منذ زمن بعيد، وأنا معجب بحكاية رواها لنا أحد الأساتذة، ومفادها أنّ طفلاً صغيراً في إحدى القرى الإسبانية اقترب من نحّات، جار، كان يهمّ بصخرة كبيرة ويجسّها من كلّ جانب، وسأله مندهشاً من حركاته الغريبة قائلاً:
- لماذا تجسّ الصّخرة وتدقّ عليها يا عمّي؟
فأجابه النّحات العجوز بنظرة حالمة:
- أريد أن أجعل منها حصاناً يا ولدي.
ضحك الطّفل الصّغير من سذاجة الجار العجوز ، وانطلق يجري مُلتحقاً بأمّه ..
عاد الطّفل آخر النّهار، وانتبه لوجود حصان بديع بحديقة الجار العجوز. وحين اقترب من سور الحديقة الفاصل، رأى الجار النحّات يقلّم الأغصان، فسأله منبهراً:
- كيف عرفت، أنّ الحصان كان متخفّياً كامل الوقت داخل تلك الصخرة، يا عمّي؟
ومن بين أغراضي القليلة التي حفظتها من دفاتر الطفولة الأولى، رافقتني هذه الدّهشة البكر في سؤال الصبيّ كلّ الوقت، وإلى اليوم ما زالت ترافقني. وأذكر أنّ أحد الأصدقاء الصحافيين سألني قبل ربع قرن في أوّل حوار نشر معي بالصحافة التونسيّة، عن غاية طموحي من الكتابة، فأجبته فوراً، وبدون تردّد، بأنّني أريد أن أكون بسيطاً وعميقاً مثل شارلي شابلن. واستغرب صديقي أيامها من جوابي الغريب. ولكن موقفي لم يتغيّر أبداً، فما زلت إلى اليوم مُخلصاً لرأيي وما زلت أحلم بأن تكون كتابتي بسيطة وعميقة تماماً، مثل شارلي شابلن. ففي البساطة والعمق، يكمن جوهر السرّ.
وبقدر ما أؤمن أنّ الحاجة إلى البساطة والعمق، ضرورية، ليس فقط في الكاتبة، ولكن أيضاً في كلّ مجالات الفنون، وأشكال التعابير الإبداعية. فإنني أعتقد أيضاً أنّ هذا بالضبط ما ورّط الآلاف من المبدعين المبتدئين في فخّ الاستسهال. فحين تقرأ قصائد الشاعر الكبير محمد الماغوط مثلاً، وتباشر قصائده النثرية البسيطة، تظنّ أنها سهلة، ويمكن تقليدها، ولكنّ عجينة العبارة التي ينحت منها الماغوط، عجينة نادرة وغير مغشوشة، وكلّ محاولة لتقليده انتهت بفشل ذريع وسقوط في المباشرة ولم تنتج غير قصائد هزيلة مفتعلة ومفكّكة.
وكذلك الأمر في الرسم وفي الموسيقى وفي المسرح وجميع أشكال الفنون. فما أبسط وأروع ألحان السيّد درويش الموسيقي العصامي، وما أجمل لوحات غوغن وأعمق ضربات فرشاته التي يتوهّم أبسط تلميذ أنّه قادر على تقليدها، وما أبدع مسرحيات يوجين يونيسكو التي يظّن الغافل أنّ عشرة كراسٍ وممثّل صامت وضوء منكسر هيّ كلّ أدواته .. ولكن ما الذي يجعل تقليد هؤلاء العباقرة رغم البساطة الظاهرة التي تسبغ أعمالهم شبه مستحيل؟
الجواب يكمن ببساطة في الشطر الثاني من الجملة. إنّه العمق. العمق، حين يكون الوجه الثاني للمعادلة، الذي يجعل الخطّ أسطورة، والكرسيّ أدغالاً والدندنة إعجازاً والعبارة المتداولة جمرة ملتهبة تدفئ الرّوح وتُلهمها، وليست مجرّد فحمة باردة مُنطفئة.
والآن هل أحتاج فعلاً أن أجيب عن السؤال الأزليّ: ما الذي ينقص الأخضر ليكون شجرة؟
(*) كاتب وشاعر تونسي مقيم بالقاهرة.
0 comments:
إرسال تعليق