رسام عالمي دون ذراعين/ محمود شباط

تتردد عبارة التهنئة " بالخلقة التامة والخلاص بخير" عند تهنئة النُفْساء وزوجها حين يرزقا بطفل جديد. ما يعنيه المهنئون بعبارتهم تلك هو أن لا فرق بين صبي وبنت طالما أن المولود مكتمل الأعضاء جسدياً و خال من التشوهات الخلقية، وطالما أن الأم الوالدة عبرت قطوع المخاض والولادة بسلامة.
أفترض ألا تكون تلك العبارة مندرجة ضمن قاموس المجاملات واللياقات خارج حدود مجتمعاتنا ، ولا أظنها متداولة بين الغربيين، على الأخص في بلجيكا حيث ولد شارل فيلو في العام 1830 دون ذراعين، وحين شب ذاع صيته كأحد أشهر رسامي القرن التاسع عشر، رسم بأصابع قدمه لوحات فنية رائعة، ورحل عن هذه الدنيا في العام 1900. و كان يشعر بالبهجة والفخر كونه صافح بقدمه العديد من أيدي الملوك ، أحدهم ليوبولد الثاني ملك بلجيكا الذي قال بأنه يعتبر مصافحته لقدم شارل فيلو من أسعد وأحر المصافحات التي عرفها في حياته.
أنجز شارل فيلو ما أنجزه في حياته بأصابع قدمه اليمنى. ورغم النقص الذي ابتلي به كان أحد أكثر فناني القرن التاسع عشر تفاؤلاً ومرحاً وحبوراً وموهبة وينعم بصداقة ملكين وإمبراطور.
على الضفة الأخرى من نهر الحياة نرى ونسمع ونتعامل مع الكثيرين ممن يتمتعون بنعمة "الخلقة التامة" بينما الخلق أو العقل ناقص. البعض منهم لا يجيد القراءة والكتابة وبالكاد يعثر على من يقبل بمصافحته بيده، والبعض الآخر يقرأ ولكنه لا يفهم ما يقرأ، وآخرون لا يعتبرون ولا يتعظون حتى لو قرأوا ، ولو فهموا. يمضون أيام أميتهم الإجتماعية يتعبون ويُتعبون ولا يتركون أثراً يذكر، عكس ذلك البدوي الأمي الذي جاء لتعزية الخليفة المهدي بوفاة ابنته حيث وقف البدوي بحضرة الخليفة وواساه بعبارته المشهورة التي دخلت تاريخ الأدب من بابه الواسع : " أعطاك الله يا أمير المؤمنين أجراً ، وأعقبك صبراً ، لا أثقل الله بلاءك بنقمة ولا أزال عنك نعمة، فرحمة الله خير لها منك ، ومغفرته خير لك منها ، وأعز ما يُصبرُ عليه هو مالا سبيل إلى رده".
ها نحن نذكر ونتذكر شارل فيلو بعد وفاته بأكثر من مئة عام، ونذكر ونتذكر البدوي الأمي بعد أكثر من ألف عام على مغادرته عالمنا. وبالكاد نتذكر العديد ممن قد يكونون من أبناء بلدتنا لأنهم لم يخلفوا وراءهم أي بصمة تشد انتباهنا كي نتذكرهم.

CONVERSATION

0 comments: