حوار مع الأديب صبري يوسف أجراه د. ليساندرو ـ2

القسم الثاني من الحوار
صبري يوسف

أحييك يا صديقي!
تفضّل يا عزيزي ليساندرو، اِقرأ بعضاً من وجهات نظري المتجسدة في فضاءات نصوصي! يبدو أنك تسرَّعت قليلاً في الحكم على وجهات نظري وأفكاري!
أنا لست سياسياً يا صديقي، أنا إنسان ذو شعور إنساني كوني لهذا أعشق الشعر.
كنتُ قد نشرتُ في وقتِ سابق بعض الرؤى ووجهات النظر، في موقع إيلاف، كانت تصبُّ في رحاب هذه الجوانب آمل أن تكون قد قرأت تلكَ الرؤى.

د. ليساندرو

اكرم أباك وأمَك
لا يفوت القارئ أن يلاحظ في أدبك تعلُّقك الشَّديد بذكرى والديك - رحمهما الله- الى درجة تدعو الى التساؤل إذ أنَّ الأذن ما ألِفَت أن تسمع مثل هذا البثّ الرقيق في الأبوين يصدر إلا عن المرأة الكاتبة - غالباً- لا الكاتب الرجل ولا ننسى هنا أنَّ كثيراً من الرجال رغم حبِّهم لآبائهم تمنَّعوا من اظهار عاطفتهم المشبوبة نحوهم بل أن بعضهم وقف ازاءهم موقف المتوجِّس لا يخفى على أحد موقف المعري من والده اذ عدّه جانياً عليه وموقف غيره في الأدب العالمي حين نظر الى نفسه فوجدها تصطخب بالعيوب فألقى باللائمة عليهم... ..... .... .... ..... ........ .......؟

أَتغلِّفُ وجدانك وصايا الله العشر وعلى رأسها - اكرم أباك وأمَّك ليطول عمرك -
أَتنطوي على خُلُق - ردّ الجميل- لأنَّهما كانا بك - أنت آخر العنقود- حفيين رائمين
أم أنّك كاتب ذو رسالة تقتضي – وجوب - أن تشتمل على هذا المضمون لتكتمل عناصرها حسب الخطة المرسومة لها؟
غفر الله لهما وانزلهما مقاماً خالداً في أحضان أبينا ابراهيم

صبري يوسف
لدكتور العزيز ليساندرو
لا أعلم فيما إذا قرأتَ المدخل الذي أشرت إليه في سياق تعقيبي السابق، والذي نشرته كمقدمة لنصّ مفتوح، أشتغل عليه منذ سنوات!
عموماً، سواء قرأته أو لم تقرأه، فليس هنا بيت القصيد، وإنما بيت القصيد يكمن في مسألة إطلاق أحكام وتقييمات على شخصية ما، أدبية كانت أم فنّية الخ ..
من الواضح جدّاً أنّكَ تملكُ من العمق في الرؤية والقراءة والفهم والعلوم الشيء الكثير، لكنّي أراكَ يا عزيزي أحياناً تطلق أحكاماً وإنطباعات وتساؤلات لا تمتُّ لجوهر النصّ أو الفكرة أو المنحى الذي ممكن أن يناقشه المرء! فتتطرّق إلى خصوصية حياة المرء، من منظور غير عملي وغير منطقي أيضاً، أو بتعبيرٍ أدقّ من منظور غير دقيق!
من قال لكَ أنّ المرأة فقط تتحدّث عن الأبوين بهذه الروح العاطفية والمحبة الودودة العميقة؟!
إن الرجل يمتلكُ محبة وحناناً ورومانسية ربّما يفوق المرأة وهو رجل وذكوري في رجولته وحنانه ورومانسيته؟!
لا أكتب رسالة ولا يوجد عندي خطّة محدَّدة أثناء كتابة نصوصي، تولد نصوصي من رحم الحياة، وهي ومضات مستنبتة من وهج الحياة ووهج اللحظة الإبداعية! الحياة بكل ألوانها موضوع رسالتي لكني لا أخطِّط لمواضيعي، أعيش اللحظة ـ الحدث/ الحالة ثم أكتب عنها، وأحياناً أكتب من وحي الخيال أيضاً فالكثير من الشعر والنصوص عن العراق كتبته من وحي تخيلي عن العراق والدَّمار الذي آل إليه والكاتب يجب أن يكون لديه موقف في الحياة ممَّا يراه ويسمعه .
لا أكتب من منظور ديني، (أكرم أباك وأمكَ كي يطول عمركَ على الأرض)، لكن هذه الرُّؤية مناسبة لخصوصيّتي ورؤيتي في الحياة والكثير من فلسفات الحياة مستمدّة من الأديان، لكن رؤاي غير مستمدّة من نوازع دينية، هي مستمدّة من منحى إنساني ومن الطَّبيعي أن تتواءم بعض أفكاري مع عوالم الأديان لأن الأديان لها منزع إنساني أيضاً، أكتب ما أشعر بضرورة كتابته، فأحياناً تتطابق رؤاي مع هذه الرُّؤية أو تلك وأحياناً تختلف! لا أفكر بالجانب السياسي والديني والإجتماعي والتقاليد والمعايير لحظة كتابة النصّ، بقدر ما أفكِّر بما ينتابني من مشاعر إزاء موقف أو حالة ما، فأكتب مشاعري بكل عفويّتي وفطرتي بعيداً عن إيديولوجيات هذا الزَّمان، إيديولوجيَّتي هي تحقيق العدالة والحريّة والديمقراطية للإنسان، لاشكَّ أنَّ رؤيتي تصبُّ بطريقة أو بأخرى مع الكثير من الرُّؤى السياسية لكنَّها ليست نابعة من منظور إيديولوجي معيّن، ولا تعجبني إطلاقا إيديولوجيات هذا الزَّمان فهي نافرة ومتخشِّبة وتدمي خدود الإنسان، دموية، مركَّزة على الاقتصاد والمصالح البغيضة، لماذا أغفلت الكثير من سياسات هذا الزَّمان عدالة الإنسان ومحبَّة الإنسان لأخيه الإنسان؟!
أنادي وأدعو إلى تأسيس أشبه ما يكون بحزب الإنسان، المرتكز على معايير وقيم إنسانية عميقة كالتواصل، الحوار، الرأي والرأي الآخر، التفاعل، التطوّر، العدالة، الحرية، الطبيعة، استغلال الموارد الطبيعية لصالح المجتمع البشري، واستغلال طاقات البشر لخدمة البشر، ومسح خلافات البشر السياسية والدينية والاجتماعية والتقاليدية، ومحاولة تقريب وجهات نظر المجتمع البشري لبعضه بعضاً ... الخ.
أدعو إلى تجاوز عقدة التفوُّق، عقدة الأبيض، الأسود، الدين، السياسية، الغنى، الفقر، الشرق، الغرب، .... وضرورة الوقوف عند مشاكل الكون، مثل التفجُّر السكاني، البطالة، الصحَّة، البيئة، الطفولة، القحط، وضرورة بناء طفل يناسب أبجديات حضارة العصر بعيداً عن تعقيدات وسخافات التناقضات التي تزرعها إيديولوجيات هذا الزمن الأرعن! من جهتي أرى زمننا أرعناً وفاشلاً وخائباً، أكثر من نصف المجتمع البشري يعاني من الفقر، لماذا لا تضع الدول المتقدِّمة والناهضة صناعياً وتكنولوجياً مخطَّطات لمعالجة مشكلة الفقر في العالم، أليس عاراً أن نرى الإنسان الفقير يموت من الفقر، من القحط في الكثير من دول العالم؟!
نسى سياسيو هذا العالم أن إنتشار الفقر يؤدّي إلى تدهور المجتمع البشري بطريقة غير مباشرة، وأحمّل الدول العظمى والغنية وأغنياء هذا العالم مسؤولية آلام وأحزان ومشاكل وهموم فقراء هذا العالم، ويجب تأسيس منظَّمات وأحزاب وهيئات دولية عالميّة لمعالجة هذه المشاكل التي تدمِّر حياة الكائن الحيّ في الكثير من أركانِ المعمورة!

د. ليساندرو
خطأ في الفهم أم ضجر من الحوار؟
من المؤسف انني لم أتلقَّ إجابة شافية منك عن سؤالي السابق.
لابأس سأعود من جديد الى أعمالك فلعلي أوفَّق في العثور عليها بجهدي الخاصّ.
أنا حزين لأنّك اتَّهمتني بإصدار أحكام وتقويمات غير لائقة - الحكم الوحيد الذي أصدرته كان حكمي لك بأنّك شاعر ملهم وما خلا هذا كان محض تساؤل وسؤال- وقمت بحذف عبارات كنت اعتبرها مهمة في فهم شخصيتك الأدبية وهي عبارات لو أمعنت فيها لوجدتها بريئة من كل ما يخدش كرامة الرجل وتتفق تماماً مع موقفك من المرأة فأنت في شعرك تمجدها وتقدِّس أنوثتها وهي - أعني الانوثة - لم ترد في شعرك قط صفة لمعنى مستكره أو ذميم فكيف تأنف الآن من أن تكون الانوثة فيّ وفيك وفي سائر الرجال ما دامت مقدَّسة أم ترى أنها مقدَّسة ما دامت في المرأة فإذا خرجت منها الى الرجل صارت ذميمة؟!
لله در شاعر عربي محدث أعلن بملء صوته عن حاجة الرِّجال العرب الى الأنوثة وما أحسبه إلا أنسي الحاج وأنا مثله لا أخجل من أنوثتي.
وفي علم النَّفس أنَّ شخصية الرجل وكذا المرأة تتكوَّن من عنصرين متآلفين لا متنافرين هما عنصرا الذكورة والأنوثة، أم هل ضجرت من الحوار - اشارة استفهام -
ليتك تصبر على - ثقل دمي- فما يزال في جعبتي ثلاثة أسئلة لن أجرؤ على طرحها قبل أن ينفثئ عني غضبك، فليتسع لي صدرك وليشملني حلمك.
............................
صبري يوسف
لا، لم أضجر من الحوار إطلاقاً، بالعكس فأنا من هواة الحوار، حتّى أنّني كتبت نصّاً طويلاً وما أزال اشتغل عليه، تحت عنوان: الحوار! وحالما أضع اللمسات الأخيرة عليه، سأنشره في المواقع التي أكتب فيها!
على الأرجح كان قصدكَ بريئاً، لكن سياق السؤال جاء في غير السياق المناسب، خاصة عندما أجريتَ مقارنة ما بين الأنوثة والرجولة، مشيراً إلى طغيان الأنوثة على الذكورة أو الرجولة! ويبدو أن قصدكَ حول موضوع الأنوثة كان من مفهوم الطراوة والليونة وما شابه ذلكَ، لكن الذي يقرأ السؤال يُخيَّل إليه وكأنّكَ تركّز على الأنوثة وطغيانها وكأن المشار إليه، ضعيف في جوانب الرجولة!
عموماً أهلاً بكَ وبأسئلتكَ يا صديقي، وصدري يتسّع للكثير من التساؤلات، لكن عندما تصيغ سؤالك وتساؤلاتكَ لا تتركها تتأرجح بين تأويلات معيّنة غير التي تقصدها! حدّدها بدقة مباشرة!

د. ليساندرو
رسالة الأدب
قلتَ:
"- لا أكتب رسالة ولا يوجد عندي خطّة محدّدة تولد نصوصي من رحم الحياة- " ..
هذا لانَّك شاعر حقيقي ولستَ فيلسوفاً - بالمعنى الأكاديمي- أو عالماً مولعاً بالتنسيق والتخطيط والترتيب المنطقي الصارم للمواد التي يقوم بدراستها وعرضها.
ولكنك مع ذلك شاعر يحمل رسالة - رسالة لا تجري بالطبع على مناهج الفلاسفة والعلماء- وقد صغتها في عبارة وجيزة قائلاً - ايديولوجيتي هي تحقيق العدالة، الحرية والديمقراطية للانسان.
وذكرتَ أكثر الموضوعات إثارة وحساسية في الوقت الراهن وهي- التفجُّر السكاني، البطالة، الصحة، البيئة والطفولة - وجلّها يتَّصل بالإنسان من جهة ما يحصل له منها من خير أو شرّ.
فالإنسان إذن هو المعيار، الهدف وجوهر الرسالة عندك وخيره هو القيمة المثلى فيها.
حسن ولكن الإنسان مفطور على الشرِّ حتى ليمكن القول انّه وراء كل ما يحدث من خلل في هذا الكون فكيف لنا بعد هذا أن نحمل قلوبنا على الرأفة به كيف لنا أن نسخر أوتارنا في تمجيده؟
وكيف لنا أن نشقي عقلنا من أجله؟
هل ترى كما يرى المصلحون من أصحاب الرسالات أن الناس فئتان فئة ضالّة شرّها لا ينتهي وفئة مستنيرة خيرها لا ينقض حق، على الأولى لوم وقصاص وعلى الثانية شكر وثواب.
أم ترى الإنسان وجوداً غير قابل للتقسيم بجوهر واحد مكون من ثنائية الخير والشر، فأنا وأنت وهذا وذاك أشرار حينا وأخيار حيناً آخر.
ولكن لما كانت مهمّة الشَّاعر هنا أن يستأصل الشرّ من نفس الإنسان - بوسائله المعروفة - ويثبت الخير فيها ولها واجهته معضلة حقيقية، فهو إنْ أفلح في مهمته - أي في اقتلاع الشرِّ- أضرًَّ بالوحدة القائمة بين الخير والشرّ فأمسى الخير بلا شرّ قيمة فارغة من المعنى كما هو الحال في جميع الأضداد فالأبيض لا يعرف إن فُنِيَ السواد ولا تُقاس الحرارة إلا بوجود البرودة فكيف الحلّ، ومن جهة أخرى فلإنَّ الخير والشرّ من القيم - النسبية- فما نسعى إليه من خير لزيد قد يكون فيه شرّ لعمرو خذ الديمقراطية مثلا - وهي قيمة من قيم الخير وعنصر بارز في ايديولوجيتك- فسترى فئة من الناس غير قليلة تكفر بها و تعتبرها بلاء عظيماً، وإن أنت نشرتَ العدالة في أمَّة ذهبت بمصالح طبقات كثيرة فيها كانت تقتات ممَّا كان يسودها من جور وظلم وفساد.
ولهذا نرى بعض الناس ينظر بعين الريبة الى رسالة الأدب بمنظورها الانساني الشمولي- التي نتلمس بوادرها في أدبك أيضا- ويجدها لاتسير دائماً في درب ممهِّدة خالية من- المطبّات - كما يجدها لا يمتدُّ صداها عميقاً في النفوس ويزعم أنَّ كلّ الرسالات الأدبية التي نحَت هذا النحو وكلّ الأدباء الذين نالوا جائزة نوبل للسلام لم تنجح أو لم ينجحوا في كبح الحروب المدمِّرة ويزعم أنّها عجزت أو عجزوا في نهاية المطاف عن اصلاح الإنسان.
فهل ستواصل أيها الصَّديق سيرك في هذا الاتجاه؟!
.............
صبري يوسف
الكتابة تحرق الشرور العالقة بين أجنحتي،
أسئلتكَ يا صديقي غنيّة ومفيدة وهامّة للغاية، وتصلح أن تُطرح في ندوات مفتوحة على مرأى من الجمهور ضمن حلقة من المتخصِّصين في المجالات الرحبة التي طرحتها، حيث تتضمّن منحى دينياً فلسفياً إجتماعياًَ جمالياً أخلاقياً فنّياً أدبياً حضارياً سياسياً ... وتصبُّ في فضاءات مفتوحة، وهي تشبه نصوصي المفتوحة من حيث رحابة الفضاءات التي تحلّق فيها، ولا يمكن الإجابة عنها بسهولة بشكل شامل عبر هكذا حوارات عاجلة!
لا أخفي عليك أن هكذا هواجس وهكذا أنواع من الأسئلة وعشرات الأسئلة المتشابهة والمتعانقة في عوالمها كانت وما تزال تنتابني وأنا نفسي أتوقّف عندها مليّاً للإجابة عنها لكنّي أجد نفسي عاجزاً عن الردّ على أسئلتي لكنّي لا أقف مكتوف الأيدي فأجيب عما أستطيع الإجابة عنها وأترك ما لا أستطيع الإجابة عنها للزمن للحياة للأيام القادمات!
ليس كل ما جاء في أسئلتكَ صحيحاً أو دقيقاً، فلا أوافق على تساؤلكَ الذي تقول فيه، الإنسان مفطور على الشرِّ، لا يا صديقي الإنسان ليس مفطوراً على الشرِّ، وهناك الكثير من الفلاسفة يعتبر الإنسان أشبه ما يكون بصفحة بيضاء عندما يأتي للحياة! والطفل أيّ طفل على وجه الدنيا هو بريء بالفطرة كونه طفلاً، صحيح أن الطفل من الممكن أن يرث عن والديه وأجداده جينات شرّيرة وما شابه ذلكَ لكن هذه الجينات الشريرة لم تأتِ عبر الوراثة بشكل محض لأنها ربما تشكلت من خلال الاكتساب، اكتساب الوالدين والأجداد وأصبحت متوغِّلة في كيان شخصية حاملها وعموماً مسألة الشرّ والخير لا يمكن البتّ فيها على أنها وراثيّة، فليس من المعقول أن يولد الإنسان خيّراً خالصاً ولا شريراً خالصاً فهذه المسألة نسبية، ودرجة نسبيتها ممكن أن تطغى أو تتنحّى بمنحى الخير أو الشر تبعاً لعوامل وظروف البيئة التي يترعرع فيها المرء!
أود أن أشير إلى نقطة هامة في سياق الحديث عن الخير والشرِّ، إن ما هو أعمق من الخير والشرّ هو هذا الجانب الروحي أو النزوع الروحي الشفّاف الذي يصبُّ في جانب السموّ والارتقاء نحو فعل الخير وفعل العدالة والفضيلة والصواب الخ من أفعال النبل والخير والروحانيات، والجانب الآخر، النزوع المادّي، بما فيها مادّيات الحياة الاقتصادية والجسدية ومتفرعاتها التي تصبُّ غالبا بخانات الطمع والجشاعة والشرّ والحرب والدمار، الانحراف عن مسارات الخير...!
فمن جهتى أرى أنه لا يوجد إنسان مفطور على الروحانية بشكل محض ولا على النزوع الجسدي المادّي المحض، فهو يتألف من روح وجسد ونزوعه يتأرجح بين هذين المنزعين، لهذا فمن السهل على الكائن الحيّ تطبيق النزوع الثاني الذي غالباً ما يصبُّ في دنيا الطمع والشرّ والفساد، لماذا؟ لأنَّ القيام بفعل الشرّ أسهل على الإنسان من القيام بفعل الخير، وطرق الحصول بشكلٍ شرير على أهداف مادّية أسهل مما لو يحصل عليها الإنسان بشكل خيّر وعادل وقانوني، من هذا المنظور فأنا أطالب الكائن الحيّ، الإنسان، أن يتوازن مع إنسانيته بتحقيق حاجات الجسد ومتطلَّبات الحياة ضمن إطار إنساني خيّر راقي أخلاقي عادل غير جشع، وغير استغلالي وغير منافق وغير شرِّير، ورسالتي في الحياة غالباً ما تصبُّ في تحقيق هذه المعادلة لكن تحقيقها صعب وشبه مستحيل لكن يستحسن أن نتوجّه نحو تحقيقها وأن لا نيأس، وأنا أرى بأنَّ صعوبة تحقيقها يعود لعدَّة أسباب منها غباء المجتمع ونظام المجتمع البشري والتركيز على مادّيات الحياة وعدم التركيز على أخلاقيات الإنسان، لهذا تراني أشدِّد كثيراً على ضرورة بناء طفل مسالم خيّر مشبّع بقيم الخير ومعايير فعل الخير والمحبة والعدالة منذ ولادته، فلا يمكن لطفل يترعرع في بيئة فاسدة إلا أن يصبح في مستقبل الأيام حاكماً فاسداً وإستغلالياً وغير عادل، وهذا الأمر يتفاوت من طفل إلى آخر بحسب نسبة الشرور واللاعدالة التي تلقلاها في مرحلة تكوينه في سنواته الأولى واللاحقة أيضاً! ولو جئنا وألقينا نظرة على أنظمة وحكام وقياديي هذا العالم في الوقت الراهن وفي مراحل طويلة من التاريخ البشري نجد أن نزوع أغلبهم نحو الشرِّ والديكتاتورية والاستغلال والقتل والدَّمار والحروب، كانت أكثر بكثير من نزوعهم نحو الخير، لماذا؟ لأنَّ تنشئتهم كانت تصبُّ أغلبها نحو الشرّ والفساد والمادِّيات السقيمة! هل يوجد أي حاكم على وجه الدنيا لم يركّز على جمع المال وبناء القصور والتركيز على الخدم والحشم والنساء والترف وتخصيص ميزانيات خيالية في قضايا تافهة تصبُّ في رحابِ متعه على حساب جماجم القوم وموت رعاياه؟!
لو نسأل أي إنسان على وجه الدنيا أن ينظر إلى مرآة نفسه، إبتداءً من الإنسان العادي ومروراً بالمسؤول العادي وإنتهاءً بالمسؤولين الذين يقودون البلاد، نجد أن درجة الشرور والظلم تزداد لدى الفئات الحاكمة أكثر من المواطنين العاديين، وليس لأنَّ المواطن العادي أقل شرّاً بل لأنّ إرتكاب فعل الشرّ والاستغلال والنهب غير متاحة أمامه فلو تيسّر لأي مواطن عادي أن يكون في سدّة الحكم لربَّما يصبح أكثر قمعوياً وشريراً من الحاكم نفسه علماً أنه كان يطرح نفسه عادلاً وديموقراطياً ويطرح شعارات المساواة والحريّة والخ، لماذا هذه الازدواجية إذاً؟! السبب يعود إلى طريقة تربية وتنشئة المواطن الذي يشعر بنوع من الظلم في قرارة نفسه فعندما يصبح بموقع القائد يصبح أحياناً أكثر شرّيراً من القائد نفسه لأنه يصبح في موقع المنتقم من ماضيه ومن خصومه ولأنه أصلاً غير مترعرع في بيئة سوية طبيعية بحيث تخوّله أن يكون عادلاً ومنصفاً وخيِّراً، لهذا فأنا متشائم جدّاً من قياديي هذا العالم ومن الذين سيأتون في مستقبل الأيام لأنني غير راضٍ في بناء وتنشئة الطفولة في العالم وخاصة في الدول الديكتاتورية السقيمة فالطفولة يتم بناءها وتنشئتها بشكل خاطئ وفظّ وغير تربوي وغير إنساني، يصبح الطفل في مستقبل الأيام طفلاً مشروخ الرؤية، وغير عادل لأنه لم يترعرع على أصول حيثيات العدالة والخير فهل ستهبط عليه العدالة من السماء؟!
أنا لا أمجّد الإنسان يا عزيزي، وإنما أطالب الإنسان أن يكون ذات سلوك مجيد وحسن ونبيل وراقٍ وحضاري وإنساني وخير وديموقراطي وعادل، وأطلب من القيادي في أي موقع كان أن يزرع هذه القيم والمعايير الراقية في معالم الطفل، الجيل القادم، فلا خير في المجتمع البشري برمّته ما لم يزرع قيماً ومعاييراً جديدة تطغى على شرور وحروب وضياع ومتاهات وترّهات وخزعبلات آخر زمن!
النزوع المادي أصبح طاغياً، أنا لستُ ضدّ ماديات الكون لكن على الإنسان أن يستغل الموارد الطبيعية والبشرية وماديات الحياة بكل أنواعها من أجل رفاهية وسعادة الإنسيان، لا من أجل تدميره وقتله وشنّ الحروب عليه، وأعتبر المال الذي يتم رصده للحروب والقتل والدمار هو من مفرزات سموم البشر، واعتبر من ينزع هكذا نزوع هو أخطر وأكثر شراسة من الضباع والذئاب والوحوش المفترسة، وأطالب هكذا بشر أن ينظروا إلى مرآة ذاتهم، ألا يرون أنياباً مسمومة تنهش قلوب البشر/ فقراء هذا العالم!
يا صديقي، ليس بعض الناس ينظر بعين الريبة إلى رسالة الأدب بمنظورها الإنساني الشمولي، بل هناك الكثير الكثير من الناس، ينظر إلى رسالة الأدب بإستخفاف شديد وبعدم جدواها، ويجدها تسير في متاهاتٍ وفراغاتٍ مميتة، وفي فضاء الكلام بدون أيِّ فعل، لأن هؤلاء الناس مهما كانت نسبتهم عالية من سكان المعمورة هم نتاج تنشئة خاطئة ليس على صعيد فهم الأدب ورسالة الأدب فقط بل على صعيد الكثير من مناحي الحياة! هم يحملون رؤية قاصرة فاقعة شريرة أحياناً، وغبية مخلخلة أحياناً أخرى، غير قادرين على تقديم ما هو خيّر وعادل في الحياة فلا يروق لهم أي نزوع عادل في الحياة، لهذا أكتب نصّي من أجل غدٍ مشرق، وممكن أن يكون هذا الغد المشرق غداً أو بعد غد أو بعد قرن أو بعد قرنين أو بعد قرون من الزمان! ولا أخفي عليك ولا على القارئ العزيز أن رهاني هو لزمنٍ ولقرونٍ عديدة قادمة، فأنا يا صديقي غسلت يدي إلى حدٍّ بعيد من الأجيال الحالية، لأن ما أراه على الساحة الكونية من تشرذمات سياسية مرتكزة في أعماقها على نزوعات مادية شريرة، وأرى أنّه من الممكن أن يأتي يوم وزمن سيصبح حتماً فيه تغييرات في الكثير من معايير الحياة نحو رحاب الخير!
نعم، لم تنجح ليس فقط الرسالات الأدبية في كبح الحروب المدمّرة، بل عجزت معها معظم رسائل إيديولوجيات ورسالات الأديان، ورؤى فلاسفة وحكماء هذا العالم، لماذا؟ لأنها أي هذه الرسائل لا يتم تشرّبها وتشريبها وتعميق حبقها ومغزاها وجوهرها في عوالم الكائن الحي/الإنسان منذ ولادته، هناك غباء تاريخي لدى سيرورة تطوُّر المجتمع البشري، فلا يستفيد الإنسان من كل هذه الرسائل لخير البشر ولا يستغل عوالمها الرحبة لصالح الإنسان لأنه إنسان جاهل بماهيّة الحياة، جاهل بجوهر الحياة، لهذا تراه يتعلّق بقشور الحياة تاركاً جوهر الحياة مشتعلاً في دكنة الليل!
نعم سأواصل سيري ومعركتي في إتجاه خير الإنسان، ومعركتي هي معركة خير، وليس من الضروري أن يحقِّق نصّي وحرفي تغييراً وثورة في العالم أو في الحياة أو في المجتمع أو في الأسرة أو حتى على صعيد قارئ واحد، إنّما المهم كلّ الأهمية هو أن يحقِّق عبر التراكم المعرفي الحضاري والإنساني، تياراً ومنهجاً يصبُّ في بحر من الخير الوارف بحيث يأتي زمن ويتبنَّى الكائن الحي ـ الإنسان، هكذا رؤية كي يخفِّف رويداً رويداً من نزوعه الشرّير مركِّزاً على النزوع الخيّر، فالخير يتميّز بجاذبيته، لكن هذه الجاذبية الخيّرة التي تنمو في كيان إنسان ما، يجب أن تكون متاحة لدى الكائن الحيّ، لدى الطفولة، كي تتشرّب وتنمو وتترعرع رعاية مفيدة وصالحة وخيّرة، كي ينجذب أكثر وأكثر نحو فعل الخير!
وسواء تحقَّقت رسالتي الآن أو غداً أبو بعد قرون أو لم تتحقَّق إلى مدى الدهر، فهذا الأمر لا يعنيني كثيراً، فالعلّة تكون متعلّقة ومرتبطة بالمتلقّي، بالآخر، بالإنسان نفسه، ولا يعني أبداً لو لم تتحقّق رسالتي أنها رسالة باطلة وغير قابلة للتحقيق، فأنا أكتب يا صديقي لأن الكتابة حاجة حياتية، متعة خالصة، أكتب كي أمتِّع وأفيد هذا الآخر ـ القارئ/الإنسان، وإذا لم يتمتّع هذا الآخر ولم يستفِد على مرِّ الأزمان والدُّهور فهذه مشكلته، وليست مشكلتي! الخلل فيه وليس في رسالتي أو في أيّة رسالة خيّرة في الحياة!
أؤكِّد للقارئ العزيز، للإنسان أينما كان، أنني لستُ ضد أي شرّير وظالم في الكون، بل ضدّ سلوكه الشرّير وضد الظلم والحرب والعدوان والفساد ... ، وأحاول جاهداً أن أنطلق من نفسي حيث انّني ضدّ سلوكي الشرّير أيضاً فلا أبرّئ نفسي من نسبة تفشّي معادلات الشرّ في العالم، فأنا بالنتيجة إنسان، تلملمَتْ فوق أجنحتي شروراً لا تحصى عبر محطّاتِ العمر .... وكم حاولت عبر مسيرتي في الحياة من لململة هذه الشرور ـ شروري كي أستأصلها من جذورها وأرميها في أعماق الجحيم! وكم كنتُ أشفق على نفسي، كلما عثرتُ على تموجات شرّيرة في سلوكي، مثلما كنتُ وما أزال أشفق على أشرار العالم، والفرق بيني وبين أشرار العالم المستمرِّين في غيِّهم وشرورهم، هو أنَّني لديَّ الجرأة في مواجهة شرّي واستئصاله، لهذا تراني أكتب نصّي لنفسي أولاً كي أتطهَّر من الشرِّ العالق بين أجنحتي، وأكتب للآخرين، الأقل منّي خطراً وشرّاً والأكثر خطراً وشرّاً لعلّهم يستيقظوا من غفوتهم، من ضلالهم، من فسادهم وشرورهم، ويسلكوا طريق الخير ويزرعوا فوق وجنة الحياة بسمة وفوق وجنة الطُّفولة وردة!

د. ليساندرو
معاناة الاديب
يخوض الأديب صراعاً على ثلاث جبهات:
صراعاً مع الذَّات، صراعاً مع المجتمع - كما سبق أن بيّنت فيما تقدَّم - وصراعاً ثالثاً مع فنون البيان.
في حلبة الصراع مع البيان وفنونه - من الكلمة المتخيرة والتركيب المحكم والصورة الجميلة الموحية والخيال المجنح وما شاكل هذا من المحسنات المؤثرة - يلقى الأديب عنتاً شديداً ويكابد مشقة أدهى وأمرّ وتراه لايتوانى عن الشكوى واظهار الضَّجر من المعاناة، وليس بنادر أن يسقط في هذه الحلبة وينتهي أمره الى الصمتِ المروَّع.
ترى إلى أيِّ مدى يبلغ بك وجع اللفظ وعذابات الصياغة الفنية وأنت – قلمك - في حال المخاض؟!
أهنئك على إجاباتك الموفّقة على أسئلة إيلاف، حول الترجمة، وعلى اصرارك الشجاع على الاستمرار في معركة الخير.
الى أيِّ مدى يبلغ بك وجع اللفظ وعذابات الصياغة الفنية وأنت - قلمك - في حال المخاض؟!

صبري يوسف
لا تصادفني أيّة مشكلة في موضوع البيان، وما تسمّيه وجع اللفظ وعذابات الصياغة الفنية لا يخطر هكذا وجع على بالي نهائيّاً! تولد عندي الكتابة بإنسيابية عذبة، لا أفكِّر إطلاقاً بالمفردة، والصياغة الفنية، تولد المفردات من رحم الحياة كما نشهق شهيقنا بعمق ونحن نعبر حديقة وارفة بالزهور والورود، أكتبُ نصوصي عن تجربة، حتّى النصّ المتخيل، يمرّ في حالات ومخاضات، وعندما تحين لحظة إنطلاقة الشرارة فلا أحتاج إلا إلى ومضة، فكرة، شرارة تندلع في رحاب الذاكرة والمخيلة ثم تتدفَّق الأفكار بشكلٍّ عفويٍّ خالص ..
لا يوجد عندي مخطّط مسبق لقصّة أو رواية أو لوحة، تولد الأفكار من رحمِ الحياة، من تلقاء ذاتها، ربما هي إنعكاسات أفكار غافية في تجاعيد اللاشعور، أحياناً يستهويني فكرة ما فأعبِّر عنها وإذ بي أجدني تائهاً عابراً عوالم أخرى وتبقى الفكرة التي أمسكتها في البداية وكأنّها فكرة عابرة في سياق النصّ وتولد أفكار أخرى تتحوَّل إلى محاور للنصّ، وهكذا لا أجد أية مشكلة أو صعوبة في مسألةِ الصياغة الفنية، طبعاً عندما أكتب نصاً ما أعود وأراجعه وأصيغه وأصطفي منه وأضيف وأحذف لكنّ كلّ هذا هو مجرّد رتوشات لا أكثر وأحياناً وأنا أنقِّح النصّ تتوالد أفكار جديدة عبر الصياغات النهائية، وعندما أكتب نصّاً شعرياً، ففي كلّ مراجعة أضيف إليه وأشعر أنَّ النصّ الذي أكتبه خاصّة "أنشودة الحياة" لا نهائية، لأنني عندما أصيغ مقاطع منه كي أربطها وأبوّبها مع ما يتناسق معها تولد جملاً شعرية جديدة، ويراودني أنني قادر على الإضافات الجديدة المناسبة في كل مرة أراجع النصّ! وهذا الأمر أحياناً يتعبني لأنني أراني عندما أكون في رحاب نصّي تائهاً في عوالمه، متدفِّقاً مثل شلال من الفرح، أنجرف في بهجة النصّ ويختطفني من ذاتي وأبقى في حالة عشقية لذيذة لساعات طوال، أكتب وأصيغ وأنقِّح ولا أملُّ، وأحياناً عندما أشعر بنشوة ولادات النصّ، وأصل إلى مرحلة الامتلاء الفرحي، أجدني أضع موسيقى راقصة وأرقص على أنغام الموسيقى وكأنَّني في حفلة ساهرة، أرقص بفرح عميقٍ، لأنّني أجدني منتعش فرحياً فلا بدَّ من تفريغ طاقاتي الفرحية بعد أن أشعر بحالة الامتلاء من نشوة الكتابة، فأرقص أحياناً لوقت طيب، ربع ساعة، نصف ساعة، أعرق فآخذ دوشاً، أتجدَّد جسدياً وروحياً، أسترخي قليلاً أعود للنصّ بشهيّة مفتوحة أقرأ النصّ كقارئ ناقد، وأحذف ما لا أراه مناسباً وما يبدو لي نافراً، لا أحبُّ الجملة المفتعلة والجاهزة، والتعبير القوي من دون معنى، الجملة عندي تشبه حديقة من كلّ الزهور والأشجار المثمرة والشَّوق والحيوانات المفترسة والأليفة، البشر الأخيار والأشرار، تشبه تلاوين الحياة، أحياناً تأتي مفردة في صياغة غير متوقّعة ولا تبدو مناسبة كصياغة شعرية وفنية أو جمالية فأتركها على حالها لو تحوي إيحاءاً شفيفاً، يسرُّني أن تنبعثَ جملة فيها غرائبية وتجديد في الصياغة، هناك مفردات عديدة، أشعر أنها ملتحمة في جوانحي، فأحياناً تتكرر في بنائي الشعري والقصصي فأستدرك هذا لكني أتحايل على البناء ببنائها بناءً جديداً مع صورة جديدة بحيث أن يكون تكرارها مريحا وهادئاً عليّ وعلى المتلقِّي، بصراحة لا يخطر على بالي المتلقِّي لحظة الكتابة إطلاقاً، لا رقابة عليّ سوى رقابتي، ورقابتي جامحة غير مرتبطة بأي قيد أو رقيب، وهكذا حتى رقابتي غير رقيبة عليّ بالمعنى الدقيق للرقابة، لكن هناك لاشعوري الضمني وشهوة ولادة الإبداع تأتي في سياق ما تعكس رؤيتي وأفكاري في الحياة، ربما أفكاري الهائجة هي الرقيب الأقوى فلا أكتب إلا ما يستهويني وبهذا تكون رؤاي هي التي تحدِّد الرقابة المفتوحة المتاحة، لكن بعد أن يولد النصّ أهذِّبه لغوياً وبنائياً وأجري عليه تعديلات بحيث أحافظ على عفويتّه وجموحه وأخفِّفُ من الاسترسال ما أمكن!
لا أخفي عليكَ ولا على القارئ العزيز أنَّ نَفَسي يتناسب لكتابة أعمال روائية، لأنني أعشق السرد، السرد هو رحيق فرحي، أشعر أحياناً أنني أكتب عملاً روائياً حتى عندما أكتب الشعر أو القصة القصيرة، أحبّ أثناء كتابة نصّ سردي أن أنقش تفاصيل صغيرة ودقيقة وكأنّها مرسومة لفيلم سينمائي وتشبه سيناريو لفيلم أو تشبه نصّ جاهز لسيناريو فيلم، بمعنى آخر أميل إلى لغة التصوير، ولا أحبّ التسلسل عبر خيط منطقي دقيق ضمن أحداث سببية متتالية، فعندما أكتب سرداً يفرحني أن أقفز من حالة إلى أخرى ربما لا يجد القارئ أي رابط تربط الأحداث لكني أربطها عبر جموحات السرد، وأحب أن أفاجئ القارئ بما لا يتوقّعه!
أريد أن أعترف أنّ لديّ شراهة في الكتابة، شراهة مفتوحة، ولا تزعجني هذه الشراهة رغم أنها تصلبني ساعاتٍ طويلة خلف الكومبيوتر، أنقش حرفي بمتعة غريبة ولذيذة، أتأمّلُ، أسمعُ موسيقى، وأقرأ كثيراً!
لدي طاقة كبيرة في تحمّل العزلة، التأمّل، الكتابة، ... عندما أتعب أنام فأستسلم لنومٍ عميق، أنام خلال ثوانٍ، لا يقلقني شيئاً، أكبر مشكلة تعترضي لا أعتبرها مشكلة فأعتبر مشاكل الحياة أصغر من أن تزعجني وتقلقني وتعكّر مزاجي ..
أستثمر همومي وأوجاعي ومشاكلي وغربتي وآهاتي وفرحي وحزني وبهجتي وعمري وموسيقاي وتواصلي وحبي وعشقي في الكتابة! كل شيء عندي يصبُّ في بهجة الحرف، النصّ الحزين أيضاً يبهجني عندما أحلِّق في عوالمه بعفوية جامحة!
**
أحبُّ الحياة، وأحبُّ اللحظة التي أعيشها! .. المرأة كيانٌ راقي ومقدّس لها مكانة خصبة من شهقة القلب والروح، أشكر الآلهة على هذه الهدية الهاطلة علينا من السَّماء!
الموسيقى صديقة روحي، أعزف على العود، سماعي، وأغنّي بعض الأغاني الفولكلورية بعدة لغات من الشمال السوري الغني بموسيقاه وأغانيه الدافئة، كما أحبُّ الرقص بشكل عميق، عندما أرقص لا أشعر بالموجودين حولي إطلاقاً، ولا أستطيع التقيّد بالرقص مع أنثى ما، فغالباً ما أجمح بحرية مفتوحة، وأشعر بفرحٍ عميق وتجلٍّ منعش، وأشعر وكأنّي أكتب شعراً عبر جموحاتي الرقصية .. أقرأ على وجوه البعض الفرح والارتياح وعلى وجوه البعض الآخر تساؤلات تصبُّ في خانات فضولية سخيفة، يتساءلون في أعماقهم لماذا يرقص هذا الشاعر هكذا مثل الميمون، فأضحك في عبّي على انطباعاتهم السقيمة بل أشفق عليهم وعلى حالهم، لأنَّهم لو يعلموا كم من البهجة أقتنصها من خلال تجلّيات الرقص لما انتابهم ما انتابهم!
عندما أقوم بفعل ما، كتابةً أو سلوكاً، وأعرف تماماً أنّه لا يضرّ الآخرين، أقوم به عن طيب خاطر حتى ولو أخذ الكون برمته موقفاً منّي، فالخطأ أعتبره خطأ الكون أو الآخر وليس خطأي، فحرَّيتي وسلوكي وفكري ورؤاي لا يقيّدها تقاليد وعادات وقوى الكون، لهذا أراني متمرّد على اعوجاجات هذا الزمان!
الإنسان هدفي في الكتابة! .. أحبُّ الحوار، ترعرعت ضمن بيئة عنيدة وخشنة وهجومية وجريئة، وبسيطة، وفقيرة، وعادية، لكنّي تخلّصت من العناد ومن الكثير ممَّا لا يتسهويني، عندما أجدني مصيباً في رأيي لا أتخلَّى عنه على قطع رقبتي الرفيعة! .... أحبُّ أن يكون للإنسان موقفاً، الإنسان بدون موقف لا يعني شيئاً، مجرد كتلة تتحرك على الأرض مثل أية كتلة متحركة خاوية ..
بنيتُ عوالمي مثل النملة التي تمتطي منحدرات الجبال وتصرّ أن ترى ما خلف الجبال وما فوق الجبال، بصبر عميق!
لديّ في مخيلتي وفكري وروحي الرغبة القويّة الجامحة أن أنجز مشروعي الشعري، أنشودة الحياة حتى غاية 3000 صفحة من القطع المتوسط! قصيدة واحدة، نص مفتوح! .. وربما أتابع أكثر أيضاً وتتوقَّف متابعتي على ما ينتابني من مشاريع شعريّة في مستقبل الأيام، لكن هذا الرقم يموج في ذاكرة الروح وخصوبة القلب! أنجزتُ مع المسودات الصفحات الألف الأولى حتى الآن وعشرات الأفكار والرؤى لما تبقَّى من الرغبة متغلغلة في جوانح الروح ستنهض رويداً رويداً إلى بهجة النُّور!
حالياً، ومنذ فترة طيّبة، دخلَتْ رغبة هائجة على الخطّ، وهي كتابة أعمال روائية! وضعتُ أرضيات لأكثر من مشروع روائي، من المؤكّد ستأخذ منّي وقتاً طويلاً ربما سنوات فأنا أشتغل بغزارة لكني أكتب وأراجع بهدوء عميق!
كتابات المرحلة الأولى، شعر، قصص، خواطر، رواية مخطوطة، لم ترَ النّور لأنني أحرقت كلّ كتابات المرحلة الأولى واعتبرتها بمثابة التدريب على الكتابة إضافة إلى انّني راجعتها بعد سنوات من كتابتها فوجدتها غير جديرة بالنشر، لهذا أحرقتها بفرحٍ عميق دون أن يرمش لي جفن!
أكتب لأنَّ الكتابة تمنحني متعة منعشة للغاية لا يعادلها متعة أخرى في الحياة، وأترجم أفكاري ووجهات نظري عبر الكتابة كي أقدِّمها لقارئ وقارئة، رغبة منّي أن أحاور المتلقِّي عبر الكتابة!
يبهجني لو أتفرّغ كلياً للكتابة، للإبداع، علماً أنَّني أعمل أكثر من متفرِّغ للكتابة، لكني سأرتاح ذهنياً من مسألة العمل والبحث عن العمل والتوقُّف عن العمل، والعمل نفسه، أشعر انني خُلِقْتُ للكتابة، للإبداع فقط.
أحبُّ الرسم جدّاً، خاصة اللون، كنتُ أرسم كروكيهات وتخطيطات خفيفة، لكن العام الفائت ولدت عندي رغبة عميقة في الرسم فبدأت أرسم وانجزت قرابة ستين لوحة تشكيلية، أخطِّط لإعداد معرض تشكيلي، لوحاتي كلها عن العشق، الفرح، السلام، المحبة، الشَّوق، الحنين، الطفولة، الصفاء، الطبيعة الخلابة، الزهور، الطيور، طيورُ الفرح والسلام والعناق العميقَ.

د. ليساندرو

كلمة أخيرة
لا أظنُّ أنَّ اللُّغة ضاقت بك فلجأتَ إلى الرسم بالألوان، لأنَّ ما فيك من طاقات تعبيرية محتدمة يبعد هذا الظنّ، مطوّلاتك، تدفُّقك في النثر عزفك على قيثارة العرب، رقصك الغجري -الزوربوي - تجعل منك أديباً متعدِّد الجوانب.
في تاريخ الفنّ والأدب، أدباء وفنانون تعدَّدت لديهم وسائل التعبير طاغور جبران غراس ..
في ساحة الفن اللبناني نرى اليوم رسامين يسعون بخطى حثيثة لارتقاء سلم الشِّعر، ولأني كليل البصر في مجال التصوير استعنت بيوليا التي تشاطرني السكنى.
- يولِّه، ناديتُ
- نعــــم، زعقت من المطبخ
- لحظة من فضلك
- لمن هذه اللَّوحات؟ سألت وهي تجفِّف أصابعها.
- هذه لوحات لصديق
- وتودّ أن أشرح لك مضمونها
- لا، لا حاجة لي بالشرح فقد سبق له أن فعل ذلك
- فماذا تريد إذن؟
- أريدك أن تغوصي في بحرها وتأتيني بصدفة أو أثنتين من أعماق صاحبها
نقلت بصرها الحادّ بين اللوحات ثم قالت:
- هل صديقك هذا هندي؟
قلتُ لا، ثم تساءلتُ في دهشة كيف وقعتِ على هذه الفكرة؟
- استنتاج بسيط أَلا ترى إلى الألوان التي يستخدمها
- ما بها؟
- الوانه فاقعة وفي هذا دليل على أن صاحبها لاتزال في نفسه بقايا من مشاعر فطرية أو بدائية.
- ثم ماذا؟
- ريشته أرى ريشته تشبه ريشة الأطفال وهذا يوحي بصفاء نفس وطيبة وبراءة.
فهل صدقَتْ يوليا؟!
أحييك من منشن ـ كلادباخ وأتمنّى أن تتحقَّق لك جميع أمانـيكَ ورغائبك وأن تتكلَّل مساعيك بالنَّجاح
وأن تطفح خوابيك بالسَّمن والعسل لقد كانت رحلة قصيرة ولكن ممتعة.
أشكرك على تفضُّلِك بالاجابة عن تساؤلاتي بصبر وأريحيّة.
ومن يدري فقد نلتقي يوماً في منتدى ما أو في مهرجان أدبي في أيّ مكان؟!

صبري يوسف
تحيّة من القلب أقدِّمها لكَ من سماء ستوكهولم،
سررتُ جدّاً برحلاتك المعبّقة بالنَّارنج، وبتساؤلاتكَ الشفيفة العميقة، كنتُ متأكدِّاً انّني إزاء شخصيّة أدبية راقية في عالم القصّ والسرد والشِّعر والتحليل، والتذوّق العميق!
مداخلاتكَ ووجهات نظركَ ممكن أن أكتب عنها كما سبق وأشرت كتباً، لأنها أسئلة مفتوحة عميقة، مشاكسة، مشاكسة إيجابية، لأنها تحرّض على التدفُّق والبوح عميقاً دون أية مواربات.
كنتُ أحياناً أبخل عليكَ في الردّ، وبخلي كان ناجماً عن الفسحة الضيّقة المتاحة هنا، (المنتدى الذي نتحاور عبره!) وأحياناً أخرى كنتُ أجدني منفتحاً ومتدفِّقاً بفرحٍ عميق للبوح حتى الوصول إلى لجين خمائل الحلم!
لا يا صديقي، لم تضِق بي اللغة، اللغة ـ الكلمة هي صديقتي السرمدية، عشيقة من لون السماء، ولم ألجأ إلى الرسم لأن اللغة ضاقت بي، لكنّي أكتب شعراً عبر الألوان، حتّى أنَّني كما أشرت سابقاً أكتب شعراً عبر تجلّيات الرقص والعزف والغناء وسماع الموسيقى، حتّى عندما أنام، أنامُ على إيقاعٍ شعريّ!
يوليا! ما هذه اليوليا الرائعة يا صديقي!
أولاً أهنِّئكَ على يولياك.
ثانياً، أثلجت قلبي عندما تصوّرتني فناناً هندياً! لأن الألوان على ما يبدو فيها شفافية روحية هندوسية، وربّما! ربّما تقمّصتني روح هنّدوسي منذ زمنٍ بعيد ولا أدري، فحنّت الرّوح إلى تلاوينها الهندوسية الصارخة بالفرح وعفوية الطفولة.
هل قصَدَتْ يوليا بألوان فاقعة، صارخة، هائجة؟ لا أرى ألواني فاقعة، لكن ربّما قصدت أنّها طفولية.
كانت يوليا مصيبة، عندما شبّهت ريشتي بريشة الأطفال، عندما توقّفت مليّاً في صفاء النفس والطيبة والبراءة!
أرسم فعلاً بعفويّة طفولية من دون أي تقيُّد في تيار فنّي، أرسم كما أحسّ، بعيون طفل كبير، بعيون شاعر يتوق إلى براري الرُّوح وهي تغفو فوق الذَّاكرة البعيدة، حيث الطُّفولة تجمح بين سنابل القمح هناك حول بخور العشق وشهقة الحياة!
سررتُ بتواصلكَ المبدع وقراءاتكَ العميقة لنصوصي، ومتابعاتكَ وتساؤلاتكَ المحلّقة في بحار الحوار، لا قيمة يا صديقي لأي إبداع، لأي فنّ بدون الحوار، بدون الآخر، بدون التحليل والتركيب والنقاش الحميم والعبور في فضاءات النصّ وتحليقات بهجة الكلمات.
يزداد النصّ نصاعةً بعبور المتلقّي إلى رحاب القصيدة، إلى رحاب اللون إلى شواطئ الحلم عبر حنين الحرف!
سأرسلُ لكَ نصوصي مبوّبةً، خاصةً أنشودة الحياة بأجزائها المتسلسلة عبر إيميلكَ الشخصي إذا أحببتَ ذلكَ، آملاً أن تستمتع بقراءتها، وحبذا لو تراسلني عبر إيميلي كي أتمكّنَ من إرسال الأنشودة إليكَ تباعاً!
تحيّة معبّقة بنكهة النَّرجس البرّي للعزيزة يوليا لما قدّمته من رؤية شفيفة مكثفة رائعة عن لوحاتي!

أجرى الحوار عبر الانترنت: د. ليساندرو، أستاذ في الأدب المقارن
ألمانيا ـ ميونيخ

استغرق الاعداد والإجابة على هذا الحوار بضعة شهور عبر الشبكة العنكبوتية، حيث لم يتواصل المحاور معي عبر إيميلي الشخصي، وحتى تاريخه لا أعلم مَنْ هو هذا المحاور البديع ليساندرو، حيث كان يقدِّم مداخلاته عليّ كمتابع لنصوصي وكتاباتي في بعض المواقع الالكترونية، وكنتُ أشعر وأستنتج من خلال تساؤلاته أنني إزاء شخصية أدبية عميقة ومثقفة ومتخصصة في مجال الأدب، ولم يحدِّد لي تخصّصه أو صفته إلا في آخر مداخلة قدَّمها لي في حواره العميق، واضعاً قبل اسمه حرف الدَّال الصغيرة بعدها نقطة، معرِّفاً نفسه بثلاث كلمات وحرف جر!: أستاذ في الأدب المقارن، ميونيخ.

CONVERSATION

0 comments: