آخر سفرات أبي جواد/ محمود شباط


حدث ذلك في منتصف الثمانينات من القرن الماضي في منطقة صحراوية على الطريق السريع الموصل بين الرياض ومناطق المملكة الشمالية، حيث أقامت الشركة المتخصصة بصيانة وسفلتة الطرق سكناً لعمالها مؤلف من ستة بيوت خشبية متنقلة، يسميها المراقب "بورتكاب" ، رُتِّـبَتْ على الموقع بشكل صفين،خلفها الحمامات والمطبخ ومكتبان وقاعة الطعام والتلفزيون وحاوية حديدية بحجم أربعين قدماً لتخزين العدة وقطع الغيار. يحيط بالكامب سوره المستطيل المعزز بالشريط الشائك وبأربعة كشافات ضوئية على زواياه الأربع.
اللبنانيان الوحيدان في الكامب :العامل أبي جاد وابن أخيه، يتعايشان ويتواصلان مع العمال الآسيويين الآخرين بعربية هجينة ركيكة وببعض المفردات الإنكليزية والأوردية والكتالوجية الفلبينية . مناخ متعددي الجنسيات أنتج قاموساً ليس بغريب عمن أقام أو يقيم في الخليج : "ما في معلوم" ، "ما في موجود" ، "ما في مخ"، "مانجيريا" ، "علي بابا" و كل الأفعال تبدأ بمفردة "في" : "أنا في شغل" ، "أنتا في أكل" وما شابه . والجميع ضليع بكل مفردات الشتائم بالعربية ويلفظها على طريقته. وعلى جدران الحمامات تنتشر كتابات الفلبينيين الجميلة المنمقة بلغة الكاتالوج، و خربشات الباكستانيين بلغة الأوردو الشبيهة بالحروف العربية، والهنود والبنغلاديشيين والنيبال والسريلانكيين كل بلغته، يعبرون عن غضبهم على الآخر بعبارات مسيئة مجهولة الفاعل و خربشات وصور مبتذلة، يزيلها عمال الصيانة في الشركة كل نهاية أسبوع ولكنها تعود لتنبت كالفطر.
عند الخامسة من بعد ظهر كل يوم يعود كل إلى سكنه المخصص له تحت رقم نافر ملصق على باب غرفته. المهندس والمراقب يقيم كل منهما في غرفة بمفرده ، أما العمال فيقيم كل اثنين منهما في غرفة. هناك استثناءات لمن يشخر ليلاً أو لذلك الذي رائحة طعامه لاتلائم ذوق زميله من الجنسية الأخرى.
بعد أن ينحشر العمال في "زنازينهم" يكون بهير الشمس قد بدأ بالإنحسار فتنعس عينها وتظل تذوي إلى أن يختفي قرصها تدريجياً خلف كثبان الرمل ونبات العرفج والشنديب وخط أفق البطحاء البعيد. بالتزامن، ينخفض هدير السيارات والشاحنات والحافلات العابرة على الطريق الدولية القريبة من سكن الشركة ويَعُمّ السكون وتشتد قبضة العزلة أكثر في الدقائق الفاصلة بين رحيل المغرب وقدوم الغسق، ويتحلل العتم من حرج خلع جلبابه ويطرحه على كريستالات رمل الصحراء الساخن مستعجلاً العد التنازلي لـِتـَوَقـّفِ نبض الحياة في تلك القفار القصية النائية البعيدة عن مناطق العمران.
قبيل الهزيع الأول من الليل ، وبعد أن يغتسلا و يتناولا عشاءهما ، يلوذ أبو جاد وابن اخيه إلى حجرين يقتعدانهما على جانب الطريق الدولي، يجلسان هناك لمجرد الإستئناس بسماع هدير محرك سيارة يلمحانها عابرة باتجاه بلدهما وأهلهما ، أدمنا التصاقهما اليومي بذلك الحبل السري الذي يفترضان بأنه يربطهما بأول زقاق في قريتهما ، في يد كل منهما علبة مياه غازية يرشفان منها باقتصاد مقتر، بينهما كيس بزورات وراديو ترانزيستور وجهاز تسجيل مع أشرطته. يمكثان هناك لساعات، يندر جدا أن يتحادثا، ولئن أفلتت من فم أحدهما عبارة يتيمة مقتضبة فستكون عن أخبار الأفراح والأحزان والطلاق والمشاكل في قريتهما، تصلهما انباؤها عبر رسائل تردهما مع سائق "الكرنك" أبي عصام، الذي يُرسلان معه تنك التمر والهدايا والملابس و "المصاري" كل آخر شهر. وحين يضع منصور سماعة المسجل في أذنه ويبدو عليه التأثر يعلم أبو جاد بأن الفتى يتواصل روحياً مع حبيبته "المتمشكل معها" عبر بيت العتابا الأثير لديه :
يَا رَايـِحْ صَوْبْ ديـرِتـْهُنْ يا راعي/ لـْقـَلـْبْ لا زال عْشـْرتـْهُنْ يـُرَاعـِي
وْكـْثـْرْ ما تـْغـَلـْغـَلْ بْحُبـُّـنْ يـَرَاعي/ صـِفـِي يـْكـْتـُـبْ لـَحـَالـُو لـَلـْحْبـَابْ
يستمر كل من القريبين البعيدين في جلسته المسائية يدندن من حين إلى حين بشكل شبه صامت. وما إن تحل العاشرة مساء حتى يأوي كل منهما إلى فراشه.
كعادتهما بعيد كل آخر شهر، وفي عصر يوم جمعة بعد أن استلم كل منهما راتبه انهمكا في نقل طرود وأكياس وتنك تمر من غرفتهما إلى جانب الطريق الدولية وجلسا هناك بانتظار مرور " كرنك أبي عصام" . وبينما هما يقتعدان الحجرين إياهما مر بهما المراقب الآسيوي متجهما ولم يلتفت صوبهما أو يحييهما فهمهم منصور بشتيمة بصوت منخفض، التقطتها أذنا المراقب فارتد عليهما يبربر ويخور بهيجان لم يفهما كل مضمونه ولكنهما عرفا بأنه يشتمهما بالإنكليزية ويهم بالإقتراب صوب منصور رافعاً يده لضربه. وقف أبو جاد بينهما يثرثر لتطييب خاطر المراقب: " بليز مستر أرماندو .. بليز نو ضرب ، يو في كودمان منصور ما في كودمان " . يستمر الشجار بين الشابين فـَيُصَعـِّد أبو جاد وساطته متوسلاً المستر أرماندو : "بليز مستر أرماندو ! منصور في كبير دونكي أنت ما في كبير دونكي". سكت أرماندو بغضب وشرقطت عيناه بالشر ولكنه بردهما حين تذكر ركاكة إنكليزية أبي جاد وحسن نيته، ولكن أرماندو لن يسكت على الإهانة فرد بعربية ركيكة: " أبو جاد !.. أنا ما في كبير دونكي ما في صغير دونكي .. في معلوم ؟" . نبرها ومشى وهو ينفض الغبار عن سترته وحذائه و ينخر ويبربر.
أشعل أبو جاد سيجارته وحدج ابن أخيه المنتشي لما افترضه انتصاراً وتحدياً لغريمه الذي يكرهه "كره العمى". كان أبو جاد سيسكت ويمررها على خير لو لم يضحك منصور، قهقهة الفتى فجرت الغضب المتراكم المحتقن في صدر الكهل فصرخ بابن أخيه بنفاد صبر: "هيك أحسن؟ مبسوط بحالك ! شو بدك بالزلمه؟ ليش فيك لـَيْ؟ "
- فـِيِّي لـَلـِّي خـَلـَّفـُو ! لـِمَ لـَمْ تسأله عن سبب استفزازه المستمر لي وتحامله علي ؟ أم أنك لا تستطيع لومه فتستسهل ملامتي ؟
- عنيد و دب مْتـْلْ بـَيـَّكْ ! دَوَّتْ صرخة أبي جاد بانفعال .
- بقهر من إهانة عمه لأبيه يرد منصور تذكر بأن "بَيِّي خـَيَّـكْ" .
- تعني بأني انا دب ؟
- ما قلت هيك !
مرت لحظات صمت حنق واحتقان بينهما فجرها تهديد منصور : والله لو لم تحم ذلك النذل مني لشلخته شقفتين. منصور ذيب مش غنمة.
- بلا ذياب بلا كلاب! أحْكِ على قدر مقام عامل وليس على قدر مقام مراقب!
- مقامه له وكرامتي لي ! زمجرها منصور بغضب.
رمى أبو جاد سيجارته وسحقها بحذائه ثم همدر: أيواااااااه يا ابن ابراهيم! عـَنـْتـِرْ يا بني عـَنـْتـِرْ! عنتر وكول كرامه واشرب كرامه، شوف يا حبيبي ! براتب شهر يستقبلك مدير البنك لفتح حساب، ولكن بخمسة عشر طن كرامه لن يبرم حارس البنك رأسه نحوك، افهمها يا بني آدم! أفهمتها أم بعد ؟؟
أشاح منصور بوجهه عن عمه دليل امتعاضه مما يعتبره خنوع "الدقة القديمة" ولبث يبربر. بربرة منصور أفاضت مرارة أبي جاد فصرخ بالفتى : " دْقّ حكي قـَدْ ما بـَدّكْ .... عاجبنا منقعد .. مش عاجبنا منمشي ... فهمت وَلـّـا لأ ؟؟؟؟ "
- وَلـّا لأ ؟ لاكها منصور بـ "سعدنة مستخفة" مناكفاً عمه أكثر.
أشعل أبو جاد سيجارةً أخرى ، نفث دخانها، تجلد و أجبر نفسه على تـَصَنّعِ التبارد ، عرف بأنه كالعادة هو من يجب أن يتنازل وينهي الجدال بالتي هي أحسن : يا حبيبي يا منصور! تـَعـَلـَّمْ أن تحني رقبتك كي لا تنكسر، ما الذي جنيته من شتم الرجل؟
- "فشيت خلقي" .محقون من تسلطه علي!
- طيب ! اشتك عليه للمهندس .
بضيق ونرفزة لعلع اعتراض منصور : يا عمي ! يا عمي! يا عمي! وهل يهتم لأمرنا ابن الشلحوطة ؟ كم من مرة اشتكينا له ولم يرد علينا ؟ قل لي ! هيه ؟؟
أسقط في يد أبي جاد، فهو يعلم بأن العديد من شكاويه أطفأتها سلطة الأقوى، وذرَّتها كالرماد في ليلة عاصفة. كـَزَّ على أسنانه الملتاثة بآثار التبغ والشاي الأسود وأشعل لفافة أخرى. تمرمر لكونه صفراً في شركة يعمل فيها كطير من خارج السرب. ومع ارتفاع سخونة القهر في حنايا روحه المنهكة، تقلصت عضلات وجهه الطافح الأسمر واحمرت عيناه وجحظتا بضغط الواقع القاهر. مسح جبهته المتعرقة ثم التفت إلى ابن أخيه يرشده بهدوء ولين وتجلد: حين تصير أباً ستدرك ما أعني.
- ما بَدِّيْ تـْجَوَّزْ! لـَشُوْ؟ ما أكسبه بالكاد يكفيني. بكيدية صبيانية ونرفزة رد منصور.
- هذه النغمة سمعتها من غيرك قبلك، ولكنك ستتزوج غصباً عنك وليس بطيب من خاطرك، وستتعلم كيف تعض على جرحك حين تصبح أباً مسؤولاً عن تأمين لقمة العيش وتكاليف المدارس لأولادك وبناء منزل يأويهم.
بعد هنيهات صمت على مضض وتـَفـَرّسٍ بوجه الكهل سأله منصور : أعض على جرحي؟ طيب ! عضينا يا سيدي. اعتبر عضينا ! إلى متى ؟
استفسار منصور الصعب صفع أذني الكهل الذي أغمض عينيه لبرهة يبحث عن أفق للغز"إلى متى" ، طال صمته ولم ير الأفق فنفث بضيق تسليمه بتذمره من وضع الضعيف المهيض الجناح : لا أدري إلى متى، ولكني أعرف بأن من هـُمْ في وضعنا عليهم أن يصبروا .
ابتسامة الفتى الحنونة المشفقة اطفأت حرارة االجدال لدى الكهل المكبل بأصفاد وأغلال العوز والمسؤولية حيال أسرته الفقيرة. خاف على ابن أخيه من ان يدخل نفق الغربة شاباً ويغادره حين تلفظه الغربة كهلاً أو عجوزاً أو جثة، رنا بنظرة كسيرة نحو منصور وباح له بألمه من الدوران في دوامة "إجازة شهر-غربة سنة- إجازة شهر" منذ سنوات و سنوات، يخطط في كل مرة ليحسمها كآخر سنة غربة ولكنه يتراجع حين تدهمه طلبات السنة "الأخيرة" بتكاليف أكبر من السنة التي قبلها، ثم أخبر ابن أخيه بأنه سيوفر ما يكفي لتسديد ديون معلمي العمار وأقساط المدرسة "المكسورة" المستحقة عليه من السنة الماضية وسوف يسجل الأولاد في المدرسة الرسمية، وسوف يرجع إلى الضيعة ليعتاش من أي عمل متوفر يمنحه نعمة البقاء بجانب أولاده وزوجته، ولكنه بالتأكيد لن يعود للسفر ولن يفكر به بعد هذه السفرة. ثم سكت وعض شفته السفلى جراء ألم داهمه، في تلك اللحظات وضع يده على بطنه واغرورقت عيناه بالدموع وبدا عليه الإنهاك.
قـَلـِقَ منصور على عمه الذي لم يره يبكي قبلاً وسأله عما به فرد أبو جاد بأنه قد يكون مغصاً قوياً ولكنه يشعر بأنه أفضل الآن، طمأنه ثم توسد مخدة وغطى عينيه بأخرى، وبعيد دقائق بدأ بعزف سيمفونية الشخير.
بربر منصور بتذمره المزمن من شخير عمه الذي يحول دون نومه بسهولة، أطفأ الضوء وتمدد لينام ولكن أبو جاد بدأ ببث شخيره على الموجة العالية. تقلب منصور في فراشه عدة مرات ثم لف أذنيه بكوفيته وهجع، ولا يدري كم مضى من الوقت على غفوته حين أفاق على أنين عمه يتوجع ويهذي باسم ولده الأصغر سعد، سأله عما به فأشار الكهل باصبعه صوب بطنه.
جلس منصور يتطلع بوجه عمه المتوتر الشاحب الكازّ على أسنانه المتألم المتاوه المغمض العينين، يهجس بتوجعه ويتوجع معه ، يسترجع صدى شكواه من قسرية الغربة والعض على الجرح ولؤم العوز والإجازة الأخيرة كل إجازة، فتح الكهل عينيه الغارقتين بميازيب عرق الوجع الذي صار فوق طاقة تحمله، أغمضهما بسرعة وأزاح ملح العرق عن هدبيه، راحته اليمنى تدور على بطنه بينما أصابع اليسرى منغرزة بالفراش،خفت أنينه ودخل في غيبوبة. هـَزَّهُ منصور مرتين ولكن الكهل لم يستجب فهرع الفتى يستنجد بالمستر أرماندو ونقلا أبا جاد إلى المستشفى حيث فحصه الطبيب وطمأنهما : "الزائدة عملية بسيطة".
دخل غرفة أبي جاد ممرض يحمل عدة ملفات لمرضى آخرين، التقط ملف مريضه ثم طلب منه ارتداء لباس أخضر مخصص لأولئك الذين يخضعون للعمليات الجراحية، وبينما الكهل يرتدي ذلك الزي كانت تدوي في أذنيه تأوهات المريض في الغرفة المجاورة يشكو من "عقرب يعبث بدماغه " .
بعد أن أجْرِيَت العملية الجراحية وطالت مدتها أكثر بكثير من الوقت الذي تستلزمه عملية الزائدة عادة، أعيد أبو جاد إلى فراشه ملفوف الرأس بالقطن والشاش ولا أثر لعملية في بطنه. كان وجهه شاحباً وعيناه مغمضتان لا ترفان. تسارعت حينها حركة الأطباء والممرضات يتراشقون الملامة بالإنكليزية بعصبية و تشنج بسبب انفجار الزائدة في بطن أبي جاد جراء التأخر في إجراء العملية، يروحون ويجيئون على عجل ثم قرروا نقله إلى براد الجثث في المستشفى. لم يفهم منصور كل الكلام، ولكنه ارتاب حين سمع تأوهات مريض الغرفة المجاورة الذي كان يشكو من "عقرب يعبث بدماغه" بأن العقرب لازال يعبث بدماغه وبأنه يعاني من ألم أبرح جراء جرح العملية الجديدة في بطنه، صار يدرك منصور ما أنزله حـَوَلُ مبضع الجراح من جراح قاتلة في جسدين وروحين،و شهق حين وضع اثنان من الممرضين جثة أبي جاد على عربة متحركة لنقله إلى براد المستشفى،خبط الفتى رأسه براحتيه وتدحرجت دموع أسفه على عمه وافتقاده له، وأيقن بأن تلك السفرة بالذات هي آخر سفرات أبي جاد.
الخبر في 03/07/2010

CONVERSATION

0 comments: