د. فهد أبو خضرة |
منشورات مواقف -2012
يمكن اعتبار الديوان الجديد للشاعر والمحاضر الجامعي الدكتور فهد ابو خضرة تلخيصا لمسيرته الشعرية، او معلما ثقافيا شعريا لكل اصدارته الشعرية بين السنوات 1972 – 2012.
هذا الإنطباع هو بناء على ما سجله الشاعر نفسه في مقدمة ديوانه، بأن قصائد هذا الديوان كتبها في فترات مختلفة من حياته، ونشرها في مجموعاته الشعرية التي صدرت في السنوات المذكورة أعلاه.
اذن عودة الى الورد هي عودة الى ما يعتبره الشاعر أجمل القصائد (الورود) في مسيرته الشعرية.
ما يشدني لشعر فهد أبو خضرة هو الصوت الهادئ ، المتأمل، الحالم والرقيق في تعابيره الذي يميز نصوصه، أحيانا نوع من العبادة والصلاة والتنسك الشعري، ورأيت دائما قوة الظاهرة الصوفية* في شعره.
الشرح الزائد يعيق الوصول الى أسباب في صياغة بعض القصائد. لا ضرورة احيانا للشرح لأن الصمت امام بعض الأفكار التي يطرحها الشاعر تزيد جمالية النص، خاصة القارئ المثقف المتميز بوعي فلسفي وانساني وشمولية ثقافية قادرة على ربط أطراف عديدة من الحلم الشعري بواقع الحياة، بوجعها وجمالها ، بحزنها وفرحها،بيأسها واصرارها وبفهم واع ان الظاهرة الشعرية، تخاطب العقل الباطني ، الأحاسيس، الأحلام،الأمنيات وصولا الى الإدراك الواعي للإنسان، الذي يربط بين الكلمة والصورة الشعرية، بين جمالية النص ، وعمق الرؤية.
رؤيتي في القراءات الشعرية انه من الأفضل اعطاء تفسير للظاهرة والإجتهاد للوصول الى الجوهر. بعد تفسير الظاهر يكاد يتوارى جهد تفسير الجوهر لأن الظاهرة هي شكل فلسفي لوجود الجوهر،الذي يسطع بقوة لا تحتاج الى مزيد من التفسير ، حتى لا يصير حالنا كمن فسر الماء بالماء، وتصبح الثقافة حسابات هندسية، وهو ما أكرهه في الكثير من النقد الذي يغرق بالشكل ويتجاهل الجوهر.
هذه الإشكالية بين الظاهر والجوهر،هي من الأشياء التي لا يستطع الإنسان ان يعبر عنها بالكلمات فقط، ولذلك ظهر الأدب عامة والشعر خاصة بالإيحاء والصور القلمية عن الفكرة والكلمة والجوهر الفلسفي للأفكار التي تحرك قلم ونشاط المبدع .
فهد ابو خضرة في قصائده يعلن ان العالم لا يدور حول مصادر الضجيج، رغم انها تلفت النظر ولكنها سرعان ما تتوارى، انما ما يشغل العالم ، وخاصة مفكريه وادبائه، ان يقدموا للإنسان قيم جديدة تأخذهم الى رحاب انسانية اجمل واوسع وتستحق ان نحيا من أجلها بعد ان يستتب العدل والحب بين البشر.
ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء
لم يحن وقتك بعد
(من قصيدة ايها القادم)
والآن اريدكم الإنتباه للمفارقة . الشاعر يخاطب القادم بأن وقته لم يحن بعد،هو قادم فلماذا ياتي قبل الوقت؟ الجواب في تتمة القصيدة:
ها هنا في قمة الأحقاد والويل المعاد
لم تزل تنتظر الأيام نيرون الجديد
علها تحرق في ذاكرة الحاضر روما ،
والرماد
يبرئ الأعين من داء طواها الف عام.
القادم في مركبة الشمس هو المسيح المنتظر، نيرون لم ينه مهمته بعد... ليحرق ما تبقى ، فحتى ينهي نيرون وظيفته، حتى يصل الشر الى اقصى حدود الويل والأحقاد ، بعدها سيكون ل "ألقادم" ان يجيئ ليبرى النفس البشرية من نيرون وأمثاله .
يمكن تأويل القصيدة في اتجاهات عديدة،من هنا جمالية الشعر الذي يدفعك للتفكير وليس للإسترخاء لحسن النظم فقط. يسطع بقوة في صوره الشعرية شكلا من الرؤية الصوفية، البعض قد يربط الفكرة الشعرية بالواقع السياسي، بالمأسي التي تواجه العديد من الشعوب وليس شعبنا فقط. انا اميل لفكرة ان فهد ابو خضرة اقرب للصوفية (بمفهومها الفلسفي) في ايماءاته الشعرية، الصوفية لا تعني التنسك عن واقع الإنسان ومعاناته، بل ظاهرة احتجاجية لغياب العدل الذي يحطم كمال الإنسان الأخلاقي.
ينهي قصيدته بتساؤلات يطرحها للقادم في مركبة الشمس اذا حان وقته – (التكنولوجيا جعلت الحمار الأبيض مركبة شمسية):
أترى ما كان بالأمس يعاد؟
اترى تورق في الصحراء اغصان؟
أترى يقتلع الوهم الذي ساد الزمان؟
اكاد اسمع فيروز تنشد "سنرجع يوما الى حينا". والأهم الا يكشف فهد في هذه القصيدة أكثر مما يخفي؟ في آخر جملتين تتضح الصورة:
ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء
أترى وقتك وقتي؟
هذا ما يقلقنا جميعا. نريد للقادم ان يعود في وقتنا حتى يتسنى لنا يوم نحياه بفرح بدون نيرون وشركاه، بدون الحرق والقتل ومعاناة بني البشر.
لا أظن ان اجتهادي في طرح رؤيتي الذاتية يخدم عرضي الثقافي، ولا اقول نقدي، فقد أسعفني الدكتور الأديب والمفكر والمحاضر في السوربون افنان القاسم بتعبير "عرض" بدل كلمة "نقد" التي لم أحبها يوما، في وصف مراجعاتي الثقافية، وانا شاكر له اعفائي من آفة تعبير النقد.
لا بد من شحذ ذهن القارئ الى ان موضوع القادم لا ينتهي مع القصيدة الأولى، الا يشير ذلك الى رؤية فلسفية ما يحاول الشاعر ان يطرحها ؟ مثلا هل يختلف جوهر كلمة "قادم" بمعناها العملي، عن كلمة "عائد"؟ اليس في القدوم عودة وفي العودة قدوم؟ اذن قصيدته الثانية هي استمرار لإنتظار القادم، الذي يصير هنا عائدا. هذا ما وجدته في قصيدته الثانية: " ايوب الجليلي يعود الى الورد":
عاد أيوب الجليلي الى الورد وطيبه
بعد ان جرعه الدهر العذابا
المسيح هو ابن الجليل حيث القى خطبته المشهورة باسم التطويبات وقام باول واهم عجائبه، وايوب الجليلي هو الفلسطيني الذي شرد وصودرت احلامه وايوب هو مثال الصبر والإصرار على العودة ولا بد للفلسطيني ان يكون ايوب في صبره أيضا.. حتى يعود الى "الورد وطيبه" حين ياتي "القادم" بمركبة الشمس.
الشاعر يكشف برمزيته، وايحاءات شعره، المزيد من المضامين بدون ان يجعل من قصائده وأفكاره ظواهر صوتية شعاراتية.
عاد أيوب الجليلي الى الورد وطيبه
واحتفى كل حبيب بحبيبه
العودة هي مسك الختام. فهد ابو خضرة ينشد العودة بطريقته الصوفية الحالمة، آخرون ينشدون العودة بقوة الصوت والمنابر،آخرون بوسائل قوة لم يترك لهم الزمن خيارات غيرها. لا افاضل بين الأساليب، انما ارى ان فهد اعطى للشعر، للرؤية الإنسانية، الدور الفاعل ، وهذا يذكرني بقول لماركس بان "الفكرة حين تتغلغل بالجمهور تصبح قوة هائلة".
القصيدة الثالثة هي عودة أخرى لنفس الأجواء: "اغنية للزمن الآتي"، ننتقل من القادم بمركبة الشمس الى أيوب الجليلي العائد وصولا الى الزمن الآتي ، سلسلة لا تنقطع متماسكة من حيث الفكرة والصورة الشعرية والفلسفية:
هي العودة البكر
كل الزمان الذي مر في النار
وهج من الحب،
بسر من الحكمة الخالدة.
طبعا الروح الصوفية تشتد حدة في هذه القصيدة. الزمان الذي مر في النار هو زمن الضياع ،زمن الشتات. فهد لا يتخلى عن كونه انسان اولا، مطلع قصائد فهد تكاد تبدو بدايات لصلوات فيها جمالية الرمز الشفاف ، قوة الطيبة البشرية التي ترفض ان تتخلى عن قيم البشر مهما جار الزمان، لأن الإنسان كما احاول ان أفهم فهد ابو خضرة هو ليس أداة ميكانيكية بل مشاعر طاهرة اذا فقدها فقد انسانيته، نجد هذه الثيمة عبر كل نصوصه الشعرية:
بقوة هذا الذي فيك كان،
وكنت به الحب والدفء للعاشقين
(من قصيدة اغنية للقدس)
حقول من الشمع
ترسل أنفاسها
صلاة
وأناتها
دعاء
الى واهب العفو والمغفرة
(من قصيدة شاعر في مغارة التجليات)
شامخا في الساحة الكبرى أمام النهر
عشرين ذراعا ، مرمرا أبيض
في يمناه سيف
وعلى يساره وحش بشري
(من قصيدة الفتى والوحش)
اكتفي بهذه المقاطع التي أخذتها تباعا من ثلاث قصائد. الصور توحي باجواء معبد مسيحي، في قصيدة "الفتى والوحش" مثلا يتابع:
حدث الراوون قالوا
ان هذا راس سفاح أثيم
انه الأخطبوط (الوحش) الذي يقتله "مار جرجس" حسب القصة المسيحية. هذه الصور تتماثل مع الواقع لمن يملك خيالا يتجاوز الصورة الشعرية، وهنا جماليتها الصياغية اولا، والرؤيوية ثانيا، مما يجعل القارئ يغرق متاملا، طبعا ليس اي قارئ، بل القارئ المتمرس خصب الخيال الواسع المعرفة.
ان مطلع قصائد فهد لها مميز هام انها تشكل تأكيدا على الرؤية المتوهجة التي يقود القارئ اليها دون عناء.
البعض يفهم ان فهد ابو خضرة هو شاعر وجداني، هذا لا ينفي وجدانيته القوية في نصوصه وهذه ميزة لكل مبدع ، ان تكون وجدانيته مطبوعة في نصوصه، ولكنها لا تنغلق على ذاتيته وتعزله عن واقع الحياة، بل تضيف الى نصوصه الشعرية الانطلاق الى آفاق واسعة حدودها السماء، يمكن القول ان نصوصه تحاكي الواقع عبر وجدانية الشاعر.
قصائده هي خطاب للعقلانية.
كلما تعمقت بقصائد اليوان أشعر باني يجب ان أضيف، ولكني اكتفي حتى لا اكرر نفسي. الشاعر نجح ببناء صرحه الشعري الخاص والمميز في شعرنا المحلي كله.
هذا يعيدني الى الفترة التي اكتشف فيها العالم العربي شعرنا الفلسطيني واطلقوا عليه تعبير "أدب المقاومة"، ربما لغياب أي مقاومة عربية حقيقية غير الشعر.. وخاصة شعرنا الفلسطيني المحلي.
سادت وقتها القصائد المهرجانية الخطابية والمباشرة، من ناحية أخرى لعبت الهيكلية الحزبية والإعلامية السائدة دورا كبيرا في التسويق.
لا ادعي ان الشعراء الذين برزوا لا يستحقون ما اكتسبوه من اعجاب، انما اسجل حقيقة ان شعرنا لم يكن يستحق ما حظى به من حماس مبالغ وصل حد التقديس ولم يكن كله على نمط واحد . هناك اسماء عديدة ظلت في الظل .
من هنا ارى ان مسيرتنا الشعرية تحتاج الى اعادة تقييم جذرية لا تغمط حق أحد.
*- الصوفية: تيار في الفكر العربي – الإسلامي ظهر في القرن الثامن الميلادي وتتميز بصهرها بين نظرية المعرفة حول وحدة الوجود ، أي اعتبار كل الموجودات تجليات للإله وبين مذهب يرى كمال الإنسان الأخلاقي.طبعا هناك بحر من التفسيرات والتقسيمات في تأويل هذه الظاهرة، لكني على قناعة ان جوهرالصوفية هو ما سجلته، من منطلق ان كل ظاهرة فكرية او دينية او فلسفية لا تظهر لتكرر ما هو موجود فقط.
nabiloudeh@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق