بروفايل (6)
قال الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، بكل اللغات لكل شعراء العالم، أن الشاعر الحقيقي ليس عابر سبيل، فلا بد أن يصارع ويحفر بأظافره الصخر ليترك بصمته على الأحداث والأفكار والعواطف الزمنية...، مسلحا في معركته الإنسانية بالإرادة، والموهبة الصلبة التي لا يمكن وصفها بالسهلة، ولا البسيطة.
انه كالمولد الكهربائي يوزع طاقته المتصلة بالصدر ويوزع ذبذباته الشاعرية على المتلقي المتصل بفروع القلب والرئتين، ليعبر حجاب غربته كلما تنفس بإيقاعاته المهجرية، قبل أن يطلق العنان لأجنحة أحاسيسه، وأفكاره المحلقة في فضاء مخيلته الواسعة، التي جعلته مميزاً في تجربته المهجرية، وارتباطه بتاريخ كل فرد، في وحدته البنيوية المتفاعلة مع الموضات الإنسانية، وما هو معرفي ثقافي إبداعي في نتاجه الأدبي، المرتبط بالعالم المحيط بالسيسيوثقافي، وأشكال المؤسسات الاجتماعية الثقافية العالمية، وما يشترك من صفات مع الآخرين، الذين يسكنون أوراق الشاعر، من مهجره الذي عمل على إعادة مكونات عالمه في إدراكه الفكري، وطرحه إشكالية العلاقة بين الشاعر والمتلقي من خلال مادة لغته اللسانية، باعتباره حالة ثقافية منتجة مهارة قصائده المحملة قضايا الحرب، وفلسفات الأحزاب، وحقوق الإنسان، والعلاقات الشخصية المرتبطة برهبة الشعر المعبر عما يدور في الواقع الحياتي، بوسائله لارتقاء ما يبهر ثراءه الدلالي والتأويلي...، في شعره المتميز بموسيقى وتجديدات تتجاوز أشكال عروض القصائد التقليدية .
انه شاعر منظم في سيرته.. بسيط في بوحه المسكون بحنين الفؤاد.. غني بفرادة صوره.. مبحر في موسيقى عروضه.. سابح في موضوعات مسائل الإنسان المرتبط بأمجاد الوطن.. ينسج رسائله الوجدانية بكل ما تحمله كهنة العبارات.. مبدع في مجال الشعور الإنساني والوجداني.. يحمل في كلمه رؤى ديناميكية شعرية محورية بارزة.. يزرع أشجان الشعر الذي لا يهجره في كل بقعة من بقاع الأرض، حيث كينونته الساخنة، المتحدية الأمل من منفاه الذي يحمل الجموع الواحد في تجربته، كما في تجربة الشاعر التشيلي أرياس مانثو،" الذي حول البنادق إلى أقلام تطلق رصاصات الرحمة على الإنسان، وتلملم ما فرقته الحدود بين الوطن والروح الشاعرة على نطاق عالمي . ليقترب من الشاعر الجوال "فرنسيس كومب" الذي يدمج الشعر بالشارع الإنساني.
اذاً، لا يمكننا أن نتجاهل مجهودات تجربة الشاعر الإبداعية المتنوعة، ونماذج كتاباته الأدبية والفكرية المتعددة الأنواع والاتجاهات، فذاته الشاعرة تهجس الضمير والأحزان من شتى نوافذ تجربته التي استعرضها في كتاباته المحتفلة بالصدق كونها صدى لمعاناته الفردية والجماعية التي تحرض على مقاومة لعنة المنافي، ليعيد لملمة أجزائه القادرة على تحويل اللغة اليومية العادية إلى شعر مونولوجي، ليبقى غناؤه المباشر، والساخر، والهجومي الموجه، مدافعا عن الإنسان والإنسانية والأمكنة التي فتحت له أبواب موسيقى لهجته العامية، في مؤسسته الثقافية المتحركة على كافة الأصعدة، في مكوناته السيمائية، ودوره الواقع بين ملفوظات الحالة الشعرية، وشخصية الأديب الفعلية في مفردات جمله، التي قطفت من أشجار رسائله صنوبرات الكلم والقلم، بفصيح الشعر، وعاميته، وزجلياته، ونثره، و سردياته الموسيقية، أو من خلال مقالاته الرؤيوية . فهو لم يترك قضية سياسية أو اجتماعية أو إنسانية أو فردية إلا وطرح أسرار سرائرها على أوراقه، التي تطلب الرحمة في ركعات وتراتيل صلاته، وتواشيح شعره الغنائي المتسم بالصدق وحرارة العاطفة، التي دخلت سيكولوجية كتاباته بكثير من متع الأدب، في انتمائه الذي تعرض لهزات عميقة...، إلى أن بقي المعنى حائرا في قلب الشاعر !، كما لدى الشاعر التشيلي هوغو، الذي تميزت كتاباته بالشعر الهجائي والسياسي إضافة إلى الشعر الغنائي المعبر عن المشاعر التي يعيشها البشر ....
لذا نرى الأديب والشاعر اللبناني شربل بعيني، يجري وراء المكان باعتباره وطنا تكرست فيه قضايا العالم ، مما أكسبه ذلك أدبا إضافيا مختلفا، بغض النظر عن نصوصه الفردية او الجماعية، فالكل مشترك لديه في نفس ترنيمة انتماء بيت القصيد، الذي نقله إلينا بتصوير صوته حيث نبت من بين أجمل الحناجر اللبنانية، لنتمسك بلمحات فرادة تجربته الشرقية، العالمية في إبداعاته الأدبية، وما تحمله أجواء تلك التجربة التي انطلقت من اللسانيات الأنثروبولوجيا المستلهمة أعمال الشاعر السريالي ماكس هاريس، وأميلي سوران، اللذين أحيطت أعمالهما بالإنسانية والشاعرية، في رسائلهما الحياتية.
إذا يعد الشاعر اللبناني، من بين الوجوه البارزة في المشهد الإبداعي الثقافي، لتميز معجمه الذي لا يشبه غيره... في اشتغاله على هوية الإنسان الذي يضخ هموم المجتمع العربي فيما يطرحه الكلم المتمثل بأخلاقيات الشاعر الذي ميزا عن كونه مجرد فرد بيولوجي يتلمس ويتحسس بالكتابة لاستنجاد ملجأ لهجرته الإنسانية والوطنية، كما في تجربة الشاعر أوكونور مارك، الساعي لتوسيع الثقافات بين الدول، في رؤيته الحكائية المشيرة إلى أسطورة يمثلها الشاعر الذي كشف لنا عن أقنعته وقناعاته المتجلية في أعماله بلغة أدبية راقية، مما زاد من أهمية هذا الجهد الإبداعي واجتهاداته.
هذه نبذة قليلة عن تجربة الشاعر اللبناني شربل بعيني، الذي عبئ سردياته " السيميوطيقية " التي أسعفتنا في تحديد مستويات كتاباته المنظمة في مجمل آليات نصوصه المعرفية ليتوالد نتاجه الأدبي، وقدرته الفائقة على ابتداع شعر الحداثة المليء بالرموز والدلالات، ولنتعرف على مضمون تجربته ومعاناته، وحيثيات رسائله، وتقنيات تأثيرها على المتلقي والمجتمع، ونفهم تجربته النموذجية، الشاعرة، وتركيباته الكامنة وراء تأملاته بجميع الطاقات المترابطة في المثل الإنساني الذي يعكس الكل الشامل في البعد الذاتي، والبعد الوطني، اللذين ابرزا هويته الشعرية التي ستحقق له عودة مجيدة من منفاه إلى قريته "مجدليا" في شمال لبنان .
يتبع
0 comments:
إرسال تعليق