فى الطريق الى مثواها/ ايمان الدرع

الأديبة لمياء / شاعــــــــــــرة قيسون السورية
صباح الخير يا أمي: أقف الآن أمام مرقدك، في خشوع، وصمت...
أدري بأنك تعانقين جوارحي بشوق، تلثمين طيفي بحنين، كما كنت تبادرين لقائي، خلف الباب، في حياتك الراحلة.
تمتدّ أصابعك الأثيرية، تجلسني فوق العشب، المتداخل مع زوايا رخام مثواك الطاهر، فأمتثل.
تسألين عني، عن الأحوال ؟؟!! 
أبتلع الحروف، لا أريد أن أعكّر صفو المكان المكتظّ بالأرواح الهادئة التي تقتسم السكينة، والسلام.
يزداد الشوق في عينيك، تلحّين بالسؤال.
وتطاير الدمع يا أمي، وانهمرتْ جداول الألم، تسقي زواريب مكان عطشان، نسيته أيدي الأوفياء، منذ زمن بعيد، ورغم ذلك أصحابه يعتبون، ثم يغفرون..
ماذا أقول؟؟!! وعمّ أحدثك ؟؟!!
سوريا التي تعشقين مريضة يا حبيبتي، عليلة الأوصال، عزّ دواؤها، سالت دماؤها على الجبال، والسهول، والوديان.
الأخوة قد أثخنتهم الطعنات المتبادلة، والغرباء، والأشقاء.. شامتون، يساومون، يتفرجون.
كلّ الأماكن التي كنا نجوبها معاً، قد شطبت ذكرياتنا بقلم مجنون، أرعن، فلم تعد لنا طاولة نرتشف عليها قهوتنا، وأنت تنثرين لنا الأشعار، وتروين لنا الحكايا: في الغوطة الغنّاء، في جرجانية الزبداني، في أسواق حلب، في بصرى حوران، قرب وليد حمص..
كلّ المنابر الثقافية التي كنت ترتادينها، الْكانت تضجّ بالتصفيق، والزحام، والحوارات الأدبية، دخلت عناية الإنعاش، صارت بنبض صناعي، يُبقي على بعض أنفاسها.
وتفرّق الأهل، والأصحاب، والجوار، وتسكرتْ أمام الكريم، عزيز النفس، بوابات العبور، كنت تحذرين دائماً من وقوف الكريم على باب اللئيم، فلا يؤذن له.
تسألين عن أسرتك التي تحبين، تستعجلين الجواب، فأصمت طويلاً قبل أن تتفجّر الكلمات، لتعبث بالجرح:
ـــ آاااااااه يا أمي..إخوتي..رغم قلوبهم الجامعة، تفرقوا عبر الأمصار، كلّ في طريق.. ومن بقي منهم، انزرع الحاجز مابيننا فحرمنا زيارتهم.
والأحفاد سرقتهم من أحضاننا وجوه أعجمية، تتقن رسم مساحيق الإغواء، تبهر، تمنح بسخاء، ترتشف مواهبهم لصالحها قطرة، قطرة..تعزّز بسواعدهم القوية صروحها ، وحقّ لها، لأنهم آتون من موطنٍ، غلبت أهله نزاعاتهم، لم يعرفوا كيف يحضنونهم، ويبقون عليهم، لتثمر في حيويتهم البلاد.
وأنزوي كلّ عشيّة يا أمي في ركن صالتي، أحاكيهم، أستشعر مرارة قهوتي، وأنا أقلّب صورنا في العيد، في اللمّة على موائدنا التي لاينقطع خيرها، في أغانينا، في عتاباتنا، مخاصماتنا، ومسارعتنا في العناق، والتسامح، والوئام، والمغفرة.
يقتلني صمت الأشياء من حولي، كما يعبث بكياني صوت القذائف، والصواريخ، وهدير الطائرات، ولعلعلة الرصاص، على التلال القريبة، والتخوم البعيدة.
تقتات من أوردتي محطات العهر، والفتنة، وهي تستعرض ألوانها، كفتاة عري مبتذلة، تستجمع المال، تطبّق تعاليم بني صهيون، بلا إحساس بالعروبة، بلا حياء، بضمير ميت. 
يفتّتتني الحصار، وأنا في إقامتي الجبرية، تصل إليّ أصوات المستضعفين، الفقراء، المحرومين، أصوات أطفال يبحثون عن طعام، وشيوخ تسأل عن دواء، ونساء فنيتْ أكبادهن من القهر، ورجال ركبهم العجز، وقلة الحيلة، والجميع يسأل: لماذاااااااا؟؟؟!!!!
ألمح عينيك الطيبتين تبرقان أسفاً، تتفرسان بعمقٍ، مأسوية المشهد، تذرفان......
لاتبكي يا حبيبتي من أجلنا، فمن فرّط بأسوار بيته، يستحقّ أن ينام في العراء،، تتقاذفه رياح التشرّد، والدمار، عساه أن يفيق من غفلته، باحثاً عن لملمة ما تبعثر منه، وأراه يومًا قريبًا.. فقد اكتملت دورة الجرح. وصارت تلحّ على الخلاص.
سنجلس على كرسي الاعتراف، نقرّ عن تقصيرنا، وسنكون على البناء قادرين، مستعينين بقدرة الله، فلا شيء يعيد قوة المدائن إلا لحظة الإصرار على استعادتها، وبث الحياة في شرايينها، عقب ضياع مرير، وتجربة كالموت في سكراتها.
ضميني يا أمي قبل أن أمضي، وغنّي لي بصوتك الجميل أنشودة السلام، وبثّي في قلبي الفرح المفقود...والصبر، والسكون.
انتهت الزيارة أيتها اللمياء...، فارقدي بسلاااااام.
في الذكرى الرابعة على رحيل أمي / لمياء الحلبي/ شاعرة قاسيون/
( تغمدها الله بواسع رحمته، وغفرانه)

CONVERSATION

0 comments: