جوارب الحنين ـ قصة قصيرة/ علي بختاوي

البرازيل

لأمر ما في قلبي تمنيت أن أموت . أٌنسَى . أخرج من هذا العالم الواسع الضيق . أودع الوجوه الأليفة . لقد إجتزت أصعب المراحل والفواصل . أدخلت فيها غصبا أو ربما كانت لي فيها يد . أقول في سري حين أضم يدي إلى صدري وأمدد رجلي على طول السرير وعيناي تسبحان في الغسق الكئيب أن الحياة عاهرة وعدوة الذين يجللون الحرف ويقدسون حضور الكلمة . لم أهزم ولم أنتصر بعد . غير أني شعرت بعبثية الحياة تلتف حولي . تبعدني عما خططته سلفا .عما أدخلته في مشواري العريض الطويل . لم أنكسر ولم أنتصر لكني الآن أفتح درج الطاولة التي على متنها التلفاز . في تردد غير مسبق أو في شوق وحزن يلحان علي رحت أتشمم رائحته وأهرق بعض العبرات على جواربه . تلك مصيبتي . وهذا سلواي . صبري الجميل . مداراة جرح ترسب وتخثر في الأعماق . محاولة كفكفة بعض الدموع الحارقة . كل الدموع الحارقة لا أذرفها سوى عليه . حاولت أن أجد أثرا آخر غير الجوارب فما وجدت . معليهش . يأتي زمن تصمت فيه الريح . تبش السماء بأشعتها علي . أجد نفسي حينها فرحا جذلانا . أو كما تنبأ العراف قبل خمسة وعشرين سنة أن ألتقي بحلمي المهرب على جناح غيمة جرباء . إلتقطت الجوارب المتسخة العطنة . تساءلت عيني في أسى . من وراء دمعة ساخنة تساءلت
- هل حقيقة هذه جواربه . لما لا تكون لأخويه . عبدو مثلا أو الجيلالي . لما لا يكون ذلك.. ؟
قربت الجوارب من جهتها الأمامية إلى خياشيمي . حاولت قدر المحبة الولهى التي أكنها لهم جميعا تمييز جوربه . سقطت دمعة . إثنتان . والثالثة على الجوارب . هيه . لو تسمح العين . لو مرة تجود وتكرمني بدمع غزير . أغسلها . هل حدث في حياة أي واحد أن غسل ثوبه او جوربه بما أفرزت عيونه من دموع . ربما . غير اني تراجعت . رميت الفكرة التي تدفعني كي اغسل الجوارب بما يهمي من عيني المقروحة . ماذا لو إختفت الرائحة . لو زالت . هل يبقى شيء يسمى جوربا .؟. وحينئذ هل أبقى أبا . أنا الآن بالنسبة لي أبوه بالرائحة . الجهة الامامية أكبر دليل على أن الجورب له . ملكه . أنا أعرف هذا . بالتمام والكمال أعرف هذا . دائما يلعب بأصابع رجليه الصغيرة . يدفع كرسيا . لعبة لأخويه . يقفز إلى أعلى مقلدا بريسلي ويرشق مقدمة قدمه في بطن أخيه الذي يليه في العمر . الصغير لايشاركهما . فالحال عسير . قوامه القصبي لا يسمح . خفته كفرخ الحمام لا تسمح كذلك . حاول من قبل لكنه تعثر وسقط وبكي والدم ينز من جبهته السمراء ( بابا بابا بابا ) . أحضنه كما تحضن ل للألف . أطبع قبلة على ملاسة وجنتيه . أمسح بطرف إبهامي براءة دمعه المنسكب كقطرات الشمعة حين يغلبها الريح . أقول له غدا أشتري لك مصاصة وحلوى ملونة ولو كنت مثلهما كنت إشتريت لك قصص"بوكيمون" . ويعود يشاركهم اللعب . الأولاد فواكه البيت . موسيقى شوبان وهي تمسد بألحانها العذبة الشجية على الأعصاب فتتركها هيمانة . سارحة . ناسية قساوة الدنيا الكلبة . قلبت الجورب . مؤخرته تعطي إنطباعا دامغا أنه له . ملكه . وليس لأخويه . جلست القرفصاء . التلفاز يبث حصة عن حتمية تسخير الآباء وقتا معتبرا للابناء . فالعصر إزداد سوءا . كثر أولاد الحرام . حرمي أنا من بنات الحرام . منذ أكثر من عشر سنوات لم ألقف إبتسامة حنونة من لدنها . سجين التجهم كنت . أبقى صامتا . أنظر في الأيام التي أرسلتها إلى حضني وفراشي . "بعض النساء كالعسل في القرجومة وبعضهن الهم ولا هما" . حين غضبت وإختفت وراء والدها في بيته وحلفت ألا تعود عرفت أنها النهاية . لملمت كل شيء حين همت أن تغادرني . الفراش . ثيابها وبعضا من ثيابي . جميع ماله صلة بالأولاد كان في حقائب ورزم وزوادات وقد شحنتهم في سيارة والدها . كيف نسيت الجوارب . ؟. هل أرادت أن تفجر ذلك التحنان الذي يزجي بي حتى أبقى أنوح وأسهر الليالي الطوال . لقد كنت أنوح وأسهر الليالي الطوال يوم كانت لا تتركني أنام بثرثرتها ولغوها . ( يامرا خلييي نرقد غدوا نصبح خدام ) .. ( صح قولي علاهش ذكرت اسم فلانة في قصتك الاخيرة . هه . قولي . ماتتهربش .جاوب).. كل ليلة . في نفس التوقيت بالذات يبدأ موالها . من مرة إلى أخرى يستيقظ أحد الأولاد مذعورا على صوتها الجهير . أكره ماأكرهه فيها صوتها الجهير حتى أني إعتقدت أنها تملك حنجرة رجل وليس إمرأة . مع الوقت تعودت على النوم على نباحها . لم أكن أنام بل أغفو كحارس لمؤسسة ما . تمنيت ان يكون عملي بالليل لكن حظي قال لي أنت قاريء وكاتب . مكانك بالنهار . هذه الجوارب التي أمام عيني وجدتها صدفة حين قررت أن أضبط ماتركت وماأخذت . لم اجد غيرها . خمسة أشهر وربما اكثر . لم أر ملامحهم . أنا المستجير بالرمضاء من النار . لو نويت زيارتهم يكون أهلها على إستعداد تام للحرب . لم أذهب في المرة الثالثة للقاضي فالأولى وجدته غائبا والثانية عنده ضيف . قلبت الجورب جيدا . رفعته . مددته . قلصته . قربته أكثر من أنفي . جذبت نفسا عميقا . رائحته هي هي .أبدا لم تتغير . خمسة شهور ولم تغادرها تلك الرائحة . رائحة الطفولة المسروقة . الأيام الهنية الحالمة . أسترجع بذاكرتي خطفا . فيغلبني التحنان . رائحة الشوق الأول . صوته الرخيم الممزوج بحماقة أورثها عني قلبا وقالبا . هذا الجورب كنت إشتريته من متجر المحفوظ يوم كان برفقتي وهو ينط هنا وهناك خلف الكونتوار . أجمل مافيه أنه يحفظ عني القصائد التي أرددها في مكتب البيت . مرات أطرده وأخرى أتركه . لا أريده أن يصيبه الغبن أو يلاحقه الفقر . يكفي ماتجشمت . كابدت . حاربت وعلى جميع الجبهات فالأديب مهما كان هو والفقر صديقان . رددت الجورب إلى الدرج بعدما طبعت قبلة خرساء في الجهة الأمامية . أين تنكمش الأصابع بفعل برد الشتاء . لا يهم الآن إن كان عمري سلسلة شتاءات . لا . ما أصبح يهمني ذلك . كل الذي أصبح يهمني ويقلقني ويؤرقني أنني متى أحصل على رخصة من المحكمة حتى أراه هو وأخويه في القريب العاجل ..

CONVERSATION

0 comments: