منذ عام 2001 تلقت حركة طالبان المدحورة ضربات قاصفة ضد منشآتها وهياكلها التنظيمة وقواتها ومعداتها، وتشتت شمل قادة وقتل الآلاف من أتباعها، وانتهت إلى غير رجعة الإمارة الاسلامية التي أسستها واتخذت لها قندهار كعاصمة، لكن الصورة العامة توحي بأن هذه الحركة الهمجية الخارجة من بطون التاريخ السحيق لا تزال قوية وقادرة على إيذاء خصومها وتوجيه ضربات لكل من لا يدين بتعاليمها السقيمة. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى ما قام به أتباعها أثناء الانتخابات الرئاسية الأفغانية الأخيرة حينما إقتصوا من بعض الأبرياء بقطع أصابعهم لمجرد أنهم شاركوا في تلك الانتخابات، دعك مما يقوم به أتباعها الباكستانيون من أعمال إجرامية يومية في عموم باكستان ولاسيما مدينة بيشاور التي تبدو خارجة عن سيطرة الدولة.
والسؤال الذي طالما تردد هو من أين تأتي حركة طالبان بالأموال التي تساعدها على البقاء. وهي أمول كثيرة إذا ما أخذنا في الاعتبار ما تصرفه كرواتب للمنضوين تحت لوائها من مقاتلين يقدر عددهم بالآلاف، وما تنفقه على شراء الذمم، وإقتناء الأسلحة من السوق السوداء؟
أطراف دولية كثيرة اتهمت الحكومة الباكستانية بتقديم كافة أشكال الدعم للحركة ما بين عامي 2005 و2001 ، لكن المعروف أن إسلام آباد نأت بنفسها عن الحركة واوقفت دعمها لها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خوفا من أن تطالها العقوبات الدولية وتتعقد علاقاتها مع حليفتها الامريكية. أما رد مسئولي الحركة فقد كان ــ بطبيعة الحال ــ ينطوي على الاستخفاف بالعقول. إذ قالوا أن مصدر قوتهم وبقائهم هو الأمول التي تأتيتهم من تبرعات المسلمين والمؤمنين في العالم. وهذا لئن كان فيه شيء بسيط من الصحة عطفا على ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية عن وجود حملات في صفوف المتشددين المقيمين في بريطانيا ودول غربية أخرى لجمع الأموال وتوصيلها إلى الطالبانيين يدا بيد، تجاوزا للقيود المشددة حول تحويل الأموال بالطرق النظامية، فإن الحقيقة التي باتت معروفة للدول والمنظمات الدولية هي أن المصدر الأهم والأقوى الذي تعتمد عليه طالبان هي الأموال المتحصلة من زراعة وتصدير المخدرات (تقدرها المنظمات الدولية بنحو 70 ــ400 مليون دولار سنويا)
وهي بهذا العمل المشين لا تختلف عن نظام المجاهدين الذين تسلموا السلطة في كابول بعيد انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان في عام 1998 ، فهؤلاء ظلوا طويلا يعتمدون على إيرادات بيع المخدرات لتغذية خزينة الدولة غير آبهين بتعاليم الإسلام التي تحرم ذلك. واتذكر أني كنت مشاركا في برنامج حواري في إحدى القنوات الفضائية الخليجية، وكان الضيف الآخر قلب الدين حكمتيار، أحد زعماء المجاهدين المعروفين الذين أداروا أفغانستان قبل أن تظهر طالبان على السطح بترتيب من المخابرات الباكستانية فصارحته بهذه الحقيقة وصحتُ في وجهه قائلا ألا تخجلون من أنفسكم من مثل هذه الأعمال، أنتم الذين تدعون الطهرانية وتزعمون الجهاد من أجل إقامة دولة إسلامية تحكم بالشرع، فتلعثم الرجل قليلا قبل أن يجيبني قائلا: نعم نحن نزرع المخدرات لكننا لا نستعملها ولا نبيعها في بلادنا وإنما نصدرها إلى بلاد الكفر لتدمير شبابهم فنصيد عصفورين بحجر!! يا له من منطق!
والمعروف ـ طبقا لأجهزة المخابرات الأجنبية المعنية بالقضاء على الارهاب الطالباني ومنع تمدده ـ أن أتباع طالبان يقدرون بنحو 60 ــ 70 ألف عنصر ناشط، غير أن المقاتلين الفعليين منهم لا يتجاوزون 10 آلاف بينما يعمل الباقون في أعمال الحراسة والمراقبة والتدريب وتوفير الامدادات الغذائية والعلاجية. والمعروف أيضا طبقا للمصادر ذاتها أن الحركة تملك كوادر قيادية جاهزة، بمعنى أنها تستطيع إحلال قيادات جديدة بمجرد مقتل أو أسر القيادات القديمة. ومعظم من يتم تعيينهم كبدلاء هم من الذين اكتسبوا خبرات قتالية في التسعينات. على أن الهياكل التنظيمية التي أسست عليها الحركة بترتيب من زعيمها الملا محمد عمر راعت مسائل مثل الحيلولة دون بروز قادة يمكنهم التصرف باستقلالية عن الأخير أو تأسيس أجنحة يمكنها تهديد سلطته، أو الاستقلال بمنطقة من مناطق نفوذ الحركة على الأرض الأفغانية. وعليه لم نر طيلة السنوات الماضية بوادر تفكك او انشقاق او خروج على القيادة العليا للحركة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تحظى الحركة بدعم كل هؤلاء الأفغان، على الرغم من الفظاعات التي إرتكبتها بحق الناس خلال سنوات حكمها الأسود، والفرمانات البشعة التي أصدرتها فجعلت من البلاد مادة للسخرية والازدراء في العالم؟ هل هو الالتزام الديني المتشدد يا ترى؟ أم أنه الولاء للعرق البشتوني الذي ينتمي إليه معظم قادة الحركة؟
الاجابة لا تكمن في هذا ولا في ذاك، وانما تكمن في حالة الترهل والتفسخ التي هي عنوان النظام الذي جاء الى السلطة بمساعدة امريكية كبديل لسلطة طالبان. فنظام الرئيس حميد كرزاي لم يستطع تحقيق النذر اليسير مما كان يحلم به المواطن الافغاني البسيط. صحيح أنه أعتقه من جهنم طالبان، ومنحه الكثير من الحقوق والحريات الشخصية المسلوبة، لكن الصحيح أيضا أنه ساهم في نشر الفساد والافساد والرشوة والمحسوبية والتمييز الجهوي، والبطالة الأمر الذي جعل الكثيرين لقمة سائغة للطالبانيين المستعدين بتكفل معيشة من ينضم إليهم، خصوصا وأن الحديث يدور هنا حول مجتمع تسوده الأمية، وتلعب فيه الاساطير والخرافات دورا خطيرا في غسل الدمغة وتحديد الولاءات.
وهكذا فإن تكفل حركة طالبان بمعيشة الآلاف من الأفغان وعائلاتهم في بيئة فقيرة ومعزولة وخالية من الخدمات هو سر بقائها وديمومتها. والأموال التي تتطلبها هذه العملية مصدرها الإتاوات والضرائب القهرية إضافة ــ كما أسلفنا ــ إلى زراعة المخدرات، تحديدا الأفيون، التي تسيطر طالبان على 80 بالمائة من أراضيها عالميا بحسب إحصائيات الأمم المتحدة. وبطبيعة الحال فإن الأموال المستحصلة من الاتجار في هذه السموم طائلة وتفوق ما لدى الحكومة المركزية في كابول. ولا تكتفي الحركة بزراعة المخدرات في الأراضي التي تسيطر عليها، وإنما توفر لأعوانها من المواطنين الراغبين في الزراعة الحماية الأمنية وشبكات النقل والتهريب إلى الخارج والأيدي الزراعية العاملة وغيرها من الأمور.
ولأن للعملية علاقة بالصراع مع الدولة على النفوذ، واقتسام المصالح، والهيمنة على الولايات، وجمع الأموال القادرة على شراء الولاءات فإن حركات أفغانية أخرى غير طالبان إقتفت أثرها في زراعة المخدرات في مناطق سيطرتها أو قامت بممارسة أعمال التهريب عبر الحدود مع دول الجوار. فعلى سبيل المثال نجد أن الحزب الإسلامي الذي أسسه قلب الدين حكمتيار ينافس طالبان في زراعة المخدرات في شرق وجنوب شرق البلاد وتهريب المواد الغذائية والأحجار الكريمة، فيما تقوم شبكة الملا حقاني بأعمال تهريب وبيع الأسلحة.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة : أغسطس 2014
الايميل: Elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق