الجاسوس الأبـْكـَم/ محمود شباط


كان مروان يسوق سيارته الـ بي إم بسرعته الجنونية المعهودة عائداً من بيروت، يلعن أبا الذي فبركها حين تقصر في طلعة الحازمية ويشيد برب الذي خلقها حين تلبي شغفه بالسرعة لتجاوز السيارات الحديثة في السهل والمنحدرات. التقط راداره الحساس حورية في ريعان صباها تنتظر سيارة بجانب الطريق، بـَهـَرَهُ قـَدّها الأهيف والجينز الأزرق الضيق وقميصها الحريري الأبيض والشعر الطويل الأشقر المتطاير مع الهواء فكبح الفرامل بسرعة زغردت لها العجلات على الإسفلت. عاد صوب الفتاة بعد أن تجاوزها وتوقف بجانبها، فتح الباب وحياها ودعاها بتودد "لتتفضل" فنفرت الصبية من شاب عشريني ليس بسائق تاكسي. ترجل من السيارة فألتفتت إلى الناحية الأخرى متجاهلة دعواته اللطيفة الناعمة المتكررة وزعمه بأنه "يشتغل على الخط" . لم تصدقه ونـَوَت التملص من تحرشه بها :
- رُوْحْ بـْطـَريقكْ أحْسَنْ لـَكْ! . نبرتها بحدة وضيق .
- ما غـْـلـِطـِتْ مَعـِكْ ! ليش الغلط ؟.
- أف ! حْـلّ عـَنـِّـــــــــــــــــي !
- هذا جزا المعروف يا قمر ؟
- يا عَمِّيْ أنا قرده مْشْ قمر! مَا بَدّي مَعْرُوفـَكْ ! بـْشْـلـَحْ لـْسْكـَرْبـِيني بَعْدَيْنْ هــههه! وأشارت إلى حذائها النسائي الذي تهدده به.
- لَـيْـش مش هلق ؟؟ !!
أضحكها غصباً عنها استهتاره فـَغَطـَّتْ فمها الجميل براحتها ثم سرعان ما استعادت جديتها وعبست : صَحـِيحْ إنـَكْ وقـِحْ وأهـْبـَلْ.
- بَعْرِفْ !
كتمت ضحكتها مرة أخرى : نـْقـِبـِرْ فـْلّ ْ ! وتجاهلته وهو يثرثر بجانبها بينما كانت تشير إلى عدة فانات مزدحمة بركابها تمر دون أن تقف لها. نفثت بتذمرها من الإنتظار الطويل، نظرت إلى ساعتها وعبست فشعت حلاوة وجهها، هي مضطرة الآن ،حددت له إلى أين تريده أن يوصلها ثم سألت : قديش بـَدّكْ ؟
- لــِّي بـْيـْطـْلـَعْ من خاطر القمر !
- أفففف ! أنـْذرَتـْهُ : قلت لك لا تغلط !
هز برأسه مبتسماً ففتحت الباب الخلفي بسرعة ومترست شامخة على المقعد إنما قلقة متوترة وهي لا تدري فيما إذا كان دافعها للصعود في سيارته بتلك العجلة هو بسبب اضطرارها للإسراع للقاء خطيبها الذي كان ينتظرها في منزل أهلها. أم أنها انجذبت دون قصد بقامة ذلك الغريب الباسقة وبوسامته ودونجوانيته. وبينما هو يسوق كان لسانه العسلي المدرب يجود بعبارات التغزل المبطن ويخاطبها باحترام و بلطف ودماثة عبر المرآة دون أن تكترث به. رن هاتفه الجوال فـَرَدَّ على ميرفت التي أوصته ألا ينسى شراء حليب لغنوة، أكد لزوجته بأنه لن ينسى وبأنه لازال في بيروت ينتظر إجراء مقابلة للتوظيف لدى الشركة، ارتابت لأمره لأنها تسمع هدير السيارة ولكنها أجـَّلــَتْ "محاكمته" عن تلك الكذبة الجديدة إلى ما بعد عودته. وحين أنهى المكالمة أعاد الجهاز إلى حقيبته الجلدية الصغيرة الملحقة بحزامه ونسي إقفال الجوال، وبعد لحظات رن الهاتف في منزله فردت ميرفت وكررت استفسارها مرات ومرات عما يريده منها ولكنه لم يسمعها لأنه منشغل بمحادثة الفتاة، ظلت ميرفت تصغي بعصبية وتوتر لما يثرثر مع شخص آخر عرفت بأنه أنثى:
- شو أسمو القمر ؟ سأل مروان الفتاة .
- القمر اسمو قمر والشمس إسما شمس والحمار إسمو حمار! ردت عليه بلأمنة واستخفاف آملة في وضع نقطة على السطر.
من منطلق "عدو عدوي صديقي" أيدتها سوسن بحماس من بعيد : ما قـَصَّرْتـِي !
- بدي إسألك سؤال ، أكمل مروان حديثه مع الفتاة.
- لــَيْش مـِيْنْ بيسأل جواب يا زكي ؟ بتعالي المُفـْحم العارف ردت الفتاة عليه.
- مْشّ بـَسّ حْلـْوي ! زكيي كمان ! ثم أردف : أرجو ألا يزعجك سؤالي !
قررت أن تتجاهله وبالتزامن خـَوَّفــتَْـهَا جرأته وأسلوبه المثابر الناعم اللطيف في ظاهره فأشاحت عنه بتذمر ممزوج بالقلق، واصل ثرثرته و لم ترد. أشغلت نظرها نحو الخارج عبر زجاج نافذة السيارة و بقيت صامتة ترمقه من حين إلى آخر بطرف عينها وهو يختلس نظرات جائعة نحوها عبر المرآة فعرف بأن السمكة صارت تحوم حول الصنارة. لبثت معتصمة بصمتها ولكن ميرفت لم تكن صامتة، بل في قمة حقدها وكرهها ونقمتها على ذلك "الفلتان ع َراسُو" وهي تصرخ به كي يرد ولكنه لايرد لأنه كان بهذر للفتاة بعموميات عن أوضاع البلد وبطالة الشباب واضطراره للمغامرة بنقل الركاب في سيارته الخصوصية وأمور أخرى تخطر في باله فيفبركها ويقولبها على الفور بما يخدم هدفه الأخير. في تلك اللحظات كان دم الغيرة في عروق ميرفت قد سخن جداً فخبطت الجدار بقبضتها عشرات المرات وشتمت أمه وأصغت أكثر فسمعته يكمل ثرثرته مع الأنثى:
- أتمانعين في تلبية ما يمكن أن أطلبه منك ؟
زعقت ميرفت عبر الهاتف: انزلي من السيارة وْلـِي كلبه! دوى صراخها في منزلها ولكنه ضاع في ذلك الوادي الذي يسمونه هنيهات ما قبل انصهار نزوتين، وازداد صراخها حين سمعت الصوت الأنثوي يرد بعد برهة صمت برخامة : بشرط !
جـُنَّ جـُنـُونُ ميرفت وصار صراخها يخترق السقف و ترتج الجدران تحت عنف قبضتها وزعيقها ورفسها لجانب الكنبة و هي تصرخ يا مروان ! يا كلب ! ... يا نذل وعرفته بأنها تعلم ماذا سيطلب من تلك الساقطة التي على شاكلته. شدت شعرها وخبطت الأرض بقدميها مرات متتالية وخبطت السماعة على الهاتف ثم حملت غنوة وركضت لتشتكي إلى شقيقتها عبلة في منزلها المجاور. ضحكت عبلة من طبيعة شكوى أختها ما زاد في حدة غضب ميرفت التي علا صوتها : أتقبليها لنفسك ؟
- سَكـْرِي بُوزِكْ ! وتعقلي: كلهم بالهوا سوا ما بْيـِشْبـَعـُو من خبز البيت. ثم همست:"وطي صوتك أحسن ما تعرف سـْتـِّيْ بالخبر وتنشرو .. طـَنـّْشـِي !" ثم أشارت لها صوب غرفة جدتها.
لا . لن "تطنش" ميرفت عن سقطة مروان الوسخة بل ستقلع عينيه وتأكلهما فور أن يصبح بمتناول يديها. لم تعجبها نصيحة أختها فتركتها وعادت إلى منزلها.
بعد أن غادرت ميرفت جاءت الجدة شبه الصماء من الغرفة الثانية وسألت ميرفت :
- شو بها أختك ؟
- بـْنـْتـَا مـَريـْضَا .
- كانت عـَمْ تـْسْبّ مروان.
- لأ . قلت لك البنت ساخنه عليها حراره.
- سلامتها ! همهمت الجدة ثم دارت على عقبها وعادت نحو سريرها.
جلست ميرفت على شرفة منزلها تغلي من الداخل وتسترجع هذر وعبث مروان مع الفتاة فتخال بأنها تسمع صوته كصهيل جواد جامح. يمور مرجل غضبها وغيرتها فتنفر واقفة . تمشي. تعود وتجلس وهي تبربر وتسب ذلك النذل الذي افترضت أنه يخونها في تلك اللحظات مع مجهولة. أفاقت غنوة من نومها فجهزت لها "بيبرونة الحليب" وعادت لتجلس على جمر كرسيها وهي تحتضن غنوة، تـُقـَبـِّلها مرة وتلعن أباها ألف مرة وتتوعده حين يعود لتشبعه لكماً وصفعاً وصممت أن ترفسه على ما يعتز ويفاخر به لتنسيه الحليب الذي رضعه من ثدي أمه ولكي لا تستفيد منه تلك الكلبة مرة أخرى.
آن ترجل مروان من سيارته فاجأه خبط وسادة على سقف السيارة أعقبتها أخرى ثم أريكة و أريكة أخرى ثم فردة حذاء ثم أخرى وتوالت "القذائف الصاروخية" من جانب واحد تمطر السيارة وموقف السيارة بينما مروان يتقافز من مكان إلى مكان ليتفاداها وتتعالى قهقهته، يناور ويزوغ ويضحك على ميرفت مستخفاً بعشوائية رمايتها ويصيح بها بأنه سيخضعها لدورة تدريب على "ضرب الحجار" فيغيضها أكثر بضحكه الصبياني العبثي المستمر المتصاعد وتزداد شراسة وصراخاً وهيجانا كنمرة جريحة. حدس بأنها عرفت بما حدث مع "فتاة السيارة" ولكنه لم يعرف كيف عرفت؟ قرر ألا يقاتل لأنه مذنب، اعترف لنفسه على الأقل بأنه غلط، صعد ركضاً وأمسك بها يهدئها ويراضيها ويَتـَحَمَّل صفعاتها ورفساتها ،ولكنه أمسك بيديها بثبات وأجلسها على الكنبة بقوة حين أحس بالسخن ولاحظ بأنها تحاول عبثاً ضربه على المنطقة الممنوعة ومع ذلك ظل يضحك. بينما هي "تبرعط" محاولة الإفلات وتصرخ به: اتركني ! اتركني .. ما لك حكي معي ! صحيح إنك وقح قليل حيا ! فقال لها :بعرف . و استمرت في تحريك رأسها وجسدها بعنف وسرعة تصرخ به ليطلق سراحها إنما دون جدوى فتزداد شراسة وتستجوبه صارخة: حصلت على طلبك منها ؟ قول يا نذل ! ليش شو عندها الكلبة أكثر ما عندي ؟ قوووووووووووول! يا زير النسوان يا خاين ! ". استمر ممسكاً بها مكبلاً يديها بيسراه وضاغطاً على قدميها بقدمه اليسرى وهو يضحك إلى أن جاءت عبلة وصرخت بهما ليتوقفا عن العراك "متل الولاد الزغار" فوعدها مروان بأنه سيفلت زوجته إن وعدت بالهدوء.
- خلص ! اتركها على مسؤوليتي ، تعهدت عبلة .
صار لدى ميرفت خط دفاع قوي فاقتعدت جانب الكنبة ترمقه بغضب وتبربر وتتحسس معصميها وتبكي وتشتكي بينما عبلة تكيل التعنيف لصهرها الساكت المكبل بذنبه .
بقيت مقاومة مروان منطفئة بينما هو متسمر في مقعده يتفرج بصمت ويتقبل تعنيفهما له بالتناوب إلى أن ارتوتا من بهدلته. سكوته المريب حرض ميرفت لتقول لأختها :"شفتي كيف سَكـَّرْ بـُوْزُو .. المذنب كلب" واشتكت لأختها بأنها سمعته يتوسل الفتاة على التلفون وبأنه طلب منها مْدْري شـو... . وقالت له بشرط ..
آآآآآآآه! أدرك مروان الآن بأن جواله، ذلك الجاسوس الأخرس قد غدر به ، تنبه للتو لغفلته عن إقفال أذن وفم الجاسوس الذي يسميه البعض بالخطأ هاتفاً جوالاً، وقرر الإستمرار في اختبائه خلف صمته وهدوئه. برودته بردت الجو فجلست عبلة متجهمة ونزلت حرارة غضب ميرفت، بالتزامن كان يتصاعد مؤشر حرارة العشرة وحبها له .. بل عشقها له. صارت تختلس نظرات صوب من تعلم بأنه يعبد الأرض التي تمشي عليها ولكنه كمعظم الرجال يضعف ويزوغ فيُغـَيـِّرعن ضرسه. خف تجهم عبلة حين صارت تستشعر انبعاث إشعاعات التواصل الحميمي بين الزوجين الصغيرين، بطرف عينها لمحته يبتسم لزوجته بشفتيه وعينيه ووجهه وشعره اللامع المصفف ويتملى بخدود ميرفت الممتلئة المضرجة بالحمرة. هدأت مخاوف عبلة فشرعت في إعادة الوشائد والأرائك المتناثرة على أرض المعركة ، ثم حملت غنوة وهدأتها وأوصتها كي تسخر من أبيها بأن الولد ولد ولو عمر بلد فترطن الطفلة بكلام غير مفهوم ووالدها يبتسم لها ثم طلب منها أن تنظر صوب أمها وتقول لها بأن عليها أن تصدقه هو وتكذب الهاتف وألا تظل بعقلية الأولاد خوثه وشكاكة.
انفجرت ميرفت :" أنت الأخوث يا نسونجي" ورمته بأريكة تلقفها واتكأ عليها وهو يضحك ويدغدغ طفلته. أخذتها عبلة من والدها وصارت تقبلها ، وبعد لحظات زعقت ميرفت تستفسره مجدداً "قلي شو عندها الكلبة أكثر ما عندي ؟ " فتدخلت عبلة زاجرة ضاحكة : عيب عليكي ! وعنفتها على سخف وحراجة السؤال ورجتهما أن يسكتا لتجهز "بيبرونة حليب" للطفلة التي كانت لازالت متوترة متشنجة خائفة تلف ذراعيها الصغيرتين حول عنق خالتها وتضع رأسها على كتفها. عادت عبلة من المطبخ بعيد دقائق و الطفلة تنظر نحو أمها وأبيها ثم تشيح بوجهها عنهما وتلتصق أكثر بعنق خالتها.
بعد أن اطمأنت عبلة لهدوء غنوة وبدئها بأخذ البيبرونة جلست قبالة مروان وسألته :
- ليش الغلط يا مروان؟ صرت رجال .. صرت بـَيّْ ؟
قرر أن يُـرَكـِّبَ كذبة جديدة : أين الغلط في أن أطلب من فتاة كي تساعدني في إيجاد وظيفة في الشركة التي تعمل لديها؟ هذا ما طلبته ، فيها شي؟
تفرست ميرفت ملياً وبتدقيق في وجهه وعينيه تحديداً ، لم تصدقه ولكنها قالت لنفسها ربما، لأنه قال لها بأنه ذاهب إلى بيروت للبحث عن عمل في شركة سماها لها ونسيت اسمها. هدأت عاصفة العدوانية في عينيها وصارت بين الفينة والفينة تختلس نظرات من ذلك الذي تحبه حتى العبادة وتغار عليه إلى حد الجنون، حـَدَسُ الأنثى يصرخ ويوصيها ألا تصدقه و لكن نبضات قلبها تخفق بنقض ونقيض حكم الحدس. حـَنـّـتْ ورقـَّتْ ولانت وضعفت فولجت درب المهادنة، تقبلت كذبته الطازجة وهدأت إنما بريبة. لم تستطع بعد أن تزيل من مخيلتها السمعية الشرط الذي تلفظت به الفتاة فغلى مرجل الغيرة في خيال ميرفت وسألته : شو كان شرطها ؟. تصنع الغضب كي يهرب من الجواب فاستنجد بعبلة: أسكتيها بربك يا عبلة ! صدقيني بأني لاأقيم علاقة مع قردة غيرها.
- أنت القرد النسونجي وما حدا غيرك !
وضع راحتيه على فمه وضغطهما كي لا يتسرب ولو حرف واحد. أدرك بأنه نفخ في جمر المشكل بغباء وتعجل ، وعرف بأنه قد أوغل أكثر مما ينبغي في إهانة أهل ميرفت، وليس ميرفت فقط جراء نعته لها بالقردة، فصرخت به عبلة لـِيُحـَسِّنَ ألفاظه ويحترم ذاته كي لا يسمع ما لا يرضيه واستمرت تعنفه وهو صامت متجلد إلى أن رن جواله فصرخت ميرفت وأشارت بسبابتها صوب الهاتف : شـْفـْتي !؟؟. شـْتاقتلو عم تتصل فيه!
نهض من مقعده بسرعة واتجه نحو الممر قلقاً مفترضاً بأن الفتاة هي فعلاً من يتصل، لكنه لم يكن مهتماً بمن يتصل بل همه الأول الآن هو إزالة رقم هاتف "فتاة السيارة"، محاه واطمأن. وبينما هو عائد رن الهاتف مجدداً فجاءه صوت أخته هدى ، نظر بقلق ناحية الغرفة التي تجلس فيها عبلة وسوسن وصار يخاطب أخته بارتباك وتلبك وعجلة يـُذكـِّرُ المؤنثَ ويـُؤنـِّثُ المـُذكَّرَ كعادة الشباب في تمويه جنس المتصل، لم تسمع عبلة وميرفت مضمون المكالمة فازداد شكهما به ومالت عبلة لتصديق اتهامات ميرفت له. رغم قلقه عاد بارتياح نسبي إذ وجد في تلك المكالمة منفذاً لمأزقه فيما إذا أصرت ميرفت أو عبلة على معرفة هوية المتصل فسوف يقول لهما بأن أخته من تتصل به وليس "فتاة السيارة"، ومع ذلك فسوف يحاول ما استطاع إنكار اتصال هدى به كي لا تزعل ميرفت "المتزاعلة" مع هدى.
بالضبط كما توقع ، عاد فوجد عبلة محتقنة حتى أقصى حافة التحمل فاستجوبته بلؤم وعصبية عن اسم المتصلة كي تلعن الذي خـَلـَّفـَها وتقول لها بأن تصرفها سوف يخرب بيت أختها فرد بانفعال :
- أرجوكِ لا تغلطِ ! من يتصل بي هو شاب صاحبي ! نبرها بغضب .
- شَـبّْ صَاحْبـَكْ ؟ لم تصدقه وأصرت على معرفة اسم المتصل وبإلحاح:من هو ؟.
- ميرفت تعرفه ، مشاكلها دائمة معه .
صرخت ميرفت مدافعة عن شرفها : يا كذاب يا خاين تلصق بي ما هو عار بين عينيك فهب ليضربها، تصدت له عبلة مستنفرة وحالت دون وصوله إلى أختها. كورت قبضتيها غضباً منه ومن أختها المتهمة بعلاقة مفترضة مع "صاحب مروان". لم تعد تكترث بالعواقب فيما إذا صلحت الأمور بين صهرها وأختها أم لا ، لن يهمها ذلك بعد الآن، الأهم بالنسبة لها هو الحفاظ على شرف أختها وسمعة العائلة، وبينما هي في قمة جهوزيتها القتالية والعدوانية والشراسة والغضب رشقت أختها بنظرة اتهام ناري مفترضة أساساً لاحتمال علاقة لميرفت بذلك العاشق المجهول ثم صرخت بمروان :
مسألة الشرف والسمعة لا تحتمل التلاعب، أنا سأذبحها بيدي إن كانت غلطانة . هات التلفون! هلق هات التلفون !: باذعان ووداعة وهدوء أخرجه من بيته الجلدي فنترته بشراسة من يده وصارت تبحث بعجلة وتوتر عن اسم الشاب المتصل فلم تجد اسم ذكـَر، زعقت بمروان طالبة التوضيح على الفور :" ليش التجني على بنات الناس؟ بـْتـِقـْبـَلـْها لأختك؟ أو لغنوة ؟" .
الدش البارد فعل فعله ، ارعوى مروان واعتذر ووضح لها بأنه تمنى لو قـُطـِعَ لسانـُه قبل أن يلفظ عبارته المتعجلة غير المقصودة ولم يخطر في باله اتهام ميرفت التي هي أشرف وأعف منه، ووضَّح لها بأنه تسرع في لفظ "كلمة" شاب لأنه بحكم العادة ، وكما يفعل كل الشباب الذين يموهون بتلك العبارات لإبعاد الشبهات فيزعمون بأن المتصل شاباً إن كان المتصل فتاة والعكس بالعكس، وبأنه لم ولن يشك بغالية على قلبه هي حبيبة الروح وشريكة العمر وأم غنوة.
الله ! الله ! الحَكـِيْ مَا عـْلـَيْ جْمْرُكْ ! همهمتها ميرفت بلهجة لائمة ساخرة حاولت أن تعبر فيها عن عدوانية وزعل ولكنها لم تكن عدوانية بقدر ما قصدت، بل تنضح ببدايات التودد والرضا .
مرة أخرى يخف غيم الزعل و يبدأ غبار الشجار بالزوال فاقترحت عبلة أن تجهز لهم ميرفت فنجان قهوة تَيْرَوْقـُو أعْصَابُنْ .
وبينما هم يتناولون القهوة ويتحادثون كانت عبلة تستشعر عودة الحرارة إلى علاقة الزوجين الصغيرين، وتكاد تسمع خفقات قلبيهما، تأكدت من حدسها حين تبادلا نظرات دافئة وابتسامات سريعة تومض لبرهة ثم يخجلا من أن تضيء أكثر فتفضحهما بحضور "غريب عن البيت"، وتيقنت من صدق توقعها أكثر و أكثر حين عقصت ميرفت جعودها السود خلف رأسها واعتذرت من مروان عن عدم تجهيز الغداء ذلك اليوم. وكذلك سجلت الماكينة الأنثوية عند عبلة كيف وقف مروان وجلس بجانب زوجته واضعاً ذراعه على كتفها مربتاً برفق ولين وَوَشـْوَشَهَا فابتسمت ثم عـَذرَهَا.
اطمأنت عبلة الآن، أنهت آخر رشفة من قهوتها. وقفت وفركت رأس أختها تـَحَبـّباً ثم قـَبـَّـلـَتْ غنوة وغادرت وهي توصي مروان وميرفت بأن يتعقلا.
نامت الطفلة فبقيا بمفردهما، بدأ وميضُ الأحمر في كيانيهما الفتيين،سألته : بتشرب قهوة ؟
- رفع بحاجبيه مبتسماً بخبث وهو يدندن أغنية تحبها و يخلع قميصه.
- شُو بـَدّكْ لـَكـَانْ ؟ شاي ؟ بمكر مماثل سألته.
مرة أخرى رفع بحاجبيه وهو يتملى بعينيها النجلاوين وخديها اللذين زاردهما الزعل تورداً وتتسع ابتسامته العطشة مع تنامي عذوبة ترغلتها فتقدم منها وضغط بقوة على كتفيها الساخنين وأقعدها على الكنبة فاطمأنت إلى أنه يرغب في أن تقدم له الوجبة الشهية المفضلة لديه.
خلف ستارة نافذة غرفة من غرف ذلك المنزل المجاور لخزان المياه كان مروان وميرفت يعقدان أحلى معاهدة صلح. في الخارج كانت شمس الغروب تستحم بمغطس أرجواني وتشيعها العصافير بتغريد حميم يـُصْهـِرُ سبائك الزمان والمكان بقافلة المغيب، بينما منازل ودروب الضيعة ترفل بغلالة ضباب ما قبل الغسق.
الخبر في : 17/10/2010

CONVERSATION

0 comments: