[قراءة في كتاب "فنارات في الثقافة العراقية" للباحث صباح محسن كاظم]
لا يختلف اثنان على حقيقة تغييب الثقافة العراقية وتغريبها في الأقل خلال المدة المحصورة بين عامي 1968 و2003 حيث كان التعامل مع الثقافة والمثقف انتقائيا مسيسا مؤدلجا محصورات في فضاءات محددة ومؤطرة بأطر حديدية قد تبدو ظاهرا وكأنها على مساس بالثقافة، ولكنها في الواقع بعيدة عنها بعد الأرض عن السماء. وكان النتاج الثقافي خاضعا لرغبات الحكام وأهواء السلطان ومقص الرقيب وأهواء القائد المهيب.
كانت الثقافة غير الثقافة الإنسانية المعروفة، والنتاج الثقافي كان يأتي خديجا ناقص الخلقة لكثرة المعاناة التي يقاسيها في رحلة عذاب إعداده، ابتداء من فكرة الكتاب وخطة كتابته مرورا بانتقاء الكلمات المجردة التي لا يجب أن تعطي انطباعا قابلا للتقول والتأويل والتفسير بأكثر من معنى خوفا من السيف المسلط على رقبة الكاتب ويده، وصولا إلى المراجع والمصادر وعائديتها العقدية ومكان طباعتها وتوجهات أصحابها وحتى المكتبة التي باعتها، وأخيرا لجان فحص النصوص التي تؤلف عادة من مجموعة من المخلصين حد النخاع للنظام، والذين كانوا يحملون بأيديهم سيوفا بتارة وليس مقص رقيب أو ممحاة تصحيح، وكانوا يهوون بسيفهم البتار المدعم بالحديد والنار لا على النص الذي لا يعجبهم وحده، بل وعلى رقبة الكاتب وعشيرته وجيرانه وأصدقائه وكل من مد له يد العون ولو بمجرد كلمة.
الثقافة، والكلمة، والكتاب كانت خطا احمر لا يجازف بالتقرب منه إلا من كان محميا بشعارات النظام، ويحمل قلما مجازا من الفرق الحزبية، وله قدرة خلق المصطلحات الإنبطاحية والتمجيدية الفسفورية التي تجيد تمجيد الحزب والطاغية وتعرف طرائق إضفاء الألقاب الأرضية والسماوية على الرموز الأسطورية، دون نظر إلى مخالفاتها الأخلاقية والشرعية، ودون النظر إلى تأثيراتها على المعنويات الوطنية والروح العراقية.
الثقافة، والكلمة، والكتاب، كانت ميدان تجارة غير حرة محفوفا بالمخاطر الجمة، من يعرف أسرار سوقه (البيضاء) هو التاجر الشاطر الذي ينجح في الترويج لبضاعته من على قناة تلفزيون الشباب أو جريدتي الثورة والجمهورية ومجلة ألف باء ويحصل قبالة ذلك على (عفيات) مشفوعة بالأعطيات والهدايا والسيارات ورفقة الحسناوات والجميلات والمتعة بالسفر والرحلات. ومن خفيت عليه الأسرار وأراد العمل في سوقه (السوداء) هو التاجر الفاشل الجريء المجنون المتهور الذي لا يخسر بضاعته وحدها وإنما يخسر كذلك شرفه ووطنيته وعراقيته وثقافته وقيمه ويتحول إلى مجرم خاضع إلى قانون التغييب في المقابر الجماعية، ويتحول أهله وعشيرته إلى خانة (ذوي المجرمين) المطلوب منهم إثبات ولائهم للحزب والثورة عن طريق توجيه اللعنات والكلمات البذيئة إلى أرواح المغيبين في كل مرة يستدعونهم فيها إلى الفرقة الحزبية في الجلسات الأسبوعية.
كانت الثقافة والتعامل معها يعني انك على استعداد لأن تمد يدك إلى كيس حاو يجيد جمع الأفاعي والعقارب بكل أنواعها وأنت مغمض العينين لا تدري عند أي أفعى سيكون مصيرك، ولذا كانت الثقافة مخاطرة لا تدانيها مخاطرة.
ثم بعد التغيير، لم يتنفس العراقيون أريج الحرية الفردية وحده وإنما تنفسوا عبير الانعتاق الفكري أيضا بالرغم من وجود المحتل، واستباحة الوطن، وتفشي الفوضى، وتوافد الثقافات الغريبة والهجينة والمدسوسة والمهووسة بكل أشكالها وأنواعها وغاياتها ومراميها ومقاصدها، ولذا وجد المثقف الصادق نفسه أمام خيارين أحلاهما مر علقم، فهو إما أن يرفع صوته عاليا متحديا تلك الثقافات وداعيا إلى ثقافة عراقية وطنية واحدة تحمل هم العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، ترتسم في فضاءاتها صور العراقيين كلهم، بكل ملامحهم وأزيائهم وعقائدهم وأديانهم وأعراقهم ومللهم ونحلهم وقومياتهم واثنياتهم وألوانهم وأحجامهم وتمنعهم وإحجامهم وقبولهم ورضاهم، أو يجلس في صومعته منتظرا معجزة تأتي من عالم الغيب لتصحيح العالم المغيب وتعديل الاعوجاج.
محصورا في نطاق هذين الخيارين وجد المثقف العراقي نفسه يقف مجبرا لا مخيرا أمام أصعب امتحان يمكن للمرء أن يخضع له، ولكنه كان على يقين بان خيار الاختيار بينهما متروكا له وحده، فاختارت قلة قليلة خيار الإحجام والانتظار، واختارت الأغلبية خيار التحدي لأنها أدركت عن يقين أن ثمة عون يأتي من السماء للعاملين المفضلين عرفا وشرعا على الجالسين درجة، ولأن الانتظار يسمح للثقافات الهجينة بالانتشار بين أطياف الأمة.
وكان من ثمرة هذا التحدي ولادة الثقافة العراقية الحديثة بثوبها القشيب المزركش بألوان الطيف العراقي، وألوان الثقافة العراقية الأصيلة الموروثة من بابل وأشور وأكد والزقورة وألواح الحرف الأول من القصب والبردي والطين، والقباب المذهبة والمآذن الصادحة بالتكبير، حيث الدراسات التخصصية والبحوث العلمية والتاريخية، والقصة، والرواية، والأقصوصة، والقصة القصيرة، والقصيدة بأنواعها المقفى والحر والنثر، والمسرح، والرسم، والترجمة، والتصوير الفوتغرافي، والسينما، والفن التشكيلي، والمقالة الصحفية، والدراسات النقدية، وباللغات العراقية: العربية والكردية والآشورية والكلدانية والأرمنية والفيلية والإيزيدية والصابئية.
تزاحم هذه الفضاءات مع بعضها ضمن الصراع الحياتي النزيه دفع بعض الباحثين المجدين إلى الركض خلفها وتجميع ما يقدرون على تجميعه منها ومن ثم كتابة (فنارات) عنها تعطيها بعدا جديدا من حيث طرائق التعامل مع المنتج الفكري بصيغ غير مألوفة من قبل، وتوثقها بشكل ببليوغرافي موسوعي، وتقدمها إلى الشعب كل الشعب ليعرف الإنسان المنهك ولاسيما من اهتزت أمامه صورة الواقع أن الحق والكلمة الصادقة والثقافة النزيهة الشريفة مهما حوربت، ومهما غيبت، ومهما تعرضت إلى العسف والجور والطغيان والكراهية لا تنهزم ولا تلين عريكتها، نعم ممكن أن تُحجم عن الحراك مؤقتا بسبب العسف والطغيان، ولكنها مثل طائر العنقاء تنهض من تحت رماد المصائب والكوارث وهي أكثر قوة واشد تصميما على تنمية الوعي المعرفي، لكي يرفع المثقف العراقي رأسه ويقول للعالم كله: أنا هنا، أنا لا زلت حيا، أن قادر على العطاء إلى الأبد، أنا الذي سيخلد نتاجه يوم تختفي كل النتاجات التي تتعارض مع الوعي الإنساني وسنن الحياة السوية والشرائع الإلهية.
الباحث صباح محسن كاظم حمل الفنار بيده وتجشم حمل شعلته الوهاجة في طريق الحقيقة وفي وضح النهار ليخرج (فنارات الثقافة العراقية) بعمل فيه الكثير من الإبداع والتألق، وهو جهد أقل ما يقال فيه أنه كبير على شخص واحد، ولكن من يعرف الباحث صباح محسن كاظم يدرك عن يقين كامل أنْ لا كبير ولا صعب يقف في طريقه ما دام الرجل مؤمنا أن الحقيقة يجب أن تُعرف وتُكشف، والناس يجب أن يدركوها ويعيشون أجواءها بعد طول تغييب.
جاء كتاب (فنارات في الثقافة العراقية) بـ 195 صفحة، وقامت دار تموز للطباعة والنشر في دمشق/ سوريا بطباعته بحلة قشيبة زاهية على ورق كريمي، وغلاف هاديء مفعم بالرمزية يحمل في خلفيته أسماء المبدعين العراقيين، وهو الكتاب الثاني ضمن سلسلة من الكتب في الموضوع نفسه.
مبارك للأخ الباحث المجد صباح محسن كاظم هذا الجهد الكبير.
0 comments:
إرسال تعليق