يا معشر الثيران، متى يشبعُ الأسدُ؟/ فاطمة ناعوت

ونحن صغارٌ، علمونا أن في الاتحاد قوّة وفي التشرذُم ضعفًا وانكسارًا. قالوا لنا: "تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكَسُّرا/ وإذا افترقن تكسّرتْ آحادا". وحكوا لنا قصة: "الثيرانُ الثلاثة"، الأسود والأحمر والأبيض. كانوا يعيشون في وُدٍّ وتحابٍّ وصداقة. يمرحون في الحقول ويأكلون من خير الأرض الطيبة، ويلعبون في مروجها ويشربون من عيونِها وأنهارِها وينابيعها. وفي الجوار كان أسدٌ شرسٌ يودّ الفتكَ بالأصدقاء الثلاثة، لكنه لا يقوى عليهم مجتمعين، لأن في اجتماعهم عليه بقرونهم المسنونة وأجسادهم الضخمة، قوةً تصرعه سوءَ صرعةٍ، وتُمزقّه شرَّ ممزقٍ. فكرّ الأسدُ أن لا سبيل للحوم الثيران الشهيةِ إلا في استفراده بواحدهم دون أخويه. فأوعز للثور الأسود بأن الثور الأبيض مصدرُ خطر عليهم. لأن لونه الشاهق يلفت أنظارَ الصيادين والقنّاصة حملة الرماح والنبال. فآمن الثورُ الأسود بضرورة التخلّص من أخيه، وبأن عليه أن يتخلى عن ابن جِلدته ليفترسه الأسدُ وحيدًا، وقد كان. فلما عاد الثورُ الأحمر وسأل عن شقيقه المغدور، أخبره الثورُ الأسودُ أنه خرج ولم يعد، ونُسى الثورُ الأبيض المأكولُ مع الوقت. بعدها عاد الأسدُ الجائعُ للثور الأسود وأعاد الكَرّة قائلا إن حِشاش الأرض وعُشبَها التي يأكلها ثوران، ستكون أوفرَ لو أكلها ثورٌ واحد. فتخلى الثورُ الأسود عن شقيقه الأحمر والأخير، وتركه ليلقى حتفَه بين أنياب الأسد الجائع. وبعد بُرهة، عاد الأسدُ إلى حليفه الثور الأسود، الذي لمح في عيني الليث الجائعتين وأنيابه المتلمظة ما أدرك منه أن أجلَه قد حان. فقال قولته الخالدة: أُكِلتُ يومَ أكِلَ الثورُ الأبيض.”
أيها المثقفون، في مصرَ وفي أرجاء الدنيا، أنتم معشرُ الثيران، انتظروا مصيرَكم كما مصيرِ الثور الأسود الذي ترك شقيقيه الأبيضَ والأحمرَ للأسد الأعمى. قد أُكِلنا جميعًا يومَ أُكِل “طه حسين” و"فرج فوده" و"نجيب محفوظ" و"نصر حامد أبو زيد" وغيرهم. أنتظرُ محاكمتي يوم ٢٨ يناير مرفوعة الرأسِ، لأنني لم أتخلّ عن مثقفٍ مأزوم في قضية حِسْبه، لم أذُدْ عنه بقلمي وبلساني. هامتي مرفوعة لأنني لم أترك مِشعلَ التنوير يسقط من قبضتي لحظةً من أجل مغنم رخيص، أو مزايدة تافهة، أو تهافتٍ مُزرٍ على مكسب. أُقدَّمُ للمحاكمة فرحةً لأنني نذرتُ قلمي لنُصرة الحق والذود عن مسلوبي الحقوق المُستضعفين في الأرض، ولم أستغلّ قلمي ولا زوايا الصحف التي فتحت لي عتباتِها من أجل الارتزاق أو للكتابة عن أمرٍ شخصي. أذهبُ راضيةً مرضيةً وأنا أقول لجبران خليل جبران، يا أبتِ الطيب نمْ قريرَ العين في سمائك، أنا الجبرانيةُ الجميلة ابنتُك لم أخذلك يومًا ولن أفعل، انتصرتُ للراقي من الآداب والفنون والعلوم ولم أبتذل قلمي ولا لُغتي ولا روحي في الرخيص. أذهبُ إلى المحاكمة عزيزةً، أنفي للسماء لأن لي دينًا في عنق كلّ من تخلّى عني وعن قضية التنوير واختبأ تحت مِقعده مرتعدًا راجفَ القلب من حملة السيوف ناحري الأعناق. أتركُ ساحة المثقفين دائنةً لا مُدانةً. أذهبُ إلى محاكمتي الشهر القادم فخورةً أن أرفعَ الأقلام وألمعَ العقول في مصر وفي أرجاء المعمورة، دافعت عن قضيتي، لا بل عن قضية التنوير. أذهبُ جسورًا مطمئنةً لأن أساتذتي من قبلي لم يهابوا وذهبوا إلى مصائرهم جسورين غيرَ هيّابين، وأنا تلميذةٌ صغيرة في أواخر مقاعد درسِهم. طوبى للأسد الجائع الذي ينتظركم عند المِفرق، فجّهزوا لحومكم وشحومكم وعِظامكم، حتى يشبع الأسدُ. 
سيتصيدوننا واحدًا إثر واحد طالما لا نكوّن جبهة تنوير صلبة لا يقوون عليها. سيبقون بشباكهم السوداء علينا، فنسقطُ واحدًا واحدًا لأن بيننا الخائفَ والمرتعبَ والمذعورَ والمُزايدَ والمراهق والمُسطّح والطامعَ والأنانيَّ. سنقعُ جميعُنا فردًا فردًا مادام المثقفون مُشتتين متناحرين وفرقاءَ تحكمهم روح المراهقة والمزايدة الرخيصة لن تستنير مصر. ليس أمامنا إلا تكوينُ جبهة تنوير صلبة لكي نقشِّر أكوام الصدأ عن العقول ونزيح طبقات الظلام الكثيفة عن الأدمغة وإلا سيقصفوننا واحدًا واحدا.
ظلّت أوروبا القروسطية تعاني من سيطرة البابا حتى القرن الخامس عشر، حتى جاءها مارتن لوثر فأنقذها من سطوة ظُلم الكنيسة وظلامها. لكن مصر المسكينة تكافح الآن سطوةَ عشرات الباباوات المتأسلمين، وليس من "مارتن لوثر" واحد يحرّرها! لَكَم نحتاجُ الآن إلى مارتن لوثر مصري، يهدم الأوثان ويكشف تجّار الدين، ليُعلي الجوهر. يبحثُ عن "بذرة الجَوزة، ولُباب حبّة القمح، ونُخاع العظام". لَكَم نحتاجُ إلى "ابن رشد" جديد يكشف عوار عقولهم!
مجلة (٧ أيام)


CONVERSATION

0 comments: