(الحلقة الخامسة)
هي بيت لحم ترافقني في هذا الصباح الرامي الجميل، تهمس بأذني وتنشد لي أجمل الإنشاد وتعزف لروحي شدو نايات وتعلق على صدري تميمة عشق، فكيف لعاشق كنعاني مثلي أن لا يذوب عشقاً بحورية كنعانية تفرد شعرها على التلال والسهول جدائل من قمح وسواسن وورود، وكيف لمثلي وقد طوقته أرواح الأجداد وحوريات كنعان في الخيمة البدوية في مركز التراث الشعبي وإبداعات مها السقا في مركزها الجميل أن لا ينشد قصائد عشق للزمان والمكان وحكايات الأجداد والتراث.
حين غادرت مركز التراث الشعبي برفقة صديقي خالد الصيفي، والذي وجه لي الدعوة لزيارة بيت لحم من خلال مؤسسة إبداع ، كنت أشعر أني تركت بعضاً من قلبي في المركز، وساءلت نفسي: لقد زار المركز الكثير من المسئولين وأصحاب القرار، فقد سمعت عن زيارتاهم ورأيت صورهم، فماذا فعلوا بعد تلك الزيارات؟ هو سؤال يجول الروح حين أرى أن تلك الزيارات للعديد من الأمكنة لا تتجاوز حدود التغطيات الإعلامية المرتبة مسبقاً، وبعد ذلك يتبخر الكلام الجميل في الهواء، فجهد هائل مثل الذي رأيته في مركز التراث الشعبي، يهدف لإبراز الهوية والوجود والجذور الفلسـطينية الممتدة لآلاف السنين منذ زمن أجدادنا الكنعانيين، ويهدف كذلك إلى توفير فرص عمل لعدد من النساء الفلسطينيات من خلال ممارسة أعمال التطريز الذي يشكل عنصراً مميزاً في تراثنا الفلسطيني، ويهدف المركز الذي أقام العديد من المعارض في دول متعددة حول العالم وداخل الوطن، لإيجاد وعي تراثي وثقافي للأجيال الصاعدة؛ ويساهم إضافة إلى ذلك في المحاضرات وورش العمل والحلقات الدراسية حول موضوع التراث الفلسطيني والأزياء التقليدية. والجهود التي تبذلها السيدة مها السقا يجب أن يكون لها اهتمام من نوع خاص، فهذا التراث العظيم الذي تحرسه يجب أن يوثق، ويجب أن يكون مادة اهتمام بالمدارس والمؤسسات، وأن لا يقتصر على جهد فردي بغض النظر عن دور الجهود الفردية، فالمركز منذ تأسيسه في العام 1991 شارك في فعاليات لا تحصى في الوطن وخارجه لإبراز هذا التراث والتاريخ، بهدف إحياء وتوثيق ونشر التراث الفلسطيني والتعريف به، ونال الاهتمام والتكريم على مستوى عالمي، بينما لم يجد الاهتمام الكافي في الوطن، فهل يجب أن تبقى مقولة "لا كرامة لنبي في وطنه" هي التي تحكم مسيرتنا؟
من المركز كنا نتجه إلى بلدة الولجة، ومررنا بالطريق من بلدة بيت جالا وشدتني مبانيها التراثية بقوة، وجلنا بلدة الخضر أيضاً، وكوْن الوقت لا يسعفنا، فقد تقرر ترتيب زيارة أخرى لكل من بيت ساحور وبيت جالا والخضر وبعض الأديرة الأخرى، التي لم نتمكن من دخولها بسبب تضارب وقتنا مع أوقات الزيارة أو بسبب ضيق الوقت، فأكملنا المسير نحو الولجة، وهذه البلدة ترتبط في ذاكرتي منذ الطفولة بذكريات بعضها مؤلم، فقد استشهد أحد أبنائها أمامي قبل ما يزيد عن أربعين عاماً، وكانت تربطني به وبشقيقه علاقة طيبة، إضافة إلى العم (أبو جبران) الجار الطيب وزوجته رحمهما الله، وكنت وما زلت أكنّ لأسرته كل احترام، لأفاجأ حين وصولنا الولجة أن صديقي خالد الصيفي من الولجة أيضاً.
الولجة عرفت عبر التاريخ كمدخل من مداخل القدس، واستمدت اسمها من هذا الموقع، فهي نقطة الولوج للقدس وتبعد عنها ما لا يزيد عن عشرة كيلومترات في نقطة متوسطة بين قرى بتير وجورة الشمعة، وكانت تصنف تاريخياً من قراها وبلداتها، وفي عام النكبة 1948 استولى العدو الغاصب على البلدة من غرب سكة الحديد ودمرها بالكامل وطرد سكانها، وأقام مكانها لاحقاً بلدة (موشاف) "عمينداف"، فانتقل قسم كبير من سكانها إلى التلال في امتداد أراضي الولجة وأنشأوا الولجة الجديدة، وأصبحوا لاجئين في أرضهم، وقسم آخر أصبحوا من سكان المخيمات التي ضمت اللاجئين والمشردين من وطنهم وأراضيهم، ولكنهم ترنوا عيونهم كل يوم إلى الغرب، يتنشقون عبق الأرض وتراث الأجداد الذي دمر بالكامل، وأقيم مكانه نبت غريب لا يمكن أن يبقى أبداً، فالأرض الخصبة والحرة لا تقبل نبت غريب عن تاريخها وتراثها.
الولجة بعد احتلال فلسطين بالكامل إثر هزيمة 1967 تعرضت لعمليات استيلاء على قسم كبير مما تبقى من أراضيها، فقد تم ضم حوالي ثلث أراضي القرية الجديدة إلى منطقة نفوذ بلدية القدس، فيما بقيت باقي الأراضي في منطقة الضفة الغربية، وقام الاحتلال بمصادرة نصف الأراضي الخاصة بالقرية لصالح إقامة حي (جيلو) وتم وضع اليد عليها بأوامر مصادرة عسكرية لصالح إقامة مستوطنة (هار جيلو)، ويجري الآن بناء جدار الاستيلاء ليستولي على قسم كبير من أراضيها بحيث يحيلها إلى مكان سكني بدون مصدر رزق ويستولي على ما تبقى من عيون الماء.
الوصول إلى الولجة شرق السكة ولما تبقى ما آثارها مسألة محفوفة بالمخاطر، وكنت حريصاً أن أصل إلى عين الماء المعروفة بإسم (عين الحنية)، فقد كنت قد قرأت عنها ورأيت لها صوراً شدتني، فالوصول إلى هناك يتم عبر طريق تسلكه دوريات الاحتلال وقوافل سفلة المستوطنين، والمستوطنون يترددون على هذه العين كثيراً وخصوصاً أيام السبت في محاولة لتزوير التاريخ ومنحها صفة يهودية مقدسة. زيارتي كانت يوم سبت، ومع هذا لم أبال لا بالمستوطنين ولا بدوريات الاحتلال، وكان همنا أن نصل إلى عين الماء، وأن أغسل وجهي من مائها العذب وأشرب منه.
وصلنا النقطة المنشودة، ووضعنا السيارة بين الأشجار، وتسلقنا الصخور من تحت شجرة عملاقة للوصول إلى عين الماء، وقد ذهلت حين وصلتها ووجدت نفسي أمام بوابة لعين الماء، مبنية بالصخور المنحوتة بنقوش بديعة فوق المغارة التي تشكل قاعدة النبع التي تصل إليها المياه عبر سراديب طويلة، فوجدت جمالية فنية متميزة، أقواساً وأعمدة وصخوراً تشير طبيعتها إلى أنها في فترة الرومان، وقناة تسحب الماء إلى بركة واسعة محفورة في الصخر كانت تستخدم لري المزروعات وسقاية المواشي، ولكنها الآن تعاني من الشح بعد هجرة أصحاب الأرض قسراً، وتحت بوابة القوس فوق المغارة؛ هناك أنبوب تنسكب منه المياه نقية باردة، وكان هذا في السابق شلالاً من الماء قبل أن يعمل الاحتلال على سحب المياه لصالح المستوطنات، فعين الحنية كانت حولها استراحة كبيرة للقوافل المارة، وما زالت أثارها موجودة على شكل أقواس البناء التي تهدمت وغطتها الأتربة والحجارة، ومن هناك اتجهنا بسرعة إلى بقايا بيوت وبيت جد خالد الصيفي في المنطقة قرب عين الماء، وهي تحمل نفس النمط التراثي للبناء الفلسطيني؛ أقواساً وجدراناً سميكة تجلب البرودة في الصيف والدفء في الشتاء، وحجارة كبيرة نحتتها وقصتها من محاجر الجبال السواعد الشابة، وهذا هو نمط بيوت (العقد) الفلسطينية التي توارثناها عن الأجداد وأتى المحتل ليسرقها ويدعي أنها له.
أنهينا الجولة بسرعة وغادرنا المنطقة متجهين إلى الولجة الجديدة، فقد كنت حريصاً أن أزور شجرة الزيتون التاريخية، والتي قُدّر عمرها من خبراء من جنسيات مختلفة بين 3500 سنة و5500 سنة، والتي سيكون لها حديث خاص في الحلقة السادسة القادمة من شدو بيت لحم التاريخ والتراث والحضارة وكنعان وأحفاده وحفيداته.
صباحك أجمل يا وطن.. صباحك أجمل يا رام الله، أهمس للياسمينات وأنا أجول دروب رام الله، أنظر إلى حجم التغيرات فيها، وأعد نفسي لجولة كتابة وبوح عنها، وأعود إلى صومعتي كي أعد نفسي لبدء نهار عمل آخر، فأقف إلى نافذتي أحتسي القهوة ولا يكف طيفي البعيد القريب عن مشاكستي بهمسات روحه، وأذكر زيارتي لبيت لحم وتجوالي في الولجة التي مر منها خالد بن الوليد باتجاه القدس، وأستمع لشدو فيروز تشدو وأشعر بها تخاطب الولجة وكل بقاع الوطن: (بيضل فيها اتنين، عيون حلوه وايد يعمروا من جديد، ضيعتي الخضرا ع مد العين، وزغيره ومشيره ع الغيم بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمرقوا عليها رياح وضيم وبتضلها تلاقي نواطيرها، سلال الزراعين تلال الوعر علالي الشيح ضيعتنا، غناني الحطابين صخور السمر أحراش الريح ضيعتنا)..
فأهمس: عائد إليك يا بيت لحم من جديد إن شاء الله أن أعود، سأجولك مرة أخرى وأستمع لبوح روحك وحكايات الأجداد مرة أخرى، فحتى ألتقيك من جديد، ليكن صباحك وصباحكم وصباح الوطن أجمل.
0 comments:
إرسال تعليق