روايات الأستاذ الدكتور زهدي الداوودي هي روايات تأريخية ـ سياسية ولا من غرابة . فلقد إنصرف زهدي لعالم السياسة مُذْ كان ما زال طالباً صغيراً في حوالي السادسة عشرة من عمره . وحين بلغ مبلغ الشباب وصل إلى ألمانيا الديمقراطية أواسط ستينيات القرن الماضي ليدرس التأريخ في جامعة لايبزك ثم تخصص في دراساته الأعلى بتأريخ العراق للنصف الأول من القرن العشرين . إجتمع فيهِ معاً إذاً عالما السياسة إحترافاً والتأريخ هوايةً وتخصصاً . في روايته الأخيرة هذه ( ذاكرة مدينة مُنقرضة ) * وجّه زُهدي جهده لكشف وتعرية فساد وخراب حكومات العهد الملكي في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي . أرى ما قاله زهدي عن تلك الفترة ينطبق على باقي الفترات بدون إستثاء ـ إلا فيما ندر ـ بما فيها عراق ما بعد التاسع من شهر نيسان عام 2003 ! تكلم عن فساد الذمم وعن تفشي الرشوة والمحسوبية وشيوع أعمال الشقاوات ومافيات عصابات السطو وترويع الناس الآمنين وذوي المصالح البسيطة من أصحاب مطاعم وخياطين وباعة خمور . وتمشياً مع نهجه وفلسفته فيما يختار من نصوص روائية أفرد زهدي فضاءً واسعاً مؤثّراً لظاهرة البغاء وأدوار البغايا في حياة الناس وتأثيرهنَّ القوي على بعض كبار رجال الدولة وتعاون رجال العصابات معهنَّ ووضع ما لديهم من إمكانات تحت تصرفهنَّ . أعرف أنَّ الدكتور زهدي أراد إبتداءً أنْ يكون عنوان هذه الرواية [ ولاية بطيخ ] وهذا تعبير معروف في العراق يعني أنَّ الدولة العراقية هي دولة فُوضى وفرهود وغياب القانون والمعايير المدنية وضياع حقوق الناس وفلتان النظام . لذا كان جهد زهدي أساساً متوجهاً لكشف ونقد هذا الواقع ، واقع دولة البطيخ ، ومن ثم السعي لقلبه وتصحيح أوضاعه وإعلان شأن القانون وإحقاق الحق وزوال الظلم والإجحاف . نهج زهدي لتحقيق أهدافه النبيلة الكبرى هذه منهجاً روائياً طريفاً فيه ما يُبكي ويُضحك في عين اللحظة . أبطال التغيير المغاوير هم شلّة مشرّدة بائسة من ثلاثة عناصر : شمس الدين ونور الدين وخير الدين ! هل كان في رأس زهدي هدف محدد في اختياره لهذه الأسماء الثلاثة التي تنتهي جميعاً بلفظة [ الدين ] ؟ نعم ، كما يتهيأُ لي . لم يقلْ ذلك زهدي في روايته لكنَّ أيَّ قارئ ومن حق أي قارئ أنْ يخترق ويعبر العقود ليواجه العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حيث الدين المُسيّس يتصدر المشاهد السياسية . جعل زهدي المُدخل لأحداث روايته هذه بيتاً مُراقباً للدعارة تملكه وتديرة مومس [ كُزلي بالتركية ] أي خاصة غير عمومية إسمها عزيزة . لعبت عزيزة سوية مع الشقاة الطيبين الثلاثة أخطر الأدوار في هذه الرواية بل ، وربما يعتبرها البعض اللاعب الأول والأكثر خطورة . نسمع ما قال زعيم المجموعة السيد شمس الدين (( أمرنا لله والواحد القهّار ،يجبُ أنْ نزور هذه القوّادة فوراً وبدون تأخير. إننا نجدَ سَكَناً حتى لو كان في بيت عاهرة / الصفحة 27 )) . يبحثون عن سكن لأنَّ مقبرة المدينة كانت مأواهم . إسترسالاً مع طبيعته النقدية الفَكِهة الساخرة لا يترك زهدي فُرصة مناسبة دون أنْ يُدخل فيها عنصر السخرية خاصة ما يتعلق منها بالحكومات والحكّام ومن ماثلهم . ماذا قال شمس الدين بعد أنْ سطا ومجموعته على دكان المسكين دنخا وسرقوا مشروبات كحولية وبعض المزّات وبندقية ؟ (( سأل خير الدين ما إذا كان للويسكي علاقة بالسياسة أجاب شمس الدين فوراً بأنَّ مَن يشرب الويسكي يجبُ أنْ يكونَ سياسياً وأنَّ السياسي لا يمكن أنْ يكونَ سياسياً بدون الويسكي . إنَّ السياسة والويسكي توأمان / الصفحة 13 )) . الويسكي بالطبع يرمزُ ويُشيرُ للسُكر أي أنَّ السياسة أساساً في بلد مثل العراق لا عقلَ لها وإنها خربطة وفوضى تماماَ مثل شأن وعقل الثَمِل السكران لا سيطرةَ له على نفسه وتصرفاته وباقي شؤونه . فعزيزة ( لاحظوا مغزى الإسم رجاءً ! ) مديرة بيت للدعارة تساعدها في إدارته فتاتان ترقصان وترفّهان عن الزبائن متى شاؤوا .
من هي عزيزة وكيف وصلت العاصمة العراقية بغداد ؟ كانت عزيزة صبية صغيرة فقيرة خدعها طالبٌ في كلية الشرطة إسمه كمال . وعدها بالزواج بعد نقلها إلى العاصمة بغداد . وصلت بغداد فاغتصبها وتركها في أسوأ حال حتى وجدت نفسها مُضطرة إلى ممارسة البغاء لتتفادى البؤس والجوع والتشرد فضلاً عن مواجهة متطلبات الحياة الأخرى وخاصة السكن . نجحت عزيزة في مهنتها ، دون أنْ يذكر زهدي التفاصيل ، حتى غدت تملك بيتاً فخماً تديره كقوّادة بجواره بيتٌ ثانٍ للإيجار . ماذا عن ذاك الرجل الذي خدعها واغتصبها وخانها ثم تركها عرضةً لمصير مجهول ، السيد كمال ؟ غدا فيما بعد مدير الشرطة العام في حكومة ( دولة البطيخ ) ! . من هذا الثنائي ، ثنائي عزيزة وكمال ، تبدأ وتتشابك وتتسلسل أحداث الرواية الهامة والأكثر خطورة . كيف جمع زهدي بمهارة وحس طبقي إنساني وطبعٍ مناضلٍ بين قوّادة ورأس شرطة النظام ؟ شرطة العهد الملكي كانت بالفعل شرطة دعارة وأتاوات ورشاوى وخراب في الذمم وسيادة الفوضى . الدعارة شرطة والشرطة دعارة في دعارة ! بالتخطيط والحَنَكة والتهديد والإصرارعلى تغيير واقع عناصرها المالي والإجتماعي نجحت عصابة السيد شمس الدين المثلثة الرؤوس في الدخول مع عزيزة في صفقات معقّدة متشابكة تضمن لهم أعلى درجات النجاح وإمكانيات تحقيق مطامحهم وأمانيهم في الحياة على رأسها إصلاح حالهم البائس والإنتقال رأسياً إلى فئة إجتماعية عالية ترفل بطيبات الدنيا من ملبس ومأكل وسكن ونفوذ حكومي وشعبي . غيروا بالفعل حالهم دون أنْ يُنفقوا فلساً واحداً لأنهم وبكل بساطة ما كانوا يملكونه . حققوا ذلك كله بالمغامرات والتخطيط الجيد وبالذكاء الفطري ثم بقوة الدوافع والطموح للعلاء . كانوا على قناعة أكيدة أنَّ تغيير واقع الحال العام يبدأ من تغيير أحوالهم هم . غيروا بالفعل واقع حالهم فشرعوا بالتقدم خطواتٍ للأمام لقلب نظام الحكم وإرساء أسس نظام جديد يقضي بقوة القانون ويُرسي أسس الشرعية والعدالة الإجتماعية . لم يخضْ زهدي في طبيعة نظام الحكم الذي سعت المجموعة الثلاثية لتأسيسه بالتعاون مع بعض عناصر النظام القائم من مثل مدير الشرطة العام السيد كمال مجيد عزة ثم القاضي ومدير أو مسؤول الأراضي الأميرية وغيرهم من كبار رجال الدولة . ليست مسؤولية زهدي أنْ يخوض في التفاصيل بقدر ما كان مهتمّاً ومعنياً في فضح فساد ومساوئ نظام العهد الملكي وإبراز نشاط وأوجه نجاح العناصر المغامرة الثلاثة كأنَّ واحدهم ( روبن هود ) كلفه القدر أنْ ينقذَ البلاد والعباد . نفذ دكتور زهدي لتحقيق مشروعه الثوري من بيت السيدة عزيزة صاحبة ومديرة بيت الدعارة أو المنزول بالعرف العراقي . فيه وفي حضورها وبمساهمتها تمَّ التخطيط للإيقاع بمدير الشرطة العام وقد نجحوا . وما مدير الشرطة العام هذا إلا السيد كمال نفسه الذي كان طالباً في كلية الشرطة حين غرر واستدرج الصبيّة الفقيرة عزيزة إلى بغداد ليغتصبها ثم يتركها لأقدارها التعيسة . اللغز الذي وظّفه زهدي باقتدار هو حادثة قتل قام بها كمال بحق أحد زملائه في سلك الشرطة . إغتاله في زقاق قريب من بيت عزيزة وأُسدلَ الستارُ على جريمة القتل هذه لأنَّ الفاعلَ مجهولٌ كما أفادت تقارير ومحاضر الشرطة المختصة . عزيزة هي الوحيدة التي كانت تعرف القاتل الحقيقي ، كمال إذْ كان يرتاد بيتها ليمارس الجنس معها ويتمتع بما تقدمه الفتاتان ساهرة و زينة من رقص وغناء وما لذَّ وطاب من طعام .
وقع مدير الشرطة العام السيد كمال مجيد عزة في الفخ الذي أعدته مجموعة شمس الدين ثم عزيزة إذْ استدرجوه إلى بيتها كي يتمتع بما كان يتمتع به سابقاً من ملذّات جنسية وغيرها . جاء الفخَ هذا مع وعد من عزيزة أنْ تردَّ له ما في ذمتها من دين كبير له ( حوالي خمسة آلاف دينار عراقي مَلّكي ... دينار ذاك الزمان ! ) شرطَ أنْ يجلب معه الكمبيالات التي وقّعتها عزيزة ليردها لها مقابل حصوله على أقيامها نقداً . كيف دبّرت عزيزة هذا المبلغ الكبير ؟ لم تدبره المسكينة إنما كانت حيلة محكمة من تدبير شمس الدين وأركان عصابته مؤدّاها أنَّ عزيزة ربحتها في اليانصيب الحكومي المعروف في ذاك الزمان . الجنس إذاً والمال شكّلا عنصري الفخ والمصيدة القاتلين للسيد كمال . صوروه سرّاً مع عزيزة عارياً في فراشها ثم دخلوا عليه وقيدوه وخيروه بين أنْ يُقتل أو يُفضح أو أنْ يتنازل عن دينه أولاً ويقبل التعاون مع هذه المجموعة ، التي أصبحت مع عزيزة رباعية ، لكسب رجالات نافذة في نظام الحكم من أجل التغيير وقلب حكومة ولاية البطيخ . قبل كمال شروط المجموعة الرباعية وتنازل عن ديونه . هل نجح الساعون للتغيير في قلب نظام الحكم ؟ ترك زهدي النهايات سائبة مفككة لا توحي بشئ من هذا القبيل . التبدلات الجوهرية التي حصلت إنما طرأت على مجمل أحوال شمس الدين وصحبه إذْ غدوا رجالاً معروفين في مدينتهم على درجة كبيرة من الثراء يملكون عقاراتٍ وأراضيَ ونفوذاً شعبياً وآخرَ في أوساط بعض رجال السلطة الحاكمة . فضلاً عن الإنفراج الذي أصاب عزيزة ومهنتها إذْ رفع مدير الشرطة العام الرقابة على بيوتها فاستأنفت تجارتها السابقة التي درّت عليها المال والنفوذ . هذان هما التغييران الجوهريان اللذان حدثا من غير بلوغ الهدف السامي الأكبر : إسقاط النظام الفاسد وإحلال نظام حكم وطني عادل مكانه. لقد أقفل زهدي بذا كافة السُبل أمام مشروعه السامي ولم يأخذ القارئ إلى النهاية المتوقعة والمرجّوة . هل تعب زهدي وأعيى فقصّرَ ولم يُتم ؟ أم أنَّه رأى طريق الوصول مُعقّداً كثير التشعبات والتفصيلات فترك النهايات سائبة فضفاضة يعجز القارئ عن متابعتها أو التنبؤ بما ستؤول إليه أمور البلد والحكومة ؟ بدل مشروعه العظيم الذي عوّل فيه على شمس الدين وعصبته حوّل هدفه وجهده متّكلاً على نوايا بضعة من ضباط الشرطة والجيش الذين شكلوا تنظيماً سرياً لقلب نظام الحكم . غير أنَّ مدير الشرطة العام ـ الذي أسقطته عشيقته السابقة عزيزة بجهود شمس الدين ورجلي عصابته ـ خان الأهداف المركزية وانحاز إلى جانب الحكومة وتعاون مع ( الباشا ) وكشف أسماء مَن يعرف من شبكة تنظيم الضباط الأحرار ففشلت ثورة الجيش والشرطة ( الفصل 17 وما يليه من فصول ). وماذا بعد إنكشاف مخطط الضباط الثوريين ؟ لا أحدَ يعرف . تركه الدكتور زهدي غامضاً . لم يقم رجاله الثلاثة أساساً بأي مسعى لكسب رجال ثوريين عسكريين أو مدنيين ولم يفكروا بالسبل والأساليب لتنفيذ الثورة وقلب ولاية بطيخ . ثم ماذا عن مصير صاحبهم الذي اشتروه ، كمال ، ومن ثم تركهم وتولى عنهم وهو قاتل زميله صباح إبن الإقطاعي ؟ يبقى السؤال الأكثر أهميةً : ماذا عن الوطن وطن ولاية بطيخ ؟
بلغت ثورتا تونس ومصر نهاياتهما وحققت أغلب مطاليب الجماهير الثائرة فما سبب إخفاق مشروع ثورة الدكتور زهدي ؟ لم ينجز شمس الدين وجماعته ثورتهم لكنَّ الجيش العراقي قام بها في صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958. أعزو سبب فشل المشروع الداوودي في التغيير إلى عدم كفاية وأهلية الرجال الذين أعدّهم للنهوض بهذه المهمة الخطيرة . ما كانت في العراق وفي كل تأريخه السابق إمكانية للتغيير الجذري إلاّ بالجيش وهو قوة مُنظّمة مسلحة ومدربة على القتال . وكان الفريق بكر صدقي أول قائد عسكري عراقي يدشّن وللمرة الأولى مرحلة الإنقلابات العسكرية حيثُ نفّذَ الإنقلاب الأول عام 1936 ثم دفع حياته ثمناً له كما هو معروف [ الثورات تأكل رجالها ] .
لا جدوى من ملاحقة الإخفاقات في مسار وختام جهود شمس الدين وعصبته إذْ نجد أنفسنا أسارى قص زهدي وقدراته المنوّعة على سرد الأحداث وربطها ببعضها يجعلنا نشعر كأننا أمام فيلم سينمائي حقيقي متقن التأليف والتصوير والإخراج . غلب الطابع القصصي في هذا الكتاب على الجوانب التأريخية الروائية ، أي إنتصر القاص زهدي على زهدي المؤرّخ وهذا على ما أحسبُ كافٍ ففيه قدرٌ كبير من النجاح . إنتصر الخيال السردي على الحقائق التأريخية والمنطقية .
*
ذاكرة مدينة منقرضة . رواية للدكتور زهدي خورشيد الداوودي . الناشر : حكومة إقليم كردستان ، المديرية العامة للصحافة والطبع والنشر ، مديرية الطبع والنشر ـ السليمانية ـ الطبعة الأولى 2010 .
0 comments:
إرسال تعليق