روايات ثلاث وصلتني من الأديب اللبناني المعروف محمود شباط هي: "رجوع النورس الى عيون سنبل" و"عذراء قصر الشيخ" و"أرملة محترمة جداً"، وقد شدني العنوان الأخير إلى تقليب أوراق روايته، فإذا "بالتقليب السريع" يغرقني بقراءة متأنية حتى النهاية، وكأن أسلوب محمود شباط مغناطيس سحري لا يمكن الافلات منه دون الارتواء حتى الثمالة؟ وقد أدهشتني مزاياه العديدة التي تجعلك تشهق وأنت تعاينها وتتفاعل معها، ومن هذه المزايا اخترت ما يلي:
إنسانيته:
ما أن تقرأ الإهداء حتى تدرك أن قلم محمود شباط غائي لدرجة التضحية، فهو لم يكتب إلا من أجل "العاملين على أنسنة العالم... الساعين نحو مستقبل أفضل للبشرية جمعاء".
حبّه:
الحب عند محمود مثالي وخجول، يجمع الخوف والبطولة في آن واحد، وها هو يصور حالة ابنة الشيخ الاقطاعي الغرامية، بعد أن سلمها حبيبها الفقير قصاصة من الورق بكاميرا ثلاثية الأبعاد، كأفلام هوليوود: "وضعت كلتا راحتيها على المسابقة وقصاصة الورق، والتفتت حولها بهلع، تسارع وجيب قلبها واحمر ورد وجنتيها".
وحين علم والدها بغرامها وراح يؤنبها، ويأمرها بأن تغرب عن وجهه، "فاجأته بنظرة شرسة متحدية وبعنفوان: إن كنت تحب صلاحاً فزوّجه ممن تحبّه ويحبها، أنا لم أحب صلاحاً ولن أحبّه، ولن يمنعني من الزواج من صقر الشميساني سوى الموت، هيّا اقتلني إن كنت ترى أن لا بدّ من قتلي".
إنها البطولة الخائفة التي تجعل من الحب أسطورة، ترددها الأجيال دون ملل، ويحمل الناس أسماء أبطالها بشرف وأبهة.
تواضعه:
حين أخبر صقر حبيبته الغنية بأن منزله صغير وغير لائق، أجابته دون أن يرف لها جفن: "من يحبّنا يزورنا كما نحن".
هكذا أنطق محمود شباط بطلته الصغيرة ابنة السادسة عشر، لأنه أدرك بحسّه الأدبي أن مرض الكبرياء يتغلغل في شرايين مجتمعات اليوم، وخاصة النساء اللواتي لا يرضين الزواج إلا من رجل غني، يؤمن لهن رغد العيش، متناسيات أن الحب هو الغنى بحدّ ذاته، وأن الكبرياء هي الفقر المدقع مهما بهرتهن بفقاقيعها الهوائية التي سرعان ما تتطاير وتزول.
لقد وجه محمود رسالة الى كل واحد منا، وعلّمنا أن الحياة تبقى ناقصة ومتذبذبة بدون الحب والتواضع.
ثورته:
ثورة محمود شباط تمتد من الغلاف إلى الغلاف، فهو ضد الاقطاع، وضد التزلم، وضد الطائفية، وضد كل ما يحد من أنسنة المجتمعات المشرذمة لألف سبب وسبب. إنه رسول خير في عالم مظلم، سلاحه قلم، ودرعه ورقة، والويل لمن يقترب منه أو يتحدّاه، فبدلاً من أن "ينحدف" أدبياً إلى عالم آخر، "يحدف" أبطاله الواحد تلو الآخر، ليعلّمنا كيف نتمسّك بأرضنا، بقرانا، بمدننا، بتاريخنا وبتقاليدنا العريقة، كما يتمسّك هو تماماً.
هجرته:
محمود شباط "المنحدف" إلى السعودية، البلد الشقيق، يكره الغربة بشكل سافر، فهو لا يستسيغها، بل يجفل منها وإن غرق بلججها، وها هو يعلن كرهه لها على لسان بطلته: "شهقت: يا ربي! لوين؟، جفلت وصفقت خديها براحتيها: يا ربي لوين السفر يا صقر؟"
أرأيتم حركات محمود شباط عند ذكر السفر "جفلت وصفقت خديها براحتيها".
أسمعتم صراخه: يا ربي.. لوين السفر؟
أبطال محمود هم محمود نفسه، مهما تعددت أسماؤهم، يحركهم كيفما يشاء، وينطقهم بما يشاء، همه إيصال رسالته الانسانية الى قرائه، وقد وصلت إلينا ناصعة كثلج جبل الشيخ، جاره الحبيب.
قلم محمود شباط في "أرملة محترمة جداً" أكثر من محترم، إنه رفيق غربته، وطبيب معاناته، ودليل رحلته، وصديق كل من صادقه، وهذا ما يريحني طبعاً، كون الصداقة التي بيني وبين محمود ما كانت لتكون لولا قلمه الساحر المدهش.
0 comments:
إرسال تعليق