الجميع يعرف العلاقة القوية بين شعب غزة والشعب المصري، ولا أحد ينكر احتضان مصر لأهل غزة فترة طويلة ومازالت.. وقد يكون الارتباط الغزي بالمصري أقوى من السياسة والمصلحة الاقتصادية وغيرهما.. فالعلاقة تاريخية علاقة القربى والجغرافيا والهوية، حتى أصبح عددا ليس بالقليل من الغزيين يحملون الجنسية المصرية ولولا توقف الإجراءات أو تعقيدها لكبر عدد الغزيين المصريين، وريما يصل إلى نصفهم أو أكثر حسب علاقة النسب والقربى.. غزة التي وقعت تحت حكم الإدارة المصرية منذ النكبة وحتى النكسة عشرين سنة رضع أبناؤها الثقافة المصرية وتشبثوا بقيادتها الناصرية أملا في توحيد العرب واسترجاع فلسطينهم المغتصبة، وأملا في رفع الحدود والقيود الجغرافية الاستعمارية بين الدول العربية.. لا أحد ينكر تلاحم الدم المصري والفلسطيني على أرض غزة وفلسطين، ولا أحد يخفي تعليم الكثير من أبناء غزة في الجامعات المصرية سنين طويلة، ولا أحد يشكك في وقوف الشعب المصري وحكومته بجانب القضية الفلسطينية رغم وجود بعض المعاملات والمنغصات اللا إنسانية، واللا منطقية التي تفرضها على الغزيين المغادرين والقادمين عبر منفذ رفح البري، المنفذ الوحيد لأهالي غزة المحاصرين إلى العالم الخارجي..
بعد النكسة قامت منظمة الصليب الأحمر الدولية بمتابعة قضايا أهالي غزة التي تتعلق بمصر فكانت تقوم بتنظيم السفر لطلبة غزة إلى الجامعات المصرية، وكذلك كانت تنقل أوراق امتحانات الثانوية العامة وملحقاتها.. وظل الأمر كذلك إلى أن وقعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل، وفي عام 1982 افتتح معبر رفح بين غزة ومصر حسب اتفاق تم بين مصر، وإسرائيل التي تسيطر على غزة، وفرضت إسرائيل المحتلة في حينها رسوما على المغادرين من غزة، كذلك فرضت مصر رسوما محدودة على الغزيين الداخلين لأراضيها.. ( مصر لأول مرة تتقاضى رسوما من العرب الزائرين لأراضيها وفقط ! من معبر رفح ) إلا إذا ما اعتبرنا أن الغزيين ليسو عربا !! ويحق لنا أن نتساءل إن كان ذلك فرض من قبل الإسرائيليين واستحلت ذلك مصر وبقيت حتى الآن، بل زادت تلك الرسوم وتضاعفت مرات عدة، فبعد أن كانت الرسوم لا تتجاوز الستة عشر جنيها للزائر الواحد، أصبحت الآن! اثنان وخمسون جنيها معرضة للزيادة.. واستحدثت فيما بعد رسوما إضافية للمغادرين لأراضيها عبر معبر رفح، أي العائدين إلى غزة وبلغت تلك الرسوم حاليا مائة وسبعة جنيهات للمسافر الواحد.. بذلك يصبح مجموع الرسوم المفروضة على الفلسطيني المغادر غزة والعائد إليها هي مائة وتسعة وخمسين جنيها.. والسؤال هو: لماذا يا مصر هذه الرسوم المفروضة على أهل غزة رغما عن كل العرب والأجانب الزائرين لمصر؟!
بعد حصار غزة وانعدام الدخل لمواطنيها، استبشرنا خيرا من الإخوة المصريين لوقوفهم بجانبنا، واعتقدنا أنها ستلغي الرسوم المفروضة على معبر رفح باعتبار أن تلك الرسوم فرضها الاحتلال الإسرائيلي، وباعتبار غالبية المسافرين هم من ذوي الدخل المحدود وجميعهم مسافرا للحاجة القصوى بسبب العلاج، والدراسة، أو لسبب آخر.. فكيف إذن تقديم يد العون والدعم للشعب المحاصر؟! شبعنا أقوالا كثيرة من رؤساء مصر وقادتها بأنهم لن يتركوا غزة تجوع..؟؟ نعم ! إنهم لم يتركوها بأن تجوع.. لكن ذلك يدفع ثمنه الغزيون غاليا وبأسعار باهظة.. وبثمن غال من الدم الغزي الذي دفن في الأنفاق التي يشارك بها المصريون من تجار الحروب في الجانب المصري والفلسطيني الذين أصبحوا يؤثرون في القرار السياسي والأمني في طرفي رفح، بل إن العائلات الفقيرة سحقت في غزة لأنهم لا يستطيعون شراء قوتهم غال التكلفة نتيجة تهريبها من الأنفاق.. أهذا ما رموا إليه قادة مصر ورؤسائها؟؟ أهذا هو الدعم الذي تقدمه مصر للشعب المحاصر؟!
في يوم الخميس الماضي وصلت معبر رفح عائدا من رحلة إلى الجزائر، قبل بوابة المعبر بأكثر من ثلاثمائة متر حيث حاجزا عسكريا يمنع السيارة التي تقلك من الوصول إلى بوابة المعير، فما عليك إلا أن تسير على أقدامك المتثاقلة بعد سفر طويل ونوم قليل.. فماذا لو كنت محملا بحقائب السفر؟؟ بعد لحظة يلتف حولك الصبية والرجال من مافيا العتالين، ليعرضوا عليك خدماتهم حتى ينقلوا لك الحقائب عليك دفع مبلغا يتجاوز الخمسين جنيها حسب شطارتك معهم.. هؤلاء العتالة يستخدمون عجلات المعبر لنقل الحقائب، ولا يمكن للمسافر أن يستخدم تلك العجلات وكل ذلك على مرأى ومسمع من الضباط والعساكر الذين يعملون في المعبر، وكأن الأمر يدار من قبلهم.. بعد دفع الخمسين جنيه تصل إلى بوابة المعبر، فإذ بها مغلقة.. يطول الانتظار.. العتال يلقي بالحقائب على البوابة.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، وما أن قاربت العاشرة حتى تجاوز عدد العائدين إلى غزة الثلاثمائة مسافر بينهم أطفالا ونساء وشيوخا مرضى وغيرهم.. جميعهم ينتظرون فتح البوابة ليعودوا إلى بيوتهم.. وفي كل دقيقة يزداد العدد، ويزداد نشاط المافيا.. يطول الانتظار يتزايد العدد وقوفا تحت الشمس، والبوابة مغلقة.. العساكر والضباط يتزايد عددهم، واستحضرت مدرعتين تمركزتا على بوابة المعبر، أحد المسافرين تجرأ بالسؤال عن سبب الإغلاق، فرد عليه الضابط بأن عددا من المعتمرين العائدين إلى غزة هم بالداخل وحالما تنتهي معاملاتهم سنفتح لكم البوابة.. بعد أن قاربت الساعة الواحدة بعد الزوال صارت هواجسي تدور حول كيفية حمل الحقائب والدخول من الباب الفردي الذي سأدخل منه وسط هذا الزحام الكبير دون تنظيم؟؟ مهمة صعبة لا يمكن تحقيقها دون التخلص من الحقائب.. الأمر معدود له مسبقا من ضباط المعبر بالتعاون مع مافيا العتالين.. بدأت المافيا بزيادة نشاطها.. حقائبك ستكون في الحافلة الأخيرة التي ستنقلك للجانب الفلسطيني بمائة جنيه.. لا مفر لك من الدفع، دفعت مائة جنيه أخرى وأرحت نفسي المتعبة من السفر وأخذت أتدبر لي ولزوجتي مكانا للدخول.. كان بيني وبين الباب أكثر من عشرين شخصا بينهم كانت امرأة تحمل طفلين أكبرهما لم يتجاوز عمره السنتين.. بدأ الضغط من الخلف يتزايد والباب الحديدي موصدا، والضباط المصريون من خلف البوابة يتلذذون وهم يشاهدون عذابات البشر! إنها سادية مفرطة .. لا أحد منهم لديه إحساس بالإنسانية.. كلما زاد الضغط تزداد القرابين المقدمة لهم عبر مافيا العتالين والمفسدين.. يستمر الضغط ويتزايد.. يفتح الباب ليدخل خمسة ويغلق يتم التدقيق في أوراق الخمسة، وتعاد الكرة.. العتالون يقومون برمي الحقائب من فوق البوابة يتلقفها آخرون من الداخل، وهكذا.. مشهد لا يمكن حدوثة في مكان آخر في العالم! فقط يحدث هنا.. على بوابة رفح المصرية!!
لا أعرف كيف دخلت من الباب، وكم من الوقت استغرق ذلك.. ولجت وزوجتي صالة المعبر التي اكتظت بالمغادرين إلى الجانب الفلسطيني.. سجلت البيانات المطلوبة في الورقة المخصصة للمغادرة وسلمتها مع جوازات سفرنا، رفض الضابط استلامها إلا بعد دمغها بطوابع المغادرة.. العسكري الذي يبيعك الطوابع كان يجلس في مؤخرة الصالة ويلتف حوله المسافرون.. وصلت إليه بصعوبة.. كان يتلقى تليفونات من رئيسه كي يسهل المهمة لبعض المسافرين الذين كانوا قد قدموا القرابين للرئيس... دفعت ثمن الطابعين وألصقتهما على الورقتان وسلمتهما مع جوازات السفر للضابط المختص.. بعد نصف ساعة من الانتظار نادى أحد الضباط على عشرة من المسافرين سلمهم جوازاتهم المختومة بالمغادرة، وغادروا.. بعد نصف ساعة نادى على عشرة آخرين.. ازدحمت الصالة بعدد آخر من المعتمرين العائدين إلى غزة.. دقائق معدودة وبدأ الضابط بالمناداة عليهم وتسليمهم الجوازات للمغادرة.. لا بد أن الشركة المنظمة لعمرة هؤلاء كانت قد دفعت من قبل للرئيس والضباط مبلغا مرضيا ليسهلوا مرور هؤلاء الحجاج بسرعة.. لا شك في أنهم نسوا ما أمر به الله ـ عز وجل ـ "الراشي والمرتشي في النار" أو أنهم حملوا ذلك في رقبة الشركة المنظمة..!! استمر الحال على ذلك المنوال حتى مغيب الشمس.. ضاق المسافرون ذرعا إلى أن بدأ توزيع الجوازات على جميع الباقين بعدما استنفذت القرابين من القادرين على الدفع، وهكذا انتهت المعاناة..
إذا كان المجتمع المصري مبني على الغش والبغشيش والتسلط على الضعفاء؛ فكيف لثورة أن تنجح ؟ وتغير نظاما وثقافة تغلغلت في معظم شرائح المجتمع المصري؟ أسقط النظام نعم! ويمكن إسقاط النظام التالي.. لكن كيف يمكن إسقاط ثقافة البغشيش التي يمكن أن تقهر البسطاء.. ويمكنها أن تبيع أمن مصر والمصريين..!؟
· ملاحظة: مصر لا تجبي أية رسوما من القادمين إليها أو المغادرين منها إلا من معبر رفح فقط ! وهذا يتطلب من الحكومة الفلسطينية التدخل ومساواتنا بالعرب والأجانب الزائرين لمصر.
· على وزارة الأوقاف في غزة أن تسقط التمييز الفظ للمعتمرين المغادرين غزة عن باق المسافرين بدلا من أن يتحملوا وزرا وإثما جراء تعذيب إخوتهم بحجة أنهم مسافرين إلى بيت الله الحرام.. خصوصا أن سفرهم لا يتجاوز نصف ساعة إلى مطار العريش، لكن المسافرون الآخرون يتجشمون عناء سفر طويل إلى القاهرة وما بعد القاهرة أحيانا..
0 comments:
إرسال تعليق