الشعوب بأي أمل بالتغيير وساندتم أعتى الأنظمة الشمولية؟ ألستم أنتم من فبرك ظروف تخلفنا كي لا نكون جاهزين لممارسة الديمقراطية ؟ غضبه من الأميركيين دفع به للتحول إلى قناة أخرى . ضغط زر الريموت منتقلاً إلى فضائية تدور في فلك أقليمي إقليمي تحيي شعبي مصر وتونس وتشعل نار الحماس بدعوتها إلى شرق أوسط إسلامي جديد ، بامتعاض واستهجان تساءل الدكتور: وما هو مصير عشرات ملايين المسيحيين في شرقكم الأوسط الإسلامي الجديد؟ هل يصبحون أهل ذمة أم مشروع هجرة ؟ ما هو مصير عشرات ملايين الليبراليين الذين انتفضوا على حكامهم من أجل شرق أوسط إنساني علماني يواكب مستجدات العصر؟
أطفأ التلفاز واتجه صوب النافذة المطلة على الباحة يراقب المرضى من أعمار متفاوتة يروحون ويجيئون على مهل ويتعابثون.
هبط الدكتور من الدور الثالث متجهاً صوب الباحة هروباً من جحيم عالم العقلاء إلى نعيم عالم المجانين . تقدم منه "عنترة" ممتطياً صهوة "خشبة" يسميها "الفرس الكحيلة" واستفسر الدكتور حول تاريخ السماح له بالخروج من المصح بعد سنين من علاجه.
تفرس به الدكتور يغبطه نعمة غيابه عن هذا العالم المشبع بضباب الخيبة والألم وسأله : إلى أين أنت ذاهب يا عنترة ؟
- اجتماع ! لدينا اجتماع لنقرر مصير أمتنا
- أين ؟ هل تسمح لي بحضور اجتماعكم ؟
- إركب !
امتثل الدكتور "وركب" على الخشبة التي حثها "عنترة" على الإنطلاق بسرعة ، يركض والدكتور مضطر لمجاراته ركضاً ممسكاً بكتفيه بثبات .
حين وصلا إلى ركن ظليل من أركان الباحة وجدا "أفلاطون" يترأس خمسة مرضى يتحلقون حول دائرة رسموها على الأرض وكتبوا في وسطها "ما بعد ما بعد تونس ومصر" . جلس "عنترة" في المكان الشاغر المخصص له فسأل الدكتور : أين أجلس ؟
رد أفلاطون: لا مكان لك ! ابق واقفاً أو أنصرف إن شئت .
- حسناً ! سوف أبقى واقفاً إن سمحت لي . رد الدكتور
هز أفلاطون رأسه بالموافقة ثم أعلن افتتاح الجلسة كونه أعقل المجانين المجتمعين ، إذ يعرف عن نفسه بأنه كان يشغل منصب أستاذ القانون الدولي في جامعة كبرى ، وقف عنترة وعرف باسمه، ثم حذا الآخرون حذوه ، وأخيراً وقف أفلاطون ثم تلا جدول الأعمال المقرر المدون في ورقة ترتعش في يده وأوضح لزملائه بأن الأسئلة يجب أن تنحصر حول ما جرى ويجري في تونس ومصر.
وقف "عنترة" ورفع يده يستأذن أفلاطون بطرح سؤال فمنحه الأخير الإذن :
برزانة قدر المستطاع . وبتأهب وجدية طرح عنترة سؤاله : بصفتي محلل سياسي أتساءل حول أسباب صحوة الولايات المتحدة وحرصها على الديمقراطية في العالم العربي . هل من سبب محدد ؟ أفدنا لا فض فوك يا فيلسوفنا العظيم!

هرش أفلاطون صلعته : أولاً المصالح ، وثانياً اللحاق بقطار الشعوب وتطلعاتها التي لم تعد تحتمل التأجيل . ثم جال أفلاطون بنظره على زملائه وسأل : غيره ؟ من لديه سؤال ؟
وقف نابوليون معتمراً حلة مطبخية بدلاً من القبعة النابوليونية الشهيرة. خلع القبعة احتراماً ثم طرح سؤاله : بعد أن انهار المعسكر الإشتراكي تتابعت انهيارات الديكتاتوريات في العالم ولكن الولايات المتحدة الأميركية حالت دون وصول ارتدادات تلك الزلازل إلى العالم العربي خوفاً من هيمنة الإسلامويين على الحكم كما قيل في حينه . هل لا زالت أميركا على موقفها ؟
تنحنح أفلاطون موحياً بأهمية السؤال وحساسية الرد ثم قال : لا أظن. إذ أن أميركا لديها تصور مختلف الآن ، وتكاد تستشرف عما ستؤول إليه الأمور بناء على متابعتها للتجربة التركية حيث رأت بأن الإسلامويين الأتراك يجيدون الرقص على حلبة "حافة الهاوية" إذ أنهم يتأطلسون طوراً وتارة يتأسلمون . ثم صرخ بزملائه : غيره ؟
وقف صدام بشاربيه الأشيبين ولحيته الطويلة : ولكن لا يوجد من العرب من هم في الحلف الأطلسي !
- محق أنت في ذلك يا عزيزي . ليس بالعلن . ولكن الإسلامويين أعقل من أن يلعبوا بالنار. غيره ؟
وقف "موسوليني" وسأل : يكاد يجننني موقف إيران التي تلهب الجماهير العربية بالخطب التحريضية على حكامهم وللتظاهر تأييداً لانتفاضتي تونس ومصر ولا تسمح لشعوبها بالتظاهر بهذا الخصوص . اكاد أجن ! أخبرنا السبب إن كنت تعرفه يا فيلسوفنا العظيم . أخبرني كي يطمئن قلبي لا فض فوك !
الجواب سهل ، ظننتك تعرفه ، ألا تعلم بأن النظام في إيران لايخضع للأحكام الأرضية والقوانين والسنن الوضعية ؟ إذ أنهم يعتقدون جازمين بأن ما ينطبق على الآخرين لا ينطبق عليهم. هذا هو السبب. ولا داعي للجنون يا عزيزي . دع الجنون لمن يسمون أنفسهم عقلاء.ثم اختتم أفلاطون الإجتماع بطرح مطالب جديده من إدارة المستشفى :
- أولاً : المطالبة بتحسين نوعية الطعام .
- ثانياً : المطالبة بتحسين وضع المهاجع.
- ثالثاُ : المطالبة بمعاملة حسنة واختبارات عادلة نزيهة تتيح لمن يتحسن وضعه أن يعود إلى منزله .
صفق له الخمسة الآخرون طويلاً. واضطر الدكتور لمشاركتهم ابتهاجهم وفرحتهم بتلك النتيجة حين حدجه أفلاطون بغضب واستنكار وحثه على التصفيق. ثم وقفوا وعاد كل منهم إلى مهجعه بمن فيهم عنترة الذي نسي أن يصطحب الدكتور وانطلق على "الكحيلة" يصرخ بها لتسرع أكثر وينادي على عبلة ابنة مالك كي توافيه لتؤازره في معاركه.
اتجه الدكتور أسامة نحو مقصف المستشفى وانتحى ركناً هادئاً. طلب من النادل فنجان قهوة ووضع سماعتي مذياعه الصغير على أذنيه واتكأ إلى الخلف مغمضاً عينيه بانتظار فنجان القهوة. وكعادته حين يكون وحيداً عند قيلولة ما بعد الظهر راح يتنقل بمؤشر المذياع من الموسيقى إلى الأخبار وهو ما يزال مغمض العينين يساوره الإجهاد والتعب. ثم تراءى له مفتش وزارة الصحة الذي يحضر بشكل دوري لتفقد أوضاع المرضى ليقرر من سيطلق ومن سيبقي،بدا له المفتش يجول في المقصف بعجلة كمن يبحث عن شخص ما. ثم اتجه صوب الدكتور بسرعة حين لمحه وقال له : " أخضع أفلاطون للإختبار الدوري و اتصل بذويه لاصطحابه إلى منزله في حال اجتيازه للإختبار! لا تنس ! اخضعه للإختبار أولاً ! "
- حسنا
هذه هي المرة العاشرة التي يقوم فيها الطبيب النفسي باختبار "أفلاطون" لتقدير حالته العصبية .
وبينما الدكتور أسامة ينتظر في عيادته دخل "أفلاطون"، إنما أشرس مما كان عليه. بدا المريض للدكتور بشكله المرعب كهلاً ضخماً كجلادي القرون الوسطى، يرتجف ويرشق الدكتور بنظرات مخيفة، يداه ترتعشان وتمسكان برأسه الكبير في محاولة لوقف اهتزاز مستمر، الرأس يثابر في اهتزازه فيضغط المريض على رأسه الأصلع الأشيب بشدة ، ثم يتفرس بصمت بوجه طبيبه ، ومن حين إلى آخر يفرك أنفه المفلطح الملتصق بوجهه الأجدر ككتلة صلصال نتأت خطأ في المكان الخطأ. دعاه الدكتور أسامة للجلوس ، مد أفلاطون يده المرتعشة وصافح طبيبه طويلاً شاداً على يده دون مبرر للضغط المصطنع المتكلف ثم جلس على كرسيه وهو يلهث ثم سأل :
- لماذا حجبتم الدواء عني ؟ متى أعود إلى بيتي ؟ لا أريد البقاء هنا ! أدر التلفاز ! أريد أن أتابع الأخبار .
قام الدكتور بحذر وهدوء وأدار التلفاز وهو يتابع نظرة غاضبة شرسة نارية تكتسح وجه أفلاطون.
جمد الدكتور في مكانه ثم قرر أن يعطيه حبة الدواء المهدئة ولكن أفلاطون رفضها و شرع يثرثر عن تونس ومصر وغيرهما من البلدان وعن مصير نزلاء المصحات النفسية وأطبائهم. ظن الدكتور بأن أفلاطون يهذر دون أن يخطر في باله بأن مريضه يتوهم نفسه بأنه ليس فقط محلل سياسي من الدرجة الأولى ، بل الطبيب الذي ينوي أن يختبر حالة الدكتور. ثم داهمه أفلاطون بسؤاله الأول :
- لدي شك بصحة شهادتك العلمية . ماذا تقول ؟
شرقطت عينا الدكتور بغضب مضغوط . تململ في مقعده ولم يرد. كاد يلكمه على أنفه الضخم ولكنه كبح جماح غضبه معتصماً بالصمت المدوي.
- اسمع يا صاحبي ! أنا أعرف بأنك لست طبيباً بل منتحلاً لصفة طبيب . و .. .
قاطعه الدكتور أسامة بزجرة ليوقفه عند حده . ولكن أفلاطون أكمل بما بدأ .لم يعد الدكتور يتحمل . هب بعصبية من مقعده وصرخ بمريضه : احفظ لسانك وإلا قطعته لك!
قهقه أفلاطون لثورة الدكتور. ابتهج لنجاحه في استفزاز طبيبه تمهيداً لمفاجأته بما لم يحسب الدكتور حسابه. عاد الدكتور إلى كرسيه وحاول تمالك غضبه ثم بدأ الإختبار بتصميم وجدية محذراً مريضه : أنا من يطرح الأسئلة ؟ ان اجتزت الإختبار ستعود إلى بيتك وإن فشلت فلا تلم سوى نفسك .
- طبعاً ! تفضل ! بهدوء رد أفلاطون
استدعى الطبيب رجلي أمن تحسباً لثورة غير متوقعة من أفلاطون . دخل رجلا أمن جديدين لم يرهما الدكتور قبلاً فعرفا عن نفسيهما. ولكن بدلاً من أن يقوما بربط يدي أفلاطون كالعادة أمسكا بالدكتور وأوثقا يديه إلى الكرسي الذي يجلس عليه وكمما فمه بشريط لاصق. ثم بدأ أفلاطون جلسته وطلب من الدكتور أن يجيب بـ نعم أو لا بهزة من رأسه ووعده بأن يطلق سراحه إن اجتاز الإختبار:
- هل تؤيد تطبيق الديمقراطية قبل أن تكون شعوبنا جاهزة لها ؟
همهم الدكتور أسامة بغضب وصار يرج رأسه يميناً وشمالاً ويحاول الوقوف ولكن أيدي رجلي الأمن تضغطه لتثبيته في مكانه .
- أكمل أفلاطون : وضعك لا يسمح لك بفرض رأيك . لذا أنصحك بالرد على أسئلتي.
التفت الدكتور إلى رجلي الأمن مستغيثاً بهما فلاحظ بأنهما خلعا القناعين اللذين كانا يتنكران بهما وعرفهما . إنهما نابوليون وموسوليني . قرر حينها أن يستكين ويرد على أسئلة أفلاطون . طلب بإشارة استغاثية من عينيه أن يزيلا الشريط اللاصق عن فمه. استشارا أفلاطون الذي بقي وجهه صخرياً . توسله الدكتور بنظرات أليفة فأزال الشريط بيده ثم فجأة وبسرعة كمم فم الدكتور براحته وحذره من الصراخ وإلا سيخنقه. استسلم الدكتور الشاب لقدره الصعب وأيقن أنه في ورطة حقيقية وخطيرة. وقرر أن يغامر بالصراخ كي لا يبقي مصيره بيد ثلاثة مجانين كانوا يتحادثون فيما بينهم بأن الدكتور أسامه استنجد بهم كي يخضع لاختبار نفسي . قرر أن يضع حداً لكابوسه المخيف وصرخ : لم أطلب . لا لم أطلب . ثم علا صراخه أكثر حين شعر بيد النادل تهز كتفه لتوقظه : بل طلبت مني يا سيدي ويكاد فنجان قهوتك يبرد.
أفاق الدكتور مرتعباً وشكر النادل. نظر حوله وارتاح نسبياً لخلو المقصف من رواد آخرين حين كان يمر في كابوس الإختبار. لم يعد حينها في مزاج يسمح له بالدوام في عيادته . استأذن رئيسه وانصرف. وبينما هو يخرج بسيارته من مرآب المستشفى كانت العصافير تهيم بين الصنوبر والسرو . خالها تشدو أناشيد الحرية . رأى أديم السماء يزدان بزرقة عيني طفل وبغمام أبيض متباعد يسبح بهدوء صوب الشمال. إنما في الأفق بقية من قزعات غيم أسود .

CONVERSATION

0 comments: