إصدار الجزء الثاني من أنشودة الحياة للشَّاعر صبري يوسف

صبري يوسف ـ ستوكهولم

صدر للأديب والشَّاعر السُّوري صبري يوسف ديوان جديد بعنوان: أنشودة الحياة، الجزء الثاني، في ستوكهولم، نصّ مفتوح، قصيدة شعريّة ذات نَفَس ملحمي طويل، تتألّف من عدّة أجزاء، كلّ جزء (مائة صفحة) بمثابة ديوان مستقل، ومرتبط  مع الأجزاء اللاحقة. أنجزَ المجلَّد الأوَّل، (عشرة أجزاء)، ينشر هذه الأجزاء تباعاً، بإصدارات خاصّة عن طريق دار نشره، ثم سينشرها بعدئذٍ بمجلِّدٍ واحد، بعد أن يتمّ ترجمتها إلى اللُّغات العالميّة الحيّة، رغبةً منه في التَّواصل مع الآخر عبر يراعِ القصيدة.
يتناول هذا النَّصّ، الجزء الثاني من أنشودة الحياة، استكمالاً للجزء الأولَّ، قضايا مأساويّة أنينيّة مدمِّرة لإنسانيّة الإنسان، حيث سلَّطَ الضوء في هذا الجزء من الأنشودة على حماقة السياسة العالمية في تدمير حضارة آلاف السنين، معتبراً إياها ( حضارةُ نارٍ وكبريت)، قاصداً الحضارة الأميريكية عندما اجتاحت العراق ودولاً أخرى، وأخرى في طريقها إلى الإجتياح، كما ركّز عبر فضاءات الديوان على علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، مع الطَّبيعة، ومع الكثير من قضايا الحياة، كمحور لبناء هذا النصّ ـ الأنشودة، حيثُ يرى أن حياةَ الإنسان أشبه ما تكون قصيدة مرفرفة فوقَ وجنةِ الحياة، فلمَ لا نكتبُ تدفُّقات رؤانا الجامحة بكل تلاوينها، قبلَ أن نحلِّقَ عالياً في ليلةٍ قمراء، ونغفو بين أحضانِ السَّماء!
فيما يلي القسم الأوّل من الجزء الثاني من الأنشودة

أنشودة الحياة* ـ 2 ـ
[الجزء الثاني]
(نصّ مفتوح)

1
.... .... ......
عَبروا بُرَكَ القيرِ
ماتَتْ هداهدُ الرُّوحِ
غبارٌ مسربلٌ بجنونِ الدُّولارِ
 تفتتَتْ عظامُ الطُّفولةِ
عطشٌ حارقٌ فوقَ أسوارِ المدائنِ
ورمٌ في أعلى المخيخِ
صَرخَتْ أمٌّ  في وجهِ الدُّنيا
دموعٌ لا تجفِّفُهَا شهقة الأحلامِ
هطلَتِ الصَّواريخُ
     فوقَ غلاصم بابل
هطلَتْ فوقَ أجنحةِ الحضارةِ
تريدُ أنْ تقصَّ بهجةَ المكانِ
ضبابٌ فوقَ خرائط الحروبِ
تخثَّرَ الغسقُ من سماكةِ الدِّماءِ
انقرفَ ظهرُ المدائنِ
لا كهرباء
عطشٌ ماحقٌ يسطو
     فوقَ مهودِ البراعمِ
ألفيّةٌ مريضة
ناقمة على حبالِ السّرّةِ
ناقمة على فراخِ اللَّقالقِ
ألفيّةٌ ضالّة
مشحونةٌ بالرُّعونةِ
خِرَقٌ متشرّبة بهواءٍ مُدمى
انقضّتْ قنابلٌ غبيّة
هرسَتْ أثداءَ الأمّهاتِ
أفواهُ الأطفالِ عطشى
اندلقَتْ دنانُ الحليبِ
آهٍ .. تمزّقَ صدرُ السَّماءِ
     من تفاقماتِ القنابلِ
نَمَتْ مخالبٌ مخيفة
     في شفاهِ البشرِ
تدرّجاتٌ سقيمة
     في سلَّمِ الشَّراهةِ
     في كهوفِ الضَّواري
غوصٌ بغيضٌ
     في أوكارِ الأفاعي
أنيابٌ مقطَّرة بالقارِ والنَّارِ
تهرَّسَ وجهُ الغسقِ من الأنينِ
ذُهِلَ البدرُ عندما رأى
     وحشيَّةَ هابيلَ العصرِ
تجتاحُ براءةَ الطُّفولة
تبيدُ أحلامَ الصَّباحِ
ضجرٌ لا يُطاق!
تساءَلَتِ النُّجومُ
لماذا خلقَ اللهُ الإنسانَ
     على صورتِهِ ومثالِهِ؟!
هل فعلاً
الإنسانُ مخلوقٌ
     على صورةِ اللهِ ومثالِهِ
أم أنّ إنسانَ اليومِ
تطايرَ في ليلةٍ مظلمةٍ
     من فُوَّهاتِ البراكينِ
     من أنيابِ الذِّئابِ؟!
إنسانٌ من لحمٍ ودمّ
يشطحُ نحوَ بُرَكِ الدمّ
لا ينامُ إلا على دمدماتِ الحروبِ
فرشَتِ الصَّواريخُ كآباتها
على سهولِ الرُّوحِ
فماتَتْ فراخُ الحجلِ
     قبلَ أنْ ترى نورَ الحياةِ
هربَتِ الدَّوابُ الأليفةُ
     إلى البراري
أعلنَتْ انضمامَهَا
     إلى عالمِ البراري
لا تطيقُ موتَ الصَّباحاتِ
     في رابعةِ النَّهارِ
لا تصدِّقُ إلفةَ الإنسانِ
تتحوَّلُ بغمضةِ عين
     إلى أنيابٍ مميتةٍ
ضجرٌ متغلغلٌ
     في ظلالِ الأشجارِ
كآباتٌ مستشرية
     في غبشِ المساءِ
حمقى
     على اِمتدادِ
          محطّاتِ العمرِ
تركَتْ رضيعَهَا مقمّطاً
     بأعشابٍ برِّيّة
صعدَتْ سفوحَ الجبالِ
أزيزُ الموتِ يجتاحُ شهيقَهَا
هل أعودُ إلى رضيعي
أم أستمرُّ في صعودِ الجبالِ؟
استيقظَتْ على صوتِ
     صفّاراتِ الجنونِ
ابني
رضيعي
أينَ رضيعي؟
تدحرجَ من أثرِ ارتطامِ
     صاروخٍ غبيٍّ
          على مقربةٍ من مهدِهِ
اغبرّتْ رموشُه النَّديّة
رغوةٌ سوداء
     على حافّاتِ شفتيهِ
جرحٌ عميق
     على صدغِهِ الطَّريٍّ
أنفٌ شامخٌ
     رغمَ تفاقمِ الغبارِ!
وجعٌ قبلَ الولادةِ
     بعدَ الولادةِ
وجعٌ عبرَ الرَّحيلِ
     بعدَ الرَّحيلِ
وجعٌ أكثرَ إيلاماً
     من غربةِ الرُّوحِ
     بينَ صقيعِ الزَّمهريرِ!
أيادٍ خشنة تؤشِّرُ
     على مرابع نينوى
سلاحٌ أكثر شراسة
     من ضباعِ الكونِ
     مُشَرْشرٌ بالحماقاتِ
سلاحٌ مجنونٌ
يهرسُ جماجمَ الأطفالِ
وجعٌ في سماءِ الرُّوحِ ينمو
وجعٌ يمحقُ شموخَ الجبال!
حربٌ أغبى
     من ثعالبِ الوديانِ
حربٌ مشروخةُ الأفقِ
     مكتنـزةٌ بالسُّمومِ
داسَتْ في جوفِ حيتانِ المحيطاتِ
حربٌ أدمَتْ قلوبَ العشّاقِ
     قلوبَ القبّراتِ
فرّتِ الزرازيرُ بعيداً
تاركةً خلفَ أجنحتِهَا
    دخانَ الموتِ
    يلعلعُ في وجهِ الخصوبةِ
ماتَتْ حبيبةٌ من قهرِهَا
انتظرَتْ حبيبَهَا
حتّى فارقَتْ اشتعالَ المكانِ
فشلٌ في قمّةِ الأبراجِ
أبراجُ السِّياسةِ
أبراجُ الدُّولارِ
فشلٌ في بناءِ الكونِ
فشلٌ كثيفُ الحموضةِ
فشلٌ مريرٌ مبرقعٌ بالغثيانِ
قرفٌ يرافقُهُ تقيؤي
مَنْ يستطيعُ أنْ يطفئَ
     محارقَ الرُّوحِ؟
أوجاعٌ على امتدادِ
     جذوعِ النَّخيلِ
أوجاعٌ متطايرة
     من مياهِ دجلة
شظايا حارقة على وجوهِ الحجلِ
حرقَتْ عيونَهَا الكحيلة
لم تنجُ أسرابُ السّنونو الهاربة
     من وهجِ الاشتعالِ
لماذا يحاربُ شبابُ هذا الزَّمان؟
فوائدُ الحروبِ
     قتلى من كلِّ الأطرافِ
فوائدُ الحروبِ مزيدٌ مِنَ الحماقاتِ
     مزيدٌ مِنْ عُفونةِ الرُّؤى
خرجَتِ الْحَشراتُ الصَّغيرة
     مِنَ الأرضِ
تستقبلُ الرَّبيعَ
محقَتْ طراوتَها رذاذاتُ الشَّظايا
ذُهِِلَتِ الْوحوشُ البرّية
فرَّ قطيعُ الذِّئابِ
عابراً كهوفَ الجبالِ
قصفَ صاروخٌ ثلاثة عجولٍ
بكى ثورٌ دمعةً واحدة
تخلخلَتْ عظامُ الكهولِ
طفلٌ مغبرُّ الوجهِ
يبحثُ عَنْ أمِّهِ
     بينَ الأنقاضِ
يصرخُ صراخاً
يشقُّ وجهَ الشَّفقِ
أريدُ أمّي
أمّي ..
أينَ أنتِ يا أمّي؟
لا يكترثُ للكاميراتِ
ولا لصفّاراتِ الإنذارِ
ينظرُ إلى السَّماءِ
مطرٌ يزدادُ اشتعالاً     
     فوقَ جموحِ الطُّوفانِ!
تآمرَ الإنسانُ على ذاتِهِ
بشرٌ تشرّبوا مناهجَ مِنْ رمادٍ
ضجرٌ يشرخُ شموخَ المكانِ
انزلقَ الكونُ
     في وادي الجنونِ
شعاراتٌ مفهرسة بالعناكبِ
بأحلامِ السَّيطرة
     على آبارِ الموتِ
تبخَّرَتِ الحكمةُ
     من ذهنِ
          أصحابِ القرارِ
رؤى مجوَّفة بالاشتعالِ
اشتعالُ عباءةِ المساءِ
ريشُ البلابلِ
      على تخومِ الاشتعالِ
حتّى خفافيشِ اللَّيلِ
     لاذَتْ بالفرارِ
تزلزلَ الكونُ
ومازالَ أحمقُ هذا الزَّمان
يداعبُ كلبَهُ ببرودةِ أعصابٍ
لماذا تداعبُ أطفالُ العراق بالقنابلِ؟
لماذا تبيدُ خصوبةَ الحضارةِ؟
نامَ العربُ نوماً
     منافساً أهلَ الكهفِ
خرجَ العربُ خارجَ الزَّمانِ
عبروا نسيماً عليلاً
ظلّوا معلَّقينَ بينَ موجاتِ النَّسيمِ
خفَّ وزنهم أكثر
     من ريشِ الحمامِ
طاروا إلى الأعالي
تاركينَ براكين القيرِ 
تزلزلُ جبهةَ الحياةِ ..
تقلَّصَتْ خصوبةُ الرُّوحِ
عربٌ من لونِ الهشاشةِ
عربٌ قهروا الكونَ "بالسَّلامِ" ..
عربٌ في لبِّ الحضارةِ
لا يهمّهُم لو قُصِفَتْ بابلَ
لو تهشّمَتْ
     جثث الفراعنة المحنّطة
يلوِّحونَ أيديهم
     باستهزاءٍ 
هامسينَ للجنِّ
شَبَعْنَا من الحضارةِ
شبعنا من الحروبِ
شَبعْنَا من العلمِ  
شَبعْنَا
     من كلِّ شيءٍ
          سوى الغباءِ!
هبطَ اللَّيلُ فوقَ خُوَذِ الجنودِ
أجسادٌ مشتعلة
ارتعشَتِ الأرضُ
خرّتْ دموعُ القمرِ
     فوقَ نجيماتِ الصَّباحِ
ذُهِلَتْ مياهُ المحيطِ متسائلةً
لِمَ كلّ هذا الإرتصاص؟
زمجرَتِ المياهُ
     من أعماقِ القاعِ
وجعٌ مشنفرٌ فوقَ هاماتِ المحيطِ
تأوَّهَ المحيطُ باكتئابٍ
زيحوا عن رقبتي أطنانَ الرَّصاصِ!
أكادُ أن أُسْلِمَ الرُّوحَ
زيحوا عن رقبتي
     رغوةَ طيشِكُم ..
أرهقْتُم كاهِلِي!
     *****
غيمةٌ سوداء موشّحة بالدمّ
غولٌ فوقَ أراجيحِ الطُّفولةِ
برقٌ فوقَ جسدِ المدائنِ
زنازينٌ غير مرئيّة
شيوخٌ مجنّحونَ بالحسرةِ
تخشى احتراقَ أحلامِ العمرِ
     أحلامِ البنينِ
     أحلامِ السَّنينِ
تاهَتِ الحضارةُ عن لُجينِ الطِّينِ
زاغَتْ عن دربِ الملوحةِ
لا طعمَ  في وهادِ العمرِ
ولا رائحة في دروبِ الرَّبيعِ
حضارةٌ مصقولةٌ بالاسفلتِ
     بطائراتِ الشَّبحِ
بالمكرِ
بشراهةِ السَّيطرةِ على مالِ الغيرِ
آهٍ .. يا ثعلبَ الصَّحراءِ
عن قصدٍ أو دونَ قصدٍ 
طرَحْتِ نفْسَكِ ثعلبَ الصَّحراءِ!
ماذا يتوقَّعُ الإنسانُ
من ثعلبٍ
يعبرُ أعماقَ الصَّحارى ؟
تحملينَ في لاشعورِكِ الضمنيِّ
     مكرَ الثعالبِ
     منحى الثعالبِ
تهجمينَ هجومَ الثَّعالبِ
وإلا
لماذا وُلِدَ ثعلبُ الصَّحراءِ؟!
هل انبثقَ الثَّعلبُ
من بينَ القططِ الأليفةِ
من بين الخرافِ الوديعةِ؟
كيف فاتَكِ
أن تطرحي نفسَكِ ثعلباً؟
أنسيتِ أنّنا معشرُ الشُّعراءِ
نمقتُ منهجَ الثَّعالبِ
     رؤى الثَّعالبِ
     طموحَ الثَّعالبِ
     غدرَ الثَّعالبِ ..؟
 سلوكٌ مثلَ الثَّعلبِ
هذا كانَ نعتَكِ
هل يشرِّفُكِ
أن تحملي بينَ ضلوعِكِ
     خباثةَ الثَّعالبِ
     خيانةَ الثَّعالبِ
تسميمَ اشراقة الصَّباحاتِ
عجباً أرى حضارةً
تنهضُ
     على ذيولِ الثَّعالبِ
     على جماجمِ الطُّفولةِ
     على جوعِ الكهولةِ
حضارةٌ من رملٍ
تطمسُ وهجَ الحضاراتِ
تعفِّرُ وجهَ بابلَ
تقتلُ نينوى دونَ وجلٍ
وتحرقُ عشبةَ كلكامش
غيرَ مكترثةٍ لدموعِ الثَّكالى
     لدموعِ العشَّاقِ المنسابةِ
     على قبورِ ضحايا قُتلوا
     عندَ مفترقِ الصَّحارى
حضارةٌ من نارٍ وكبريت
قائمة على نهجِ الكراتينِ
على زيادةِ بلوكوزاتِ الدُّولارِ
على زيادةِ أوجاعِ الإنسان
حضارةٌ كثيفةُ الحموضةِ
غيرُ مستساغةٍ حتّى من بَنيها
حضارةٌ طائشةٌ
تدوسُ فوقَ حميميّاتِ البشرِ
     فوقَ عفويّاتِ الرِّيفِ
     فوقَ شموخِ السَّنابلِ
تكسرُ بحماقةٍ
     أغصانَ النَّخيلِ
تعفِّرُ دماءَ الأنهارِ
تهرقُ سكينةَ اللَّيلِ
تقلقُ هدوءَ الكهولِ
تفزعُ الطُّيورَ المهاجرة 
حضارةٌ ملطّخةٌ بالبراكينِ
تعفِّرُ وجهَ الشَّفقِ بالقيرِ
تملأ الدُّنيا حيرةً
     قلقاً
     ضجراً لا يُطاق!
سئمْتُ اشراقةَ الصَّباحِ
مللْتُ من الإنزلاقاتِ
     في بُرَكِ الحزنِ
تحشرجَ الشَّهيقُ في سماءِ الألمِ
أوجاعٌ من كلِّ الجِّهاتِ
جيوشٌ جرّارة
تتربّصُ أطفالاً مرضى
تتربَّصُ شيوخاً
أكلهم الأنينُ والقنوطُ
تتربَّصُ نساءً مصابّات
     بجفافِ العمرِ
تتربَّصُ شباباً
كرهوا اليومَ الّذي وُلدوا فيه
تتربَّصُ أرضاً موغلة
     في أعماقِ الحضاراتِ
تريدُ أنْ تسحقَ جماجمَ آشور
     الجنائنَ المعلّقة
     سورَ بابل ..
تريدُ أنْ تعفِّرَ عذوبةَ المياهِ
تريدُ أنْ تقتلعَ وردةَ الرَّبيعِ
تحرقُ الأقاحي
آهٍ ..
ما ذنبي يا أبتي أن أُوْلَدَ
     في أرضِ الحضاراتِ؟
ما ذنبي يا أبتي
أن أكونَ أوّل المشرّعين
كتبتُ دساتيري على الطّينِ
ها هم ثعالبُ الصَّحارى
يريدونَ أنْ يكسروا
     ألواحَ الطِّينِ
دساتيري
اِبَقَيْ يا دساتيري صامدةً
     في حنايا الطِّينِ!
إيّاكِ أنْ تستسلمي لثعالب
     هذا الزَّمان
إيّاكِ أن تحني رأسكِ
     لهراطقةِ العصرِ
أينَ أنتَ يا كلكامش
هل ما تزالُ نبتة الخلودِ
خالدةً
     في وهادِ سومر وأكّاد
لا تقلقي يا بابلَ
ثعالبُ هذا الزَّمان
غيرُ قادرةٍ
     على طمسِ جنائنِكِ
غيرُ قادرةٍ على زحزحةِ
     وجهِكِ الشَّامخِ
          في برجِ الحضارةِ
حضاراتٌ تأتي وتزول
تبقى أنقى الحضارات
     لا تزول
وحدُها الكلمة الحقّ
تبقى ساطعةً
     بينَ أضلاعِ التَّاريخِ
شامخةً فوقَ قبَّةِ الحياةِ
وحدُها المحبّة باقية
     فوقَ أجنحةِ الحضارةِ
كلّ معارك الكونِ
تنتهي في مهاوي الرِّيحِ
تنتهي في ظلمةٍ ظالمة
عالقة
     في هوامشِ التَّاريخِ
كلّ معارك الكون
     معاركٌ باطلة
لا منتصر في الحروبِ
كلّ الحروبِ في طريقِهَا
     إلى وادي الجنونِ
جنونُ البشرِ!
منذهلٌ أنا
كيفَ يريدُ الإنسانُ
     خوضَ المعاركِ
منذهلٌ أنا
كيف يقتلُ الإنسانُ الإنسانَ
من أجلِ أرضٍ
     أو نفطٍ
          أو جاهٍ؟
إنّه جنونُ الصَّولجانِ
انزلاقُ الحضارةِ
     في قعرِ اللاحضارة
تختفي رويداً .. رويداً
تباشيرُ حضارةٍ منعبثةٍ
     من ضلعِ الوغى!
لا أرى في رؤى السَّاسةِ الكبارِ
     غيرَ انحرافٍ عن دربِ المنارةِ
     عن دربِ الهدى
لا أرى في وجهِ الشَّفقِ
     ملامحَ فرحٍ
ولا في خيوطِ الشَّمسِ
     وهجَ  الحرارةِ
يراودني أن الشَّمسَ ضَجِرَت
     من عبثِ الإنسانِ
فتقلّصَ وهجها
غير راغبة
أن تغدقَ على البشرِ دفءََ البرارةِ!
لم أعُدْ أطيقُ نشرةَ الأخبارِ
تحاليلَ السَّاسةِ
التَّعبئةُ الطَّارئةُ
تطلُّعاتٌ مشروخةٌ للغايةِ
حواراتٌ منخورةٌ
جيوشٌ مخيفةٌ
حاملاتُ الطَّائراتِ
تلعلعُ على وجهِ المياهِ ..
آهٍ .. مَنْ يهدِّدُ مَنْ؟
تلكَ هي المسألة ..
جنونٌ حتّى النَّخاعِ!
انحدارٌ
     نحوَ الهاوية
إنّه آخر موبقاتِ الصَّولجانِ
هل الدُّولارُ
    الذَّهبُ الأسودُ
          البنّيُّ
     الذَّهبُ الأزرقُ
          الأصفرُ
هل كنوزُ الكونِ
تساوي موتَ الطُّفولةِ؟
هل كنوزُ الكونِ
تعادلُ موتَ الكهولةِ
     تعادلُ شهيقَ الصَّديقةِ؟
هل نحنُ باقون على وجهِ الأرضِ
     أكثرَ من الأرضِ ..
لماذا لا نتركُ الأرضَ وشأنها؟!
نحن ياسادة ياكرام
مجرّد كُتَلٍ صغيرة
أصغرَ من حبّاتِ الرَّملِ
     على الأرضِ
جزءٌ نافرٌ
     من حبيباتِ الأرضِ
ضيوفٌ على الأرضِ
رحلةٌ عابرة
     فوقَ شهقةِ الأرضِ
لماذا لا نعطي صورةً تليقُ بنا
     لأمِّنَا الأرضِ؟
لماذا لا نردُّ
     جميلَ الأرضِ للأرضِ
أَلمْ تأوِنا فوقَ لحافِهَا الدَّافئِ
     سنيناً ..
     قروناً .. ؟!
لماذا نتركُ الأرضَ تغضبُ منّا
لماذا أيّها الإنسان
يغريكَ بريقَ الدِّماءِ
     بريقَ الأخذِ لا العطاءِ؟
الأرضُ تغدقُ حبّاً عليكَ
وأنتَ تغدقُ جمراً
     من لونِ الوباءِ
آهٍ ..
يا حمقى هذا الزَّمان
لو تعلمونَ
كم رؤاكم المتحجِّرة
     قصيرة!
لو تعلمونَ
كم ثعلبياتم
     معاصٍ
          كبيرة!
لو تعلمون
أنَّ الإنسانَ أخو الأرضِ
ابنُ الأرضِ
صديقُ الأرضِ
سيّدُ الأرضِ
حبيبُ الأرضِ
لو تعلمونَ أن علاقاتكم
     غيرَ داجنة
          معَ الأرضِ
غير معرَّشة
     معَ شهقةِ الأرضِ
     معَ اخضرارِ الأرضِ
ما تزالوا ضالّين
     في جاداتِ الأرضِ
تائهينَ
بينَ وخمِ المالِ
وشبقِ الصُّعودِ
     إلى قمةٍ الأبراجِ!
تائهينَ بينَ رؤى مفهرسة
          بجلدِ الثَّعالبِ
بناطحاتٍ مترجرجةٍ
     فوقَ كثبانِ الرَّملِ
تائهينَ عن خصوبةِ الحقِّ
     عن درعِ العدالةِ
     عن جمالِ الوردةِ
حضارةٌ مندلقة
     من جلودِ الأفاعي
شائخة في قمّةِ أوجِهَا
ستهبطينَ أيَّتها المزركشة
     بقشٍّ متطايرٍ
          في مهبِّ الانحدارِ
نحنُ في عصرِ سرعةٍ مميتةٍ
لا نستغلُّ سرعةَ العصرِ
     لصالحِ العصرِ
يَقتَلُ العصرُ ذاتهُ بذاتهِ
     بسرعتِهِ المريبة
عصرٌ غيرُ مكترثٍ
     لأغصانِ الحياةِ
لا مبالٍ لخصوبةِ الغاباتِ
يقتلعُ تعبَ العمرِ
يرميه في قاعٍ الزَّنازينِ
عصرٌ يفرّخُ سجوناً
     من أوداجِ الحزنِ
     من قنوطِ الأيامِ والشُّهورِ والسّنينِ!
عصرٌ لا يأبه بطموحِ البشرِ
     براحةِ البشرِ
     بنعاسِ البشرِ
عصرٌ منفلتٌ من مخالبِ الضِّباعِ
     من جشاعاتٍ تجثمُ ثقلها المريع
          فوقَ دماءِ الرَّبيعِ
عصرٌ خارجٌ عن القانونِ
عودةٌ مريبة
     إلى شريعةِ ما قبلَ الغابِ
قرفٌ من ضجرِ التَّلاطمِ
لماذا يفرشُ الشرُّ أجنحَتَهُ
     فوقَ رحيقِ الخيرِ
يدمي سموَّ الرُّوحِ؟!
ضجرٌ عندَ الولادةِ
بكاءٌ على امتدادِ يفاعةِ الشَّبابِ  
حزنٌ
     على مساحاتِ
          أحلامِ الكهولِ
شيوخٌ تقارعُ
     مرارةَ الحنظلِ
غريبةٌ أنتِ يا روح
     في دنيا
          من حجر!
وجعٌ أكثرَ مرارةً من الفراقِ
فراقُ الأحبّةِ
فراقُ البنينِ
فراقُ نسيمِ الصَّباحِ
وجعٌ أكثر إيلاماً
     من فرارِ الأيّامِ
     من فرارِ الحجلِ
     من فرارِ عبقِ الياسمينِ
من فرارِ العشّاقِ إلى قفرِ الحياةِ!
وجعٌ من لونِ الزمهريرِ
تتوالدُ المعاركُ كالأرانبِ
يتطايرُ من أوداجِهَا أجنحةُ بشرٍ
متوغِّلة في كهوفَ الموتِ
قبورٌ على مساحاتِ البحرِ
قبورٌ على حافّاتِ اللَّيلِ
قبورٌ محنّطة بانشراخِ الحياةِ
قبورٌ صغيرة من بتلاتِ الوردِ!
وجعٌ ينضحُ أنيناً هادئاً
يتصالبُ معَ زرقةِ السَّماءِ
يمتدُّ من فروةِ الحلمِ
     حتّى أعماقِ ينابيعِ الرُّوحِ!
أريدُ أن أنامَ نوماً عميقاً
أن أعيشَ قرناً من الزَّمانِ
أن أعيشَ عمراً مفتوحاً على يراعِ الحياةِ
لأكتبَ شلالاً من الفرحِ
     شلالاً من العشقِ
أسقي أجنحةَ الطُّفولةِ العطشى
أزرعُ حبّاتِ المحبّةِ في سماءِ الكينونةِ
     في سماءِ العمرِ
أفرشُ محبّةَ البشرِ فوقَ هضابِ الحياةِ
أعانقُ أصدقائي الشُّعراء
ألملمُ صديقاتي الشَّاعرات
وأدعوهنَّ إلى الشَّواطئِ البكرِ
     من قبابِ الرُّوحِ
نعانقُ سويةً بهجةَ انتصارِ الشِّعرِ
     على موبقاتِ الصَّولجانِ!
      *****
ستوكهولم: 2003
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

عطر المكان يفوح وجعًا في قرى فلسطين المهجرة!/ آمال عوّاد رضوان

تتزامن الأحداث ما بين بسمة ودمعة ومحبة ولوعة مع تفاصيل الحياة الفلسطينيّة ودقائقها ونكبتها، ويُقيم نادي المحبة في عبلين معرضًا للصّور الفوتوغرافيّة، تحت عنوان عطر المكان لقرى مُهجَّرة، كان قد نظمه مسؤولو وداعمو نادي المحبّة، والذي تمّ افتتاحه بتاريخ 21-5-2012 في عمارة المركز التجاريّ - وقف الروم الأرثوذكس، ليتمّ اليوم اختتامه!
"عطر المكان" لقرى مُهجرة، بعدسة الدكتور جبّور جريس خوري من عبلين، وصور من الطبيعة بعدسة مجدي عساف من معليا، ولعطر المكان حنين خاصّ للماضي وللمكان وللإنسان، ولعدسة د. جبّور رنين خاصّ في الذاكرة الفلسطينيّة ببعض ما التقطته من قراها المُهجّرة، تلدغ التهميش والتجاهل بوخزاتها، لتستفيق من غفوتها عقود ستّة ولّت من زمن النكبة، وظِلال المكان لا زالت تعبق بعطرها النافذ وبحسرة شعبها الدامع، فتشيعُ في النفس همسات حزينة، لكنّها تحمل التحدّي والآمال، فرغم الإهمال ما انفكّ فستان طبيعتها المهلهل الرّثّ يزخر بالجَمال والصّفاء والخضرة والحياة، لتعمّق في عين رائيها قيمة تثقيفيّة وجَماليّة، وتُرسّخ في بواطن فِكره وذهنه الحاضر جذورَ الماضي وفضاءَ المستقبل والوطن.
قام عدد من أعضاء جوقة الكروان العبلينية وعدد من أعضاء النادي النسائي الأرثوذكسيّ العبيلينيّ بزيارة المعرض، لدعم نادي المحبّة ومؤسّسات عبلين الثقافية والخيّرة، والتي تسعى إلى تواصل الأجيال وربط حاضرها بماضيها ومستقبلها.
تحدث د. جبّور خوري عن بداية اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافيّ، من خلال رواية للأديبة الفلسطينيّة سوزان أبو الهوى كتبتها بالإنجليزيّة وتُرجمت للإيطاليّة، وعن تجاربه ومتعته وإصراره في متابعة التصوير من زوايا مُحدّدة، رغم المصاعب والمخاطر الكثيرة التي ترافق جولاته التصويريّة في القرى الفلسطينيّة المهجّرة، وتأبى هذه العدسة المجنونة إلاّ أن تعيدنا إلى شريط النكبة ومرارته عام 1948، وأعود لأفتح بطون المواجع والمراجع الفلسطينيّة، وأيّام الرعب والترهيب والشتات، حيث تمّ ما يربو عن 35 مجزرة بالشعب الفلسطينيّ، وتهجير 530 بلدة فلسطينية من آهليها، معظمها في الجليل، وتبلغ مساحتها 18.6 مليون دونم، أي ما يعادل 92% من مساحة ما يسمى "إسرائيل"، وكان لهذه العدسة الجامحة أن تلتقط بومضاتها الثاقبة معالم ألم صارخ فوّاح محفور في المكان، كأنّما تؤنب ضمائر أهل الكهف مَن غطّوا في سباتهم المأفون!
قرية البروة المُهجّرة:
حالاً يتبادر إلى أذهاننا ابنها محمود درويش، وأهمّ مآثر سكّانها المشهورة، حين ساهم مسلموها في تعيين كاهن لمسيحيّي البروة الخوري جبران، ووقّعوا على عريضة موافقة وأرسلوها إلى البطريرك الأورشليميّ، لأنّه سيمثل كلّ البروة وسيكون خوري البروة، فتأثر البطريرك بكلامهم ووافق على تعيينه!
البروة قرية فلسطينيّة مهجرة تابعة لقضاء عكّا، تقع على بعد 10.5 كم، عرفت باسم برويت عند الصليبيّين، وانتزعها العثمانيّون من المماليك في القرن السادس عشر الميلاديّ، وفي القرن التاسع عشر كانت البروة كبيرة تضمّ مسجدًا وكنيسة ومدرسة للبنين، وفي الانتداب البريطانيّ بُنيت أيضا مدرسة للبنات، وروى الكاتب صبحي ياسين انه في 19-7-1938 قام عدد من المجاهدين بوضع لغم عند مفرق قرية البروة، وحين مرّت ثلاث سيارات عسكريّة آتية من مدينة عكا ومتجهة نحو قرية سخنين، انفجر اللغم ممّا أسفر عن مقتل 12 جنديًّا، من بينهم قائد معسكر سخنين، وجُرح خمسة، فعادت السيّارتان الباقيتان إلى عكا، وحضرت بعد ذلك قوّات كبيرة شرعت في القيام بأوسع عمليّة تخريب ونسف وتنكيل واعتقال في البروة وشعَب والدامون، سُمّيت "موقعة الصبر"، لأنّ القوات البريطانيّة جمعت رجال القرية وأجبرتهم على قطع ألواح الصبر، ثمّ قامت بإلقائها عليهم، وفي 11-6-1948 احتلها اليهود واستولوا عليها، وطُرد أهلها وصاروا لاجئين، وبُني على أرضها كيبوتس أحيهود وياسور عام 1949 و1950.
قرية الخصاص المُهجّرة:
تقع في قضاء صفد إلى الشمال الشرقيّ وللغرب منها تل البطيحة يرتفع (164) متر، على نهر الحاصبا بين مفرق الحدود الفلسطينيّة اللبنانيّة السوريّة، وتنتشر أشجار الفاكهة بمحاذاة مجرى الحاصبانيّ من جهة الشرق، وشجر الزيتون في غرب القرية، وقد طُرد السكّان من قريتهم عام 1949م إلى جبل كنعان، ثم إلى وادي الحمام، وبقوا حتى سنة 1952م، فرفعوا شكوى إلى محكمة العدل لإعادتهم إلى قريتهم وصدر الحكم بإعادتهم، ولكن السلطات العسكريّة أصدرت أمرًا آخر بإخراجهم لأمور أمنيّة.
قرية ميرون المُهجّرة:
هي واحدة من قرى قضاء صفد، وقد ذكرها الجغرافيّ العربيّ الشهير الدمشقي في القرن الرابع عشر للميلاد، فتقع في السفح الشرقيّ لجبل الجرمق أعلى جبال فلسطين على منطقة صخريّة خفيفة الانحدار، وتطلّ على تلال الجليل الأعلى، حيث يمرّ في المنطقة الجنوبيّة من القرية وادي ميرون، وبالقرب من القرية بعض الخِرَب يعود تاريخها إلى أوائل عهد الرومان والقرن الثالث عشر الميلاديّ، فيها قبور محفورة بالصخر وصهاريج مياه وغيرها من الآثار القديمة، وكان أهلها يعتاشون من الاعتناء ببساتين الزيتون، حيث تتواجد بكثرة في القرية ومن كلّ جوانبها وبالذات شمالها الشرقيّ. ذكَرَها الرحّالة بيدكر عام 1912 فقال: "إن ميرون قرية قديمة على يبدو وسكانها من العرب المسلمين"، وفي الإحصاء السكانيّ عام 1931 كانت ميرون تشمل حارتين؛ حارة العرب إلى الشمال الغربيّ تضمّ نحو 259 عربيًّا، وحارة اليهود حيث كانت قائمة بالقرب من المقام "الكهف"، حيث يرقد الحاخام بار حاي كما يعتقد اليهود وتضم 31 يهوديًّا، وكانت الحارتان متقاربتيْن، وعام 1945 أشارت الإحصاءات إلى أنّ جميع السكان في ميرون هم من العرب، لكّنهم طُردوا على مرحلتيْن، الأولى بعد سقوط مدينة صفد بيد "الهاغاناة" في 10-5-1948،  والثانية في 29-10-1948 بعد سقوط ميرون ضمن عمليّة "حيرام" التي استهدفت قرى قضاء عكا، وبعد قصفها وقصف ترشيحا بثلاث طائرات، وعام 1949 أُسّست مستعمرة "ميرون" إلى الشمال من موقع القرية العربيّة ميرون.
قرية دير القاسي المُهجّرة؛ زنبقة الجليل:
في أقصى شمال فلسطين في الجليل، في العهد العثمانيّ كانت بلِواء صفد، وفي عهد الانتداب البريطانيّ تبعَت قضاء عكا، ويصل أقصى ارتفاع في الشمال الغربي للقرية 753 م جبل سراج وقلاع الراهب وتلّ الرويس، وتمرّ في القرية طريق تقسم القرية إلى حارتيْن شرقيّة وغربيّة يصل إلى ترشيحا وسحماتا وفسّوطة إلى الأراضي اللبنانيّة. تبعد عن عكا 20 كم شمال الشرقيّ و5 كم جنوب الحدود اللبنانيّة تحيط بها من الشمال أراضي فسوطة والمنصورة، ومن الغرب أراضي إقرث، ومن الجنوب أراضي ترشيحا وسحماتا، ومن الشرق حرفيش والقرى اللبنانيّة القريبة منها رميش، عيتا الشعب، وتربيخا ،وتتزوّد القرية بالماء من الينابيع المجاورة مثل ينبوع وادي الحبيس وعين البخرة وبركة ماء كبيرة في الحارة الشرقيّة.
في القرية مقام الشيخ جوهر ومقام أبو هليون وزاوية للطريقة الشاذلية، وفي كلّ حارة جامع، ومناخ دير القاسي بارد ممطر شتاءً، ومعتدل في الربيع وحار بالصيف، تعتمد القرية في معيشتها على الزراعة البعليّة، كزراعة القمح والشعير والذرة والتبغ، والتين والزيتون، وقد احتلها الصهاينة في 20-10-1948، حيث نزح الأهالي القرية إلى لبنان.
قرية عكبرة المُهجّرة:
تقع 2 كم جنوب صفد، وقد سقطت في 9-5-1948، وتُعدّ القرية ذات موقع أثريّ يحتوي على جدران متهدّمة وصهاريج ومعصرة زيتون وقبور وناووس مزدوج منقور في الصخر قرب عين صالح، بالإضافة إلى خربة العقيبة في الجنوب الشرقيّ على ارتفاع 464 م عن سطح البحر، وتعنى سفح الجبل التي كانت تقوم عليها (قرية عكبر) في العهد الرومانيّ تحتوي على أساسات، حجارة منحوتة ومبعثرة، معاصر خمر، وحظائر، وكانت مأهولة في العهد العثماني (1904م)، وكان بعكبرة مسجد واحد ومدرسة للذكور، وعُرفت في العهد البيزنطيّ بأشبار، وما زال خمسة عشر منزلا من المنازل القديمة قائما في الموقع، فضلاً عن مبنى المدرسة، ولم تقم مستوطنة على أرض عكبرة. كانت تنتشر على طرفي وادي عميق يمتدّ من الشمال الى الجنوب وبعد الوادي تل يواجه القرية، وكانت طريق ترابية تصل عكبرة بمدينة صفد المجاورة، وإلى الجنوب الشرقيّ من عكبرة كانت خربة العقيبة، التي يُعد موقعها مطابقًا لموقع قرية أخاباري الرومانيّة عام 1904، وهذه الخربة قرية آهلة (سالنامة ولايت بيروت في عام 1322 ه ص 194)، مذكورة في (د 6/2 : 183) في أواخر القرن التاسع عشر، كانت قرية مبنيّة بالحجارة، وكان معظم سكانها من المسلمين، وقد نُقّب في الخربة المجاورة، فظهرت أثار لأسس أبنية دارسة وحجارة منحوتة ومعاصر للخمر.
قرية الجاعونة المُهجّرة:
الجاعونة تقع على سفح جبل كنعان وتشرف على غور الأردن من الجهات كافة ما عدا الغرب، قريبة من الجانب الغربيّ لطريق عامّ يوصل إلى صفد وطبريّا، وعام 1596 كانت الجاعونة في ناحية جيرة لواء صفد، وعدد سكانها 171 نسمة، وكانت تؤدّي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والزيتون، بالإضافة إلى عناصر أُخرى من الانتاج والمستغلات كالماعز وخلايا النحل وطاحونة تعمل بالقوّة المائيّة. في أواخر القرن التاسع عشر كانت الجاعونة مبنيّة بالحجارة، وعدد سكانها 140-200 نسمة يعملون في زراعة التين والزيتون كلّهم من المسلمين، فيها مدرسة ابتدائية للبنين أُسّست أيّام العثمانيّين، وعلى الرغم من قلة موارد المياه عندهم، فقد كانوا يزرعون الحبوب والزيتون والتين الهندي والعنب.
كان مصير الجاعونة وثيق الارتباط بمصير مدينة صفد المجاورة، ويقول المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس أن نزوح سكان الجاعونة كان حدث في وقت ما قبل 2-5-1948، وأُفرغت من سكانها في 9-6-1948 إبان الهجوم النهائي على صفد، وعلى الرغم من الاحتلال الصهيونيّ للجاعونة، فقد بقي بعض سكّانها فيها حتى حزيران 1949، وطُردوا منها بالقوّة بعدما أرغمت شاحنات الجيش الإسرائيليّ السكانَ على الصّعود إلى الشاحنات، وأفرغتهم منها على سفح تل أجرد بالقرب من قرية عكبرة المهجرة، واليوم باتت مستعمرة روش بينّا تحتلّ موقع القرية، وقد بقي الكثير من منازل القرية قائمًا؛ بعضها يشغله سكّان المستعمرة، وبعضها الآخر حجريّ مهجور ومدمّر، ولأحد المنازل باب تعلوه قنطرة.
قرية الصفصاف المُهجّرة:
تقع بين قريتي الجش وميرون على ارتفاع 750 م عن سطح البحر شمال غرب صفد بحوالي 9 كم على الحدود الشرقيّة لقضاء عكا، وتبلغ مساحة أراضيها 7391 دونما، تحيط بها أراضي قرى الجش، ميرون، قديثا وبيت جنّ، وكان عدد البيوت داخل البلدة عام 1931 (124 بيتا)، وكذلك مدرسة ابتدائية للأولاد، وتعود ملكيّة أراضي البلدة لسكانها العرب، حيث لم يسكن أيّ يهودي أرض الصفصاف إلاّ بعد سقوطها واحتلالها يوم 29-10-1948، ولا زال في الصفصاف 3 بيوت قائمة حتى يومنا هذا، وهي محتلة من اليهود وتستعمل كمخازن للمزارعين اليهود في مستعمرة صفصوفا والتي أقيمت على أراضي البلدة، وكانت أراضي الصفصاف مقرّ قيادة منطقة صفد في حرب 1948، ومثلها مثل الكثير من القرى التي قاومت حتى الرمق الأخير، وكان نصيبها مجزرة رهيبة ذهب ضحيّتها الكثير من الشهداء أُعدموا رميًا بالرصاص، ثمّ وضعت جثثهم في بئر البلدة وطُمرت إلى الأبد، وكانت تسمى سفسوفا (Safsofa) أيام الرومان، وكانت تؤدّي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والزيتون والفاكهة، والماعز وخلايا النحل، وكان سكانها كلهم من المسلمين، لهم مسجد وسطها وبضعة دكاكين، ومدرسة ابتدائيّة أُنشئت أيّام الانتداب، وكانت الزراعة عماد اقتصاد الصفصاف، وكان شجر الزيتون وغيره من الأشجار المثمرة يُستنبت في الأراضي الواقعة شمالي قرية الصفصاف.
قرية سحماتا المُهجّرة:
تقع في قلب الجليل الأعلى إلى الشمال الشرقيّ من عكا وتبعد عنها 17كم، أزيلت عام 1948م وأُقيم على أراضيها المسلوبة (موشاف حوسين) عام 1949م، يمرّ بمحاذاتها طريق عام يربطها بمدينة صفد، وبمدينتي نهاريا وعكا وبعض القرى، تحدّها قرية ترشيحا غربًا، وكفر سميع والبقيعة جنوبًا، وبيت جن جنوب شرق، وحرفيش وسبلان شرقًا، ودير القاسي وفسوطة شمالا، وذكر المؤرخ الفلسطينيّ مصطفى الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين" أنّ أصل تسمية سحماتا قد يكون قد حرّف من "سماحا" السريانيّة بمعنى النور والإشراق، أمّا الشيخ سمعان، أبو عفيف (1912-1999) فيقول:
كانت القرية القديمة موجودة على الجهة الشماليّة من القرية الحاليّة، وكان فيها كنيسة يعود تاريخها إلى ما قبل أكثر من 1500 سنة وكان اسمها قرحاتا، يمكن الاسم بيزنطي، وكان يعيش فيها وجيهٌ اسمه متى، مرض متى مرضًا قويًّا وعجز المطبّبون عن علاجه، فنقلوه إلى تلة جنب القرية، فيها هواء نقيّ وماء نظيف وطبيعة حلوة، بعد فتره شفي وصارت الناس يقولون: "صح متى، صح متى"، بعدها تحوّلت الصّاد لسين، وصارت سحماتا.
كان أغلبيّة سكانها من المسلمين، ولكنها كانت مثالاً يحتذى في التسامح والترفع عن الطائفيّة والتعصّب الدينيّ، ورغم وجود ثلاثة مخاتير فيها فكانت الكلمة الأخيرة للمختار قيصر السمعان، إذ كان موضع ثقة الناس ومرجعًا لحلّ مشاكلهم، حتى المعاملات الشرعيّة كانت تتم عن طريقه، لدرجة جعلت القاضي الشرعيّ في عكا يلفت نظر مشايخ سحماتا إلى هذه الظاهرة، فما كان منهم إلا أن لخّصوا موقفهم بكلمات بسيطة مُعبّرة: "نحن على دين قيصر"، فأُعجب القاضي بهذا الموقف ووعدهم بأنه سيعطي الأولويّة للمعاملات التي تحمل توقيع قيصر السمعان.
اشتهرت سحماتا بزراعة الدخان والحبوب والتين والصبر والعنب، وأشجار الزيتون والسنديان والبطم والزعرور، فكانت سحماتا بهجة للناظر، وتكوّنت سحماتا من حارتين أساسيتين تفصل بينهما البرك وساحة القرية الرحبة التي كانت تشهد ليالي الأعراس؛ فالحارة الغربية (التحتا) يتوسطها المسجد والكنيسة، وكانت تضمّ المدرسة الابتدائية التي اسسها العثمانيون في العام 1886، والدراسة فيها كانت حتى الصفّ الرابع، وتضم أيضًا المنزول (الديوان)، والحارة الشرقية (الفوقا) التي تقع في أعاليها القلعة التي بناها الصليبيون، وفي القرب منها جنوبًا كانت المدرسة الزراعية التي تأسست أيّام الانتداب البريطانيّ تحيطها حديقة مساحتها عشرة دونمات لتدريب الطلاب على طرق الزراعة العمليّة، تربية الدواجن (الدجاج والحمام)، وتربية النحل بالأسلوب الحديث، ولكن لم يفلت أهالي سحماتا من تعذيب وهمجيّة جيوش الانتداب البريطانيّ، خاصّة أنّ أهالي سحماتا ناضلوا وثاروا ضد الانتداب وتحيّزه للحركات الصهيونيّة.
تمّ إسكان اليهود في بيوت سحماتا إلى أن تمّ الانتهاء من بناء مستوطنات لهم على أراضيها، بعد ثلاث سنوات، دُمّرت القرية تدميرا كاملا حتى يفقد الأهالي الأمل في العودة إليها، وأقيمت على أراضي سحماتا مستوطنتان هما: (حوسن وتسورئيل)، والجناح الشرقيّ من مستوطنة (معلوت)، وكذلك البحيرة الاصطناعيّة.
قطع الأهالي عهدًا على أنفسهم للقيام بأعمال تطوّعية أسبوعيّا للمحافظة على المقدّسات والمقابر، التي لم تتورّع السلطات عن تدنيسها وإدخال الأبقار والحيوانات إليها، فقام المستوطنون بسرقة شواهد القبور وآثار سحماتا ووضعها في ساحات بيوتهم للزينة، وما زال مُهجّرو سحماتا يخوضون معركتهم من خلال جمعيّة أبناء سحماتا التي تأسست عام 1996، فقِسم منهم وصل إلى سوريا وضواحي دمشق، والغالبيّة منهم حطّت بهم الرحال في مخيّمات لبنان وبعض مدن وقرى لبنان، وبقاع العالم كبقية لاجئي فلسطين.
قرية الكويكات المُهجّرة:
قرية عربيّة ساحليّة تقع على بعد تسعة كم شمال شرق مدينة عكا الساحليّة في لواء الجليل العربيّ، ترتفع (55) متراً عن سطح البحر، وتنتشر على تلٍ قليل الارتفاع في الجزء الشرقيّ من سهل عكا، وطرق فرعيّة تربطها بطريق عكا صفد العامّ وبالقرى المجاورة، وكان الصليبيّون يسمّونها (كوكيت)، والرحّالة الذين زاروها في أواخر القرن التاسع عشر وصفوها بأنها قرية مبنيّة بالحجارة تقع على سفح أحد التلال، وكان عدد سكان الكويكات عام 1881 م 300 نسمة، يزرعون الزيتون جميعهم من المسملين، وفيها مدرسة ابتدائيّة بناها العثمانيّون عام 1887، ومسجد ومقام للشيخ الدرزي أبو محمد القريشي، وبسبب قرب القرية من عكا استطاع سكّانها الاستفادة من الخدمات التربويّة والطبيّة والتجاريّة المتاحة في المدينة، وكانت الآبار تمدّ القرية بالمياه للريّ وللاستخدام المنزليّ، وأراضيها تعتبر من أخصب أراضي المنطقة، وكانت الحبوب والزيتون والبطيخ منتوجاتها الرئيسية، وتربية الدواجن وإنتاج الألبان، وكانت المواقع الأثريّة في سحماتا وجوارها وتل ميماس تضمّ خزانات قديمة للمياه، ومعاصر للعنب ومدافن محفورة في الصخر.
قرية هوشة المُهجّرة:
قامت على تلال قليلة الارتفاع فاصلة بين سهل حيفا ومرج ابن عامر، يمتدّ الى الغرب منها واد واسع يُشكّل الحدود بينها وبين خربة الكساير، وذهب بعض الباحثين إلى اعتبارها مُطابقة لبلدة حوصة التوراتيّة، من مواطن سبط بني أشير الإسرائيليّ، وقد صُنفت هوشة مزرعة في معجم فلسطين الجغرافيّ المفهرس زمن الانتداب، ومنازلها تتجمع على شكل العنقود حول مركز القرية الذي كان فيه صهريج مياه، وكان سكانها من المسلمين يشاركون خربة الكساير المجاورة في مقبرة، أمّا اقتصاد هوشة فكان يعتمد على الزراعة وتربية المواشي، وكانت الحبوب أهم محاصيل القرية وتزرع في الأراضي الجنوبيّة الغربيّة للقرية، كما خُصّصت مساحة صغيرة إلى بعض الخرائب القديمة العهد، منها أسس أبنية دارسة ومقام لنبيٍّ يدعى هوشان، وبئر وقبور منقورة في الصخر وأرضيّات من الفسيفساء.
دُمّرت هوشة وسُيّجت المنطقة وأُعلنت موقعًا أثريًّا، ولم يسلم منزل واحد في القرية من الهدم، مع أنّ حيطان عشرين منزلا تقريبًا بقيت قائمة، وما زالت أُطر النوافذ والأبواب في الأبنية الحجريّة بادية للعيان، وتنتصب شجرة نخيل وحيدة في الموقع الذي غلب عليه شجر التين ونبات الصبّار، واستمرّ البدو المقيمون في الجوار يستعملون المقبرة الواقعة جنوبيّ الموقع، وثمّة مقام قريب وبستان سرو شمالي الموقع.
 قرية الخصاص المُهجّرة:
تقع في الجزء الشمالي من سهل الحولة، على مصطبة طبيعية عرضها مئة متر تقريبًا، تشكلت قبل آلاف السنين من تقلص بحيرة الحولة القديمة، والتي كانت ذات مرة تغطي حوض الحولة كله، وكان نهر الحاصباني يمرّ إلى الغرب من الخصاص شاقا مجراه عبر الجبال، طريق فرعية تصل الخصاص بطريق عامّ يؤدي إلى صفد وطبريّا، وقد وصف الجغرافي العربيّ ياقوت الحموي (توفي سنة 1229) الخصاص بأنّها من قرى بانياس السوريّة، وعام 1945 كان عدد سكانها في موازاة نهر الحاصباني، بينما كان شجر الزيتون مغروسًا في الجهة الغريبة، وفيها مقام لشيخ يدعى عليّ يقع في الجوار، وبضعة قبور منقورة في الصخر، وتُعدّ الخصّاص ذات موقع أثريّ يحتوي على مدافن منقورة في الصخر ونحت في الصخور، وللغرب من القرية يقع تل البطيخة يرتفع 164 م عن سطح البحر، ويحتوي على تل أنقاض، شقف فخار على وجه الأرض، وحجارة مبعثرة.
قرية الحسينية المُهجّرة:
كانت مبنية على تل قليل الارتفاع، في الركن الجنوبيّ الغربيّ من سهل الحولة، وفي الجانب الشرقيّ من طريق عام يفضي إلى صفد وطبرية. وقد لحظ الجغرافي العربي ياقوت الحموي (توفي سنة 1229) قِدم أبنيتها، وامتدح واحدًا منها زعم أنه كان في الأصل هيكلاً، وربما كان بناه سليمان؛ وكان ماؤه شديد الحرارة، لكنه صاف تمامًا وعذب، يتدفق من كلّ واحدة من كوى البناء الاثنتي عشرة، وكان الماء الدافق من كلّ منها يشفي بحسب ما قيل من داءٍ مخصوص، واعتبره الحمويّ موضعًا من عجائب الأرض، وكانت منازلها مبنيّة بالحجارة، وفيها مدرسة ابتدائية تشاركها فيها قرية تليل المجاورة، وأراضيها خصبة وغنيّة بالمياه الجوفيّة والسطحيّة المستمدّة من الينابيع والجداول والآبار الارتوازيّة، وكان سكانها مسلمين، ويعتمدون في تحصيل رزقهم على الزراعة وتربية المواشي.
قرية الغابسيّة المُهجّرة:
كانت مبنيّة على تل صخري ينتأ من سهل عكا، وكانت تقع عند أسفل جبال الجليل الغربيّ إلى الجنوب تمامًا من طريق عام يربط ترشيحا بمستعمرة نهاريا وبعكا، والكهوف الكثيرة استخدمت كمقابر، وكانت آهلة في العصر الكنعاني، وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت الغابسيّة مبنيّة بالحجارة على قمّة تل، وكان عدد سكانها 150 نسمة تقريبًا وتحيط بها أشجار الزيتون والتين والرمّان والبساتين.
كانت القرى الثلاث الغابسيّة والشيخ داود والشيخ دنون قريبة جدًّا من بعضها، والشيخ داود والشيخ دنون كانتا متداخلتين في بعض الأجزاء، أمّا الغابسيّة فكانت تقع على بعد 500 متر منهما، وكان السكّان كلهم من المسلمين، وكان في الغابسيّة مدرسة بناها العثمانيون في سنة 1886، وكانت منازل القرية مبنية بالإسمنت المسلح والحجارة المتماسكة بالطين والأسمنت، وكان اقتصادها يعتمد على تربية الحيوانات وزراعة الحبوب والخضروات والزيتون الذي كانوا يعصرونه في معصرتين تدران بالحيوانات، في الغابسيّة والشيخ داود.
قرية البصة المُهجّرة:
كانت القرية تقع على سفوح تلّ صخريّ إلى الشمال من وادي البصة، وكانت طريق فرعية تربطها بالطريق العام الساحليّ بين عكا وبيروت، ولعلّ اسمها مشتق من اللفظة الكنعانية (بصاة) وتعني المستنقع، وكان اسمها بيزيث في الفترة الرومانيّة، وأشار إليها عماد الدين الأصفهاني (توفي سنة 1201)، وهو مؤرّخ كان مُقرّبًا من السلطان صلاح الدين الأيوبيّ في كتاباته باسم عين البصّة، كانت تابعة لناحية تبنين لواء صفد، تزرع القمح والشعير والزيتون والقطن والفاكهة، بالإضافة إلى تربية الماعز وخلايا النحل والمراعي. كانت البصّة تقع في منطقة مدار نزاع، ما بين ظاهر العمر الذي أصبح الحاكم الفعليّ لشمال فلسطين لزمن قصير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبين زعماء جبل عامل، أمّا خليفة ظاهر العمر، أحمد باشا الجزار فقد جعل البصّة الناحية، وفي أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر كانت البصة مبنيّة بالحجارة، ويسكنها 1050 نسمة تقريبًا، وكانت تقع على طرف سهل وتحيط بها بساتين الزيتون والرمان والتين والتفاح، وكانت جزءًا من لبنان قبل الحرب العالميّة الأولى، غير أنّها أُلحقت بفلسطين بعد الحرب عندما رسمت بريطانيا وفرنسا الحدود بين هذين البلدين.
توسعت البصة خلال الانتداب البريطانيّ لتشمل تلة الجبيل، وعام 1948 كان عدد منازل البصّة يفوق 700 منزل، وكلّ منزل يشتمل على غرفة واحدة واسعة ذات سقف عال، وحوش كبيرل لنشر الغسيل وحفظ الحيوانات فيه، والحوش يشمل غرفًا لحفظ الحبوب وعلف الحيوانات، وبئرًا تجمع مياه الأمطار فيها. وكانت المنازل القديمة مبنية بالحجارة ومتقاربة بعضها من بعض، ويفصل بعضها عن بعض بعض شوارع وأزقة مرصوفة حجارة، ويحصلون على مياه الشرب من أبار تتجمع مياه الأمطار، ومن نبع داخل محيط القرية ومن بئر ارتوازية حفرت في الأربعينات على بعد نحو 1.5 كم غربي القرية، والمنازل الجديدة التي بنيت بعد الحرب العالميّة الأولى فكانت مكوّنة من طبقتيْن، والحوش كان في الغالب يشتمل على حدائق منزليّة فيها أنواع من أشجار الفاكهة والخضروات، وفي فترة 1944\ 1945 كان عدد سكان البصّة وخربة معصوب المجاورة 1590 مسيحيًّا و1360 مسلمًا، وعام 1948 كان العدد يُقدّر بنحو 4000 نسمة، وكانت الزيادة تُعزى إلى فيض من المهاجرين من مناطق أخرى، وجدوا لأنفسهم أعمالاً في القواعد العسكريّة البريطانيّة القريبة، وإلى انخفاض نسبة الهجرة من القرية. كانت البصّة ثانية كبرى القرى في المنطقة من حيث عدد السكان، وقد أُنشئ مجلس فيها عام 1922، وأنشئت شبكة من قنوات المياه التي مدت منازل القرية بمياه الشرب، كما ساعد المجلس القرويّين في الشؤون الزراعية كاستئجار النواطير للحقول، وإرشادهم في شؤون الزراعة وتوقيت مواسم الحصاد لشتى المزروعات.
وكان في البصّة مدرسة ابتدائيّة رسميّة للبنين شيدتها الدولة العثمانية عام 1882، ومدرسة ثانويّة خاصّة ومدرسة ابتدائيّة رسميّة للبنات، وناديان رياضيّان ومسجدان وكنيستان وأضرحة ومقامات عدّة، ومنتزهات ومقاهٍ، وأسّس العمال في البصّة فرعًا محلّيًّا لاتحاد العمال الوطنيّ الفلسطينيّ، يُدافع عن مصالح العمال، ومتاجر تعاونيّة، وما يزيد على عشرين متجرًا تلبي حاجات القرى، وحِسبة أيّام الآحاد؛ سوق مفتوحة للمنتوجات بالجُملة والمُفرّق وسط البصّة، إضافة للحرف وصناعة الصابون، فضلاً عن العمل إجراء في القواعد العسكريّة البريطانيّة، والزراعة وتربية الحيوانات والمواشي والدواجن، وفي أوائل الأربعينات كان في البصّة تعاونيّة للفلاحين تملك الأدوات الزراعيّة وشاحنة وآلة للحصاد، وقد عثر على أثريّات داخل البصّة وخارجها، وبقايا قرية قديمة وأجزاء أرضيات من الفسيفساء، وبعض الآبار والقبور المنحوتة في الصخر، كما كشفت دائرة الآثار الفلسطينيّة عام 1932 مقبرة مسيحيّة عُثر فيها على نقود وزجاجيّات تعود إلى القرن الرابع للميلاد، وإلى جوار القرية ما يفوق على 18 خربة.
قرية النبي يوشع:
تقوم على تلال شديدة الانحدار بالقرب من مجرى واد صغير، مشرفة على سهل الحولة إلى الشرق والجنوب، وطريق تربطها وصلة مرصوفة بالحجارة بالطريق العام المفضي إلى صفد وطبرية، ومقام يعتقد أنه مثوى النبي يوشع، ففي أواخر القرن الثامن عشر، أنشأت أسرة من آل الغول إظهار التقوى وخدمة المقام، وكانوا يتألفون من خمسين شخصًا تقريبًا، وهم أوّل من أقاموا في الموقع وزرعوا الأرض المحيطة، وتحول الموقع لاحقًا الى القرية، وقد اختار البريطانيّون القرية في أثناء الانتداب موقعًا لبناء مركز للشرطة، وكان سكان النبي يوشع وجميعهم من المسلمين يقيمون موسمًا في الخامس عشر من شعبان، مماثلاً لموسم النبي روبين الذي كان يقام في قضاء الرملة، وكان سكان القرية يكسبون رزقهم من الزراعة.
قرية النبي روبين:
كانت تقع على الضفة الجنوبيّة لنهر روبين، وتبعد 3 كم عن البحر الأبيض المتوسط، ولها أهميّة عظمى لدى الفلسطينيّين، لأن فيها مقام النبي روبين الذي كان يُجلّ إجلالاً عظيمًا بموسم سنويّ، تقام فيه احتفالات إسلامية وشعبيّة، ففي التراث اليهوديّ كان روبين بِكر يعقوب من زوجته ليئة (التكوين 29: 32)، ولم يكن من غير المألوف عند المسلمين الفلسطينيّين أن يُجلّوا أمثاله من أنبياء العهد القديم ببناء المقامات لهم؛ فقد بنوا مقامًا للنبي موسى مثلاً جنوبي أريحا، غير بعيد عن الموضع الذي رُوي أنه دفن فيه، ومن المعتقد أنّ مقام النبي روبين أُقيم في موضع هيكل كنعانيّ، وأنّ الموسم نفسه يعود تاريخيًّا إلى أصل وثني قديم، وكان الموسم يدوم من شهر تموز/ يوليو إلى أيلول/سبتمبر، وكان أحد أكبر موسميْن لنبيّيْن من أنبياء العهد القديم. أمّا الموسم الآخر فكان موسم النبيّ موسى، وكان الناس يتوافدون إلى المقام من يافا واللدّ والرملة، ومن قرى المنطقة، ويُنشدون الأناشيد الدينيّة والدنيويّة/الشعبيّة، ويرقصون الدبكة ويقيمون الأذكار، ويشاهدون سباقات الخيل والألاعيب السحريّة، ويستمعون إلى الوعاظ أو إلى الزجّالة، وكان المشاركون في هذه الأنشطة يقيمون في خيام يضربونها حول الموقع، وتُقدَّم لهم المرطبات من مقاهٍ ومطاعم مؤقتة، ويشترون البضائع من أكشاك تقام هناك، وكان السكان من قبيلة أبو صويرة، المتحدرة من بدو المالحة الذين كانوا يعيشون في سيناء، وكانت مساحة أرض القرية المغطاة في معظمها بكثبان الرمل، ثاني أكبر مساحات القرى بعد يبنة في ذلك القضاء، وكانت تعدّ من جملة الأوقاف الإسلاميّة، وكان بعض منازلها مشيّدًا داخل بساتين الفاكهة، وقد بني بعض المتاجر ودار للسينما في جوار المقام، وكانت القرية تتزود بالمياه من عدّة آبار وينابيع، كما بُنيت فيها مدرسة ابتدائية للبنين عام 1946، كان يؤمّها 56 تلميذًا في أواسط الأربعينات، وكان السكان يعملون في زراعة الحبوب والحمضيات والعنب والتين وتربية المواشي، ويبيعون الطعام للزوّار أيّام الموسم، وكانت أشجار الكينا والأزدرخت (الزنزلخت) تنبت على ضفة النهر، وتغطي رقعة كبيرة من أراضي القرية، وفي أقصى الطرف الجنوبيّ الغربيّ من أرض القرية، كانت تنتصب منارة روبين المبنيّة على أطلال مرفأ يبنة القديم، الذي كان يُسمّى يامنيتاروم بورتوس-Iamnitarum Portus أيام الرومان، وقد كشفت التنقيبات الحديثة هناك عن سور من الطين المرصوص، مربّع الشكل على وجه الإجمال، طول ضلعه 800 م، ويعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد.

قصص قصيرة جدا 23 / يوسف فضل



ولادة
ما أن وُلدت حتى ضربتني  القابلة بيدها على إليتي فصرخت باكيا. انتابني شعور غريب، أني أكتهل، فطفقت احسب العد التنازلي لعمري لولادة ثانية في رحم انعدام الزمن .

إسعاف !
كثر الدم . سيارات الإسعاف لا تلبي الحاجة. امتدت خدمات النظام (الإنسانية) المباركة  في نقل الجثث باستخدام شاحنات نقل الذبائح الحلال...... يوميا على مدار  الساعة .


شكوى
لم تكترث البلدية لشكواه،
زاد تجمع القمامة أمام منزله.
استخدم خادمة جميله لرمي القمامة.
لم تكترث البلدية مرة أخرى لشكواه،
ازداد تجمع عمال جمع القمامة أمام منزله.

شاطر
تباعد عن  الاستواء فسرق حافظة نقود .أفرغها من المال . حتى لا يعيي صاحبها خبثا في البيروقراطية أرسل له الأوراق الشخصية إلى بريده .

صداقة
طلب منه أن يكون شاهده في المحكمة . وافق على أن يشهد بما يعلمه . بُتَّت حِبال المودّته بينهما .

لماذا لم يكتمل الاحتضان 7/ محمود شباط

بقدر أمل حنجرة رضيع بكسر مخلب وحش كان أمل "زينو"  في العودة إلى النعيم الذي قذفه منه سوء طالعه بعد رحيل من احتضناه : ماما أديل وبابا اسكندر.  مر بمدينة ملاهي "عروس البحر"، توقف عند مدخلها يحسد أطفالاً بعمره يتقافزون كحملان الغنم في الربيع، رعاتهم يتشمسون وراعيته ماتت. عادت به الذاكرة إلى يوم جاء "عروس البحر" صبيا مدللا بصحبة ماما أديل فانتابه حزن الواقفين على الموانىء لحظة سفر حبيب أو قريب. جرجر ظله متجهاً صوب الحمام العسكري وسأل الحارس عن عمل، أشفق عليه الجندي، تأمله بتعاطف ثم أمره  بالإبتعاد.
 أكمل "زينو" سبيله نحو فندق الريفييرا ومسبح عجرم، يمشي الهوينا ثم يعنُّ له تقليد طيور البحر فيفرد ذراعيه ويطير على الأرض، توقف على كورنيش منارة بيروت أمام السوداني الأسمر الذي يبيع الفستق على عربة غرس في أعلى الكومة مدخنة كرتونية مخروطية يتصاعد من فوهتها دخانٌ خفيف سائغ مُحمَّلٌ برائحة الفستق المحمَّص،رفع البائع نظره صوب الطيور: "سوف تطير مثلها إن أكلت الفستق" ، ابتسم زينو للدعابة وأكمل طيرانه ممتطياً تيار قدميه صوب جل البحر ثم عين المريسة فالزيتونه. توقف عن الركض أمام ملهى ليلي،  علق جناحاه الصغيران في دبق صور مغرية لراقصات فاتنات شبه عاريات، وبينما هو يتحسس نهداً ملوناً بيديه وعينيه ولعابه فاجأه الحارس بخبطة قوية من قدمه على الأرض كما لو كان يهش هراً شارداً ففر الصبي مكملاً طيرانه الأرضي صوب منطقة الميناء. وصل إلى موقع مبنى شركة النورس للسياحة والسفر حيث التقاه بابا اسكندر للمرة الأولى وعرض عليه أن يتبناه.
تسمر زينو قرب المبنى بقلب جاحظ صوب جدرانه، يبتعد قليلاً ثم يعود. ثم يبتعد ويعود ويتحسس براحتيه الخرسانة بحنين الراكع على أطلال دار أهله. 
قارب الليل منتصفه، التعب والجوع أنهكا الجسد الصغير،خلع "زينو"  حذاءه الرياضي، لفه بمنشفة، تمدد على عتبة محل بيع إطارات، توسَّدَ الحذاء ولكنه هب مستوياً هلعاً لخشيته من أن يسرق أحدهم "السبيدرين" أثناء نومه. حمل صرَّة حاجياته وصعد  إلى "فندق أبو شادي" ، واحد من مئات الفنادق الشعبية في تلك المنطقة، دخل الباب فرأى أربعينياً بديناً مائلاً بجسده الضخم إلى الوراء في كرسيه، رحتاه مشبوكتان حول رأسه من الخلف، مسنداً ظهره إلى الجدار وقدماه الحافيتان على مكتبه صوب المدخل، خلف أذنه قلم و في جيب قميصه خمسة. على الجدار صورة مبالغ في حجمها يبدو فيها أبو شادي نحيلاً دون صلعة وهو يضع سماعة الهاتف بين أذنه وكتفه كي يبدو للناظرين في قريته كرجل أعمال، ممسكاً بقلم كما لو كان يكتب وكل من يعرفه يعلم بأنه بالكاد يقرأ ويكتب. حيَّاه الصبيُّ وسأله إن كان لديه سرير شاغر لليلة واحدة فرد الرجل بالإيجاب وطلب من نزيله الصغير نصف ليرة.
سكوت الصبي أوحى للرجل بأمر ما فسأله :
- ما الذي بإمكانك القيام به ؟
- كل شيء
حاول الوجه الضخم المتلبس جدية حديثي النعمة أن يبتسم، عرض على زينو توظيفه لديه مقابل ليرة واحدة في اليوم على أن يتدبر أمر طعامه، وافق زينو، وبات على الطوى.
عمل الصبي لغاية ظهر اليوم التالي. لاحظ صاحب الفندق ترنحاً في مشية موظفه الجديد فسأله إن كان يشكو من ألم، رد الصبي نافياً واستمر في مسح الأرض وتنظيفها. نهره المعلم : " أترك ما بيدك ورح إلى السوق وتناول طعامك" أطرق "زينو" أرضاً ولم يرد. لعلعت نهرة الرجل كما لو كان ينهر قطيع ماعزه الذي باعه ليشتري تلك الشقة القديمة البائسة ويسميها فندقاً: "قلت لك اذهب وتناول غداءك!!" . حدجه زينو بغضب و قلب جيبي سرواله بغضب. سلَّفه الرجل نصف ليرة وكرَّر أمره.
بعد كل تلك السنين لازال زينو يتحسس موضع طعنة الذئب الجبلي المنغرزة بألم سكين في الصدر، عز عليه أن يذعن لأوامر أمي جاهل بعد أن كان يصدرها للخادمة وحارس العمارة وبابا اسكندر وماما أديل،جلس في المطعم يأكل ويهجس في عواقب الخطوة التالية، خاف من غدرات الغد المجهول واستمر في عمله على مضض.
 لم يتوقف سيل المعاملة الحجرية من قبل العلم. شلال الرصاص استحال إلى ستائر نار، وقف الصبي يوماً على شرفة الفندق الضيقة المطلة على الميناء، بصرُه على أفق البحر و بصيرته على شوك الصخر وصعوبة القرار، لن يجرؤ على المغامرة ببطالة ولكنه سوف يهدد أبا شادي كي يخفف من قساوته. عاد من الشرفة ، توقف في منتصف المسافة، فكر كيف سيقولها له، ثم اهتدى إلى الأسهل، ولكن الأسهل علق في الحنجرة وجمد زينو في مكانه.
- سأله أبو شادي بخشونة : ما بك ؟
- مريض.
- سلامتك ! كلكم سواسية كسالى تدعون المرض.
قذفها الرجل من بين أسنانه واختفى بعصبية خلف مكتبه للحظات ثم ظهر فجأة كالذئب المتحفز ورشق الصبي ببضع ليرات: عد إلى عملك حين تشفى!.
تردد زينو في الإنحناء لالتقاط النقود عن الأرض.لم يستجد من محسن كريم فكيف سيقبلها من لئيم، تمنى لو ينهار سد دموعه لتبريد عينيه ووجهه وقلبه وكل خلية من جسده، تصاعد ضيقه إلى أن وصل إلى ذروته وعاد لينحدر صوب النفراج. ومضت في تلك الأثناء شرارة برق، أحس بتيار بارد يجتاحه ويدجنه، إباؤه يتصدع، كاد يرجو المعلم أن يبقيه في العمل، كاد يقول له بأنه يعيل أمه وأخوته.
غادر زينو الفندق الشعبي متصالحاً مع مرونته المستجدة جراء وضعه الهش، متسلحاً بما اعتبره خبرة بالعمل في الفنادق، مقتنعاً بأن أمه وأخوته الأصغر منه يستحقون أن يحني من أجلهم .. ويتحمل أوامر ، إنما ليس أوامر كالرصاص.
اتجه زينو للبحث عن عمل في الفنادق التي شاهدها في طريقه، وصل أحدها، انبهر بأحرف اسم الفينيسيا الكبيرة. خفق قلبه لجميلات بفساتين قصيرة تكشف عن سيقان جميلة، يدخلن باباً عريضاً في الواجهة الزجاجية الضخمة ويخرج مثلهن بصحبة رجال كعارضي الأزياء. الحمالون فتيان رشيقون بزي أنيق موحد يحملون حقائب الزبائن. لا أوامر ناشفة هنا بل ابتسامات تمطر لطفاً و إكراميات. 
اقترب زينو نحو السيارات الفارهة المركونة بصف طويل أمام الفندق وبجانب كل منها سائقها في انتظار الزبائن. اقترب من أحدهم وسأله :
- كيف يمكنني أن أجد فرصة عمل في الفندق؟.
 لم يردّ السائق على سؤال الصبي بل صار يبحلق في ملابسه الرثة ويقارنها بالحذاء الرياضي الأنيق وسأله بغتة : "من أين سرقته؟"
كظم الصبي غيظه من تلك الدعابة السمجة طالما أنها أخف من رصاص أبي شادي، واتجه إلى سائق آخر كي يستوضحه عن أمر العمل، سأله السائق عن اسمه واسم منطقته وما هي طائفته ومن أي فئة من تلك الطائفة. جاوبه زينو عن كل الأسئلة إلا عن التبني أو الاحتضان وما تلاهما. أفهمه الرجل بأن العمل في الفينيسيا يتطلب "كرت" توصية من زعيم أو "زلمة زعيم" مقابل عشر ليرات، إضافة إلى خمسة وعشرين ليرة ليوصله إلى دارة الزعيم للحصول على الكرت وليعيده إلى الفندق.
تردد زينو في القرار لأنه لا يملك المطلوب.
- "احسبها على مهلك !" همهمها السائق بعدم اكتراث مصطنع و مشى بهدوء مفتعل صوب زميله، وبنصف نظر صوب زينو.
وقف الصبي يفكر، خياله المشوش ينسج كحائك أعمى. لحق بالسائق : " لدي عشر ليرات وسوف أدفع لك الباقي من أول راتب أستلمه من الفندق".
لم يتردد السائق لأنه يثق بمفعول كروت التوصية ، فتح باب السيارة وأشار للصبي برأسه كي يدخل.
وصلا إلى باحة دارة الزعيم، عشرات الوجوه تعضُّ على سلاسلها بالنواجذ كي لا تصدأ وتهترىء. ركَنَ السائق سيارته على عجل، وركض على عجل بين السلاسل والقيود صوب المدخل الكبير، غاب لما يقارب الساعة وعاد ركضاً بِكَرْتِ التوصية. ثم رجع بزينو إلى الفندق ودخل معه إلى قسم شؤون الموظفين ، سلّم الكرت إلى المدير وهمس في أذنه.
باشر زينو عمله في قسم التنظيفات في فندق الفينيسيا بدوام ليلي مرهق بالنسبة لحدث بعمره، يبدأ من الحادية عشر ليلاً ولغاية الثامنة صباحاً براتب شهري قدره مئة ليرة. سلّمه رئيسُه بدلة كاكية كبدلات عمال البلدية، فوجىء الصبي وكاد يسأله: لماذا كاكية وليست بيضاء كبدلات أولئك الشباب الذين رآهم أمام الفندق، ثم صرف النظر عن احتجاج غير محمود العواقب ورضي بضمان معيشته وإرسال خمسين ليرة إلى أمه في آخر كل شهر.
حين استلم زينو أول راتب توجه إلى "كاراج بيبلوس" كي يبعث برسالة وخمسين ليرة إلى أمه مع الشيخ يحيى، وبينما هو يبحث عن الخمسين ليرة في محفظته شبه الخاوية المتعددة الجيوب، فوجىء بأن لديه مئة ليرة، احتار في أمر الخمسين كيف تحولت إلى مئة، بحث أكثر فوجد الخمسين ليرة، شغَّل شريط استرجاع الأحداث فتذكر نظرات أم لطفي الحانية عليه حين سلمته صرة ثيابه وتأكد بأنها هي من وضعت المئة ليرة في محفظته. عاد إلى سكنه وهو يفكر في سمو خلق تلك الخادمة-السيدة النبيلة، عاهد نفسه على ألا ينساها وعلى أن يرد جميلها. اشترى علبة حلوى ومنديل أسود، قصدها ولكنه لم يجدها.
اشترى باقة ورد واتجه لزيارة قبر بابا اسكندر وماما أديل. جثا في حضرة  قبر "أهله الجدد" اللذين رحلا، بكاهما وسألهما إن كانا يتذكرانه وأكد لهما بأنهما لا يبرحان خاطره.
في الحلقة رقم 8 سوف تدفع حماوة الدم زينو دفعاً كي يغطس في مغريات مياه  المراهقة الدافىء، أخطر ما سيواجهه غياب الموجه، رغباته الجنسية سوف تتخذ القرار عنه، ومع تصاعد حمى غريزة الجسد سيتحجر القلب وينسى زينو أمه وأخوته. 
الخبر في : 30/05/2012

القنصل الشاعر ماهر الخير في الاوبرا هاوس

لأول مرة في سيدني الأوبرا هاوس

ماهر الخير
في
نقوشٌ حُبٍ عربية
Arabesque of Love
 عرض مسرحي شعري مبتكر، إخراج عباس الحربي

يليه إفتتاح معرض بعنوان: "قصائد ماهر الخير في لوحات"
للفنان  التشكيلي حيدر عبادي

ويختتم بحفل كوكتيل وتوقيع الشاعر: نقوش حب عربية (ترجمة للإنكليزية د. رغيد النحاس)،
و ثلاثة إصدارات أخرى جديدة

يوم الأحد 10 حزيران 2012، الساعة السادسة مساء
 مسرح الإستديو ، سيدني  الأوبرا هاوس

لتأكيد الحضور والحصول على بطاقة دعوة
62957378  (02)

رنين الغياب للأديبة ميمي قدري في اتحاد كتاب الدقهلية

كتبت فاطمة الزهراء فلا

رنين الغياب للأديبة ميمي قدري في اتحاد كتاب الدقهلية يناقشه الشاعر الكبير ابراهيم رضوان

في إطار سلسلة الندوات الثقافية التي ينظمها اتحاد كتاب مصر فرع الدقهلية والتي تلقي إقبالا جماهيريا كبيرا , ينظم الفرع ندوة موسعة لمناقشة ديوان ( رنين الغياب ) للشاعرة والأديبة المصرية عزة سلو ( ميمي قدري ) ويناقشها الشاعر الإذاعي الكبير ابراهيم رضوان في حضور جمع كبير من الشعراء والأدباء وتُدير المناقشة الشاعرة فاطمة الزهراء فلا رئيسة الفرع وذلك السابعة مساء السبت الموافق 2/6

ظواهر مقلقة في ثقافتنا/ نبيل عودة

النقد هو الغائب الكبير من أدبنا العربي في اسرائيل. توجد كتابات نقدية ، أو تقع عموما في باب النقد.أو تسمى نقدا لأنها أقرب شيء الى أشكال الكتابة النقدية .
وسأبدأ بنفسي: اقول بلا تردد ان ما أكتبه من نقد يقع في باب الكتابة الثقافية المتأثرة برؤية فلسفية عامة ، بدءا من مراجعة كتب ،أو طرح فكرة ثقافية أو قضية فكرية عامة وصولا الى الفكر السياسي والاجتماعي . وكثيرا ما قيل لي من زملاء ادباء ان مراجعاتي وطروحاتي الفكرية ،  هي من نوع النقد الثقافي الأقرب للمراجعات الثقافية أو الفكري الصحفي ، السهل والممتع وسهل الهضم . وقد اعتبرت هذا التقييم أقصى ما أطمح اليه من كتاباتي الثقافية (النقدية كما تسمى) .
لا ادعي ان النقد غائب تماما ،حقا لدينا نقاد ونقد أدبي ، غير انه لم يشكل تيارا ثقافيا مؤثرا وحاسما في صيرورة ثقافتنا وتطورها. بل لم يشكل حتى تحديا أدبيا أمام مبدعينا ، اسوة بما يشكله النقد من موقف حاسم في  كل ثقافة ذات جذور واجندة ثقافية .وابرز الدراسات النقدية لا علاقة لها بثقافتنا المحلية رغم اهميتها.
هل في مسيرة ثقافتنا أجندة ثقافية ؟
هل ثقافة بلا اجندة يمكن ان تسمو الى ثقافة قادرة على اختراق مجتمعها والتأثير فيه؟
امامنا تجربة ثقافية نادرة في تجارب الشعوب ، تجربتنا الذاتية . في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي ( العشرين ) نجحنا بخلق تيار ثقافي مؤثر لدرجة بات الأدب ( الشعر اساسا)  نجما في مهرجاناتنا السياسية. وكانت كل ندوة أدبية تعقد تتحول الى مهرجان ثقافي .. كنا نبحث عن الاصدار الجديد لنقرأه قبل الندوة ونشارك في طرح انطباعاتنا . كنا جزءا من حركة ثقافية نشطة . كان للتيار الثقافي بعده الاجتماعي والسياسي المؤثر . أجل شكلت السياسة بسبب واقعنا الخاص مضمونا هاما لتقييم العمل الأدبي ، الأخلاقي والتربوي ، بل وأكثر ، كانت الثقافة سلاحنا السياسي الروحي . لذا ليس بالصدفة ان ابرز حزب في وقته (الشيوعي) تبنى سياسيا الثقافة والهوية الوطنية الفلسطينية ( تحت صيغة طبقية اعتقد انها كانت شكلية.. وما زالت كذلك) وربط حاضر الأقلية الفلسطينية المعزولة والمحاصرة بقوانين عسكرية قمعية، بماضيها الثقافي والتراثي. كان تفكيرا سياسيا خدم التنظيم بقدر أكبر مما خدم الثقافة. ولكنه ساهم بخلق تيار ادبي شيوعي شكلا وقومي بجذوره الأساسية، احتل الساحة الأدبية خلال فترة طويلة وليس سرا ان كل من يعرف بشعراء المقاومة هم ابناء هذا التيار السياسي .
 ومع ذلك لا بد من الإشارة الى مميزين.
المميز الأول لهذا التيار  ايجابي بما شكله من تيار ثقافي تبوأ مكانته الهامة محليا وعربيا .
 والمميز الثاني سلبي ربما بنفس القدر اذ استبعد اسماء هامة لم تستطيع الانخراط في صفوف الشيوعيين لأسباب عديدة، وهذا استثناها من الواجهة الثقافية التي سيطر عليها وسوقها محليا وعربيا التنظيم الشيوعي،باعلامه القوي وشبه الوحيد القائم وقتها، وربما لا اخطئ بالقول انه قمعها شعبيا أيضا بحده من انتشارها عبر تجاهل اعلامه المسيطر لسائر الأسماء التي لا تنتمي سياسيا لتنظيمه..
التنظيم استفاد بتحوله الى قوة ثقافية سائدة ومقررة ، وهدفا امام كل مثقف اذا اراد الانتشار. ولكني اليوم ارى بالمسألة جانبا مهينا: الخضوع للتنظيم وقبول رؤيته السياسية او التجاهل والإقصاء. لذلك تطورت ظواهر سلبية مدمرة لم يكن بقدرة احد صدها.
أفرزت هذه السلبيات قيما مشوهة ، ونقدا مشوها وثقافة مشوهة ، ودخلاء على الأدب والنقد والسياسة، وعلى النشر المشوه في الصحافة خاصة، والترويج الكاذب ذي الصبغة القبلية. وأكاد أقول ان غياب اقلام واعدة هو نتيجة الفوضى الثقافية ، التي بات مروجوها من نقاد لا علاقة لهم بالأدب، او بعض من صمتوا دهرا ونطقوا كفرا أدبيا، أو كتاب نثر وشعر لا شيء من الجمالية الأدبية في نصوصهم ،يصرون ان يقتحموا عالم الابداع ظانين ان الموضوع لغوي انشائي فقط، ويجدون مع الأسف  من يستجيب لنزواتهم.. خاصة مع تلاشي سيطرة تيار سياسي محدد على النشر، وهو بحد ذاته أمر ايجابي ولكنه انعكس بشكل سلبي مطلق على ثقافتنا. 
 هذا أوصلنا الى حالتنا المضحكة المبكية اليوم. فذاك يلوح بعشرين كتابا وصلوه وانه يجمع عدته ليكتب "مراجعات نقدية" لكل ما وصله . من النقد الأول سيقرر( أجل نحفظ الدرس وأستطيع ان أكتب مقدمة نقده قبل ان ينشره وربما ان أشير الى ما هو أكثر من المقدمة) اننا امام شاعراو كاتب قل مثيله في الشعر أو النثر .. ولن يتردد من استعمال اصطلاحات مثل حداثي ومجدد وعالمي... وأخر يحرج من مفكرته اصطلاحات نقدية اكاديمية تطورت في ظل ثقافة وحضارة مختلفة،وفي اطار فلسفات اجتماعية احدثت انقلابات اجتماعية وفكرية راديكالية في مجتمعاتها ارى استحالة وعبثية نسخها وتطبيقها على ثقافتنا.
تصفحت العديد من الاصدارات الجديدة ، لم اجد ما يشجعني على قراءة كاملة لأكثريتها. وبعضها لم أفهم علاقته بالابداع الأدبي .. الا بالتسمية التي تحملها الأغلفة. حقا هناك مواهب جيدة ، وهناك كتابات جيدة ، ولكنها تغرق في بحر من الكتابات غير الناضجة.
لا أكتب لأقلل من أهمية المراجعات ، حتى للاصدارات التي لم ترق الى مستوى الشعر او القصة . ولكني اتوجه برجاء ، لنقاد هذا الأدب ( أو دعاة الترويج ) ، لا تبيعوا أوهاما ، اذا كنتم حقا تعتبرون أن  نقدكم يقع في باب الثقافة .. احترموا صاحب العمل الذي يريد توجيها صحيحا  وصريحا ، حتى لو كان مؤلما، لأنه قد يكون موهوبا حقا ، ونقدكم ، اذا لم يلتزم منطق الصدق ، يجعل البعض على قناعة انهم أصبحوا أصحاب مدارس أدبية ،  وان ما يخرج من مداد أقلامهم ، بصالحه وطالحه ، هو الابداع بجوهره . 
يبدو لي ان مبدعينا المبشرين بالخير كما أرجو ، يطلبون العلالي من اللحظة الأولى ، ووقعوا على ممارسي نقد فاقدين لأي رؤية نقدية او ثقافية او جمالية بديهية.
هذه كانت رغبتي أيضا مع أول قصة نشرتها وانا في جيل الخامسة عشر، وظلت هذه الرغبة ترافقني حتى جيل أستطيع ان اسمية جيل الاكتمال النسبي للوعي الثقافي . وأقول النسبي لأن الوعي لا يكتمل ابدا انما يزداد اثراءه بالتجارب الابداعية  واكتساب المعارف الجديدة وتوسع عالم الأديب الثقافي والفكري وتجاربه الحياتية .
بعض هذا النقد الذي أحذر من مخاطره ،  يذكرني بحكاية سمعتها اثناء دراستي في الاتحاد السوفييتي السابق. ويقال ان ستالين نفسه هو أول من رواها ، تهكما على بيريا الرهيب ، قائد المخابرات السوفياتية في وقته . تقول الحكاية :
كان ستالين مولعا بتدخين البايب . فقد ستالين البايب المفضل لديه..  كان ستالين على ثقة ان البايب سُرق منه في الكرملين. وعليه ، اللص لا بد ان يكون من الحاشية المقربة. أعطى علما بالأمر لقائد المخابرات المشهور وقتها بيريا الرهيب ، وطلب غاضبا بايجاد البايب بأي ثمن . بيريا الرهيب بدأ بالتحقيق والاعتقالات والتعذيب ... في هذا الوقت وجدت المساعدة بايب ستالين تحت سريره ، واعلمت الرفيق ستالين انها وجدت البايب الضائع .. ستالين سارع بالاتصال بالرفيق الرهيب بيريا ليعلمه ان مسألة البايب حلت فقد وجده .. بيريا لم يصدق ، قال :  كيف يمكن ان تجده يا رفيق ستالين ولدي ستة معتقلين من قيادة الحزب اعترفوا انهم سرقوا البايب المفضل لديك ؟!
ايها الرفيق الناقد بيريا ، رحمة بادبنا لا تستعمل اساليب اقناع  حتى لو كانت باسلوب رقيق وقمة في اللطافة والتبجيل والتشجيع  وحسن النية !!
بالطبع اتمنى للأدباء العرب الفلسطينيين في اسرائيل المزيد من الابداع والرقي الثقافي .ولكن الامنيات لوحدها لا تصنع أدبا.
تعالوا نفحص جوانب أخرى لها صلة الرحم بالنقد .
 هل يملك نقدنا المحلي السائد ، وعيا جماليا(استيطيقا – علم الجمال)؟ وهل هو قادر على ايصاله للمتلقي؟!
ما يقلقني ان وعينا الجمالي الأدبي لم يتبلور بعد بصفته ركنا ثقافيا وفكريا مقررا وحاسما في تقييم الابداع الأدبي.
في مرحلة سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي كنا متعطشين للثقافة، اولا كضرورة لمجتمع بشري معاصر، وثانيا كرد فعل مضاد (كما في الفيزياء) على الحصار الثقافي الصهيوني.
 الثقافة أعطتنا أجنحة لنتواصل مع تاريخنا وهويتنا القومية والحضارية. أعطتنا دفقا من المعنويات لنتحدى الواقع السياسي الرهيب الذي انكشف امامنا عقب نكبتنا وبقائنا في وطننا،  جزء ممزق من شعب. بعضنا بلا هويات يهددهم خطر القذف وراء الحدود ، بعضنا حاضر غائب حسب قوانين قراقوشية تحكمت بمصيرنا ، الأرض تصادر ، قرى تهجر وتهدم حتى بعد اقامة الدولة ( اقرث وبرعم، خرجوا باتفاق مع الجيش ورغم قرار المحكمة العليا بحقهم بالعودة الا ان الحكومة تحايلت على القرار بقوانين مختلفة وجرى هدم القريتين بالقصف من الجو )... ولاجئون على بعد مسافة قصيرة من قراهم واراضيهم ويمنعون من الاقتراب منها (لاجئي صفورية يسكنون حيا في الناصرة يطل على اراضيهم المصادرة وبيوتهم المهدمة وبنيت على اراضيهم بلدة يهودية). ذاكرة شعب كامل تهدم . بقايا شعب ممزق ومهزوم ويتلمس الطريق في واقع غريب عنه بكل ابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لم تكن فترة لالتقاط الأنفاس . كل شيء يسير بسرعة غير معتادة . خطط للتجهيل بلغتنا وهويتنا ، اسماء بلداتنا وملاعب صبانا  تعبرن ( تستبدل باسماء عبرية )،  من أكثرية في وطننا تحولنا الى أقلية ممزقة ومضطهدة ، نفتقد للمثقفين ، المتعلمون قلة ، نفتقد للبنى التحتية التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية. من مزارعين تحولنا بفقدان الأرض الى عمال أجرة في المشاريع اليهودية ، قرانا ومدننا تحولت الى فنادق تأوينا بعد يوم العمل . المعلمون يلاحقون ويفصلون ارهابا وقمعا لجعلهم خصيانا ينفذون أوامر الحكم العسكري في تجهيل الأجيال الشابة بلغتهم وتاريخهم  . شعب بلا مؤسسات ، القيادات التقليدية هربت ، المخاتير بأكثريتهم الساحقة تحولوا الى زلم للحكم العسكري الاسرائيلي ، وبعضهم كانوا من "جيش الظلال" الصهيوني قبل نكبة شعبنا، الذين سمسروا لبيع الأرض للحركة الصهيونية ، وباعوا شعبهم لقمة سائغة لمصير رهيب ما زال يدفع بالدم ثمن مأساته حتى اليوم.
في هذه الظلمة والضياع  برز الحزب الشيوعي بقيادته الطليعية التاريخية. مجموعة من المثقفين الوطنيين الأبطال حقا بكل المعايير . من اليوم الأول قرروا التحدي . دفعوا ثمنا رهيبا ، ولكن طريقهم اثمرت .. الثمن كان ضياع حيوات أجيال ، حتى لا يضيع شعبنا ويفولذ تمسكة بوطنه وحقوقه . وكان تطوير الأدب أحدى المهمات الاستراتيجية الهامة للطليعة الشيوعية . ولكن كما قلت كان لذلك جانبان ، ايجابي وسلبي.. الايجابي رغم اهميته العظيمة يتلاشى ونحصد اليوم سلبياته ..
ما يقلقني ان ذوقنا الجمالي لا يتبلور من خلال الفوضى الأدبية وكتبة المدائح   ، وبتنا عاجزين عن استيعاب الجمالي في الابداع والتلقي.
وربما نتساءل ما هي مركبات هذا الذوق الجمالي الجديد ؟!
ان جل ما يغيب عن الناقد هو المستويات التعبيرية للابداع .
عندما يصعب على الناقد ان يستوعب الوعي الجمالي ، بصفته الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء من خلال سماتها الحسية ، وقدرتها في التأثير على المتلقي ، عند ذلك يغيب تماما أهم ما في النقد وأعني :  المضمون الجوهري للمقياس الجمالي في الابداع الأدبي.
آمل ان لا تكون كلماتي معقدة ، لذا اسمح لنفسي ان اقول انه لا يوجد في أدبنا الا القليل القليل من النقد الأدبي ، وأكثريته لم يتناول أدبنا .
النقد يحتاج الى فكر الى فلسفة ، والاحظ  ان أكثرية كتاب ما يعرف ضمنا بالنقد يفتقدون للفكر الثقافي ولوعي فلسفي، بل ويفتقدون لحس ثقافي ذوقي، وكتاباتهم بلا فكرة نقدية محددة .
بالطبع لدينا معوقات تتعلق بتركيبة مجتمعنا ، الحياة الثقافية النشطة والفعالة هي سمة للمجتمعات المدنية ، ونحن للأسف الشديد نحقق تراجعا في مدنية مجتمعنا .  نعود الى تجزئتنا العائلية وتباعدنا الطائفي  ، حتى فكرنا القومي يتحول الى فكر طائفي وعائلي منغلق.ومنطقنا السياسي ينحرف نحو العائلية السياسية والطائفية السياسية. كنا نظن انها لم تعد تشكل عائقا امام مجتمعنا العربي في اسرائيل ، الذي تحول الى اقتصاد انتاجي حديث ، وعلاقات انتاجية حديثة ، وما فرضه ذلك من اسلوب حياة مدني . حقا التطور كان قسريا وسطحيا ، أي لم ينجح بتغيير حاسم  للعلاقات الاجتماعية القديمة ، علاقات المجتمع القروي  الصغير المتماسك عائليا ، واستبدالها بعلاقات مجتمع مدني منفتح ومتحرر من الروابط القروية ، تحكمه قيم مدينية لا سابقة لشعبنا بها بهذه الكثافة وفرض القطيعة مع الواقع الذي تشكلت مفاهيمنا في اطاره ،أي بدل قيم المجتمع الفلاحي البسيط بدأت تسود قيم مجتمع برجوازي اوروبي ، كولونيالي في نهجه مع الأقلية العربية الباقية في وطنها رغما عن مشاريعه التهجيرية ،  الى جانب الحقيقة غير القابلة للجدل ، بأن نكبتنا هي الوجه الآخر للواقع المتغير الذي يعصف بنا.
ادعي اننا لم نستعب بعد هذه المتغيرات العاصفة في ثقافتنا. تعبيرنا الوطني لم يرقى الى مستوى ابسيميتولوجي، بمفهوم المعرفة الحقة العلمية لجذور التحول التي تعصف بماضينا كله وتفرض علينا تحولات سريعة تتناقض مع مستوى تطورنا وعلاقاتنا القديمة.
يبدو ان هذا الواقع يحتاج الى دراسة الجوانب النفسية الاجتماعية وتأثيراتها الثقافية على المجتمع العربي داخل اسرائيل وانعكاسها السلبية والايجابية على مسيرته الثقافية والسياسية لشدة الاندماج في واقعنا بينهما!!


حرية الصمت/ خليل الوافي

كحل المآقي

عيناك صمت حزين ، يوقظ مواقد الدفء لحظة المطر ، ملثمة بخمار العفة في بوادي الهمس ، ينبت الخوف فراشات ترتعش لواقح أنوثة ، تخضب جسدها بلون العشب ، تزهر الإثارة فرحة في عيون مراهقة على باب الطفولة ; أودع حماقاتي ، وأدرف الدمع على ما تبقى من عمري في الطريق إليك.....
لج المآسي

مزقته الرياح في صحراء التيه ، تقسو الطبيعة أحيانا ، دون أن تدري ، ويتعلق الشوق بصاحبه في ليالي الهجر ، يوقد مشاعل الفراق في تنهدات أم تراقب النجم الغارق في الجرح ، يعتريني صمت فرعوني على هرم الحكاية ، وأسطورة توزع أوراق اليانصيب على الأحفاد ، والجدة تروي تفاصيل الهروب.....
موقد الأفاعي
 أتسلل ليلا ، داخل حجر الأصوات المتداخلة ، لا تلمس وجهك في سديم الوقت ، يعلو الهدير الهائج في أقاصي الصمت ، يرجع الصدى حرية الإعتقاد ، واختلاف الأديان حول أهلية المرشد والراهب و القديس ، و الفقيه المتقلب المزاج على باب السياط ، هناك مسجد ودير ومعبد وزاوية لخلوة دائمة ; لا أثر للجرح في إستنطاق الحجر ، ولا خدوش تزين وجه العروس ليلة الزفاف ، أجمع أعضائي في أكياس بلاستيكية ، وأرميها إلى الكلاب ; لا مجال للهرب - هكذا سمعتها- من الذي يمسح لحيته بعطر المكيدة ، وحناء الألوان الصاخبة في تراتيل الهداية .....
حرقة القوافي

تشعر القصيدة بضيق التنفس ، في فضاء رحب من الكلمات المدجنة في معامل الإخصاب ، واستنساخ المفردات البديئة لموت يؤجل فينا لحظة الوداع ; أتحرى على مكامن الصوت ، وأنين الحروف المبتذلة على حافة الوجع ، ينهار سقف المعاني على بهو الصور ، ينزل الوحي إلهام الأشعارالمعلقة على باب القرى المهجورة ، وعطر البخور يدغدغ حواس الإنفلات من عروبة الخيام والإبل في مراعي اللغة يكثر الحشيش والصنوبر ; يوشك الماء أن يحمل عطش السحر .....
وقع الجريرة

أخمدت نار الفتنة في مدار السؤال العنيف ، أوقع الخصم سقوط الجثث ،لا مفر من الموت اليوم -هكذا قالت العرب - عندما اشتدت عواصف الهجيرة ، وتقطعت سبل الرشاد في مسالك الطرق الوعرة عبر قوافل الصيد ، والممرات الموصدة في اتجاه القدس وأطراف غزة ، أحتمي بأعدائي من صلب النخوة ، و السلالة المتحللة في معسكرات التعذيب ،أحمل بطاقة العبور ، وأختفي....

خليل الوافي من المغرب
khalil-louafi@hotmail.com

الشعر عنصر تخريب للحياة..!/ صالح خريسات

   قبل نحو من ألفين وأربعمئة سنة، رفض سقراط قبول الشعراء والأدباء في الدولة. ومن بعده جاء أفلاطون وقرر أن الشعر والأدب لا يمكنان من تأسيس دولة تعتمد على المفاهيم العقلانية ، إذ أنهما لا يلتقيان في شيء مع العقل.
   وعلى الرغم من أننا نقرا هذه الأطروحات ونبحثها في كتبنا ورسائلنا الجامعية.لكن أحدا منا لم يجرؤ على التصريح بان الشعر ليس ثقافة!!
   لماذا لم يجرؤ احد على مثل هذا التصريح؟! والجواب لأن مجتمعنا كله شعراء، ومصادر تاريخنا كله هي الشعر، وأكثر من ينسبون أنفسهم إلى العلماء هم من الشعراء،أو ارتكزوا على الشعر في  نيل درجاتهم الجامعية ولا أقول العلمية، بل إن المسؤولين في الدولة، وهم من أفراد المجتمع نفسه ، خدعتهم الظاهرة  نفسها ،وقربوا الشعراء من  مراكز الصدارة، وأورثوهم الوزارة!!
   وحين نتأمل مئات الملايين من الكتب الأدبية والرسائل الجامعية ودواوين الشعراء التي تضيق بها المكتبات العربية، يزداد حجم المشكلة على ما أنفقنا فيها،وتتبين حاجتنا إلى الكتب العلمية التي تميز بين الحقائق والأساطير، وتبحث الأسباب وتعلل النتائج.
   وحين نفكر في ولوج المستقبل، نتعلم لغة أخرى، ونقرأ كتبا أخرى، وكان هذه المؤلفات الضخمة الجميلة من الأدب والشعر، لم تغن شيئا، ولم تدفع بنا إلى عصر العلم والإبداع والتطور.فما فائدتها؟!
وقد دأب كبار العلماء من الغربيين والعرب على حد سواء، على الاحتفاظ بأشعارهم وأدبياتهم في خزائنهم الخاصة ، وهم يخجلون من إظهارها في حياتهم، ولا تكاد تظهر إلا بعد وفاتهم،لأنها ذاتيات تخص صاحبها وتعبر عن مشاعره في موقف معين، فما شأن الناس بها؟!
   لكننا نفسح المجال كله في صفحات الجرائد والمجلات ووسائل الإعلام لهذه الذاتيات، لتأخذ مكان الصدارة أو حصة الأسد، رغم أنها تنعش فينا الرومانسية المتشائمة ، والتخيلات المفعمة،  والأحاسيس الكئيبة. فالشاعر يبكي ، والعاشق يتلوى، والمحب يتأوه،..حتى الطرب والغناء ، زوره الشعراء وجعلوه بكائيات على الأطلال ، وهذا كله يخلق في أجيالنا نوعا من الشعور يشابه كسوف الشمس في نفوس الناس ووعيهم.
   ونكاد نجد أن الشعر العربي قديمه وحديثه، هو المسؤول عن انفصام العلاقة بين العربي وعقله، وهو المسؤول عن الجمود الذي نحياه بقبول ورضا، فكل أشعارنا شكلا من أشكال الحنين،..الحنين إلى الماضي،..الحنين إلى الحبيبة،..الحنين إلى الوطن،..والكل يبكي.
   واحسب أن العربي حين يفقد عقله من هول المصيبة أو الفقر ولوعة الحب والهيام،أو يصبح إنسانا ضائعا، فانه يقول الشعر أجمله، ليداري به فقره وبؤسه، وقد قرر الفلاسفة من قبل، أن العقل حين ينام يظهر الشعر ويصحو. وقديما كان العرب يحسبون أن لكل شاعر شيطان يأتيه في خلوته أو حين ينام، وهذا يعني أن الشعر خيالي وكاذب ، ودونما التزام بالضروريات الإنسانية، علاوة على انه يحاول دائما مخاطبة الأحاسيس البائسة المتوجعة الناعمة في أعماق الإنسان، كما انه يدفعنا إلى عالم الوهم والأحلام ، ويقوى رغبتنا في البكاء والسخرية من كل شيء، حتى من أنفسنا، بل انه في اغلب الأحيان يجبرنا على قبول حتى تلك الحالات الشاذة التي ترفضها النفس البشرية في كل زمان.
   والكآبة لا تكون إلا في الشعر، فنوم العقل وحده يسمح بظهور مثل هذه الأحاسيس المخيفة، لذلك وجدنا الشعراء يمقتون كل صاحب مال ، لأنهم فقراء، وينتقدون كل سلطان، لأنه لا يأبه بهم، حتى إذا بسبس لهم ، التفوا حوله بأجمل الأشعار.
   أما الأدب العربي ، فقد ظل يدفعنا  في اتجاه الأوهام والأكاذيب الاجتماعية ،ويطوف بنا في عالم لا علاقة له إطلاقا بالعقل أو الفكر أو الثقافة،  إن لم يكن سببا في هدمها، فهو يدفع الإنسان إلى الغوص  في الأحاسيس السخيفة، والى النظر إلى نفسه من خلال الآخرين، وهو يتعارض مع الحياة ، ويفرغها من محتواها الحقيقي، ليحولها بعد ذلك إلى مشهد سخيف. وباختصار، فان مستهلك الشعر والأدب ، فارغ وتائه، وبعيد عن ذاته وعن المجتمع،  وعاجز عن الفعل ، وهو رمز للبؤس والحرمان.
   فداخل دائرة العقل، ليس هناك مكان للشاعر. هذا الكائن المتنوع المتعدد الغاص بسحره وخياله الواسع . كذلك الأدب المتعدد النزعات ، أوجد جمهورا متعدد النزعات أيضا. فالشعر عنصر تخريب للحياة، والأدب عنصر تعتيم للوعي.
   فيجب إخضاع الأدب للعقل، ودفع القارئ إلى التفكير والتأمل، ويجب إخضاع وسائل الترفيه، في الشعر، والمسرح،  والقصة ، والرواية،  لحركة الفكر ، حتى ولو كانت هذه الحركة، خفيفة وبطيئة.
   فالمطلوب هو الوحدة بين العلم والترفيه ، وجعل الأدب وسيلة تنوير لا تعتيم. وهذا يعني، مسؤولية الأدب والفن ، للدفاع عن الحرية والقيم الإنسانية ، لتقوم مقام الأحزاب السياسية، وتساهم في تحرير النفس من الرواسب الفكرية، والأساطير الاجتماعية، والغيبيات،  وعالم الخيال. فالأدب والشعر والفن، إذا تحولت إلى بوق دعاية، أو إلى شكل من أشكال الترفيه السطحي الساذج، فان المجتمع بأسره سيسقط في الحضيض، ويغرق في وحل الوهم والخيال، وينسلخ عن العالم كله.
ويحضرني قول احد رواد الفلسفة في العصر الحديث ، أن جيشا من الأسود ، إذا وضعت بين جنوده شاعرا، فانه يتحول إلى جيش من الأرانب.ويحضرني أيضا ما ذكره المؤرخون العرب والأجانب عن الوضع الذي كان سائدا في الأندلس قبيل سقوطها ، فقد أظهرت عيون الجواسيس التي جاءت بأخبار غرناطة وعموم الأندلس ، إن الأمراء والشبان وقادة الجيش كانوا لا يعرفون شيئا في الحياة غير الشعر والتغزل بالنساء والبكاء على فقد الحبيبة. وعندما داهمهم الإفرنج ، انشغل كل منهم بالبحث عن محبوبته . وتسجل لنا الموشحات الأندلسية بعضا من هذه الصور المؤسفة، التي تغلغلت في حنايا قلوب الرجال من العرب وأفقدتهم خشونتهم وسطوتهم ، فضاعت البلاد.
 فهل يكون الشعر بأنواعه،  قادرا على أن يثبت وجوده في واقعنا ، وينتصر على الأوهام؟!

لماذا لم يكتمل الاحتضان (6)/ محمود شباط

مذ كانت رائحة العشب المندى بالمطر، شهية كخبز الجدات في تنانير القرى، كان النمل يجمع مؤونة الشتاء في الصيف. أهو الإنسان الذي علّم النمل كي يقلق على غده ؟ أم إن النمل ألهم الإنسان، أم أنه العزيز الجليل الذي علَّم "الصبي زينو" ما لا يعلم.
مضى ذانك الشهران على "زينو" كصبي محتضن من قبل أبوين غريبين عطوفين، هو الأرض العطشى وهما الغيث بعد انحباس المطر. ماما أديل تبثه أمومة نضرة وتحرص على تسريح شعر "دميتها" بنفسها وتعطره، وبابا اسكندر يجدد أبوته بعد أن سجل زينو في مدرسة خاصة وعيَّنَ له مدرساً في المنزل.
أدرك الأبوان الجديدان اللذان احترما رغبة "أم زينو" في احتضان ابنها ولكن دون تبنيه بأنهما يغرسان نبتة في تربة لما اكتملت عناصرها بعد. نفر منهما العديد من الأقارب والأصدقاء وتوقفوا عن زيارة منزلهما،فيروس المقاطعة بلغ ذروته لدى السيد عيسى،الشقيق الأصغر للسيد اسكندر حيث رفض فكرة "إيواء مشرد".
قلة من المسايرين الذين هضموا عملية الزرع كانوا يحوِّلون كلامهم إلى همس أو صمت بمجرد انتباههم لوجود "الصبي الغريب". يرسمون ابتسامة شكليات شاحبة كنوع من الاعتذار المخملي المحشو بدجل العلاقات العامة. في تلك الهنيهات البركانية تبدأ غربان غربة "زينو" بصفق أجنحتها وينتقل على مضض وبانكسار إلى مقعد آخر بعيداً عمن تنكدوا من حضوره معهم دون أن يعلنوه.
سمع "زينو" الكثير وادخر الألم، في إحدى السهرات كانت سيدة تتباهى بسلطويتها التي حالت دون زواج ابنها من فتاة "نصف مسيحية و نصف مسلـ....." أطبقت راحتيها على فمها حين لكزتها زميلتها فاستحيت، لعلها عتبت على بدو مهد الأبجدية الذي يرسمون قانونهم بلون خيم القبائل.
في جلسة أخرى روى لي زينو كيف عبرت حياته صفحة جميلة كسحابة ربيع تجاوزت الصيف إلى خريف مدلهم. حكى لي كيف أيقظته الخادمة "أم لطفي" في صباح باكر،وكيف همهم بتكاسل وهو يفرك عينيه بأن الوقت لازال مبكراً جداً للذهاب إلى المدرسة، سمعها تبكي فصحا،سألها ما الخبر فأنبأته بخبر مقتل أهله الجدد بحادث سير في الليلة الماضية. خال نفسه يسقط في الفراغ من علو شاهق، يمد يديه للتعلق بجب عوسج أو قضيب نار. كان يرتعش كفرخ حمام ذبيح. حاول الوقوف، داخ فعاد وجلس على سريره يبكي بصمت و يهتز جسده الصغير، خافت عليه أم لطفي فانحنت فوقه راسمة علامة الصليب، تتمتم بأدعية وتواسيه بكاء. الصبي يتمزق وتنشطر مهجته بين أمَّيْهِ: أمه أديل الحنونة العطوفة التي فقدها للتو ، وأمه في القرية التي كانت تفترض بأنها مطمئنة إلى مستقبله ومستقبلها طالما أن ابنها محتضن من أهله الجدد.
قال للخادمة بأنه يود أن يودع بابا اسكندر وماما أديل، مسحت دمعتين جديدتين وأوضحت له بأن الجثمانين لازالا في براد المستشفى . فكَّرَ في الذهاب لرؤيتهما فطلب منها استدعاء السائق، قالت له بأنه في دائرة الخطر في غرفة العناية الفائقة.
غامت الدنيا في عينيه. سمع نواح نسوة وهرج رجال في القاعة يتهيأون للتوجه نحو الكنيسة، أطل من شق الباب الموارب وأختلس نظرة، معظم الوجوه مألوفة، توقفت عيناه على صورة زفاف أهله الجدد،اندفع إلى القاعة ركضاً بلباس النوم واحتضن الصورة، نترها عيسى من يده وزجره صارخاً به أن يتصرف بحضارية ولباقة، وأن يكون أكثر أدباً ويستأذن صاحب المنزل وبأن يرتدي ما يليق بالمناسبة . عاد "زينو" إلى غرفة نومه يخبط الأرض بقدميه لحرمانه من احتضان صورة من احتضناه. أدرك بأن عيسى صار صاحب البيت الفعلي والآمر الناهي وبأنه يكرهه فأسرَّ إلى "أم لطفي" ،التي يحبها ويثق بها، بأنه ينوي مغادرة ذلك "الكهف المعتم" الذي صار مالكه "أنكل عيسى". فزعت عليه من التشرد،رجته ألا يفعل، جثت أمامه تتوسله، أمسك براحتيها وقبلهما، حار في ما هو فاعل، أيرحل أم يبقى؟ وإن رحل كيف سيواجه عودته للتأقلم مع وضعه كمأمور بعد أن كان آمرا.
ومضت شرارة القرار، سيرحل، أخذ بطاقة هويته من محفظته المحشوة بالنقود وأعادها إلى بنطاله الذي سوف يتركه هناك ولن يلبسه بعد اليوم، خلع البلاك الذهبي وساعة الرولكس الذهبية وقلادة ذهبية ووضعها في جيب معطفه الذي لن يلبسه بعد اليوم، أعادتهم أم لطفي إليه، ردهم بغضب صبياني إلى المعطف، كررت أم لطفي محاولتها. اكفهر وجهه، ألصق راحتيه على جيبيه وعاودته لعنة "نمردة" أبناء الأثرياء على خدمهم :" قلت لك لا أريدهم!. أعطني صرة ملابسي القديمة التي أحضرتها معي يوم قدومي " . أمرها بحزم السيد فامتثلت. ثم ندم لجرح تلك الطيبة التي يحبها و تحبه وتعمل لخيره.
تمنت أم لطفي لو يقبل منها، وتمنت لو يتخلى عن حساسيته المرهفة التي ستعود عليه بالوبال حين يعود إلى بيئته السابقة. انتظرت التغير ولم يغير رأيه، استسلمت، غابت للحظات وعادت بصرة الملابس مخفية سراً ما في بريق عينيها الدامعتين. دعت له بالتوفيق وغادرت الغرفة منكسرة القلب، تمشي ببطء نحو الباب وترنو صوب الصبي وتوصيه بالاتصال بها هاتفياً ليطمئنها عنه.
خلع زينو ملابس نومه على عجل وارتدى ملابسه القديمة. حاول انتعال الحذاء العتيق فاكتشف بأنه ضاق على قدميه. انتعل بدلاً منه "السبيدرين" الأبيض الذي اشترته له ماما أديل. وغادر دون قرش في جيبه.
عيون حظ زينو يراودها النعاس ككبوات جدتي في أول السهرة،انطلق من المنزل مشياً، وصل إلى "دُوَّيرة مار يوسف" ، بدأ بالبحث عن عمل لغاية الظهر، شعر بالجوع، كعادته سيجوع ولن يحني هامه ولن يستجدي، اتجه إلى أقرب مستوعب نفايات ليبحث عما يسد رمقه، نقَّب ولم يجد، جاءت في تلك الأثناء خادمة وبيدها كيس كبير رمته وغادرت، انتظر إلى أن ابتعدت الفتاة ودخلت باب العمارة التي أتت منها فهرع نحو المستوعب والتهم ما تيسر.
اجتاحته موجة افتقاد لأهله الجدد، ألم افتقاد الزغاليل لأمان أعشاشها، لم يعرف قبلاً بأنه يحبهما بذاك القدر كأهل. مشى مغرورق العينين بالكاد يبصر طريقه وما حوله. دخل منطقة برج حمود ودار في حواريها الضيقة للبحث عن عمل ولم يوفق، وصل إلى مسافة قريبة من النهر، تقزز من روائحه الكريهة فركض مبتعداً عنه، أكمل تجواله، تعب وعاوده الجوع، اتجه نحو مستوعب نفايات، قلّب ما فيه بخشبة ولم يجد طعاما، عثر على كيس فيه ملابس، انتشله وتفقد محتوياته فرأى بأن بعضها يشبه الجديد، والبعض الآخر جديد لم يلبسه جسد بعد. حمل الكيس وفرَدَ الملابس على الرصيف، باعها كلها في غضون ساعتين لأنه كان يبيع القطعة بالسعر الذي يعرضه الزبون دون مساومة:عشرة قروش ، ربع ليرة ، نصف ليرة ، أو أي سعر يقترحه الزبون. جمع من صفقته ليرتين ونصف، تغدى بربع ليرة واحتفظ بالباقي "لغدرات الزمان" الذي لا تطول، ولن تطول هدنته مع "زينو" .
استقل باص النقل المشترك، أو "جحش الدولة" كما سمع الآخرين يقولون عنه. ترجل في ساحة البرج. مسح الساحة بعينيه و محالها ونصب الشهداء وأشجار النخيل. لن يكرِّر خيبته السابقة هناك ويعاود البحث عن عمل في البرج، لقد جرَّبها قبلاً، أكمل طريقه مشياً صوب باب إدريس وسينما ستاركو ووادي أبو جميل ثم نزلة الديك وطلعة جنبلاط فالقنطاري فالحمرا فالروشة فالرملة البيضاء ، سأل كل المحال والمطاعم ولم يوفق بفرصة عمل. ردد في ذاته مثلاً سمعه عن أمه " ع حظ الحزينه بتسكر المدينة" أدرك الآن معناه أكثر حين رأى تلك الجنة الضاجة بالحركة صحراء قفراء لا مكان لأمثاله فيها فاشتاق لعتم قريته.
في منطقة الرملة البيضاء رأى أربعة شباب صياحهم يملأ الجوار، اثنان منهما يهللان للرابح ويحثانه على المزيد من اللعب والمزيد من الربح، اقترب زينو منهم فوجد رابعهم وقد وضع أمامه طاولة صغيرة عليها ثلاثة كشاتبين يحركها بسرعة وخفة واحتراف، ولكنه يتظاهر بالغضب حين يخسر ويخبط رأسه في كل مرة يربح فيها اللاعب المزعوم ليرة مقابل رهانه بخمسة قروش. أغرت تلك اللعبة زينو أملاً بالربح السهل فغامر بما معه وخسره كله.
لام غباءه وتسرعه،أدرك بأنه وقع ضحية لأولئك "الكشتبنجية" النصابين. ندم وحزن لخسارته ثروته الصغيرة ، فكر فيها: هل خسر ما جناه من بيع الملابس لأنه مال حرام ؟ ثم أعفى نفسه من الذنب كونه لم يسرق الملابس بل وجدها مرمية طوعاً من قبل صاحبها البطر، وبأن مصيرها كان سيؤول إلى محرقة النفايات أو إلى البحر ربما. أوَليسَ فقيراً مثله أولى بالملابس من محرقة النفايات أو البحر ؟ طمأن ضميره :"بلى !".
مالت الشمس نحو المغيب. نصف قرصها الأرجواني يغطس على مهله في أفق البحر الأزرق كطفل يراوده النعاس. عاد "زينو" أدراجه من منطقة الرملة البيضاء صوب الروشة. الجوع اضطره للمرور مجدداً على المطاعم علّه يوفق بعمل كي يأكل أولاً. مر بمطعم الجندول والميرامار واليلدزلار والسندباد، لابريق أمل بعمل، عَبَرَ الشارع إلى الجهة المقابلة حيث مطعمي النصر والبيجون روك ولم يوفق .
لم يرفع المقاتل الصغير رايته البيضاء رغم تقهقره كجندي مهزوم منحدراً في نزلة الروشة باتجاه المنارة.حلت عتمة المساء فرنا صوب البعيد، رأى قرى معلقة على الجبال كقلادة لآلىء تومض بصمت وتزغرد بصمت.
ملاحظة : في الحلقة القادمة سوف يكبر زينو سنين خلال أشهر ويواجه صعوبات واقعه الجديد كسلطان سابق دون سلطة. سوف يضطر لدفع ثمن كرت توصية من زعيم كي يحصل على وظيفة عامل تنظيف في فندق كبير.
محمود شباط
الخبر في : 23/05/2012