طبعا هذا من مصطلحات الحياة المعاصرة. طبيعي إذن أن لا نجد له في العربية الكلاسيكيّة مصطلحا قديما مطابقا. هو مصطلح جديد جاءنا مع دخول السيّارات بأنواعها المختلفة حياتنا الحديثة. حركة الجمال في الصحراء الواسعة لا تولّد هذه الظاهرة! لا أعرف إذا كان الآباء في عهد الانتداب عرفوا هذه الظاهرة المروريّة حتى . لم تكد توجد السيّارات في حياة آبائنا يومذاك، فكيف تنشأ هذه الظاهرة فتسمَّى؟ حتّى السيّارة في اللغة الكلاسيكيّة كانت تعني القافلة، واستعمالها بمعناها الجديد كان استحداثا موفقا إلى أبعد الحدود. لذا لم يكن غريبا استيعابها في لغتنا المعاصرة، بحيث لا يفطن كثيرون اليوم إلى دلالتها في لغتنا القديمة.
في الإنجليزيّه يسمّون هذه الظاهرة المروريّة ترافك جام، كما هي في العنوان [ليس سهلا علينا إدخال الأحرف الإنجليزيّة في نصّ عربي. فقد لاقينا في كتابة العنوان أعلاه "عرق القربة"، بأسلوب الشدياق. لذا فنحن نرسم الكلمة الإنجليزيّة هنا بأحرف عربيّة، فالمعذرة]. الكلمة الأولى، ترافك، تعني حركة السير، أو حركة المرور، أو المشاة والعربات في الطريق أيضا. أبناء جيلي يذكرون، أظنّ، أنّ الناس عندنا كانوا يسمّون بوليس السير بهذا الاسم- ترافك - في زمن الانتداب. ذاك في الواقع هو اختصار لكلمتين- ترافك بوليس، أو ترافك كوبس بلغة الأميركان. يلاحظ أخيرا أن المصطلح الإنجليزي، ترافيك جام، استعاروه من مجال المأكولات. فالجام هو التطلي، أو المربّى بلغة بعضهم. وعليه شبّهوا هذه الظاهرة المروريّة بالتطلي "الملبّطة"!
في العبريّة، اسم هذه الظاهرة المروريّة، على ألسنة الناس هنا، اليهود والعرب أيضا- بكاك. هذه التسمية غير دقيقة، لأن البكاك معناها سدادة القنينة، أو الفلينة، وهذه لا تسمح بخروج الماء مطلقا. لذا يحاول "حرّاس" الفصاحة في العبريّة تسمية الظاهرة المذكورة، بعد فوات الأوان، غودش أو عومس. من يصغي إليهم وقد شاعت البكاك على الألسنة، بما فيها الألسنة العربيّة بيننا أيضا؟!
من ناحية أخرى، التسمية العبريّة أجمل وأدقّ من التسمية الإنجليزية. المصطلح مستمدّ من استعارة، أو تشبيه كبير، تشبّه فيه حركة السيّارات في الشارع بحركة أو سيلان الماء. فالسيّارات تجري، وتتوقّف، تسرع وتبطئ، تتدفّق و"تحقّن"، تماما كالماء الجاري في القنوات. ومن عاش طفولته مثلي، في قرية تتدفّق المياه من ساحتها في مركز القرية، ثمّ تجري في القناة (القناي في لهجتنا)، فتسقي حواكيرها كلّها- يدرك على الطبيعة مدى جمال وملاءمة تشبيه السيّارات على الشارع بالماء الجاري!
المرحوم إميل حبيبي سمّى البكاك في أحد مؤلّفاته، على ما أذكر، جلطة. تسمية جميلة، تشبيه أدبي، لكنّها ليست تسمية علميّة، فنجعلها المصطلح الدقيق الشائع في الكتابة الموضوعيّة، بعيدا عن الأدب والمجاز. لاحظوا مع ذلك أن التسمية هذه مستقاة أيضا من عالم السوائل والجريان!
بناء على كلّ ما تقدّم، يجدر بنا، في رأيي، اشتقاق التسمية العربيّة من عالم السوائل بالذات، دون أن تعني الانسداد تماما، كما في العبريّة. ثمّ أن تسمية هذه الطاهرة المروريّة اختناقا، أو عجقة، أو عجقة سير، غير مناسبة، لأنّها لا تشي بالتشبيه الجميل المذكور، ولا تفي بالغرض. الاختناق مصطلح مستقى من عالم التنفّس والصحّة، لا من عالم السوائل والجريان، والعجقة هي "فساد الترتيب والنظام، أو الازدحام والفوضى"، كما وردت في معجم الألفاظ العاميّة، للأستاذ أنيس فريحة. لا إشارة من قريب أو بعيد، في الاختناق أو العجقة، إلى تشبيه حركة السير بالماء أو السائل الجاري.
بناء على كلّ ما تقدّم، نقترح تسمية البكاك احتقانا أو تحقينة، أو أيّ مشتقّ آخر من الأحرف الثلاثة الأصليّة هذه، ح ق ن . شريطة أن يكون المشتقّ الجديد خفيفا على اللسان والأذن، لا معنى سابقا له في المعاجم أو على الألسنة.
jubrans3@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق