بين إلياذة هوميروس وشاهنامة الفردوسي/ د. حبيب بولس

تطمح هذه الدراسة إلى المقارنة بين "الإلياذة" و "الشاهنامة" كملحمتين سارتا على فم الزمان من الناحية الفنية. ولكن قبل أن أبدأ حديثي عن الملحمتين سأتطرق قليلا إلى شعر الملاحم من الناحيّة الفنيّة النظريّة, كي تستقيم لنا المقارنة فيما بعد.
أفرد "أرسطو" كما نعرف في الجزء الأخير من كتابه "فنّ الشعر" فصلا خاصًّا شرح فيه نظرية بناء الملحمة حيث يقول: إن موضوع الملحمة محاكاة الأفاضل من الناس كالمأساة, وهي تتميّز بالطريقة- القصص والرواية للأحداث- وبالأداة- النظم-, ويضيف: أمّا المحاكاة قصصا وشعرا فيجب فيها ما يجب في المآسي: أن تؤلّف الخرافة بحيث تكون دراميّة. والتأليف الدرامي يعني الذي يصوّر فعلا كاملا تامّا. وتدور حول فعل تام واحد, له بداية ووسط ونهاية, كي تنتج اللذة الخاصة به. وينبغي في التأليف ألا تكون مشابهة للقصص التاريخية التي لا يُراعى فيها فعل واحد بل زمان واحد. ويعني أرسطو بالزمان الواحد جميع الأحداث التي وقعت طوال ذلك الزمان لرجل واحد أو لعدة رجال وهي حوادث لا يرتبط بعضها ببعض إلا عَرَضا.
لهذا السبب يعتبر أرسطو هوميروس سيد الشعراء لأنه لم يعالج في الإلياذة كل حرب طروادة مع أن لها بداية ونهاية, لأنه لو فعل ذلك لكانت الحكاية في رأيه مسرفة في الطول, عسيرة على الإدراك, بل حتى لو أمكن توخي القصد في المقدار لجاءت متشابكة معقدة نظرا لاختلاف الأحداث, لهذا كله لم يتناول هوميروس غير جزء محدد من تلك الحرب, ثم عالج كثيرا من الوقائع الأخرى على أنها دخائل أي أحداث عارضة, للترفيه عن القارئ, إذ لا باس في رأيه من نثر أحداث عارضة هنا وهناك.
ويقول أيضا: ينبغي في الملحمة أن يكون لها من الأنواع مثلما في المأساة. فينبغي أن تكون بسيطة أو مركّبة أو أخلاقية أو انفعالية. وينبغي كذلك أن تكون الأجزاء واحدة فيما خلال النشيد- الموسيقى- والمنظر المسرحي, إذ يجب فيها أن يوجد تحوّلات وتعرّفات وفواجع, وأيضا سمو في الأفكار والمقولة- اللغة, ويضيف: وكل هذه الأمور كان هوميروس أول من استخدمها على أكمل صورة.
ويستمر قائلا: وفي مقابل هذا تختلف الملحمة عن المأساة في طول التأليف والوزن. أما عن الطول فيقول: فان الحد الذي بيّناه عادل, وهو أن يكون في الميسور أن يستغرق النظر البداية والنهاية, ولبلوغ هذا الحد ينبغي في الملاحم أن تكون مساوية تقريبا لمجموع المآسي التي تقدّم في حفلة واحدة.
وللملحمة خاصيّة مهمة تسمح لها بالاتّساع, فبينما لا يمكن في المأساة محاكاة أجزاء كثيرة من الفعل تقع في آن واحد, يمكن في الملحمة على العكس وبفضل كونها قصة تتناول عدة أجزاء للفعل في وقت واحد, وهذه إذا كانت خاصة بالموضوع تزيد في سعة القصيدة. وهذه الميزة تؤدي إلى إضفاء الجلال على الأثر الفني وتحقيق لذة التغيير عند السامع وتنويع الأحداث الفرعية- الدخائل- المتباينة, لأن المتشابه يولّد السّآمة بسرعة.
هذا من حيث الطول, أما من حيث الوزن فيقول: والتجربة تدلنا على أن الوزن البطولي هو أنسب الأوزان للملاحم لأنه الأرزن والأوسع, لهذا يتلاءم مع الكلمات الغريبات والمجازات كل التلاؤم, إذ في هذه المسألة أيضا تفوق المحاكاة القصصية غيرها.
ومن أهم الأمور التي يذكرها أرسطو بالنسبة للملاحم قضية عدم التدخل في الملحمة, يقول: فالحق أن الشاعر يجب ألا يتكلم بنفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا, لأنه لو فعل غير هذا لما كان محاكيا مبدعا.
أمر آخر ينص عليه "أرسطو" حيث يقول وينبغي أن نستعين في المآسي بالأمور العجيبة, أما في الملحمة فيمكن أن نذهب في هذا الحد إلى حد الأمور غير المعقولة التي يصدر عنها خصوصا العجب, لأننا في الملحمة لا نرى الأشخاص أمام عيوننا يتحركون, والأمر العجيب يدعو إلى المتعة, وآية ذلك أن الناس جميعا حين يحكون حكاية يضيفون من عندهم ابتغاء الإمتاع. ثم يضيف وينبغي ألا تتألف الموضوعات من أقسام لا معقولة, بل العكس لا يمكن أن يكون فيها أمر لا معقول, اللهم إلا إذا كان خارجا عن المسرحية.
أما عن المقولة- اللغة- فيقول "أرسطو": فإذا أريدَ التأنق في صناعتها فينبغي أن يكون ذلك في الأجزاء الخالية من الفعل وفيما لا يتضمن خُلُقا ولا فكرا, لأن الإسراف في التنميق يخفي الأخلاق والأفكار.
مما تقدم نلاحظ أن الشعر الملحمي يختلف عن التراجيديا في الأسلوب, إذ يتّبع الأسلوب السردي في الطول والوزن أيضا, ولكنهما- الملحمة والمأساة- تتّفقان في بعض العناصر, فمن أهم العناصر التي تشكل الملحمة:
1. محاكاة الأفاضل والعظماء عن طريق الكلمة.
2. وحدة الحدث: فالقصة لا تكون قصة واحدة لمجرد أن البطل واحد, إذ من الممكن أن تحدث أحداث كثيرة لشخص واحد ومع ذلك فهي لا تترابط بحيث تصبح حدثا واحدا. وكذلك هناك أفعال كثيرة يقوم بها نفس الشخص ومع ذلك لا يمكن أن تتجمع في فعل واحد, أي لا يمكن أن تصبح حدثا واحدا. وكي تتم وحدة الحدث يجب أن تتوفر لها عدة شروط, أولها أن تشكل كائنا عضويا لو حذف منه جزء اختل الكل. أي حدث له بداية ووسط ونهاية. والبداية يُقصد بها هنا أن تكون نقطة لا يجوز أن يسبقها شيء ويتحتم أن يتلوها شيء معين. ومثل هذه البداية لا توجد إلا في حالة المفارقة, فهي التي تفجّر الأحداث وتحتم حدوث شيء معين.
3. المفارقة أذن عنصر مهم من عناصر الملحمة, فهي تقوم في العلاقات بين الإنسان وغيره أو بينه وبين بيئته أو بينه وبين نفسه, ولا بد بين الطرفين من قدر من التشابه والاتّفاق وقدر من الاختلاف, وكذلك لا بد أيضا أن يكون لدى كل من الطرفين قدر من العلم وقدر من الجهل بالطرف الآخر. فالمفارقة بهذه الحالة تؤدي بالضرورة إلى صراع دراميّ ينتهي بالضرورة إلى انقلاب أو ثورة (perpetia).
ومن العناصر المهمة أيضا عنصر الاحتمال والضرورة, فهما ينصّبان على تطور الحدث, فالحدث يتطور وفقا للاحتمال والضرورة حسب ما هو قائم في البداية, وهذا التطور يلغي عامل الصدفة كما أنه يلغي كل ما هو خارج أصلا عن بداية الموقف أو الحدث. وهذا لا يتأتى إلا إذا قامت المأساة أو الملحمة على المفارقة. لأنه بدونهما لا يمكن أن يكون هناك أكثر من خط لسير الأحداث, فهي تؤدي بالحتمية إلى خط سير واحد للأحداث وهو خط الصراع الدرامي الذي يؤدي بدوره إلى النهاية والانقلاب.
وهذا الأمر يقودنا إلى عنصرين آخرين هما الانقلاب والتعرّف أو الاستكشاف, فالحدث ما دام يتمتع بالوحدة والاستمرار فهو حدث درامي لكنه بسيط إذا كانت نهايته ليست نتيجة للانقلاب أو التعرف ومركّب إذا كان كذلك. لكن الانقلاب يجب أن ينبع من بناء القصة نفسه بحيث يطيل النتيجة الطبيعية لمراحل الحدث السابقة, فهناك فرق بين الحوادث التي تنبع بعضها من البعض والحوادث التي فقط تُنبِع بعضها.
وعنصر آخر مهم كما في التراجيديا هو عنصر الدهشة. والمدهش موجود في التراجيديا, ولكن الملحمة تتسع لأكثر من هذا فهي تتسع للخوارق ولغير المحتمل والمعقول.
وعلى الملحمة كما في التراجيديا أيضا أن تتطور وتتعقد, فالتعقيد هو كل ما بين البداية وآخر أجزاء المسرحية حيث يبدأ تغير المصير والنهاية, وعلى الشاعر أن يُعْنى بالمرحلتين على حد سواء.
مما تقدّم لاحظنا عناصر الملحمة وكيفية بنائها كما لاحظنا مدى اقترابها وابتعادها عن المأساة. ولا بد لنا الآن من أن نصوغ لها تعريفا يرشدنا في استمرار حديثنا عنها.
في الواقع كثرت التعريفات للملحمة وتشعّبت, ولكنها تُجمع على أهم العناصر التي تحويها الملحمة. فيعرّفها د. محمد مندور قائلا: " الملحمة قصة شعرية بطولية قومية خارقة تختلط فيها الحقائق بالأساطير وتتغلغل العقائد الروحية في حناياها". ويعرّفها غيره باختصار: " هي قصة شعرية قومية بطولية خارقة". وفي كلا التعريفين نجد عناصر الملحمة التي ألمحنا إليها سابقا.
وما دام حديثنا يتمركز حول "الشاهنامة" و "الإلياذة", أرى من المفيد أن نحاول رؤية العناصر الملحمية المتوفرة فيهما لنتمكن في النهاية من أن نعقد مقارنة بينهما لنرى أوجه الشبه وأوجه الاختلاف. وكي يتسنى لنا هذا الأمر, علينا أولا أن نقف عند كل من الملحمتين كي نرى مدى استجابة كل واحدة منهما للمعايير الفنية التي طُرِحت في بداية حديثنا. ولنبدأ أولاً بالإلياذة.
لعله من السذاجة أن نقول: إن الإلياذة تستجيب للمعيار الفني الذي وضعه "أرسطو" للملحمة, وذلك لأن "أرسطو" نفسه قد بنى معياره على ما في الإلياذة من عناصر فنية, فهي شكّلت نموذجه الأول في بناء نظريته. ولكن لا بأس علينا إذا تتبعنا هذه العناصر في الإلياذة كي نستطيع المقارنة فيما بعد.
لقد ركّز "هوميروس" إلياذته حول موضوع واحد وهو غيظ "أخيل" واحتدامه الى أن خمد. أي أنه اقتطع أياما قلائل من السنة العاشرة لحصار طروادة وبنى عليها منظومته. وبهذا يكون هوميروس قد جنّب نفسه الوقوع في التعقيد الناشئ من كثرة الأحداث وتراكمها, ولكنه وهو يفعل ذلك لم يفته ما للدخائل من أهمية تُمتع القارئ, فكانت هناك أحداث ثانوية عارضة أفادت الحدث الأساسي وتمشت معه دون اعتراض أو إنقاص أهميته. ولأنها سارت على حدث معين جاءت متنامية متطورة دون رتابة, مستجيبة لمتطلبات العمل الكامل التام, أي بداية ووسط ونهاية, بداية تفتق الأحداث لتتأزم ثم لتنتهي في نهاية منفرجة, هي موت "هكطور", أي وحدة فنية متنامية. هذه الأحداث جاءت متسلسلة في الطول, دون تدخل من "هوميروس", حرصا منه على أن يكون في عمله محاكيا مبدعا للأحداث لا معبّرا عنها فقط. وإذا تلمسنا المدهش في "الإلياذة" فهو كثير, فهي تعجّ بالخوارق المستحيلة, لكنها استحالة محتملة الوقوع, وأن وجدنا فيها أمورا ليست معقولة, فتلك أمور خارجة عن الحدث الأساسي. وهوميروس عرف كيف يضفي عليها ظلا من الحقيقة والمعقولية. والشواهد على ذلك كثيرة, نعرض عنها لضيق المجال. و "الإلياذة" بسيطة في لغتها دون إسفاف, ولكنها مشحونة بالكثير من الصور الجميلة الموحية وبالمواقف الشعرية الرائعة. وهي من ناحية أخرى تستجيب لعنصر القومية فهي مستمدة من تاريخ الإغريق الأسطوري بحيث تعكس عاداتهم وأخلاقهم ومعتقداتهم وصناعاتهم وفنونهم وأعمالهم لدرجة جعلت أحد شعراء الرومان يقول: "إن الإلياذة بتقديمها الأمثال عن عظماء وهم يعملون, تعلم ما هو شريف وما هو شائن, وما هو لائق وما هو غير لائق, أفضل مما يعلم كل الفلاسفة النظريين".
كما أن هوميروس برع في مزج الحقيقة بالخيال فيها, دون أن يلغي ارتباط أجزائها كملحمة واحدة. وقارئ الإلياذة ينبهر من الأوصاف الرائعة التي يخلعها هوميروس على شخصياته الرئيسية والثانوية, وهو بذلك يخلع صفات ماهويّة جميلة تلازم الشخصيات من بداية الملحمة الى نهايتها (كهيلانة العميقة الحزام) و (كأندروماك البيضاء الذراعين) و (كأخيل الحثيث الخطى), الى غير ذلك.
ومما يبهرنا أيضا في الإلياذة بساطة هوميروس وصدقه في القصّ والعرض وإيجازه في ذلك في غير تصنع وإطناب وتعقيد, وكذلك نظرته التركيبية للناس والأشياء, فهو في ذلك يركّز ملامح النفس البشرية في صورة مركّبة " كوقفة هكطور" مع "أندروماك" قبل مقتله (وتلقت طفلها مع هكطور بابتسامة تبللها الدموع). في الإلياذة يجمع هوميروس بين الشعر الملحمي والشعر الغنائي الوجداني خاصّة في استرحام "بريام" وفي وداع هكطور لزوجته. لذلك جاءت إلياذته من النوع البسيط الانفعالي, ذلك النوع الذي يشدّ القارئ شدّا الى الأحداث. ونقطة أخرى نضيفها الى هذا العبقري هي مهارته في فن الاحتيال على القارئ فهو بارع في ذلك, فاحتيالاته متقنة, ومغالطاته ماهرة تنطلي على القارئ بسهولة, وتجعل الشعر يتخلص من مشاكل فنية عديدة دون بتر أو إساءة للموضوع.
ولا يفوتني أن أذكر في هذا المقام العيوب التي وقع فيها هوميروس في "الإلياذة" وهي كما يلخّصها العلاّمة سليمان البستاني:
1. الزيادات الدخيلة.
2. التكرار.
3. الأمور المغلقة.
4. أمور ناقصة أو مبتورة.
ولكن هذه العيوب لا تُنقص من قدر "الإلياذة" ولا تحطّ من قيمتها الفنية أبدا, ولا تُبعدها عن المعيار الفنيّ المذكور آنفا.
بعد هذه الوقفة مع "الإلياذة" سننتقل للحديث عن "شاهنامة" "الفردوسي", لنرى مدى مطابقتها للمعيار الفني الأرسطوطالي.
"الشاهنامة" ملحمة شعريّة فارسيّة طويلة في حوالي خمسة وخمسين ألف بيت من البحر المتقارب والقافية المزدوجة. نظمها الشاعر الفارسي "الفردوسي" المتوفى سنت 1020 م. أنهى نظمها سنة 1010 م. وقدّمها الى السلطان "محمود الغزنوي". والشاهنامة, كما جاء في كتاب " قصة الأدب في العالم", سِجِلّ ما وعته الروايات الفارسية من تاريخ وأساطير منذ أقدم العصور الى الفتح الإسلامي, وقد جُمعت ونُظمت لتكون تاريخا للقوم, وهي مرتبة ترتيب التاريخ, تتناول أربع دول, تتدرج من الخرافات الى التاريخ حتى تنتهي بالدولة الساسانية والفتح الإسلامي, ويستمر القصّ قرابة ثلاثة آلاف وثمانمائة واثنتين وسبعين سنة. ولهذا الكتاب عند الفرس مكانة عظيمة, فهو سِجِلّ تاريخهم وأساطيرهم, وهو أناشيد مجدهم, وديوان لغتهم, وموضوع سرهم ولهوهم, ينشدونه في المحافل, ويعنى به العالم والجاهل.
وملحمة "الشاهنامة" قسمان كبيران كما يقول د. محمد غنيمي هلال: الأول أسطوري, ينتهي بالحديث عن "بهمن" وهو اسم "أردشير" مؤسس الدولة "الساسانية", وهو القسم الملحمي حقا, وهو القسم الأقوى في الملحمة من حيث التصوير والخيال, وتسيطر عليه العقلية الملحمية في تصوير الخوارق والعجائب واختلاط عوالم الغيب بعالم الأبطال. وفي هذا القسم نوعان من الأبطال: الأول- الملوك الأبطال الذين يعملون لتطهير الأرض من الشر. والثاني- وهُم الأبطال غير الملوك وما قاموا به من مغامرات وما نشب بينهم من صراع. وأما القسم التاريخي فهو أضعف فنيا ويضؤُل فيه الطابع الملحمي ويستبدل الشاعر بهذا الطابع النزعة الخُلُقية والحِكَم والنصائح.
هذه هي "شاهنامة" الفردوسي وإذا نحن أردنا أن نقف على فنيتها فيكفي أن نذكر ما جاء في كلام المستشرق الكبير "نويلدكه" عنها, يقول "نويلدكه" ما خلاصته: ان الفردوسي شاعر مطبوع يستولي على فكر القارئ ويحيي القصة التافهة بانطلاق الممثلين, بل كثيرا ما تختفي الأفعال في جلال الأقوال. وهو يفصّل الحادث المجمل تفصيلا حسنا, ويخلق حادثات صغيرة أحيانا ليكمّل الوصف, وهو بصير بإحياء الأبطال, وأحيانا يخلقهم على غير ما صوّرتهم الأساطير, وما أقدره على بيان ما وراء أفعال الأبطال من أسباب وأفكار. وصفُهُ النفساني رائع, ونغمة البطولة مسموعة في الكتاب كله, وعظمته وأبّهته وفرحه وترحه وجهاده وجلاده مصورة في أسلوب عجيب حتى ليسمع القارئ صليل السيوف وضوضاء المحافل. مشاهد الحرب تلقى القارئ في كل فصل ولكن هناك ميادين للحب والعواطف اللطيفة أيضا. هناك قصص غرامية رائعة. والشاعر في هذا- بل في الكتاب كله- يملك القارئ بسهولة الوصف. وعاطفة الأمومة والأبوة والقرابة بيّنة في الكتاب كله, ولكن يصحبها الظمأ الى الدماء ثأرا للأقارب". هذا ما قاله "نويلدكه" عن "الشاهنامة" وهو مدح يلخص مميزاتها. وواضح أنه يتطرق في كلامه للقسم الملحمي لا التاريخي. وواضح أيضا من كلامه أن هذا القسم يستجيب في كثير للمعيار الفني الذي بيّناه سابقا, ولكنه لا يخلو من العيوب التي من أهمها:
1. تكرار صور من التشبيهات في مواقع كثيرة.
2. الإطالة المملة في وصف تعبئة الجيوش.
3. التكرار في مواضع متعاقبة كثيرة خاصّة في وصف المعارك.
وإذا نحن أعرضنا عن القسم التاريخي الضئيل الفنية نكاد نصل الى أن الملحمتين تتشابهان في العديد من المزايا وتفترقان أيضا في العديد منها. فما هي أوجه الشبه؟ وما هي أوجه الاختلاف؟
أوجز عن أوجه الشبه فأقول:
1. الملحمتان تعكسان التاريخ القومي والأسطوري. ففي كلتيهما أساطير عديدة متنوعة وأعمال بطولية خارقة.
2. في الملحمتين مواقف انفعالية وجدانية عاطفية.
3. كلا الشاعرين اتّسم بالصدق والبساطة والفطرية.
4. كلاهما كان يحتال ويغالط ليجعل الخارق ممكن الحصول.
5. عكس الشاعران في ملحمتيهما عادات القوم وأخلاقهم وفنونهم وأعمالهم ودياناتهم بحيث شكّلت كل ملحمة مرجعا للدارسين والباحثين.
6. كلا الشاعرين في ملحمتيهما لم يحقّر العدو رغم رفع شأن أبناء قوميهما.
7. في الملحمتين نجد عمل الثأر يلعب دورا مهما في تسيير الأحداث.
8. اتّسمت الملحمتان بخلع العديد من الصفات الماهويّة, كما اتّسمتا بالنظرة التركيبية في تحليل النفس البشرية.
أمّا أوجه الاختلاف فأهمها:
1. التكرار الممل عند الفردوسي, فهو لا يستطيع أ يُجمل واقعة في كلمات قليلة مثل هوميروس, أي الإطناب مقابل الإيجاز.
2. الشاهنامة ليست مبنية على حدث بل على مجموعة أحداث, بمعنى أنها لا تتمحور حول موضوع واحد كالالياذة (غضب أخيل) ولكنها تشتمل على عدد من الملاحم.
3. في الشاهنامة نجد قلة المهارة في الانتقال من قصة الى أخرى. فانتقال الفردوسي يكون في الكثير مفاجئا على عكس هوميروس. وأحيانا نجد الفردوسي ينصّ على هذا الانتقال نصّا يضرّ بانسياب الحدث.
4. التدخل المباشر من الفردوسي في الشاهنامة بينما ينعدم هذا في الالياذة.
5. نهاية الالياذة هي موت هكطور أي انتصار الإغريق, بينما نهاية الشاهنامة كانت هزيمة الفرس.
6. في الشاهنامة يتحدث الفردوسي عن نفسه في بعض المواقف وينعدم هذا الأمر في الالياذة.
7. الفردوسي كان اقل توفيقا من هوميروس في وصف الحرب والقتال. فوصفه مملول مكرور ممجوج في العديد من المواقف القتالية, ويكاد يكون متشابها في معظمها, وعلى عكس ذلك كان وصف هوميروس.
8. هوميروس كان يُعنى لا بأبطال الملحمة فقط بل بالشخصيات الثانوية والعرضية, بينما الفردوسي ركزّ جلّ اهتمامه على أبطاله.
9. اعتنى هوميروس بوصف الأعلام الجغرافية عناية فائقة, بينما كان الفردوسي أقل عناية منه بهذا الأمر.
10. كان هوميروس بارعا في طرحه للبداية بحيث كانت بداية فتّقت أحداث الملحمة وجعلتها كلاّ مترابطا متناميا وعلى العكس من ذلك كانت بداية الفردوسي.
11. لم يروِ هوميروس في الالياذة كل أحداث حياة بطله, بل كان ينتقي الأحداث التي تترتب بعضها على البعض بالضرورة, ولذلك وجدناها تكّون حدثا واحدا بينما الفردوسي لم يلتفت الى أهمية هذا الأمر.
12. كان الفردوسي يجتهد في الشاهنامة في المغالاة لرفع قيمة الفرس, بينما هوميروس كان عادلا في هذا الأمر.
13. ملحمة الفردوسي فنية أي تعمّد نظمها مسبقا, بينما الالياذة كانت أقرب الى الملحمة الشعبية.
هذا ما لاحظناه من استقرائنا للملحمتين, ولعل الباحثين الآخرين يستطيعون استكشاف ملامح أخرى متشابهة أو متنافرة بينهما.
وبعد هذه الإفاضة نصل الى نتيجة حتمية تقول: إن الالياذة كعمل فنيّ يمتع قارئه ويشوّقه أكثر بكثير من الشاهنامة, وما ذلك إلا لأنها كملحمة فنيّة مسبوكة بمهارة وعناية فائقتين, أحداثا وأشخاصا.
المراجع:
أخذت المادة النظرية عن:
1. فن الشعر, لارسطو, تحقيق عبد الرحمن بدوي.
2. نظرية الدراما, د. رشاد رشدي.
3. احمد أمين وزكي نجيب محمود, قصة الأدب في العالم.
4. د. محمد غنيمي هلال, مختارات من الشعر الفارسي.
5. الانسيكلوبيديا العبرية.
6. ENC. Britanica.
7. الأدب الملحمي, حنا أبو حنا.
8. في الأدب وفنونه, د. عز الدين إسماعيل.
9. في الأدب وفنونه, علي بو ملحم.
10. في الأدب وفنونه, حبيب بولس وزكي درويش.
11. في الأدب وفنونه, د. محمد مندور.
12. الإلياذة, ترجمة العلامة سليمان البستاني.
13. الإلياذة, ترجمة عنبرة سلام الخالدي.
14. الإلياذة, ترجمة دريني خشبة.
15. الشاهنامة, ترجمة سمير مالطي.
16. الشاهنامة, ترجمة المرحوم مؤيد إبراهيم.
د. حبيب بولس

CONVERSATION

0 comments: