بصراحة مؤلمة.. عن الناصرة وغيرها/ نبيل عودة

رأيت من البداية مخاطر هدم الجسور بين الجبهة وعلي سلام. على المستوى الشخصي خياري كان دعم مرشح الجبهة رامز جرايسي وقائمة الجبهة. لي نظرتي الخاصة حول كل يتعلق بواقع الجبهة في الناصرة، وبالأخص الطريق التي قادت الى تفكك القوى التي اسستها في انطلاقتها لإحداث التغيير الكبير عام 1975. ايضا لي موقف من المصير الذي آلت اليه مؤسسات شعبنا الفلسطيني داخل اسرائيل... ويهمني بالأساس مصير الحزب الشيوعي.. ونقدي ليس عداء مهما كان حادا.
من ناحية اخرى ، رأيت مخاطر ترشيح رامز جرايسي مرة أخرى، رغم اقراري انه الأفضل ، وكتبت في مقالي الأول "الناصرة عشية انتخابات بلدية: يجب احداث نقلة نوعية" ما يلي:
"ان الحالة التي تواجهها جبهة الناصرة اليوم ليست سهلة. من حق المهندس رامز جرايسي ان يطلب اعفائه بعد ان قدم كل سنوات شبابه في العمل البلدي.
ارفض فكرة "لا يوجد بديل" وارفض فكرة اعادة ترشيحه من نفس المنطلق. (35) سنة من العمل البلدي للمهندس جرايسي تكفي ، وهي سنوات شهدت تحولات جذرية في مدينة الناصرة، كان رامز جرايسي بجدارة ومهنية كبيرة على راس كل المشاريع، بصفته قائما بأعمال رئيس البلدية (منذ عام 1978) او رئيسا للبلدية (انتخب رئيسا عام 1994). رغم كل الظروف المعقدة التي واجهها العمل البلدي، ان كان بمخصصات الأراضي او الميزانيات للتطوير والتعليم او غيرها من مشاريع البنى التحتية او من الدور السياسي لبلدية الناصرة، وهو دور مركزي في الخارطة السياسية للجماهير العربية في اسرائيل..
اعرف ان رامز هو خيار مقبول بدون نقاش، لكني احذر من التفكير السطحي الذي يذهب للحلول السهلة، والتي قد تنعكس سلبا على نتائج الانتخابات.
شعوري ان ضعف الجهاز السياسي للحزب الشيوعي يميل الى الحلول السهلة".)   انتهى الاقتباس)
لم اتوقع انتصار علي سلام  وبنفس الوقت لم يفاجئني ، هزيمة الحركة الاسلامية الساحقة فاجأتني أكثر، لكن ما فاجأني حقا ان انهيار مؤسسات الشعب الفلسطيني في اسرائيل أصبحت  واقعا نعيشه... واعني بالأساس تنظيمات المجتمع المدني  وعلى رأسها الأحزاب. 
هذا الانهيار ارتبط بارتفاع الجعجعة القومية، كلما كان يشتد الصراخ القومي، كنت ارى الانهيار أكثر ملموسا واكثر متجسما من مجرد تحليل سياسي فكري.
قضايا اجتماعية وتعليمية وتطويرية كثيرة واجهناها في ظل قيادات ورثت المناصب ولم ترث التجربة والقدرة على فهم واقعنا المتهاوي نحو ظواهر مدمرة، بنشوء وتعزز العائلية السياسية والطائفية السياسية. لدرجة ان القيادات العربية الحزبية بدأت تناور لكسب تأييد عائلي في انتخابات الكنيست دون تفكير بمخاطر خطواتها على واقع مجتمعنا المدني.
في الناصرة اختلفت الظاهرة، الطائفية السياسية تلقت ضربة قاضية. فوز علي سلام يشكل مرحلة جديدة ، قد تكون أكثر خطرا من الظواهر الطائفية او العائلية، تجمع قوى اقتصادية تفرض نهجها على السلطة المحلية، ولا تتردد في تجميع القوى الطائفية الى جانبها. رغم اني على ثقة ان تجربة علي سلام كقائم بالأعمال لرئيس البلدية أكسبته تجربة كبيرة وهامة.
حتى الآن لا يمكن ان احدد اتجاها لما قد تسفر عنه التطورات. لا اقول ذلك دفاعا عن جبهة الناصرة، او اقلالا من قدرات الرئيس المنتخب علي سلام. أنا اصلا كان دعمي لرامز جرايسي على المستوى الشخصي وليس بسبب انتمائه للجبهة الديمقراطية، او بسبب الحزب الشيوعي القائد المفترض للجبهات في الوسط العربي وفي الناصرة.
لم اتجاهل اطلاقا ان الحزب الشيوعي يعاني من أزمة قيادة ، أزمة فكر، ازمة تنظيم وأزمة اعلام قاتلة. ظهرت بكل قوتها في انتخابات السلطات المحلية العربية وخاصة انتخابات الناصرة.
انتصار علي سلام هو اعلان انتهاء مرحلة سياسية . هذه المرحلة تتميز بأزمة حزبية شاملة تزداد تفاقما وخطورة. ليس أزمة الحزب الشيوعي لوحده فقط، بل هي أزمة ستشمل عاجلا او آجلا جميع المؤسسات الحزبية العربية، ولا ارى اليوم ان هناك حزبا أفضل من الحزب الآخر من ناحية تنظيمه وفكره واعلامه وقياداته. 
بالنسبة للجبهة ومستقبلها ، آمل ان تكون نتائج هذه المنافسة ، دافعا لإعادة تقييم المسيرة الجبهوية  بكل تفاصيلها ، وليس تبرير فشلها في الوسط العربي قاطبة وليس في الناصرة فقط. 
ليس سرا اني خضت معركة اعلامية الى جانب الجبهة في الناصرة  للمرة الثالثة على التوالي، مشاعري تفوقت على عقلي لسبب واحد، هو قناعتي بشخص مرشح الرئاسة رامز جرايسي  وقدراته المهنية والادارية في مواصلة تطوير الناصرة.. كنت على قناعة ان الحزب الشيوعي ( والجبهة جزء  منه) يواجه أزمة عميقة، هي انعكاس اولا لأزمة اليسار العالمية، وثانيا هي انعكاس لأزمة قيادات، أزمة تنظيم وأزمة اعلام منغلق فاشل برز في صحيفة الحزب "الاتحاد" التي غابت عن معركة انتخابات الناصرة بغباء لا مثيل له في عالم الاعلام.
 كان من المستهجن ان تقاطع الاتحاد كتاباتي، التي لم تُكتب اي مادة اعلامية بمستواها أو أفضل منها او دون مستواها في تسويق الجبهة في الناصرة، الى جانب مواد ثقافية تحمل عنوان "يوميات نصراوي "  هي تأريخ بأسلوب قصصي لنضالات الشيوعيين واحداث تاريخية نضالية عايشتها عبر مرحلة تاريخية هامة من مسيرة شعبنا ، لم اكتبها لأني أخطب ود الحزب الشيوعي، بل لأنه تاريخي الشخصي  الذي كنت مشاركا في تخطيطه وانجازه ، او في مشاهدته وانطباعاتي عنه. جريدة الاتحاد أصبحت مجرد نشرة حزبية فقيرة في المضامين الاعلامية ومنغلقة. اقدم هذا النموذج للدلالة على الفكر الكهفي المنغلق للإعلام الحزبي الشيوعي الذي لم يكن بهذا المستوى المنخفض في السابق.
  رغم ذلك لم اتراجع عن دعمي للمهندس رامز جرايسي رغم اني توقفت عن كتابة المقالات المباشرة، قرفا من ضيق النشر الاعلامي لمعركة انتخابات  بلدية الناصرة، (كما يبدو بسبب الاعلانات الانتخابية)  واتجهت لكتابة القصة – الساتيرا عن الانتخابات عامة.
مع مثل هذه العقليات السياسية الضحلة  والاعلامية المنغلقة والمتزمتة بمنطق اصولية حزبية شبيه للأصولية الدينية ، انعكست سلبا على مستقبل التنظيم  على معاركه السياسية، وعلى نهجه السياسي وخاصة على معركة انتخابات بلدية الناصرة. ان من يتوهم ان هذه المسائل لا تؤثر على الجمهور يعيش في عالم وهمي يتشكل من مشاعره وليس من وعيه.  الموضوع القيادي ليس بزيادة الجعجعة القومية كلما زادت أزمتنا القومية والسياسية تفاقما. ما اراه ان القيادات السياسية تتحول الى الوجهاء الطائفيين والعائليين . التنظيم السياسي يعاني من شلل يعبر عن عجزه الفكري وقصوره في الاضطلاع بمهامه الوطنية والاجتماعية، الفكر الحزبي يعاني من تخبط، أزمة اليسار لم تبدأ بانهيار الاتحاد السوفييتي، بل قبل الانهيار بثلاثة عقود على الأقل.. ولم تفد الظواهر المقلقة، والكتابات المختلفة المحذرة من احداث صحوة في اوساط اليسار عامة  والعربي خاصة.  
كل قيادة عاقلة ومسؤولة حين ترى غلطا تعمل لإصلاحه، حين ترى تراجعا تدرس الأسباب لوقف التدهور، ثم للتقدم. هناك مليون سبب للتراجع، بعضها يبدو تافها، لكن لا شيء تافه، القيادة التي تركب راسها ولا تفحص ولا تتراجع رغم كل الظواهر المقلقة والنتائج السلبية في مسيرتها، ضمن ذلك خروج شخصيات قيادية ونشطاء بارزون من التنظيم، ليس عداء للفكر الماركسي في حالتنا، بل نتيجة تصرفات حمقاء مخالفة لكل قواعد التنظيم السليمة، بنهج صار من مخلفات الماضي في عالمنا لكنة مشرش في عقليات القيادة ولا تتصرف لإصلاح الوضع ، لأنها تظن ان العالم كله يغلط الا هي.. مصيرها ان تترك وراءها اطلالا ليس الا!!.
ظاهرة شباب التغيير في الناصرة ليست ظاهرة نصراوية الا بكونها كانت انسحابا جماعيا لمجموعة نشطاء مخلصين شكلوا تنظيمهم الخاص ونشطوا . هل اقلق انسحابهم قيادات الحزب الشيوعي؟ هل اقلق انسحابهم فرعهم في الناصرة؟ هل اقلق انسحابهم تنظيمهم الجبهوي؟ هل عالج احد من قادة الحزب هذا الموضوع لفهم العوامل التي تدفع برفاق اوفياء لفكرهم الشيوعي بأن ينسحبوا من حزبهم الشيوعي؟
قبل هذه الحادثة انشق رفاق قياديون آخرون. انشق رفاق نشطاء مركزيين سياسيا واعلاميا، من التفت اليهم؟ من حاول ان يفحص الأسباب الوجيهة وراء التفسخ المتواصل في صفوف التنظيم الحزبي؟ 
كل الناس على خطا الا قادة الحزب!! 
هل بالصدفة ان الحزب الشيوعي تحول الى قائمة انتخابية ؟
هل بالصدفة اذن ان القائمة الانتخابية لم تعد تعبر عن منهج فكري وضوابط فكرية وتنظيمية؟ هل بالصدفة ان ما يقارب (15) سلطة محلية وبلدية كانت تديرها الجبهة الديمقراطية ، خسرتها الجبهة تدريجيا؟! 
هل نحن مجتمع يتطور الى الخلف حسب ما يقول انجلز عن ان للتطور شكلان ، شكل الى اعلى وشكل الى ادنى؟!
من يقنعني ان التطور السلبي في مجتمعنا العربي هو مؤامرة صهيونية فقط؟ لا انفيها ، لكن أين دورنا ، ومتى توقفت المؤامرات على مجتمعنا وشعبنا ؟
هل الهزائم المتتالية في السلطات المحلية لا تحتاج الى فحص حقيقي؟
هل اجروا فحصا لمعرفة هزائمهم السابقة، قبل ان تصل  الهزيمة الى الناصرة ، جوهرة التاج  بالنسبة للحزب الشيوعي؟
لم تكن النخبة السياسية في شعبنا، في يوم من الأيام، هزيلة وعاجزة عن المبادرة وعن العمل كما هي اليوم، لا يعرفون غير اطلاق الشعارات "القومية" والأصح القومجية. وهم يعرفون ان هذه الشعارات لا تصرف في بنك الحياة اليومية، الشعب يعرف ان شعارات القيادات بلا رصيد.
ان الأقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل التي تعد حوالي مليون ونصف المليون ، لو انها اقلية موحدة، قياداتها واعية، عصرية، واقعية في طرح الشعارات، تعمل بمنهجية للتأثير على المجتمع اليهودي لخدمنا انفسنا، وخدمنا مجمل القضية الفلسطينية خدمة كبرى.
للأسف فان شعب مصاب بالإحباط  في ظل قيادات عاجزة ومفككة تتكلم ولا تعمل وهي في الحقيقة تقول: اسألك اللهم نفسي!!
اخطأ رامز جرايسي حين قبل ان يسد عجز الحزب الشيوعي وقصوره  بأن يترشح مرة أخرى، ويبقى رامز جرايسي الشخصية النصراوية التي قدمت للناصرة اهم الانجازات البلدية، وآمل ان لا يتنازل الرئيس الجديد علي سلام عن نهج جرايسي ، الذي يعتبر مدرسة في الادارة السليمة للمشاريع وللبلدية عامة، وان يُكرم بما يستحقه وبمستوى ما انجزه وان يبقى مرجعا للإدارة الجديدة في مسيرتها التي نتمنى لها النجاح ومواصلة مسيرة الانجازات .
nabiloudeh@gmail.com

CONVERSATION

0 comments: