ولكنه عاد .../ محمود شباط

على تلك الجمجمة الصلعاء الملساء العريضة اللامعة أسفار عذابات كان جدي سلامة يرويها لنا في دكانه المتواضع جداً . بحس روائي فطري كان يسرد. يختلط في حكاياته السوسن بالدم والخبز وأجنحة السنونو. ينفث زقوم ذكرياته عن الحكم العثماني الذي قذف به للهجرة سراً للفرار من "خدمة السخرة في عسكر السلطان".
في أمسية خميس زمهريري مثلج تحلقنا حول المجمرة في دكان جدي سلامة كما كنا نفعل عصر كل يوم حين نعود أنا ومعروف وجواد وأنيس من المدرسة الإبتدائية الوحيدة في قريتنا. ابتعنا بقروشنا قطع حلوى نلتهمها بيد بينما ندفىء الأخرى فوق المجمرة. نعلم منذ عرفنا جدي سلامة بأنه ليس لديه زوجة وأولاد وأحفاد في القرية. نسمع عن رسائل ترده من ابنه كريم في الأرجنتين ومبالغ مالية مع القادمين من هناك وصور للشاب. كان يروي لنا الحكاية نفسها مرات ومرات ولا يتذكر بأنه فعل. أكثرها ترداداً حكاية سفره إلى الأرجنتين وهو يعرف بأننا نفضلها .
سأله "معروف" بصوت عال كي يسمعه : ما هو اسم زوجتك يا جدي ؟
عرف العجوز بأننا نرغب في سماع تلك القصة . رسم على محياه ابتسامة خفيفة ورد عليه : عن أية زوجة تسأل ؟
- زوجتك الأرجنتينية .
- روزاليتا
- وهل كان لديك زوجة أخرى ؟ سأله معروف بخبث رغم أننا نعرف بأن جدي سلامه كان لديه في لبنان زوجة اسمها علياء وطفل اسمه كريم.
هز العجوز رأسه حسرة وببطء عدة مرات.
سأله أنيس بمكر أيضاً وهو يعرف بأن علياء وكريم ماتا : أين هما ؟
لم يرد جدي سلامه. أنزل قبعته الصوفية الكحلية السميكة على عينيه وشد عباءته الخشنة وفروته السميكة بألم. كان الثلج حينها قد سد الطرق بين منازل القرية والمدرسة الراتعة على تلتها بجانب المنزل الكبير الفخم الذي بناه جدي سلامه منذ سنوات ويقيم فيه بمفرده.طلب منا الهدوء وعدم المقاطعة ثم بدأ يروي :
كان ذلك منذ زمن بعيد، زمن الحكم التركي. فتحت عيني على الوجود في منزل عمي سعيد ولم أكن أدري في حينه بأني يتيم الأبوين. تحملت صلافة وظلم وقساوة زوجة عمي ومحاباتها لأولادها . كان عمي ضعيفاً حيال غطرستها وسلاطة لسانها. ولطالما سمعتها تصرخ بوجهه بأنها تصبر علي وتتحملني لأني يتيم . ولكنها كانت تكذب. إذ أن سبب بقائي في "منزلها" هو مساعدتها لجمع الحطب وتنظيف الأواني والمنزل وجلب الماء من العين وحمل أولادها وتلبية طلباتهم الكثيرة الصعبة ورعاية الماعز.
توقف عن الكلام مع اشتداد عويل الريح وتعاظم حجم ندفات الثلج. طلب مني أن أطل على الباب لأتحقق من الطقس في الخارج. تطلعت صوب طريق الضيعة المفضية صوب المطل والقرى الأخرى فلم أر سوى اللون الأبيض المبهر فقلت له بأن الطرق قد سدت مع الضيع المجاورة. أخرج ساعة الجيب الفضية من عباءته وأدار ميناءها نحوي وسألني : " قديش صارت الساعة؟ "
- أربع ونص !
أعادها إلى جيبه واستأنف السرد :
اجتاح البلاد وباء الجدري فابتلي عمي سعيد به وصار ضريراً . هجرته زوجته إلى جهة مجهولة مصطحبة الأبناء والمال والحلال. بقيتُ مع عمي ولم أتركه لقمة للوحدة والمرض. آليت على نفسي أن أكون معه ضد غوائل الدهر وليس مع غوائل الدهر عليه كما فعلت زوجته. لم يتزوج بعدها. بقيت معه أقوده إلى الحقل والكرمة نعمل ونعود معاً. وحين شبيت سعى لتزويجي من علياء ابنة خالتي . رزقنا بمولود ذكر سميناه "كريم". لم أنعم باحتضانه سوى أشهر قلائل إذ جاءنا المختار وبلغ عمي بوجوب التحاقي بعسكر السلطان. رجاه عمي أن يقنع "البكباشي" بضرورة بقائي إلى جانبه لأنه ليس له من معين له في شيخوخته سواي.
أكمل جدي سلامه : لم يكن الحس الإنساني لدى المختار بأفضل من حس التركي. إذ طلب من عمي أن يهبه حقل "الصوانة" مقابل حذف اسمي من قائمة المطلوبين، وأن يقنع "البكباشي" بأني لا أصلح للخدمة. وافق عمي على مضض. وبعد شهر عاد المختار بطلبي للعسكر فسجل له عمي حقل "وادي الملولة" . تكررت طلبات المختار فوهبه عمي سعيد قطعة الأرض الوحيدة المتبقية لديه وسعى لسفري سراً إلى الأرجنتين.
يوم سفري أخفاني مسؤول وكالة السفر في صندوق خشبي أخرجني منه أحد البحارة بعد أن أقلعت السفينة التي أبحرت بنا من ميناء بيروت عند أصيل يوم ربيعي. بلغنا "بواناسيرس" بعد شهر من أهوال الأزرق الغدار . كان ذلك قبيل حرب "الأربعتش" بموسم واحد.
بدأت هناك بالعمل من الصباح الباكر ولغاية آخر سويعات المساء. أحمل صندوقاً كبيراً نسميه "الكايِّي" يحتوي على ملابس وأدوات زينة وعطور، وبعد أشهر تزوجت من زبونة اسمها "روزاليتا" رزقت منها بطفل سميته "كريم" أيضاً، لطالما أحببت ذلك الطفل وأحبني، وما يزال. بقيت أراسل عمي سعيد وأرسل إليه وإلى علياء بالليرات الذهبية دون علم "روزاليتا" ، وطلبت منهم أن يراسلوني على عنوان أحد أبناء العرب كي لا تعلم روزاليتا وتغضب مني وتحرمني من طفلي وتنعتني بـ "التوركو الخنزير" كما تفعل حين نتشاجر .
بعد انتهاء حرب الأربعتش وصلتني رسالة من عمي ومعها صورة لكريم. أشبعتها لثماً وتقبيلاً ولم أرتو. ناجيت طفلي البعيد بكل لغات الشوق. بدا لي نحيلاً، أصغر سناً وأقصر قامة مما توقعته. خمَّنتُ وتساءلت : لعله الجوع ؟ لعله المرض؟ . لم يصلني رسائل بعدها طوال أربع سنوات. دغدغني سوسن العودة وأخذ طفلي الأرجنتيني معي ، بل "خطفه" لأن لا أمل لي بتخلي روزاليتا عنه. إذ كانت ترفض بشراسة اصطحاب طفلي في زياراتي إلى أبناء العرب ، لم تكن تؤمن عليه معي.
حين عرفت بأن الأتراك قد غادروا بلادنا ، وكنت حينها قد جمعت من الليرات الذهبية ما يكفي لشراء أرض وقطيع ماعز والعيش بكرامة مع عمي سعيد وعلياء وطفلي كريم. قررت الرجوع إلى الوطن دون علم روزاليتا لأني متيقن بأنها ستهددني بالقتل إن فعلت. استنجدت باثنين من أصدقائي من "أبناء العرب" فساعداني بالعودة سراً إنما دون طفلي. ائتمنا البحر علي وأقلعت السفينة على وقع نشيجي وحرقتي على كريم في بويناسسيرس وشوقي وحنيني إلى كريم في لبنان . وحين بلغنا عرض البحر صار الموج يتراقص على أفراح مهجتي الذبيحة المنشطرة بين "الكريمين" ويرنم أنغاماً شجية أكاد أبصرها. رسونا على بر بيروت عند شروق شمس نهار صيفي. استأجرت حنطوراً وصل بي إلى القرية في الهزيع الأخير.
ولجت ثغر الزقاق المفضي إلى دارنا. جذبتني الدار فرحت صوبها، طفقت أنادي أهلها : عدت إليكم يا عمي ! أين أنت ؟ عدت إليك يا علياء ...أينك يا علياء ؟ عدت يا كريم . ناديت ثانية وثالثة وأخيرة ولم أر قبس السراج . بقي الباب موصداً والنوافذ ساكنة ميتة مغلقة. تحسست طين جدران الدار براحتي وبوجنتي فوجدتها حيادية باردة متلفعة بصمت حزين. بقيت انادي واتحسس إلى أن صاحت ديكة القرية دون أن يطل أهل الدار.. حينها أدركت بأنهم رحلوا .. قد يكون الجوع هو السبب. ثم مسح عينيه بمنديله . أجل ! رحلوا .. و أشار بيده صوب السماء .
وبينما هو يزرر عباءته ويحمل عكازه إيذاناً بانتهاء الجلسة أطل على الباب خمسيني هرع نحوه فارداً ذراعيه كصقور الجبال يكلمه بالأسبانية وغمره بعاطفة الإبن لأبيه.

CONVERSATION

0 comments: