قصص قصيرة جدا 12/ يوسف فضل

عبرة
مانع بوجه الشعب وسالم بوجه العدو. لاك نفسه وصعّد من أعمال الذبح ورسم خريطة التطهير العرقي فازداد تلاحم الضحية. ضعفت شوكته ، فاشتد عليه خناق الحاضر والمستقبل. سقط في نهاية عبرة ربانية.

الدبش
ذهب في مهمةٍ سياسية ،
حصد لامبالاته فكانت سياحية بامتياز.
استرخص الدماء فروى فسق الشهادات المزورة؛
سود وجهه فوق السواد الرباني.
دب راجعا يبكي حاله،
وعاد العاصي يرسم الابتسامة .


قرصنة فكرية
في وقفة منسجمة مع الفوضى ، سرق الشيخ نتاجها الفكري . نعتها بنقص الأهلية والعقل. كرهت الصمت على التحايل، فأنصفها القضاء. لأنه رجل، شكك في قيم مميزاتها الفطرية.

شعور ملوث
انتظرت عودة ابنتها من المدرسة لتحضنها وتقبلها . فتحت البنت ذراعيها للعاملة وقبلتها . كجمرة،اصطلت الأم بنار الهم الأطول من أنفاس الأمومة .

تغريدات
جمع كافة مصادر أقوال العظماء. أصبح عظيما في النقل والنسخ واللصق.

الفنــانــة 7/ انطوني ولسن


The Artist

الجزء السابع

( توقفنا في الجزء السابق عند زيارة الدكتور عزت ووالدته لعائلة الدكتور رفعت شحاته.

بعد تناول طعام الغداء، ومع تناولهم الشاي في «الفراندة» طلبت والدة الدكتور عزت من رأفت وعماد أن يأخذا عزت للفسحة في القاهرة وسألت إن كانت سلوى ترغب في الذهاب معهم.

تحدثت والدة الدكتور عزت مع والد سلوى ووالدتها عن مدى احتياج ابنها لمن يؤنس وحدته.. وأخبرتهما أن الدكتور عزت عندما رأى سلوى وتحدّث معها، أعجب بها وبشجاعتها وطلب منها «اي امه» ان تطلبها من الاسرة ).


عندما سمعت سامية هذا، انشرح قلبها وابتسمت، لأنها أُعجبت هي شخصيا بشخصية الدكتور عزت. وكونه يأتي لطلب يدها، لهو دلالة واضحة على انه يتمتع بقوة شخصية وقدرة على تحديد مطالبه ومعرفة كاملة لما يريده في المرأة التي يرغب الزواج منها. لا يمكن ان يكون مثل شباب اليوم الذي يجري وراء الحب والنسب والجمال والمال، لأن العائلتين متعادلتان، لا هم أفضل، ولا هو افضل. نظرت الى امها ثم صمت الجميع.

اخذ كل واحد يفكر داخل نفسه، أم عزت تتمنى ان توافق الاسرة، لأنها احبت سلوى كما احبها ابنها، الدكتور رفعت له تجربة حرمانه من ابنه حسام، فهل سيحرم من سلوى ايضا. ومن يدري؟ بعدها قد يطلب بقية الاولاد للهجرة ايضا! انتابت زوجته نفس المشاعر، بل زاد عليها، انها تمنت لو كان ابنها حسام موجودا معهم الآن، لأضفى على الجلسة بهاء آخر. أما سامية، فانها قد رأت في عزت الانسان المناسب لاختها، واستراليا التي تخشاها سلوى، مهما بعدت، فالسفر هذه الايام اسهل واسرع، يعني «مش مشكلة».

لم يفكر احد في سلوى، وكأن الامر لا يخصها هي ولكن يخصهم وحدهم. من يحرم منها بسبب هذا الزواج.. ومن يتمنّاها زوجة لابنه.. دون ما تفكير فيها كصاحبة شأن. من حقها ان توافق وان ترفض.

نظرت والدة الدكتور عزت الى والدةٍ سلوى وقالت لها:

- ايه رأيك يا ست ام حسام؟

- مش عارفة.. الموضوع جه مفاجئ.. مش كده برضه يا دكتور رفعت؟

- فعلا.. فعلا.. المفاجئة خلتني مش عارف اتكلم او اقول ايه.

- ولا حاجه.. حا تقول ايه يا دكتور رفعت.. احنا قرايب.. ولما عزت ابني ياخد سلوى بنتك.. بالشكل ده يبقى زيتنا في دقيقنا زي ما بيقولوا.

- «تتدخل سامية» افتكر يا طنط.. بعد اذن بابا وماما.. المهم انكم تعرفوا رأي سلوى الاول.. مش كده برضه ولا ايه..

- طبعاً.. طبعاً يا سامية يا بنتي. دي اهم حاجة في الزواج بالذات.

- «والدة عزت» على العموم أنا عايزة رأيكم مبدئيا. واللي يهمني، اما رأيها فدا متروك لها ولعزت.

- «والدة سلوى"، طيب وهو ناوي يعيش هناك على طول؟

- بقى دا معقول.. فيه حد يسافر بره ويكون في مركز ابني و حُسام ابنك ويفكر يجي ويعيش هنا. بس الفرق ان عزت ما فكرش انه يتجوز من هناك. وخاصة اقولك الحق، لما شاف سلوى واتكلم معاها، دخلت قلبه، ايوه دا من ساعة ما وصل أسيوط و نازل كلام عنها.. شخصيتها.. كلامها.. تفكيرها«تضحك» حتى كل ما يفتكر اتهامها ليه انه مهرب.. تبص تلاقيه عمال يضحك زي المجنون، صدقيني يا ست ام حسام، عزت ابني حب سلوى، وأنا عارفاه، واعرف لما يحب حاجة، أد أيه يعبدها ويحطها في عينيه.

- ا حنا متأكدين من الكلام دا.. احنا عيلة واحدة بس الغربة وحشه.كفاية علينا واحد بس.

- «سامية مخاطبة والدها» مش يمكن يا بابا سلوى تشدنا معاها ونسافر كلنا استراليا.

- ازاي بقى يا سامية يا بنتي بعد العمر دا كله اسيب مصر بلدي واسيب مركزي واسافر استراليا.

- لا يا بابا.. مش بقصد حضرتك او ماما، بقصد رأفت وعماد. مش ملاحظ اد ايه مهتمين باستراليا.

- «والدة سلوى» نسيب الموضوع دا دلوقتي.. بعدين لما يرجعوا بالسلامة، نتكلم فيه.

- «والدة عزت» زي ما قلت.. انا يهمني رأيكم انتم الاول.

- «والدة سلوى» مش نفكر وناخد وندي مع بعض ومع سلوى صاحبة الشأن.

- طيب احنا نسافر النهار ده بالليل.. ونبقى نكون على اتصال بالتليفون علشان اعرف رأيكم.

- «الدكتور رفعت» تسافري ايه وبتاع ايه.. انت وعزت تفضلو معانا كام يوم.. مش كده برضه ياسهير، والا ايه.

- طبعاً.. امال.. احنا نتفق مع الاولاد انهم ياخدوا الدكتور عزت ويفسحوه ويوروه مصر أكيد انه اشتاق يشوف القاهرة.. واللا ماوحشتوش.

- بالعكس، دا اللي مخليه يحب استراليا، لانها البلد الوحيد في العالم اللي فيها اذاعة عربي وفيه احياء كاملة معظم سكانها عرب من جميع البلاد العربية.

- «سامية»ياه.. على كده ما فيش داعي حد يتعلم اللغة الانجليزية، علشان يروح هناك.

- "والدة عزت " ما افتكرش .. برضه اللغة مهمه .

- «الدكتور رفعت» اللغة من اهم ما يمكن للشخص اللي عايز يعيش مع ناس مش من جنسه او لغتهم لغته.. الاجانب لما بيجوا مصر, كانوا بيتعلموا عربي قبل ما يجوا علشان يعرفوا يتفاهموا مع اللي حا يشتغلوا معاهم، بس احنا خرجنا عن موضوعنا. قلتي ايه في انك تفضلوا معانا كام يوم، وربنا يعمل ما فيه الخير.

- انا ما عنديش مانع. واظن هو يوافق.

لم يعط الدكتور رفعت كلمة قاطعة في الموضوع. لم يوافق.. ولم يرفض.كان كلُّ همّه هو الغربة والبعد وكأنه واثق من عزت كزوج لابنته.

فرحت والدة عزت، عندما طلب منها الدكتور رفعت، البقاء لعدة ايام، فهي لهذا جاءت مع عزت حتى ترى سلوى وتعطي فرصة لهما ليقضيا أطول وقت معا للتقارب والتفاهم، خاصة أن الوقت ضيق. ان وافق كل منهما الآخر، يتم الزواج قبل سفره، وان لم يتفقا، عليها أن تبحث له عن واحدة تصلح له كزوجة تسافر معه استراليا.

قضى الدكتور عزت ووالدته اسبوعا في ضيافة الدكتور رفعت وعائلته، خلال تلك الفترة، استطاع ان يتعرّف كلٌّ منهما الى الآخر. رأت سلوى فيه الرجل الذي يصلح لان يكون ابا لأولادها. وبالفعل لم يعد عزت ووالدته الى اسيوط الا بعد ان تم الاتفاق على كل شيء.

تم الزواج في الاسبوع الأخير من إجازة الدكتور عزت. وقد أُقيم لهما عرس لم تشهد اسيوط مثيلا له من قبل. حضره عدد كبير من رجالات الدولة. والد العروس وكيل وزارة، والعريس طبيب مشهور في استراليا الى جانب أن والده كان من أكبر الاطباء واشهرهم في اسيوط والوجه القبلي عامة.

سافر عزت وسلوى بعد الزواج الى الاقصر واسوان، حيث قضيا وقتا ممتعا في اجمل اماكن مصر الأثرية، بعدها عادا الى القاهرة.

تقدم عزت الى السفارة الاسترالية بالقاهرة بجميع اوراق زوجته للهجرة والسفر معه. بعد ان اطّلعت السيدة المسؤولة على الأوراق، اخبرته ان زوجته سوف تلحق به بعد اتمام الاجراءات في القاهرة.

لم يوافق عزت على هذا الوضع، وصمّم على ان يسافر ومعه زوجته.لن يتركها وحدها. حقيقة إن عمله في سدني في اشد الحاجة اليه، إلا ان زوجته تحتاج اليه اكثر من العمل هنا في القاهرة. وبقاؤه دون شك، سيساعد على سرعة انهاء الاجراءات.

طلب من السيدة تحديد موعد مع السفير شخصيا في اقرب وقت ممكن.

تحدد الموعد مع السفير بعد ثلاثة ايام. وفي اليوم المحدّد توجه عزت وسلوى للقاء سفير استراليا، كان لقاء غير متوقع. أذهلت عزت، قدرة سلوى على التحدّث باللغة الانجليزية، دهش السفير نفسه لمعرفة سلوى الكثير عن استراليا وسدني بالذات، حتى ظن أنها عاشت هناك او زارتها قبل ذلك. غير عالم انها استوعبت كل شيء قصّه عليهاعزت عن استراليا وسدني.

وافق السفير على منح سلوى تأشيرة الدخول الى استراليا كمهاجرة مع زوجها الطبيب المشهور، على ان تستكمل بقية الاجراءات في سدني.

في مطار سدني الدولي، كانت المفاجأة. مفاجأة ليست بالنسبة لعزت وسلوى فقط، بل لكل من كان في مبنى المطار لحظة خروج الدكتور عزت وزوجته سلوى من صالة الجمارك.

كانت مدام فضيلة ورجالتها في انتظار الدكتور عزت وزوجته. كذلك كل زملائه الأطباء مصريين واستراليين وغيرهم. الى جانب عدد كبير من مرضاه ومعارفه.

لم يكن هذا العدد الهائل من الناس الذين جاءوا لاستقبال الدكتور عزت هو المفاجأة.. لا.. المفاجأة كانت ما قامت به مدام فضيلة نفسها من التقدّم الى العريس والعروس مهنئة اياهما. وفستان الفرح وطرحته وكل ما تحتاجه العروس يوم فرحها، كل هذه الأشياء محمولة على ايدي بعض من النسوة التابعات لمدام فضيلة.

ساعدت مدام فضيلة سلوى على ارتداء الفستان وكأن عرسها اليوم. وما ان خرجت على الناس في كامل زينتها، حتى فوجئت كما فوجئ الجميع بفرقة موسيقية شرقية ورجال يرتدون الزي العربي، وقوفا على الجانبين امام مدخل المطار.. وما أن بدأ موكب العروس في التحرك، اذ بثلاث راقصات شرقيات يتقدمن الموكب وموسيقى زفّة العروسة تعزفها الفرقة مع اصوات الزغاريد. والكل مأخوذ ومبهور من المفاجأة.

شلّت المفاجأة تفكير سلوى لم تعرف ماذا تقول، وما الذي يدور حولها، ظنت ان هذا كله خيال في خيال، عزت نفسه لم يفكر في شيء مشى الى جوار سلوى وكأنه منوَّم تنويما مغنطيسيا، لم يتوقع ان يحدث كل هذا من مدام فضيلة، او من زملائه.اللقاء يكفي، اما كل هذا الذي يراه، فلم يخطر بباله او ببال احد من الموجودين. لانه من اعداد مدام فضيلة. هي التي رتبّت هذا الاستقبال الرائع في المطار، بل زاد عليه ان السيارات جميعها بمن فيها، توجهت الى فندق الهيلتون في سدني. وفرقة عربية اخرى وراقصات شرقيات في استقبال الجميع.

لم تشهد مدينة سدني، وأظن لن تشهد مثل هذا العرس والاحتفال به على الطريقة العربية وبهذه الدقة والنظام. مما ابهر كل عابر سبيل، أو ضيف كريم.

سهر الجميع حتى مطلع الفجر. لم يشعر عزت بارهاق او تعب. كذلك سلوى.المفاجأة وروعة الاستقبال والاحتفال، جعل منها غير قادرة على التركيز او التفكير، كلما حاولت ان تسأل عن الدافع الذي يجعل هؤلاء الناس يقومون بهذا العمل.. ومن هي هذه المرأة التي تقدمت وألبستها الفستان والطرحة في المطار وتقدمت الموكب؟ رجال يحيطون بها وكأنها ملكة غير متوجة، تحظى باحترام الجميع ولها كلمة مسموعة حتى من زوجها الدكتور عزت. لا وقت الليلة للتفكير في هذه الأمور.

لا شك، إن شهرة زوجها في سدني بين الجالية العربية، هي سبب هذا الاحتفال العظيم وهذا الاستقبال الكبير الذي استقبلتهما به هذه الجالية الكريمة العظيمة، ومدام فضيلة، هذه المرأة التي لم تعرف سلوى انها هي التي دبّرت واعدت كل هذا الاستقبال الرائع، لم تعرف سلوى هذا في تلك الليلة وان كانت قد احست به ولم تعره اهتماما كبيرا في حينه. بمعنى آخر، لم تتح لها الفرصة لتخلو، الى نفسها كما قلت. لأن مفاجأة الاستقبال وتنوع الحفلات وتعّددها، خلق ذلك الجو الذي ليس من السهل ان تهرب بعيدا عنه لتبحث عن اجابات لتلك الاسئلة الكثيرة داخل نفسها.

كانت تلك الليلة، اكثر خيالا من ليالي الف ليلة وليلة، لها سحر الشرق وجماله. وان كانت في مدينة سدني والتي تعتبر من مدن الغرب، ظلت تلك الليلة في قلب وعقل عزت وسلوى وكل من حضر او شاهد في مطار سدني او الهيلتون لوقت طويل.

في اليوم التالي، بعد ان استراحا وقضيا وقتا هادئاً هانئاً بمفردهما في الفندق، جاء وقت التوجه الى منزلهما الذي لم تره سلوى بعد. ومن الغريب، ان مدام فضيلة اتصلت بهما في الوقت الذي قررا فيه فعلاً الذهاب الى المنزل. بعد التهنئة والسلام، اخبرتهما ان سيارتها الرولز رويس في انتظار التعليمات للذهاب بهما الى المنزل.

زاد هذا التصرف من دهشة سلوى وتعجبها لهذه المرأة التي تعرف جيدا الوقت الذي تتواجد فيه، بدأت الافكار تطفو من جديد حول من تكون مدام فضيلة هذه..وماعلاقتها بزوجها.. ولماذا كل هذا الاهتمام.. لكنها ارجأت كل هذا الى وقت آخر إنها سعيدة جداً، ولا تريد لهذه السعادة ان يعتريها شيء من الظنون والشكوك والاسئلة.

في الطريق الى المنزل الكائن في شمال سدني Sydney North اخذ عزت يشرح لها ويقص عليها كل ما يعرفه عن«الهاربر بريدج» وميناء سيدني البحري، وجمال هذا المنظر في المساء عندما تطل عليه من شرفة منزلهما المُطل على مياه المحيط مباشرة.

ظلّ عزت في اجازة اخرى لمدة اسبوع آخر. في ذلك الوقت، حرص على ان يجعل من سلوى امرأة تعرف مدينة سيدني وكانها نشأت وترعرعت على ارضها. فكان يأخذها في سيارتها المرسيدس الذهبية اللون والتي اشتراها لها. كانت سلوى عند حسن ظن زوجها دائماً. لم تخطئ مرة واحدة في الذهاب الى اي مكان يختبرها ان تذهب اليه دون ان يتدخل في شيء.

بعد ان اطمأن عزت الى قدرة سلوى في معرفة مدينة سدني، وبعد انتهاء اطول اجازة في حياته، وفي اليوم الذي سيبدأ فيه نشاطه الطبي، قال لها:

- سالي حبيبتي.. انا طبعا رايح ابدأ العمل النهار ده بعد اطول وقت في حياتي من يوم ما بقيت دكتور اكون فيه بعيد عن المرضى.

- ربنا معاك ويوفقك.

- طبعا انت مش ناقصك حاجة. عندك السيارة، وانت دلوقتي تعتبري استرالية عارفة كل حاجة في سدني ولك مطلق الحرية في الخروج في اي وقت من غير ما تتصلي بي علشان تقولي لي رايحة فين.

- بس انا ما فيش عندي اصحاب هنا او حتى نادي مصري او عربي ممكن اقضي وقتي فيه.

- ما تشغليش بالك. كل الدكاتره زوجاتهم مش بيشتغلوا وممكن تتصلي باي واحدة عشان تتكلموا مع بعض او تخرجوا. كما يهيألي ان مدام فضيلة مش حا تسيبك.

- صحيح يا عزت.. انا نسيت اسألك عنها.

- ست محترمة، محبة للجالية العربية، خدومة، على الرغم بيني وبينك في بداية معرفتي بيها، كان رأي فيها غير كده خالص.

- ياه.. ازاي بقى.

- مش وقته يا سالي، انت عايزاني اروح العيادة متأخر، وكمان دا انا كنت حانسى اني لازم اروح المستشفى الاول قبل العيادة. باي يا حبيبتي.. الله معاك وانتبهي لنفسك.

قبّلها قبلة كلها حب وحنان. حضنته ولم تكن تريده ان يتركها. انها لاول مرة تشعر فيها وكأنها طفلة صغيرة تتركها امها وحدها في اول يوم لها في المدرسة. قاومت الدموع المترقرقة في مقلتيها.

اخذت بعد خروجه مباشرة في التجول داخل هذا المنزل الكبير، لترى ما يمكن عمله دون الاعتماد على اي ممن يعملون عندها.

تمنّت ان تكون وكيلا للنائب العام، او محاميا مشهورا. ولم تفكر ابدا في ان تكون زوجة وربة بيت في نفس الشهر الذي انهت فيه دراستها للقانون وحصولها على ليسانس الحقوق بدرجة جيد جدا. وها هي الآن في مدينة سدني، وفي استراليا، وفي منزلها، وزوجها طبيب مشهور، يتركها وحدها ليعود الى عمله الذي انقطع عنه اكثر من شهر ونصف. اما الآن، فعليها ان تشرف على هذا البيت الكبير وعلى من يعملون فيه. وان كانت تفضّل عليه بيتا صغيرا تقوم بتنظيفه وترتيبه بالطريقة التي تحبها وبنفسها دون مساعدة من احد. لكن عزت رجل غني.. غني جدا.. من يعملون في هذا المنزل يُقّدر عددهم بخمسة عشر شخصا بخلاف من يُعدون الطعام ويشرفون عليه. وعلى هذا، فعليها وحدها مهمة الاشراف على هذا الجيش من العاملين في المنزل. فلماذا لا تخلق لنفسها عملاً مهمته اعادة تنظيم المنزل بالطريقة التي تتماشى مع ذوقها حتى تُشعر زوجها بالفارق بين الامس واليوم؟ بين ايام العزوبية والوحدة؟ وبين الآن ومعه زوجته؟

نادت على العاملين.. اخذت تتحدث اليهم بلغة «انجليزية صحيحة» لم تعبأ بما يسمونه «اللهجة الاسترالية». أوضحت لكل منهم العمل الذي عليه ان يقوم به بعد ان استمعت اليهم وعرفت منهم طبيعة عمل كل منهم على حدة.

بدأ الجميع يعملون كخلية نحل. كل له عمل واضح يقوم به. تشرف هي على الجميع. تنتقل من مكان الى مكان لترى بنفسها نظافة المنزل وتقوم بتغير ما تريد تغييره في الاثاث والديكور. إنه عملها من الآن، فعليها ان تؤدي هذا العمل على الوجه الأكمل لتملأ به فراغ يومها، وتشغل نفسها بما هو مفيد حتى لا تضيع في دوامة الفراغ.

في وسط انهماكها في العمل، جاء رئيس الخدم واخبرها بوجود مدام فضيلة في انتظارها في غرفة الاستقبال.

(يتبع)

سالم جبران أحد روّاد الحركة الأدبيّة الفلسطينيّة!/ آمال عوّاد رضوان

ندوة أدبيّة أقامتها مؤسّسة محمود درويش للإبداع في قاعة المركز الثقافي- كفر ياسيف الجليل، تحت عنوان "سالم جبران أحد روّاد الحركة الأدبيّة الفلسطينيّة"، وذلك بتاريخ 25-2-2012، بحضور عدد كبير من المثقفين والشعراء والأدباء ومن عائلة ومُحبّي ومريدي سالم جبران، وقد تولّى عرافة الندوة الممثّل القدير محمّد بكري، وافتتحَ الندوة بحوارٍ مصوّر أجراهُ مع الأديب سالم جبران، يدورُ حول طفولة سالم وأيّام النكبة!

ثمّ جاء في كلمة بروفيسور فاروق مواسي "سالم جبران مفكرًا":

على كثرة الدّراسات التي تناولت هذا الأديب أو ذاك في كتاباته شكلاً ومضمونًا، إلاّ أنّ من الندرة أن نجد دراسة لفكر أديب بيننا من حيث منطلقاته ورؤيته، أو على سبيل التجاوز فلسفته ونظريته،أو موقفه- والإنسان موقف.

يُلقّب هذا شاعر المرأة، وذاك شاعر العروبة، هذا شاعر القضيّة الفلسطينيّة، وذاك شاعر الكنعانيّة، ونجد مسمّيات أخرى ككاتب الأرض وكاتب الوطن وأديب المقاومة...إلخ

أما ما معنى ذلك باتّساع الشرح، وتعمّق الفكرة، باستقصاء المعنى، وبأن يوشك المدلول على أن يكون جامعًا مانعًا فهذا ما لا سبيل إليه.
سأتناول في هذه الصّفحات فكر سالم جبران في مرحلة ما بعد انفصاله عن الحزب الشيوعيّ، ذلك لأن المرحلة الشيوعيّة النشطة كانت غير مستقلّة التعبير، فهو جزء من آلة، وعضو من جسم، حتى ولو كانت له آراؤه الخاصّة، فما دامت غير منشورة فهي لا تقع في هذه الدّراسة ضمن دائرة المساءلة.
يشفع لي في دراسة سالم جبران المفكر القلق المنظر طول صحبة، سواء في مكان عمله في جبعات حبيبة القريبة من سكناي، أو في الزيارات المتبادلة، أو في المؤتمرات التي عقدتها منظمة التوجيه السّياسيّ الألمانيّ، حيث شاركنا في سبعة مؤتمرات- خمسة منها في ألمانيا، وواحد في جبعات حبيبة، وواحد في أريحا، وهي تضمّ أدباء فلسطينيّين وإسرائيليّين وألمانًا. ولا أنسى قراءتي له في المقالات التي نشرها في الصّحف والمجلات والمواقع، وهي كثيرة وفيرة في البلاد وخارجها.
وقد أصدر مجلّة الثقافة التي شرّفني بأن أكون عضوًا في هيئة تحريرها، كما أصدر مجلة المستقبل.
ومَن يبحث عن دلالة الأسماء على طريقة جينيت في بيان وظائف العنوان التعيينيّة والوصفيّة والإيحائيّة، يستطيع أن يطمئنّ إلى أنّ عنصرَ الثقافة كان مُوجّهًا في حسابه نحو مستقبل هذا الشعب- أو الأهالي، (سمّى صحيفة رأس تحريرها هذا الاسم)- الأهالي الّذين يُؤرقه حالهم، ويبحث لهم عن كلمة مقرونة بالفعل.

يرى سالم أن ليس هناك فصل أو عزل بين الثقافة والمجتمع، بين الإبداع الرّوحيّ والنّضال الاجتماعيّ، فالإبداع هو وليد طبيعيّ للمجتمع، ومن أجل مستقبله يُساهم في التغيير. (المستقبل، عدد نيسان 2005، ص 4)، وفي السّطرين اللّذيْن سطرَهما على غلاف هذا العدد الأوّل من المستقبل ما يؤكّد ذلك:

"نحو المستقبل- منبر للثقافة والنقد، منبر للحوار والصراع والتغيير".

في العدد الأوّل من مجلة الثقافة التي حرّرها سالم (كانون الأول 1992) يُقدّم "بطاقة هُويّة" تعريفيّة لطموحات المجلة، فيبدأ بمقولة شبلي الشّميل: "إنّ مجتمعنا العربيّ الرّاكد الخامل بحاجة إلى هزّة ورجة".

لا أظنّ أنّ سالم لم يكن وراء النصّ الغائب، ووراء النصّ المُنبثق من قرارته وقراراته، فهو يرى أنّ من واجبه أن يُحرّكَ ويتحرّكَ في هذا العالم، الذي يموجُ بالمتغيّرات السّياسيّة والثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة.

ويسوق لنا في مكان آخر مقولة الشاعر إبراهيم نصرالله: إنّ "المثقف ينسجُ حلمًا ويقترحه على شعبه" – (الثقافة – العدد الثاني كانون الثاني،1993، ص 4)، ففي رأي سالم أن هذه الرّؤية التي يتبنّاها هي ماركسيّة حقيقيّة، ويستشهد بقول غرامشي الإيطاليّ:
"إن الشّكّ فقط يوصل لليقين، ويجب عدم الخلود لليقين لحظة واحدة، فكما أنّ المادّة في حركة دائمة هكذا أيضًا هي المعرفة الإنسانيّة. الطموح إلى التجديد، والصّراع في سبيل التجديد هو روح الثورة".[1]

وقد طالعنا في افتتاحية العدد الأوّل من مجلة المستقبل (نيسان 1995)، أنّه يريد أن يجعل من المجلة ساحة نقاشاتٍ وصراعات حقيقيّة بين الأدباء في إطار من احترام التعددية، وانتهاج الصّراع كشفًا للحقيقة، فغياب الصّراع هو الموت الثقافيّ، وحيويّة الصّراع هي تجدّد الحياة والثقافة.

إذن؛ فمِن أجل تحقيق التغيير يرى أن نوليَ الصّراعَ أهميّةً بالغة، حتى نترجم الحقيقة إلى بناء، إلى جدوى.[2]

يعرف سالم الذي ثقف الماركسيّة وسار بوحيها أنّنا بحاجة إلى العلميّة، أن نسأل وأن نشكّ، وأن نبحث، وأن نحاول أن نعرف، فنحن لا نعرف جوابًا قاطعًا صحيحًا وكاملاً لأيّ سؤال، فاليقين المُطلق يُغلق المنافذ لهواء صحّيّ.

يقول سالم: "نحن لا نخاف من الأسئلة التي لا أجوبة لها، فالتساؤل هو أساس المعرفة الإنسانيّة، وهو الضّمان لاستمرار تطوّر المعرفة" (المستقبل، عدد نيسان 1995، ص 4)
إنّه مؤمنٌ بأنّ كلّ تغيير يبدأ حلمًا ثقافيًّا، يتحوّلُ بعد ذلك إلى فكرة اجتماعيّة، وما يلبث أن يصبحَ حركة اجتماعيّة.

يعود سالم ليستشهد بقول لينين أمام طلاب جامعة موسكو: "إنّ الإنسان بحاجة ماسّة إلى القدرة على الحلم، وإذا فقد القدرة على الحلم فقد القدرة على الإبداع، وبالتالي فقد العطاء الإنسانيّ الخلاق" (الثقافة،عدد نيسان 1993، ص 4)، فالحلم هو عماد التغيير، ويورد سالم في هذا السّياق إجابة سارتر لمن سأله عن صفات المثقف الحقيقيّ: "القلق الدائم، الشّجاعة الدّائمة للانتقاد، عدم الاكتفاء الدّائم، القدرة الدّائمة على الحلم"، فيجد سالم نفسه مُتحمّسًا لهذا الحلم:
"إنّنا نعتقد بأنّ القوى التقدميّة الطليعيّة الثوريّة سوف تجد الطاقات الخلاقة فيها، لتقييم المرحلة لصياغة رؤية متجدّدة – لصياغة الحلم، أو على الأقلّ لإعادة صياغة الحلم".
ويأتي السّؤال: كيف يرى سالم التغيير؟

يؤمن سالم بأنّ الحركة بركة للمجتمع، فالنّهر الّذي يكفّ عن التدفق إلى أمام سرعان ما يتحوّل إلى مياهٍ آسنة، فالحقيقة نهر متحرّك متدفّق، والحياة نهر متدفّق أبدًا، وهكذا الفكر، وهكذا الثّقافة. (المستقبل، عدد نيسان 1995، ص 4).

يرى سالم ضرورة تصفية الموقف الرّجعيّ من المرأة، وإلى رفع الغبن عنها، وإلى النّضال لمشاركتها على قدم المساواة مع الرّجل في المجتمع، وعليه، فيجب محاربة المحاولات الخطيرة لاستخدام الأديان لمحاصرة النّضال الاجتماعيّ والسّياسيّ للنّساء، فــ"لا رب الكون ولا أنبياؤه يقبلون أن تكون المرأة ذليلة محاصرة، أو مشلولة عاجزة سياسيًّا" (المستقبل، عدد تموز 2005، ص 5)، فالمرأة هي مُربّية الأجيال، فإذا كانت مقموعة فإنّ الأجيالَ ستنشأ مقموعة ومُعقّدة نفسانيًّا واجتماعيّا، الأمر الذي يُحتّم النّضال ضدّ كلّ الآراء المسبقة الرّهيبة الظلاميّة، فكأنّما الرّجال المقموعون من النظام الحاكم "يَفشّون غُلَّهم" في النّساء.
ويذهب سالم إلى أنّ هناك فكرًا نيِّرًا مُدهشًا أخذ تدريجيًّا يُطالبُ بحرّيّة المرأة وحقها في العلم والعمل والتمثيل السّياسيّ، وهذا في رأيه "ممّا ينسفُ الشّعوذة الأصوليّة التي تلطّخ تاريخنا وتلطّخ حاضرنا ومستقبلنا."

انظر الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=107324
ثمّ إنّ التّغيير في المجتمع العربيّ أحوجُ ما يكون إلى التعدّديّة، لا إلى "ثقافة القطيع" (المستقبل، نيسان 1995، ص5)، وإلى أنّه يجب أن نُسقِط العقليّة الطائفيّة والممارسة الطائفيّة وصولاً إلى فصل الدّين عن السّياسة، واعتبار القضايا الضميريّة خيارًا شخصيًّا بلا ظلاميًّة، وبلا تعصّب أو إكراه.
التغيير يجب أن يُسقط العائليّة المقيتة[3]، وما تفرزه سياسيًّا، ويُسقط مظاهرَ تقديس الشّخصيّة، لأنّ التقديس نوع من التأليه، وهو مسخٌ وتعطيلٌ لطاقاتِ الشعب.

من هنا فهو يرفض أن يستمرّ الفرد في منصب ما طويلاً حتى يتعفن ويشلّ عقليًّا، وإلاّ فسيظلّ عقبة في وجه تدفّق الدّم الجديد، فبقاء الشّخص في منصبه لم يعد يُطاق، "ووهم بعض القيادات أن الله خلقها للزعامة هو وهم خطير ومعيب للشخص، وعائق أمام تقدم مجتمعنا عمومًا" (الثقافة – عدد أيار 1993 ، ص 7).
يقف سالم طويلاً في أكثر من مقالة على رفض تقديس الزعيم "الرّمز"، ذلك لأنّ هذا يقع على حساب إنسانيّة وكرامة الشعب، فالمعركة ضدّ ثقافة "القطيع" لا تنجح إذا لم تكن فلسفة عامّة للحياة، وطريقة مُثلى للمجتمع.
يظلّ إذن عنصر التغيير أبرز ما دعا إليه سالم، فالتغيير يتطلّبُ احترام الفرد، واحترام الوقت، واحترام المبادرة للوصول إلى التطوّر العقليّ والاجتماعيّ.
يقول سالم: "نريد التغيير المستمرّ الذي يمنع مراكز قوى، ويمنع استخدام المناصب للمآرب الشخصيّة والفئويّة الضيّقة" (الثقافة عدد أيار 1993، ص 7).

التغيير يلحُّ عليه مطلبًا مُلحًّا: "صرخة للقوى العقلانيّة والعصريّة والدّيمقراطيّة في شعبنا للتغيير – تغيير الأشخاص، وبالأساس تغيير الأسلوب والفكر وصولاً إلى مجتمع ديمقراطيّ وعصريّ وقادر على التطوّر وباستمرار.
التغيير شغل سالم الشاغل، وهو يرفض استخدام لفظة "التاريخ" بصورة مبتذلة ومهترئة، فما من خطاب أو خطوة أو عمل إلاّ وهو – على حد زعم هذا أو ذاك أنه- تاريخيّ، ففي رأيه أنّ الزعيم التاريخيّ الحقيقيّ هو ذلك الذي يُبشّر فعلاً بمرحلة جديدة، ويقود نحو التغيير. (الثقافة تشرين الأول 1993، ص 5)

من هنا فالدّيمقراطيّة هي مُتّسع للتعبير، فيجب تبعًا لمتطلباتها أن نقضي على اللاّمبالاة وعلى أن يكون الفرد على الرّصيف أو الهامش، فالمشاركة الفعّالة ضروريّة، بل من المفروض أن يكون هناك توجّه من كلّ منا - جذريّ ومسؤول لقضايا المجتمع.
يرفض سالم الانكفاء على الذات، ويدعو إلى التّحدّي، وإلى الانخراط بمسؤوليّة وحماسة في البحث عن صياغة جديدة لقيم جديدة للعصريّة، اندماجًا مع الرّوح الحضاريّة العالميّة، كلّ ذلك دون الانقطاع عن هُويّتنا الوطنيّة وملامحها المتفرّدة، ويستشهد سالم بقول لوركا: "إنّ قوميّتنا هي إنسانيّة شعبنا، وكلّ ما ليس إنسانيًّا لا نقبله جزءًا من روحنا القوميّة".

ويذهب سالم بعيدًا ليقول: "مَطلب السّاعة هو الدّيمقراطيّة الفعليّة والعميقة لإنساننا العربيّ ولمجتمعنا العربيّ، وعندما نفعل ذلك فإنّ كلّ الأصنام والأطر المُتحجّرة والعقليّات المحافظة والرّجعيّة يجب أن تترك المسرح لقيادة جديدة وعصريّة، لأطر إنسانيّة مُتفتّحة، ولعقليّة قادرة على التعامل العصريّ مع تحديات العصر (الثقافة عدد آذار 1993، ص 27.)، فالنظريّات الاجتماعيّة يجب ألاّ تكون ثابتة، فإذا تحوّلت إلى دين سقطت، وتجمّدت حتى الموت.[4]
التقدّميّة والدّيمقراطية لا تَجَزُّؤَ فيهما، فهما لا تُعارضان الحكومة وسياستها فقط، بل تعارضان الرّجعيّة السّياسيّة، والتعصّب والانغلاق، ومحاربة الصّنميّة السّياسيّة، فالتقدّميّة لا تُقاس في الموقف السّياسيّ فقط، بل في وجهة نظر شاملة عن العالم.

يرى سالم وهو ينظر إلى العالم العربيّ وتصدّعاته السّياسيّة أنّ هناك حاجةً إلى استنهاض طاقات البرجوازيّة الوطنيّة، الرّأسماليّة، (نعم الرأسمالية)، واستنهاض الفلاحين، أكثريّة جماهير أمّتنا، واستنهاض طلاب الجامعات والثانويّات لخلق جبهة وطنيّة عريضة، مُتفقة على الدّيمقراطيّة والتعدّديّة والنظام الدّيمقراطيّ والقضاء النّزيه، وفصل الجيوش عن السّياسة، وتداول السّلطة، وتشريع دساتير ديمقراطيّة تكون فوق الرّئيس وفوق الحكومة، مع إفساح المجال للأحزاب السّياسيّة والنقابات كي تعمل بحُرّيّة في إطار القانون، والعمل لتحرير الجامعات من العبوديّة للعسكر ونظام العسكر والمخابرات.
يُعارض سالم إقامة "نظام الحزب الواحد" الذي يمسك بكلّ الخيوط، لأنّ ذلك يجعل النخبة القياديّة للنظام قشرة عسكريّة فقيرة ثقافيًّا، مُتغطرسة سياسيًّا، احتكاريّة اقتصاديًّا. ويسأل سالم:
"هل صدفة أنّ أنظمة الحزب الواحد العسكريّة سابقًا، العسكريّة إلى الآن فعليًّا، قادت إلى الجمود الاقتصاديّ وإلى التقهقر القبليّ وإلى الفساد واستيلاء النخبة- العصابة الحاكمة على كلّ خيرات البلاد ومقدراتها؟

هل صدفة أنّه بينما كلّ الدّنيا تتقدّم علميًّا واقتصاديًّا وتطويريًّا وتتفاعل مع العالم، فإنّ عالمنا العربيّ مثل البقرة المُكسّرة الرّجلين، هابطة، عاجزة، حتى عن السّير، وعاجزة عن الحلم؟! (انظر مقالة سالم "المدخل للنظام الدّيمقراطيّ العربيّ" على الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=107324
من جهة أخرى وأولى يرى أن الأزمة الحضاريّة العربيّة هي في عدم وجود سياسة عربيّة تنويريّة لحركة الترجمة، ورواج الكتب الهابطة التي تُعنى بقضايا الطبيخ وقضايا السّحر والشعوذة، بالإضافة إلى إغراق السّوق العربيّة بالكتب التي ظاهرها دينيّ، بينما هي ترويج للتطرّف الأعمى، وإضفاء صفة القدسيّة والشّهادة على الإرهاب والكراهيّة العمياء للثقافات الإنسانيّة الأخرى، والقَدَرِية التي تجعل الإنسان عاجزًا عن التفكير الحُرّ وعاجزًا عن العمل الفعّال لتغيير الواقع العربيّ.
ممّا يؤلم سالمًا أنّ العالمَ كلّه يعيش يقظة علميّة مدهشة، فبالإضافة إلى دور النشر التي تقدّم للشعوب نتاجًا حضاريًّا، علميًّا واقتصاديًّا وأدبيًّا وفنيًّا واجتماعيًّا منوّعًا، إلاّ أنّنا نحجم غالبًا عن متابعة الثقافة العالميّة، ويمضي إلى القول وبحدّة موقف:
هل نحن بحاجة إلى أن نُحلّلَ وحشيّة البطش والإرهاب السّياسيّ والإرهاب الفكريّ والإرهاب الدّينيّ، الذي يمنع ترجمة عشرات ألوف الكتب من الإنجليزيّة والفرنسيّة والرّوسيّة والإسبانيّة وغيرها إلى اللّغة العربيّة!
المشكلة الحقيقية في رأي سالم هي في غياب المشروع النّهضويّ العرفانيّ، المنفتح على الحضارة العالميّة، وغياب الإصرار المُبرمَج لنشر العقليّة العلميّة والعطش للمعرفة وقبول الأفكار الجديدة والأساليب الجديدة، وبالأساس- القبول الطبيعيّ للآخر عمومًا، وللأفكار الأخرى عمومًا.

يقول: "إننا ما زلنا إلى الآن نسمع دجّالين قومجيّين ودجّالين أدعياء التديّن يُعلنون في عنتريّة غبيّة (رفض الأفكار المستوردة)". ويُنبّهنا إلى أنّ لفظة "المستوردة" هي لدى القائلين بها في سياق سلبيّ يشبه الكفر؟

ويسخر سالم في مرارة: إنّهم يقبلون السّيّارات المستوردة وكلّ أثاث قصورهم مستورد، وحتى الخادمات في قصورهم مستوردة، كما أنّهم يقضون أكثريّة السّنة في القصور في أوروبا، وأغلب الظنّ أنّهم هناك يخلعون الحطّة والعقال ويتفرنجون تمامًا!!
يستنتج سالم في نهاية مقاله إلى ضرورة تعميق وتسريع عمليّة الترجمة الشاملة، مِن منطلق الإفادة من هذه النهضة التي يدعو إلى أن نلحق برِكابها.
"فإذا نجحنا في الزّيادة المستمرّة للأجيال المشبعة بحبّ العلم والتقدّم العلميّ، والاستفادة من كلّ ثقافة وافدة وتعلّم أكثر ما يمكن من اللّغات الأجنبيّة، وإذا شجّعنا الأجيال الصّاعدة على المنهجيّة العلميّة، فإننا نضع الأساس ليس فقط لنهضة علميّة وثقافيّة متفاعلة مع العصر وعواصفه، بل نضع الأساس أيضًا لإسقاط أنظمة الجهل والتخلّف والتطرّف والفساد التي تحكم أوطاننا العربيّة وتُشبع شعوبنا جوعًا وذلاًّ وهوانًا."

(انظر مقالة سالم: "كتب الدين والطبيخ" في الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=105556
أمّا عن الواقع بين العرب المقيمين في إسرائيل، وفي العلاقة مع الشعب اليهوديّ فلسالم آراء طرحها في كثير من محاضراته، يقولها بجرأة وبلا تلوّن موقفيّ، إذ يدعو سالم إلى مُواكبة الثقافة العبريّة بترجمة نماذج منها، حتى يتعرف القارئ العربيّ إلى الأدب العبريّ، وكذلك إلى الآداب العالميّة.

سالم مِن الذين يعيشون الواقع بدون تشنُّج، فهو يردّ على أولئك الأدباء الذين يحجمون مِن بيننا عن أخذ حقوقهم: "من حقّنا قانونيًّا وعمليًّا أن نأخذ حصّتنا في كلّ مجال، أسوة بالأدباء والمبدعين العبريّين، وهذه ليست "عطوة" أو "رشوة"، بل هي حقّ، وبإمكاننا أن نستفيد من (أمنوت لَعام) ودائرة الثقافة ووزارة المعارف دون أن نقدّم مُقابلاً سياسيًّا، بل يجب أن يكون حصولنا على حقنا إنجازًا سياسيًّا أيضًا لنضال شعبنا للمساواة" – (الثقافة – آذار -1993 ، ص 5)، فالانغلاق باسم القوميّة ظاهرة يجب التخلّص منها في رأيه، بل هو يرى أنّ ثمة مخطّطات سلطويّة لإظهار العرب في إسرائيل أنّهم ضحايا تشابُكِ الانتماءات، وبالأساس لطمس الانتماء القوميّ بوصفه الانتماء الحاسم والمُقرّر في هُويّتنا، وفي تعاملنا مع السُّلطة، وفي تعامل السُّلطة معنا. يقول بصراحة إنّنا أوّلاً عرب، ونحن كذلك فلسطينيّون ومواطنو دولة إسرائيل، فالمُصطلح الذي أطلقه عبد العزيز الزعبي: "دولتي تُقاتل شعبي" يُبرّر في رأي سالم قمع العرب في البلاد، بحجّة أنّنا مِن المُسَلَّم به ضدّ الدّولة، فانتماؤنا القوميّ سيكون تبعًا لذلك عقبة في وجه المساواة. نحن ضدّ السّياسة الحكوميّة الرّسميّة، ونحن ضدّ الاحتلال، ومن أجل تقرير حقّ مصير الشعب الفلسطينيّ. ومصلحة الشعب الفلسطينيّ- في رأيه- تتطلّب سلامًا عادلاً مع الشعب الإسرائيليّ لا استسلامًا، فالمصلحة الحقيقيّة تُلزمُنا برفض الحلول المغامرة، وحلّ القضيّة القوميّة العامّة هو في إطار الرّؤية الإنسانيّة.
هناك من ينظرون إلى الأبحاث التي يجريها أساتذة إسرائيليّون بعين الرّيبة والغضب، وينظرون إليها بمركب النقص من ناحية، والكراهية من ناحية أخرى، فهؤلاء يسألهم سالم: "ماذا تفعلون لدراسة واقعنا دراسة حقيقية"، فهناك انطباع عامّ بأنّنا كلّما تطوّرنا أكثر مِلنا إلى السّطحيّة، مِن هنا فواجب باحثينا ومُختصّينا أن يكونوا قوّة تغيير وتثوير في مجتمعنا للترويج للرّؤية الجديدة، وعدم التسليم بالواقع، وعدم الخضوع للرّوتين، بل الانطلاق الدّائم للتساؤل والتشكيل وللنّقد وللحوار. (الثقافة عدد حزيران 1993، ص 6).

من واجبنا - كما يرى- في محاربة التعصّب الطائفيّ، وهذا هو الباطون المُسَلّح لبناء الوحدة الوطنيّة للشعب المتجذّر في وطنه، ويجب تفضيل دائرة القوميّة على أيّة دائرة انتماء- طائفيّة أو عائليّة أو إقليميّة؛ فالإيمان الدّينيّ مسألة ضميريّة، بينما الانتماء القوميّ أو الوطنيّ مسألة سياسيّة اجتماعيّة عصريّة، وفصل الدّين عن الدّولة ليس عزلاً للدّين، بل هو احترام للدّين ورفض لإقحامه في مطاحنات سياسيّة وحزبيّة.
آلم سالمًا هذا التعصّب الطائفيّ والقبليّ الذي هجم علينا في السّنوات الأخيرة هجمة مُنكَرة، فيقول:
"عدنا إلى القبليّة وعدنا إلى الاحتراب. لقد ولدنا وكبرنا ووخط الشيب رؤوسنا ونحن نعتقد أن الصّراع بين السّنّة والشّيعة هو من الماضي السّحيق، إلى أن جاء يوم صار فيه العدوان على مساجد السُنة "فريضة" شيعيّة، والعدوان على مساجد الشّيعة بالتدمير والحرق "فريضة "سُنّيّة!! كنّا نعتقد خلال عقود أن المصريّين، انصهروا شعبًا واحدًا، فإذا نحن كنّا واهمين، والأقباط مدعوّون أن يدفعوا "الجزية" للسّادة المُسلمين!

كان المسيحيّون في بلاد الشّام طليعة ثقافيّة وحضاريّة وقوميّة، طليعة لنشر العروبة التي تصهر كلّ العرب أمّة واحدة عصريّة، فإذا هم الآن "غرباء" مشكوك في انتمائهم إلى أوطانهم، وإذا "المشايخ" عندنا يتكلّمون عن "الأمّة" يقصدون غير ما نقصد، لا يقصدون الأمّة العربيّة الواحدة التي تصهر كلّ أبنائها من الطوائف والقبائل والعائلات، كيانًا واحدًا، عصريًّا مدنيًّا، بل يقصدون "أمّة الإسلام".
إنّ الارتطام الرّهيب الذي حدث للأمّة القوميّة لحقه التمزّق، وكلّ تمزّق قاد إلى مزيد من التمزّق، فصرنا طوائف وشيعًا وقبائل، وهذا قاد إلى استنزاف الدّم والحيويّة والقوّة وإلى الضّعف الذي قاد إلى الهاوية، وإلى الهوان المُعزّز الذي أغرى الغزاة والمُحتلّين بنا. كلّ هذا الهوان هو نتاج التخلّف العلميّ والاقتصاديّ والثقافيّ والاجتماعيّ. كلّ هذا الهوان هو نتاج التمزّق الدّاخليّ، فكأنّما كلّ العالم حولنا يتقدّم بينما نحن "نتقدّم" في التخلّف!! (انظر مقالة سالم: "هل نأخذ مصيرنا بأيادينا ونصنع مستقبلنا أم نواصل رقصة العجز والتفكّك والموت؟!على الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=93893)

هناك قِيمٌ عُليا دعا إليها سالم في أكثر من مقالة، كالأخوّة الإنسانيّة، وكلّ تعصّب عرقيّ أو قوميّ أو دينيّ هو مسلك مُعادٍ لها، والعدل الاجتماعيّ قيمة عليا، وكلّ ظلم أو استغلال يُناقضها، والمساواة بين الناس قيمة عليا، وكلّ وثنيّة أو تقديس للأفراد هي أمور مناقضة. مِن هنا فهو يدعو إلى الكرامة الإنسانيّة ومحاربة الظلم والزّيف والنّفاق والسّطحيّة والابتذال، إلى أن نلجأ إلى الصّراحة (التفكير الحُرّ، والكلام الصّريح) والكرامة الإنسانيّة.

نخلص إلى القول إنّ أضواء الفكر الماركسيّ كانت دعامة له في فهم الصّراع والتغيير والتثوير، وأنّ لسالم جبران حلمًا ورؤية ومنطلقًا وموجِّهًا في كتاباته الشّعريّة والنثريّة، فقد ناضل بالكلمة، واستلهم الثقافة الإنسانيّة، داعيًا بحججه القويّة السّاطعة إلى الدّيمقراطيّة والتّعدّديّة والعصرنة والاعتدال والانفتاح على عالم أرحب، والدّعوة إلى الترجمات المنفتحة، ذلك أنّ العطش إلى المعرفة وقبول الحضارة الجديدة، والرّوح العلميّة هي أهمّ ما يجدر بنا أن نتبنّاه.
يخشى سالم على الأمّة العربيّة من مصير أسود، ولن تكون لنا حياة حضاريّة "إذا بقينا متخندقين في الجهل والتعصّب ومعاداة العلم والحضارة، وفي استعباد المرأة، وفي الاحتراب الطائفيّ، بل هل نبقى كأمّة، إذا انطلق موكب العالم في التقدّم إلى الأمام وبقينا نحن مُصرّين على التخلّف؟ إنّها النّهضة التي يدعو لها: "فالنّهضة ليست خيارًا نقبله أو نرفضه. إنّ النّهضة هي المدخل الحتميّ إلى التقدّم العلميّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، والبديل لذلك هو المراوحة في المكان، والموت البطيء والاندثار!
إن التغيير يكون بالمبادرة إلى حركة قومية ديمقراطية ذات رؤية شاملة، اقتصاديّة اجتماعية ثقافيّة، ذات حلم عظيم ينقل هذه الأمّة من العجز والانحطاط إلى الثورة الشاملة الإنسانيّة التي تُطهّر وتُوحّد وتوقظ الطاقات العظيمة. هذه الثورة التي تتصدّى للغزاة الأجانب، هي في الوقت نفسه الثورة التي تقاتل الانحطاط في داخلنا، وتقاتل التعصّب المجنون وتتحالف مع العلم والتقدم.
إنّ السّؤال الكبير الرّهيب الذي يطرح نفسه أمامنا الآن هو: هل نأخذ مصيرنا بأيدينا ونصنع مستقبلنا، أم نواصل رقصة العجز والتفكّك والموت؟!!

انظر الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=93893
ويستطيع المُتابع أن يتقصّى شعرَهُ ليجد في شعره الوطنيّ رُنُوًّا للمستقبل[5]، وحلمًا بالأجمل[6]، ودعوات للتغيير، في كلمات من القلب صريحة، وغير محدّدة الإقامة، يلقيها على رفاق الشّمس[7] والحياة.

أمّا في كلمة البروفيسور نعيم عرايدي.. وداعا سالم جبران يا قوس قزح!

1 - قوس قزح: من نصّ للكاتب الكبير إميل حبيبي جاءت فيه الجملة التالية:

"أعجب لهذه الحياة التي تنتهي بالموت. حبيبي الشيوعيّ القائد والمفكر، الأديب والإنسان، رغم كثافة الأحداث وتقريريّة الفكر دوّن لحظةً تأمّليّة في هذه الحياة بعيدًا عن العمل، والسّياسة والفكر بنظرة وجدانيّة تُلخّص عبثيّة الحياة الإنسانيّة، حياة الفرد رغم الأمل والإيمان بالعمل والعقلانيّة المُجرّدة. حياة الإنسان الفرد عاطفيّة يعرف وجدانها حدود العمر، ويحزن".

فعلاً، أعجبُ لهذه الحياة التي تنتهي بالموت، وفي كثير من الأحيان دون إنذار مُسبق، وبشكل مفاجئ وقبل الأوان إن صحّ القول. هكذا سنستذكر سالم جبران. لم يعش حياة طويلة وانتهت حياته بالموت قبل الأوان بكثير. ومع ذلك فالعزاء يأتي من نظرة عريضة أفقيّة لحياته المليئة المُكثّفة.

منذ شبابه الأوّل شارك جبران بمجهود كبير بالنشاطات العالميّة الحزبيّة، وانخرط عاملاً متظاهرًا، صحفيًّا مُفكّرًا وشاعرًا في أولويّات الأمور وفقًا لسياقاتٍ زمنيّة، من منطلقات أيديولوجيّة مَرِنة، تتعامل مع الظروف التاريخيّة بمنتهى الوعي والإدراك، وبشفافيّةٍ لم يسبق لها مثيل.

شفافيّة سالم جبران تتجلّى في المواقف العامّة والمواقف الخاصّة، ومنحته الثقة التامّة بصدق مسيرته المتنوّعة، سائرًا بخطى واثقة من درجة إلى أخرى في سلّم القيادة السّياسيّة والفكريّة والصّحافيّة. وفي القصيدة التي يستهلّ بها مجموعته: قصائد ليست محدودة الإقامة (الأعمال الكاملة ص 99) (هناك،1970) ختم قصيدته بالمقطع التالي:

"يا إخوتي إن متّ/ مدّوني على الأرض/ بلا قبرٍ ولا لحدٍ/ وخلّوني شهيدًا/ في عناق التربة الشّهيدة".

إنّ ما كشفه إميل حبيبي ظلّ متواريًا عند سالم جبران. نقول ذلك لنؤكّد أنّ الأخير لم يتخلّ عن العاطفة، بل استطاع أن يوازنها بالمنطق العقلانيّ المُدرك.

في قوله "إن متّ ادفنوني" منطق لقبول الموت بشكل عقلانيّ، لا تدخل فيه عاطفة الخوف من الموت كصفة إنسانيّةٍ قويّة، ومع ذلك فإنّ العاطفة تدخل إطار الإدراك بقوله: "وخلّوني شهيدًا.. في عناق التربة الشهيدة".

في منهجيّة الموت لدى جبران معادلة التوازن عن طريق ثنائيّة المنطق والعاطفة. قد يتراءى المنطق في تعابيره الواقعيّة لينقل إلى المُتلقي ما يشبه الغطاء العقلانيّ لكلّ توزيعات العاطفة في مفاعيلها المتنوّعة وِفقًا للسّياقات، لكن جبران يجعلها تتخلّل المواقف والظروف بشكل واضح بما يلائم منهجية الثنائيّة في التوازن.

في قصيدة له من المجموعة المذكورة (ص 109) جاء:

"أشعر بالحزن والفرح/ جميع أيّامي التي مرّت وأحلامي عن المستقبلِ/ ملفوفة ببعضها تُطلّ لي/ أشعر أنّ العمرَ ليلٌ دامسٌ/ وأنّه أجمل من قوس قزح .."

هذه القصيدة جاءت تحت عنوان "الشبح"، تُبرز بمواراة الموت لتبدو وكأنّها تختلف عن جميع قصائد الشاعر، بنهجه المعروف الذي يسير حسب معادلة الاشتراكيّة الواقعيّة المُدركة لذاتها، ولذا فهي تكشف عن معادلة التوازن التامّ بين تجسيد الواقع الحياتيّ من ناحية، وبين العاطفة الوجدانيّة التي تلفت النظر لذاتها بشكل واضح، حيث تبدأ مقاطع القصيدة بفعل العاطفة: "أشعر– أشعر بالحزن والفرح، وجميع أيّامي ملفوفة ببعضها". ثنائيّة مزدوجة حدّ التناقض لولا التفافها حول بعضها، ولهذا نستطيع رغم ذلك أو ربّما لذلك، أن نقيس "أشعر أنّ العمر ليل دامس" بمقياس العاطفة، بينما الشقّ الثاني من هذه الازدواجيّة: وأنّه أجمل من قوس قزح" بمقياس الإدراك الذهنيّ.

نادرة هي القصائد التي يحار فيها الشاعر بين الإدراك والعاطفة، الواحدة على حساب الأخرى:

"وبين وعدٍ ظلّ/ في عوالم الأمس ووعدٍ لغدٍ/ من حيرة أدورْ/ أشعر أنّ قلبي/ في وحشة القبر ... وفي نضارة الزهورْ" (هناك).

وحشة القبر ليست مرادفًا أو بدلاً "لليل الدّامس" في بداية القصيدة، ففي هذا الأخير رغم عتمة العمر هنالك جمال خاصّ لهذه الظلمة كجمال قوس قزح، أمّا وحشة القبر هي الموت، ولا يشعر به الإنسان سوى أنه شبحٌ مخيف، ستوضع عليه الأكاليل أو تزرع حوله الزهور فتبقى ناضرة. هذا الشبح سيتساوى عن طريق المناقضة لقوس قزح، لأنّ العمر رغم عتمته هو جميل، وسرعان ما يتحوّل في القصيدة إلى الشيء الملموس.

"العالم الملموس في يديّ ما أطيبه"! بينما سيبقى الشبح ووحشة القبر بمثابة المجرّد المدرك بعاطفة الخوف وهلوسة الحياة : "وفي صميمي رهبةٌ/ من طلّة الشبح .."

2 - الموت والشعر: الكتابة عن الموت هي موضوع رئيسي في شعر سالم جبران, بما يغاير النهج الآنف ذكره, أي فيما يتعدى التعبير الوجداني والعاطفي الذاتي. ومع ذلك نبدأ بالموت الذي لا يزال يخص المحيط الشخصي / العائلي, وهو لا يزال ممزوجاً بالعاطفة وبالذات الوجدانية. القصيدة التالية تؤكد هذه الظاهرة جاء في قصيدة رقاق الشمس (الناصرة، الكاملة: ص 166):

"أمي ماتت وأشقّائي ماتوا/ وحبيبي مات/ لم أذكرهم لم أكتب عنهم حرفاً/ من سنوات ... "

إنّه بالرّغم من وجود الموت في المحيط القريب، ممّا يخصّ الشاعر كما تقول القصيدة بشكل واضح، إلاّ أنّ الحِسّ الإدراكيّ لدى المتلقي يقرأ أنّ ذِكر الأمّ والأشقاء هنا لا يعني فعلاً ما يرمي إليه الدالّ بالمعنى الحرفيّ، فقد يكون ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تصبح الأمّ هنا رمزًا وهكذا الأشقاء. لكن ما يهمنا في هذا السّياق الاعتراف الممزوج بالحسرة العاطفيّة، بأنّه لم يكتب عنهم حرفًا من سنوات، وليس غريبًا أن يتّضح لنا خلال القصيدة بأنّ موضوعَها الرّئيسيّ ليس الموت أو الأموات، كما يوحي عنوان القصيدة "الأموات" والمقطع الأول منها. الوحدة هي الموضوع الرّئيسيّ هنا: "وحدي في الدّنيا وحدي/ أمشي في الصّحراء/ بحثًا عن ماء .. ". إنّه بالرّغم من التوجّه الواقعيّ المدرك لموضوع الموت، ورغم امتزاجه بعاطفة الحسرة، فإنّ وجدان الشاعر منصبّ بوحدته، والتي هي أشبه بالتائه في صحراء الحياة مُتعطّشًا لقطرة ماء ، ومع ذلك ما أثار انتباهي في هذا التوجّه هو المقطع الأخير الذي يومئ بنهج كامل تجاه الموت:

"جيراني غنّوا، شربوا/ أكواب الخمر/ حتى الفجر/ وأنا وحدي، يا عيد الميلاد/ ما أقسى الوحدة في الأعياد".

سالم جبران يضع حدودًا للأشياء، فرغم الموت لا يذكر من ماتوا بطريقة مألوفة سواء في الشعر أو في الحياة، والوحدة توضع في إطار المناسبة وليست شعورًا طاغيًا لفترة طويلة، والوحدة قاسية في الأعياد، وإثر تأمّل في نصوصه وجدت أنه ينظر إلى الموت، سواء بالموت الطبيعيّ أو التضحية في النضال والحروب، نظرة بُعدٍ عقلانيّة. فهو يرفض الرثاء ويستبدله بالأمل والغناء.

في سياق موضوع الموت في شعره يرتبط اللون الأدبيّ كحلقة أساسيّة تجيب بوضوح على السّؤال، ما هو النهج الشّعريّ لدى سالم جبران؟ وليس غريبًا أن نقول بوضوح إنّ شعره مباشر واضح بيًن وموزون تمامًا، كما أراد الشعر العربي أن يتميز به منذ العصور القديمة، مع فارق العصر على المستوييْن الشكليّ ببُنيته الحديثة والإيقاع بتفعيلته الحديثة.

الرّثاء في الشعر العربي يحتلّ مكانًا مركزيًّا في أنواع الشعر، أما شاعرنا فيرفض البكاء والثناء على الميّت كما ألفنا في الشعر القديم، والمرثيّة الوحيدة المُصنّفة تحت هذا العنوان جاءت في مجموعة "رفاق الشّمس" (الناصرة، 1975) :

"أمجّد ذكراك من غير أنْ/ أزورَ ضريحكَ/ يا صانع المعجزاتْ/ لأني إذا زرتهُ/ سأموت حياءً/ فأنا كل صنعته يدي –/ كلماتْ.." (المجموعة الكاملة 162)

الشاعر هنا يرثي نفسه كمن لا يصنع إلاّ كلمات، فإنّ تمجيد ذكرى المفعول وزيارة ضريحه ونعته بصانع المعجزات، جاءت لتفيدنا بطريقة المقارنة عن المرثيّ له، وهو الأنا المتكلم. فلكونه لا يصنع المعجزات كما يجب أن يكون، فإنّه في عداد الأموات لكونه صانع كلمات. إذن ليست هذه مرثية بالمعنى المألوف، والمرثيّة غير مرغوب فيها في شعر جبران الهادف. ففي مجموعة أخرى "قصائد ليست محددة الإقامة" (بيروت، 1970)، نجد قصيدة بعنوان "بدلاً من مرثيّة" بمبنى أقرب إلى هذا النوع الأدبيّ، وهذا يؤكّد مرّة أخرى ما أبرزناه سابقًا، من أنّ موضوع الموت إذا كان في إطار محيط الشاعر الشخصيّ، فإنّه يتميّز بالنهج الأقرب إلى العاطفيّ منه إلى العقلانيّ، وفي هذه القصيدة يحدث الموت خلال العمل في المصنع، وليس في نضال سياسيّ أو قوميّ. ومن هذا المنطلق يتخذ الشاعر مرجعيّة المرثيّة القديمة للتعبير عن هذا الموت:

"كان طويلاً جاري/ وجميلاً كالنخلة/ كانت ضحكته صافية/ طاهرة كالفلة". (المجموعة الكاملة، ص 136).

الجزء الأكبر من المرثية يُكرّس لمدح الفقيد، وهنالك من يقول إنه لو فصلنا هذا الجزء عن المرثيّة لأصبح قصيدة في المدح. إنّها تمدح الفقيد لتثير العاطفة لدى المتلقي وتجعله يتضامن مع هذا الفقدان، فهنالك بالإضافة للمديح الجزء المثير للشفقة والخوف:

"بعد ثماني ساعات الشغل بمصنع "نعمان"/ كان/ يرجع للبيت ليأكل ويغسّل/ ويلاعب إيتان .../ فوق حصان خشبي/ ساعات كان يلاعب إيتان" (هنالك).

ومع ذلك فلا تنتهي هذه القصيدة بتقبّل الموت والتعبير عن العزاء والإيمان بسنّة الحياة في الانتهاء بالموت.

"والإعلان الأسود في حارتنا/ يعلن زخّة دم أخرى/ روّت رمل الصّحراء العطشان/ يعلن : مصرع إنسان".

الأسوَد والأُطر السّوداء في القصائد المتعلقة بالموت هي أيضًا توزيع لموضوع آخر هو الألوان، وقوس قزح في شعر سالم جبران، لن نتطرق إليها في هذا الإطار، ونوصي ببحثها لِما فيها من إثارة وأهمّيّة في فهم هذا النهج المثقف المدرك لذاته في كتابات سالم جبران. إذن الشّاعر يستبدل الرثاء بالغناء، ويعتبر نفسه مُغنّيَ الثورة :

"قدري أن أغنّي/ أن أجوع/ وأبقى أغني/ أن تنَزّ جِراحي/ وأبقى أغني/ وإذا متّ في المعركة/ فالأغاني/ سوف تحتلّ، بين الرفاق، مكاني/ وتحارب عنّي". (المجموعة الكاملة ص 150).

هذه القصيدة بحدّ ذاتها أغنية في الشكل والمضمون والرّسالة، إيقاعها سلسٌ موسيقيّ، تحتوي أبياتها على مقاطع من التفعيلة سريعة الإيقاع والتي تمنح القراءة موسيقية الغناء. أمّا في مضمونها فهي تعبّر بشكل واضح ومباشر عن أسباب الغناء مهما كانت السّياقات، وتحمل رسالة الحثّ على الغناء، غناء الجوع وغناء الجراح وحتى غناء الموت، شريطة أن نتنبّه إلى نوع الموت: وهو الذي يحدث نتيجة التضحية، بما يختلف عن الموت القريب الذي تحدّثنا عنه في بداية الفصل، ويجيء هذا النهج على أساس فكرٍ متعقّل، رسالته أنّ الثوريّ لا يبكي. هكذا في قصيدة تحت هذا العنوان (حيفا، 2012).

يحاور الشاعر وضع البكاء كحاجة إنسانيّة، هي التي تميز إنسانيّتنا، ومن ناحية أخرى لا يجدر لهذه الصّفة التي تعكس ضعفنا البشريّ أن تؤثر على مواقفنا في مجابهة الحياة. هذه القصيدة المميّزة لو حلّلناها مقطعًا مقطعا، لوجدنا أنّها هي ملخّص الملخّص لكتابات سالم جبران، ففيها كما أسلفنا البكاء الآنيّ كصفة إنسانيّة، ومِن ثمّ الخروج من هذا البكاء لمواصلة المسيرة باستعمال ذهننا وإدراكنا، وفيها أسباب الحزن والبهجة، وفيها قبول المراحل ورفض الواقع المهزوم:

"كان قلبي جامحًا إلى التمرّد المفتوح/ لم أغيّر قلبي/ لكنّني خرجت برفقته من القفص/ إلى الفضاء الرّحب/ وداعًا يا كلّ الصّياغات الجاهزة/ وداعًا أيّها الكذب المقدّس/ وداعًا أيّتها العبوديّة طوعًا/ كلّ الألوان جميلة/ ومن مزج عددٍ وغير محدود من الألوان/ يولد عددٌ غير محدود من الألوان الجديدْ .../ بيتي حرّيتي/ حرّيّتي بيتي" (المجموعة الكاملة 232).

وكانت لد. حسين حمزة مداخلة طويلة كبحث أكاديميّ ستنشر لاحقا وأسوق موجزها:

إنّ ما يميّز شعر سالم جبران بساطة التركيب في العبارة الشعريّة، الاهتمام بتفاصيل المشهد القرويّ، ممّا يجعل رسالته تصل القارئ دون وسيط يؤوّل المعنى. إضافة إلى ذلك، فقد امتاز الشاعر بقصيدة الومضة وهي قصيدة قصيرة مكثّفة، وفي اعتقادنا ساهم هذا التكثيف في جماليّة قصيدة الشاعر، وقد اعتمد في ذلك على أسلوب النداء وجماليّات التشبيه. ميزة أخرى تكاد تسِم شعرَه، وهي رصد الصّورة الشعريّة بإيقاع خافت أقرب ما يكون إلى النثر، وقد أدّى هذا الخفوت إلى عرض خطاب الشاعر الحجاجيّ دون انفعال أو الميل إلى الإيقاع العالي الوجدانيّ، الأمر الذي استطاع من خلاله الشاعر أن يوازن بين العقل والقلب، وهو قلّما نجده في قصيدة المقاومة حتى منتصف السّبعينات. وهو من الشعراء الذين قلّما يلتحم فيه خارج النصّ بداخله؛ فقد نشأ منتميًّا إلى الحزب الشيوعيّ وقضى في ذلك، فجاءت قصيدته تعبيرًا عن الطبقات المسحوقة والمظلومة بشفافيّة وجماليّة في آن واحد.

أمّا مداخلة الكاتب نمر نمر، فقد تناولت قصيدة لسالم جبران، تحدّثت عن التجنيد الإلزاميّ والخدمة العسكريّة لبني معروف في الجيش الإسرائيليّ، واستعرض بإسهاب فِكر سالم جبران الشموليّ لشعبنا الفلسطينيّ ولقضيته، والمناهض لسياسة "حكومة إسرائيل" التي تمارسها بحقّ الشعب الفلسطينيّ في التمييز والاستعلاء، والتقسيم والشرذمة إلى طوائف وأطياف وفئات، وذلك بطُرُق طرْحٍ مشوّقة ومنطقيّة، وبفِكرٍ مُتنوّر ورؤيةٍ ثاقبةٍ لهذه القضايا المصيريّة العالقة، مِن خلال نصوصه الشعريّة ومقالاته الفكريّة!

كما ألقى لشاعر سيمون عيلوطي قصيدة مُهداة للصديق سالم جبران بعنوان "الموجِه كِفْرَت بِالبَحَر..؟!"

مِثْل الحِكايِه الحاوْيِه../ كُل الفُنون/ مَكْتوبِه بِنْجوم الأمَل..../ تُعْبُطْنا عًالصّدْر الحَنون،/ كُنْت الشِّعِر.../ وَسْط اللّيالي البارْدِه.../ تِطْلع فَجِر،/ تِحْمِلْنا بِمْواج العِطِر.../ صوب المَحَبِّه وِالوَفا،/ وْكُنْت المَدى.../ عَ حْدودَك الزّهْر اهْتَدى.../ وِالبُلْبُل بْصوت الصّفا/ رَفِّ وْهَفى.../ بْكِلْماتَك الغِنْوِه.. الحِلِم.../ تِطْوي الغُيوم.../ وْتِضْوي في كوم العَتِم،..،/ كُنْت الطَّريق.../ مْرَسَّم ... وْكان البَريق.../ يْشَعْشِع بْروح الغَريق/ الَتَّايِه بْوادي غّميق،../ وِالْ عانى من ظُلْم الرّفيق،..،../ في ليلِه فارَقْها القَمَر.../ وِالموجِه كِفْرَت بِالبَحَر،..،../ عافت التّزْوير.. تَجْميل الصوَر،/ وَحْدَك مَشيت../ بْدَرْب ما فِيُّو حَدا/ لا زَهْرَه../ لا عَصْفور.../ في جَوَّك شَدَا،/ غابَت عن الشبَّاك قَطْرات النّدى/ وِسْكون خَيّم عا هَدى.../ ما ظّل إلا شِعْرَك/ يْعيدو الصّدى..!!

واختتم الندوة البروفيسور سليمان جبران شقيق المُحتفى به سالم جبران بكلمة شكر للحضور وللقائمين على إحياء هذه الأمسية فقال: أخي سالم

مهمّة غير سهلة أن أتحدّث عن سالم جبران. سالم أخي وصديقي، بل هو توأم روحي، على الأقلّ في عهد الطفولة والمراهقة في القرية، وفي سنوات ثلاث أخرى اقتسمنا فيها الهواجس والرّؤى وغرفة صغيرة في "درج الموارنة" في حيفا. كنّا، قبل أن تختلف بنا المسالك والمساعي، متماثلَين مزاجًا وفِكرًا، مطامحَ ومواقف. لذا، فإنّي إذ أتحدّث عن سالم كأنّما أتحدّث عن ذاتي، وهذا ما لم نتعلّمه في بيتنا، ولا أظنّنا نجيدُه. مع ذلك، أجدني اليوم، وقد رحل سالم عنّا، مُطالَبًا لأوّل مرّة في حياتي بذكر بعض عوامل التكوين في تشكيل سالم الشاعر وسالم الإنسان.

في البقيعة كان المولد والنشأة، والبقيعة يومذاك على الأقلّ كانت قرية متميّزة. في قلب القرية ساحة كبيرة مبلّطة، الحارة نسمّيها، تقسم القرية بالتساوي إلى شطرين شرقيّ وغربيّ، كأنّما هما الجناحان لهذا القلب الأخضر. ومن أضلاع الصّخر في أقصى الشمال منها، تتفجّر "عين البلد" ثرّة نقيّة عذبة، فتسقي أهلها وتروي حواكيرهم، واحدة تحت الأخرى كأنما هي جنائن معلّقة. في الحارة أيضًا توتة أزليّة رؤوم، هزلت في هذه الأيّام وانكمشت، كانت تحتضن الصّغار والكبار؛ هؤلاء في لهوهم بالبنانير والمراشيق، وأولئك في منتداهم الشعبي؛ يروون الحكايات والنوادر والفكاهات، يردّدون الأشعار والأزجال، ويناقشون القضايا الصّغيرة والكبيرة، فيتّفقون مرّة ويختلفون مرّات، دونما حقد أو ضغينة. المرأة فقط لم يسعفها حظّها في ارتياد هذا المنتدى إلاّ لمامًا ومِن بعيد؛ صبايا تأتي العين في أبهى زينتها، فتملأ جرارها ماء، وقلوب الشّباب حسرات، ونساء يقطعن الحارة في الطريق من البيت أو إليه. في هذه الحارة وتحت هذه التوتة أمضى سالم، أمضينا جميعًا أجمل أيّام الطفولة، فبقيَت راسخة في الأعماق. وإذا كانت ظروف الحياة أقصته عن قريته كبيرًا، فقد ظلّت البقيعة، بحارتها وعينها وتوتتها وحواكيرها و"المستحيّة"، ماثلة في قلبه ووجدانه وشعره، لم تبرحها يوما!

بيتنا أيضا، حيث وُلد سالم وتربّى، كان في حارة عجيبة؛ حارة كوزموبوليتيّة، أو "تعدّديّة" بلغة هذه الأيّام: إلى الغرب من بيتنا كان بيت عائلة يوسف الزيناتي اليهوديّة، حائط لزق الحائط. وتخرُج من بوّابة البيت فترى أمامك مباشرة بيت جارنا "أبو نعمة" المسيحيّ، وعن يسارك، عبر الشارع، كنيسًا لليهود شامخًا يكاد يغطّي الفضاء، تمتدّ أمامه "بيوت اليهود" الخربة. وتنزل في الطريق إلى الغرب أمتارًا، فتمرّ ببيت جارنا "أبو محمّد فارس" الدّرزيّ، مُلاصِقًا لبيت "خالتي زينة" المسلم. نعم، في هذا المحيط الضيّق من الأرض تعايشت تشكيلة كبيرة من العائلات والأديان في سلام ووئام، كأنّهم جميعًا عائلة واحدة؛ يتشاجر صغارهم لأتفه الأسباب، إلاّ أنّني لا أذكر "طوشة" واحدة صغيرة بين كبارهم. قد تبدو هذه الصّورة لكثيرين في هذه الأيّام يوتوبيا متخيّلة، إلاّ أنّها في الأيّام تلك كانت واقعًا يوميًّا طبيعيّا، لم نجد فيه فرادة أو غرابة. فهل من غرابة إذا لم يعرف سالم، وقد ولد ونشأ في هذه الحارة التعدّدية، عصبيّة قوميّة، أو دينيّة، أو طائفيّة؟

العامل التكوينيّ الأخير، ولعلّه الأساسيّ أيضًا، في سالم الشاعر والإنسان والسّياسيّ، هو البيت طبعًا. وأقول، دون مباهاة ناشزة أو تواضع كاذب، وكلاهما واحد، إنّه كان بيتًا مختلفا. بيت طويل من الطراز الفلاحيّ التقليديّ، يجمع بين جدرانه ثمانية أولاد، ستة إخوة وأختيْن، يُعنى بتنشئتهم والدان عانى كلاهما في الطفولة، اليتم والفقر والقهر. إلاّ أنّ الطفولة البائسة هذه أنتجت من والدَيْنا شخصيّتيْن متغايرتيْن تمامًا: والدة يغلبُ صمتها على كلامِها، تقوم راضية مخلصة بمسؤوليّاتها الشاقّة في البيت والحقل، قانعة ببيت طافح بالأولاد والطموح. لكنّها لا تنسى لحظة أنّها "مقطوعة من شجرة"، لا أخ لها ولا أخت، فتصطبغ حياتها في الغالب بالاستكانة والانكساريّة والضّعف. الوالد أيضًا عاش، كما ذكرت، يتيمًا، "ابن أرملة" بأسلوب تلك الأيّام، في عهد لا يَرحمُ الأيتام ولا الأرامل. إلاّ أنّ الظّروف القاسية ذاتها، مِن يُتمٍ وظلم وإقصاء، خلقت منه ثائرًا بوظيفة كاملة على المؤسّسات والمواضعات كلّها من حوله؛ السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة. الشّطر الأوّل من حياته كلّه أمضاه في "انتفاضة" مستمرّة على المؤسّسات الجائرة تلك، مُسلّحًا بذراعه وعصاه، وثقة بالنفس لا تهتزّ، وإيمان بالتفوّق راسخ، لا تنال منه الظروف ولا المعوّقات. كان والده، داود الجبران، كما حدّثنا غير مرّة عن أمّه، حاديًا معروفا. وقد مال في شبابه فعلاً إلى اقتفاء طريق أبيه، لكنّه لم يجد في هذا الفنّ غير المديح الكاذب وابتذال الذات، فعزفت نفسه عن هذا المسلك، فلم يبقَ منه فيه سوى حفظ الأزجال وتأليفها أيضًا، وشغف بالأدب عجيب، وتقديس للشعر والشاعر. لذا، كان شغلنا الشاغل أيضًا، في أمسيات الشتاء الطويلة حول الموقد، حفظ القصائد وإلقاءها، ومساجلات في الشعر والزّجل تبدأ ولا تنتهي. في هذا البيت المشبع فضاؤه بالثورة والشّعر، المحكوم بكاريزما الأب ومُثُله، ولد سالم، وتنفّس هواءه، فحمل شهوة تغيير العالم حتى آخر يوم في حياته. من هذا البيت المختلف، من هذه الحارة التعدّدية، من هذه القرية المتميّزة، كانت بداية سالم. والبقيّة أرجو أن تأتي في مناسبة أخرى، أو مجال آخر.
---------------------------

[1] - في ذلك يرى كارل بوبر في فضح سلطة الحقيقة في المؤسسة العلمية التي تدعي المعرفة اليقينية، وتتخذ طابع النسق المغلق، بينما القوانين العلمية تتميز بقابليتها للدحض، لا قابلية التحقق المطلق. انظر كتاب: الثقافة والمثقف العربي، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، مقالة السيد ولد أبّاه ، ص 204.

[2] - يرى أحمد مجدي حجازي أن الصراع هو جزء لا يتجزأ من الابتكار والتجديد، وهو القادر على التجاوز الجاد والخلاق ليصل إلى الإبداع، وإعادة إنتاج المعرفة. انظر مقالته في كتاب الثقافة والمثقف (م.س ، ص 81)

[3] - في استطلاع لحليم بركات استنتج في دراسة إحصائية شاملة "ما زال للعائلية والقبلية والطائفية دورها المحسوس في حياتنا وسلوكنا، فهي تعتبر واحدًا من أهم مصادر التجنيد النخبوي على المستوى المركزي والمحلي" – انظر مقالة حليم بركات في كتابه المجتمع العربي المعاصر بيوت- 1984، ص 220-221.

[4] - يرى سالم أن عبادة الشخصية زيف ومسرحية عبث، فيقول شعرًا: " أيها الزيف الذي يقيم مهرجانًا/ في الساحة العامة ومداخل البيوت/ لست شريكًا في هذه المسرحية (الأعمال الشعرية الكاملة ص 235)

[5] - نحو: ونحلم بالمستقبل" ، (ن.م، ص 287) ،"ما أروع الماضي / وما أجمل أن نعطي من دمائا/ زيتًا لقنديل الغد الريان (ص 290).

[6] - نحو: "ويحلمون بصباح يحرقون عنده حكاية الضياع من تاريخهم" – الأعمال الشعرية الكاملة (2012)، ص 147، "لم أستبدل حلمي بحلم آخر /بل نفضت عن حلمي الغبار (ص ص238) ".

[7] - يقول: صعدت إلى ذاتي الحرة/ بقيت مع الناس واحدًا من الناس/ الشمس في قلبي (ص 238)


مؤسسة محمود درويش للإبداع تنظّم أمسية احياء لذكرى سالم جبران

كفر ياسيف- الموقد الثقافي:
نظمت مؤسسة محمود درويش للإبداع يوم السبت 25/ 2/ 2012، وضمن برنامجها الشهري، أمسية أدبية بعنوان:"سالم جبران أحد رواد حركتنا الأدبية"، أقيمت الأمسية في قاعة المركز الثقافي في كفر ياسيف وحضرها جمهورغفير من كفر ياسيف وخارجها برز من بينهم لفيف من الكتّاب والأدباء والشعراء ورجال الفكر والمجتمع الذين حضروا احياء لذكرى شاعرهم سالم جبران، ووفاء لعطائه الفكري والأدبي.

افتتحت الأمسية بمقاطع متلفزة من حوار كان الفنان محمد بكري الذي تولى أيضا ادارة الأمسية أجراة مع جبران في التلفيزيون الفلسطيني، حيث تحدث عن بعض قصائدة وعن ذكرياته مع الشاعر محمود درويش وعن مختلف القضايا التي تخص مجتمعنا الفلسطيني.

وفي كلمة بعنوان:"سالم جبران مفكرًا"، تحدث بروفيسور فاروق مواسي عن كثرة الدراسات التي تناولت هذا الأديب أو ذاك في كتاباته شكلاً ومضمونًا إلا أن من الندرة أن نجد دراسة لفكر أديب بيننا من حيث منطلقاته ورؤيته أو على سبيل التجوز فلسفته ونظريته،أو موقفه- والإنسان موقف. وأضاف: يلقب هذا شاعر المرأة، وذاك شاعر العروبة، هذا شاعر القضية الفلسطينية، وذاك شاعر الكنعانية، ونجد مسميات أخرى ككاتب الأرض وكاتب الوطن وأديب المقاومة...إلخ
أما ما معنى ذلك باتساع الشرح، وتعمق الفكرة، باستقصاء المعنى، وبأن يوشك المدلول على أن يكون جامعًا مانعًا فهذا ما لا سبيل إليه. وقال: يشفع لي في دراسة سالم جبران المفكر القلق المنظر طول صحبة، سواء في مكان عمله في جبعات حبيبة القريبة من سكناي، أو في الزيارات المتبادلة، أو في المؤتمرات التي عقدتها منظمة التوجيه السياسي الألماني، حيث شاركنا في سبعة مؤتمرات- خمسة منها في ألمانيا، وواحد في جبعات حبيبة، وواحد في أريحا، وهي تضم أدباء فلسطينيين وإسرائيليين وألمانًا. ولا أنس قراءتي له في المقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع، وهي كثيرة وفيرة في البلاد وخارجها.
وقد أصدر مجلة الثقافة التي شرفني بأن أكون عضوًا في هيئة تحريرها، كما أصدر مجلة المستقبل. يستطيع من يبحث عن دلالة الأسماء على طريقة جينيت في بيان وظائف العنوان التعيينية والوصفية والإيحائية أن يطمئن إلى أن عنصر الثقافة كان موجهًا في حسابه نحو مستقبل هذا الشعب- أوالأهالي (سمى صحيفة رأس تحريرها هذا الاسم)- الأهالي الذين يؤرقه حالهم، ويبحث لهم عن كلمة مقرونة بالفعل. يرى سالم أن ليس هناك فصل أو عزل بين الثقافة والمجتمع، بين الإبداع الروحي والنضال الاجتماعي، فالإبداع هو وليد طبيعي للمجتمع، ومن أجل مستقبله يساهم في التغيير. (المستقبل، عدد نيسان 2005، ص 4)، وفي السطرين اللذين سطرهما على غلاف هذا العدد الأول من المستقبل ما يؤكد ذلك: "نحو المستقبل- منبر للثقافة والنقد، منبر للحوار والصراع والتغيير".

أما الناقد د. حسين حمزة، فقد قال في كلمته: إنّ ما يميّز شعر سالم جبران بساطة التركيب في العبارة الشعريّة، الاهتمام بتفاصيل المشهد القرويّ، ممّا يجعل رسالته تصل القارئ دون وسيط يؤوّل المعنى. إضافة إلى ذلك، فقد امتاز الشاعر بقصيدة الومضة وهي قصيدة قصيرة مكثّفة، وفي اعتقادنا ساهم هذا التكثيف في جماليّة قصيدة الشاعر، وقد اعتمد في ذلك على أسلوب النداء وجماليّات التشبيه. ميزة أخرى تكاد تسِم شعرَه، وهي رصد الصورة الشعريّة بإيقاع خافت أقرب ما يكون إلى النثر، وقد أدّى هذا الخفوت إلى عرض خطاب الشاعر الحجاجيّ دون انفعال أو الميل إلى الإيقاع العالي الوجدانيّ، الأمر الذي استطاع من خلاله الشاعر أن يوازن بين العقل والقلب، وهو قلّما نجده في قصيدة المقاومة حتى منتصف السبعينات. وهو من الشعراء الذين قلّما يلتحم فيه خارج النص بداخله؛ فقد نشأ منتميًّا إلى الحزب الشيوعيّ وقضى في ذلك، فجاءت قصيدته تعبيرًا عن الطبقات المسحوقة والمظلومة بشفافية وجماليّة في آن واحد.

بعد ذلك قدّم بروفيسور نعيم عرايدي دراسة شاملة حول حياة وشعر سالم جبران، جاء فيها: أعجب لهذه الحياة التي تنتهي بالموت، وفي كثير من الأحيان دون إنذار مسبق، وبشكل مفاجئ وقبل الأوان، إن صحّ القول. وتابع: هكذا سنستذكر سالم جبران. لم يعش حياة طويلة وانتهت حياته بالموت، قبل الأوان بكثير. ومع ذلك فالعزاء يأتي من نظرة عريضة أفقية لحياته المليئة المكثفة.
وقال: منذ شبابه الأول شارك جبران بمجهود كبير بالنشاطات العالمية الحزبية، وانخرط عاملاً متظاهراً، حفياً مفكراً وشاعراً في أولويات الأمور وفقاً لسياقات زمنية، من منطلقات ايديولوجية مرنة، تتعامل مع الظروف التاريخية بمنتهى الوعي والإدراك، وبشفافية لم يسبق لها مثيل. شفافية سالم جبران تتجلى في المواقف العامة والمواقف الخاصة، منحته الثقة التامة بصدق مسيرته المتنوعة سائراً بخطى واثقة من درجة إلى أخرى في سلّم القيادة السياسية والفكرية والصحافية.

تلاه الكاتب نمرنمرالذي استعرض باسهاب جوانب مختلفة من شعر وفكر سالم جبران الذي تميّز بنظرته الشمولية إلى شعبنا الفلسطيني، حيث كان يطرح قضاياه بفكر متنوّر، وقد قرأ بعض نصوص لسالم جبران تدل على ذلك، وتبيّن أن سياسة التمييز التي تمارسها حكومات اسرائيل بحقنا، تلحق أيضا الطوائف التي ينتسب ابناءها للخدمة العسكرية.

أما الشاعر سيمون عيلوطي فقد قرأ قصيدة رثى فيها صديقه الشاعرالراحل سالم جبران، جاء فيها: وَحْدَك مَشيت/ بْدَرْب ما فِيُّو حَدا/ لا زَهْرَه.. لا عَصْفور في جَوَّك شَدَا/غابَت عن الشبَّاك قَطْرات النّدى/ ما ظّل إلا شِعْرَك/ يْعيدو الصّدى..!!

اختتمت الأمسة بكلمة شقيق المحتفى باحياء ذكراه،البروفيسورسليمان جبران، ورد فيها: (أخي سالم..مهمّة غير سهلة أن أتحدّث عن سالم جبران. سالم أخي وصديقي، بل هو توأم روحي،على الأقلّ في عهد الطفولة والمراهقة في القرية، وفي سنوات ثلاث أخرى اقتسمنا فيها الهواجس والرؤى وغرفة صغيرة في "درج الموارنة" في حيفا. كنّا، قبل أن تختلف بنا المسالك والمساعي، متماثلَين مزاجا وفكرا، مطامح ومواقف. لذا، فإنّي إذ أتحدّث عن سالم كأنّما أتحدّث عن ذاتي، وهذا ما لم نتعلّمه في بيتنا، ولا أظنّنا نجيده. مع ذلك، أجدني اليوم، وقد رحل سالم عنّا، مطالَبا لأوّل مرّة في حياتي بذكر بعض عوامل التكوين في تشكيل سالم الشاعر وسالم الإنسان.
في البقيعة كان المولد والنشأة، والبقيعة يومذاك على الأقلّ كانت قرية متميّزة. في قلب القرية ساحة كبيرة مبلّطة، الحارة نسمّيها، تقسم القرية بالتساوي إلى شطرين شرقي وغربي، كأنما هما الجناحان لهذا القلب الأخضر. ومن أضلاع الصخر في أقصى الشمال منها، تتفجّر "عين البلد" ثرّة نقيّة عذبة، فتسقي أهلها وتروي حواكيرهم، واحدة تحت الأخرى كأنما هي جنائن معلّقة. في الحارة أيضا توتة أزلية رؤوم، هزلت في هذه الأيّام وانكمشت، كانت تحتضن الصغار والكبار؛ هؤلاء في لهوهم بالبنانير والمراشيق، وأولئك في منتداهم الشعبي؛ يروون الحكايات والنوادر والفكاهات، يردّدون الأشعار والأزجال، ويناقشون القضايا الصغيرة والكبيرة، فيتّفقون مرّة ويختلفون مرّات، دونما حقد أو ضغينة).

تخللت الأمسية قراءات من شعر سالم جبران قدّمها عريفها الفنان محمد بكري.

كيف نواجه أزمة مصر؟

عنوان الندوة المفتوحة التي ينظمها صالون المرأة الجديدة بقصر ثقافة المنصورة الخميس الأول من كل شهر ويشرف عليه سامح العطروزي مدير القصر , ويستضيف مجموعة من المهتمين بالحركة الثقافية في المنصورة من المشاركين الدكتور سمير أبو الفتوح الخبير الاقتصادي والأديب السعيد نجم والقاص شوقي وافي والشاعر ابراهيم رضوان والشاعرة ميمي قدري , والشاعرة رشا الفوال ليضع الجميع أزمة مصر علي طاولة البحث ,وماهي الحلول من وجهات النظر المختلفة وذلك السادسة مساء الخميس 1/3/2012

تدير الصالون الشاعرة فاطمة الزهراء فلا

‏بِحُبَك قبلت التحدي/ أمل جمال النيلي

ــ كلما مرت الأيام أفكر أنها ستغير رأيها في .. لكن مستحيل .. رأيها ثابت لا ترغب في .. لن نصبح معا ً أبدا ً .
ــ لا يهمني رأيها .. المهم عندي أنت ِ .. أعطيتها مهله .. وإذا لم تأتي وتطلب يدك آتي أنا .. سأترك حينها البيت .
ــ أنت تعرف أنني أنفر من هذه الفكرة .. لا أرغب في ابعادك عن أمك .. سأنتظر قليلا ً لعلها تغير رأيها .
ــ لا أتخيل حياتي دونك .. لو وافقت علي زواجنا كنا تزوجنا اليوم مع أختي نورا .. لكنها لم تغير رأيها .
ــ ولن تغير رأيها .. عام ولم تستطع أقناعها .. صدقني لن توافق أبدا ً .
ـ من الواضح أنك مللت مني .. رجعتي عن حبك لي .. تلاشي حلمك ببيتنا .. ألم تعدي تحلمي بشقة تجمعنا .. نستيقظ معا ً .. تكن أعيننا شاهد علي حبنا .
ألا تريدي استمع لكلمة صباح الخير من شفتك كل صباح .. وأقبل وجنتك عند ذهابي للعمل .. وأعود والشوق ادناني لأجدك بانتظاري في أبهي صورة .. وأسمعك دقات قلبي .. لتحمر وجنتك .. تجلسي بين ذراعي نشاهد همسات القمر .. نسمع رسائله علي أنغام صفير الرياح .. نشتم عطر الحب .
ــ مازالت أحلم .. حلم لا يفارق ذهني .. اتسمع لصوتك يدوي بين جنبات بيتنا .. تحتضن يدك يدي لتشعرني بالأمان حينما يهتز قلبي خوفا ً .
حينما يزداد شوقي أرتمي بين أحضانك ونرقص لننسي محيطتنا .. نستمتع بلحظات نسافر فيها للقمر .. نرقص ونرقص بين نجماته .. نكتب قصتنا عليه .. ليعرف الجميع كم أحبك .
ــ بحبك .. انتظرت كثيرا ً لتقوليها .
ــ لم أعد أقدر .. فحبك أفقدني السيطرة علي نفسي .
ــ حبك جمل حياتي .. جعلني أتمسك بالحياة .. لم أعد أرغب في ترك البلاد .. تملكتني قوة لأحارب العالم من أجلك .
سأعمل وأعمل لنكن معا ً .. لا نفترق عن بعضنا .. وقتها سأضع كل أحزاني بصندوق وأغرقه في المحيط .. لا مكان لها وأنت معي .
ــ مبروك .
ــ ما الأمر ؟.
ــ لقد اتفقت والدتك مع زوجة عمي .. ستذهب لهم غدا ً لتطلب ليلي لك .
ــ ماذا ؟.. تركت أختي علي الكوشة لتخطب لي .. مستحيل .
ــ مستحيل لما ؟.. تراني غير مناسبة لك .. لأنك تعرفت عليك قبلما تراني هي وتعيني .. بعدها ستعرضني عليك .. ترغب دائما ً تكون التاجر صاحب البضائع .. وأنا السلعة .. تعرض عليها السلع .. لتختار ما تناسبها .. تشتري أو ترفض .. هي صاحبة الكلمة فقط .
ــ عمرك ما كنتي سلعة .. أنت ملاكي .
ــ ماجد أراك غدا ً .
ــ لما ؟ .. أنا أراك ِ الآن .
ــ سأنصرف حالا ًً .. لا أتحمل كلام والدتك .
ــ حسنا ً انتظرني .
ــ ماذا تريد ؟.
ــ انظري للمسرح .
ــ ماذا ؟ .. أنت ماذا تفعل ؟.
ــ "صبا " .. انتظر لا ترحلي .. أمي اسمعني كلامي .. فرضتي طلبي .. لن انتظرك بعد الآن .
والدته :
ــ ماج ماذا تفعل ؟!! .. ستفسد زفاف أختك .
أخته :
ــ ماما أتركيه يخبرنا بما يريد .. هيا تحدث واخبر الجميع بما بقلبك .
ــ أستاذ مختار .. أطلب منك يد ابنتك الكريمة صبا وأتمني توافق .. أنا أحبها بجنون .. وأحمل خاتم زواجنا منتظر هذه اللحظة منذ زمن .
نظر والدي إلي قائلا ً :
ــ ما رأيك ؟ .. ماجد يحبك .. وأنت ِ ؟.
ــ بابا .. ..
والدي :
ــ لا تخجلي هو يحبك ولم يخجل .. أعلن عن حبه أمام الجميع .. لم يستمع لأي كلام .. حتى كلامي .. طلبك علي الملأ .. ما رأيك ؟.
لم ينتظر ماجد ردي .. نزل متجه نحوي .. جلس علي ركبته مقدم لي خاتم الزواج .. مشهد من مشاهد الأفلام .. يستحيل أصدق حدوثه أمامي .. وها هو يحدث معي .
شعرت بصدمة .. لم يخبرني من قبل بهذا الخاتم .. أقبل أم أرفض .. والدته لا تريدني .. وأبي يري الوقت مازال باكر علي الزواج .. مازالت في العقد الثاني .. ماذا أفعل ؟..
لو وافقت والدته ستجعل حياتي جحيم .. وربما يكون كلام أبي صحيح .. مازال العمر أمامي .. لما أقيد نفسي ببيت وأسرة من الان .
لا يهم .. ماجد لم يهتم لكلام أبي .. أعلن حبه ولم يخجل .. قدمت يدي إليه وشفتي مبتسمة.
ــ موافقة .. قبلتك حبيب وزوج .
صفق الحضور غير مصدقين لما يحدث .. مشهد من مشاهد الأفلام الرومانسية .. حياتنا تلاشي منها الرومانسية .. رفعنا راية الحزن للأبد .
لا يهم .. المهم أنا خطبت لماجد .. أخيرا ً أتحقق الحلم المستحيل .. وأمام الجميع .. لا يهم كلام والدته .. ولا كلام أبي .. المهم سأتمسك بحبه ورومنسيته .. لن أقبل يتنزل عنها مطلقا .

أبجديّة السّفر/ أسماء الشرقي


لي ولك وللجميع
متــاهة الأصيل
وزنبقة سجدت
لسنوات عجاف
على أعتاب السّهر
يا أبناء أورفليس
إنّ الموج يجتاح أعقابي..
ويلملم أبجديّة الكلمات
..تلك نواجد مدينتي
تستقبل شهب المجد
وتسافر على أرباضها
عناقيــد الأفكار..
ونواقيس المعــرفة
وأنا.......المؤمن .صرت مرتابا
أتصيّدعواصف المستحيل
وأحيــك على سجّاد مدينتي...
أحلام الأرامل
برغيف حبّ...وبذرة حنين
..رأيت أسيل عينيك
في أفقي البعيد..
فعرفت...
"أنّ التذكـّـر شكل من أشكــال اللّقاء
ثمّ..عاودت الغياب عنّي ...
فعرفت ...
"أنّ النسيان شكل من أشكال الحريّة"
كلانا يا سيّدي....
يقيس رؤياه بخيط من خيوط
الأصيــل...
وكلانا ...يعتلي موجــا..
يؤرّقه...
ويجامــل لغة العقل فيه
لكنّه لا يجرح صمت الوردة
فعرفت..
بعض أسرار الرّحيل...
و أشواق الحنين..

صلاة القلب/ نبيل عودة


لم يكن ابراهيم يدخل الكنيسة الا في المناسبات التي لا بد منها. لم يثر ذلك انتباه أحد. حضور ابراهيم او غيابه لا يشغل بال المصلين. ابراهيم ، كما يتندر بعض سليطي اللسان ، هو التجسيم البشري الكامل لقانون الحاضر غائب. حضوره لا يلفت الانتباه وغيابه لا يغير من الحدث شيئا .هو أفقر سكان البلد،ولكن ليست مشكلة الفقر هي السبب ، فبعض الفقراء لهم حضورهم ورأيهم. ابراهيم اذا حضر لا ينبس ببنت شفة. لا راي له، لا مجموعة يقف معها،لا يتبادل الحديث مع أحد،لا شيء يتحدث به اذا شاء الحديث الا سوق الحديد الخردة الراكد، ومن يهتم بهذا الفرع؟ وربما لم يسمع به أكثرية ابناء البلد. حتى الخوري لم يحاسبه على غيابه، بل يظن البعض ان حضوره صلاة الأحد لا يلقى ترحيبا من الخوري أيضا، لأن حضوره نافر للأجواء الكنسية ويشبه نبتة بلان شائكة في بستان زهور.. رغم ان احدا لا يقول ذلك من منطلق ان تعاليم المسيح التي لا بد لكل من يدعي الايمان، ان يلتزم بها لا تميز بين الناس، وتطويباته المشهورة بدأت ب: "طوبى لفقراء الروح فان لهم ملكوت السماوات".
كان ابراهيم تاجر خردة ، يتاجر بكل ما هو قديم وبال، يجمع ما يجد بالشوارع من قطع حديد او صاج بال، ليبيعه لتاجر من المدينة يحضر مرة كل شهر، وبالكاد يربح ما يسد رمق اولاده الثمانية، وزوجته حسب أقوال نساء الحارة : "امرأة في حبل مزمن". رغم ضيق ذات اليد ، الا ان الله باركه بزوجة لا تلد الا الصبيان، وربما هو الأمر الوحيد الذي يحسده علية أهل البلد. ولكثرة الأولاد مستعدة زوجة ابراهيم دوما للقيام بأي عمل يطلب من بيوت البلدة الموسرة، تنظيف، تعشيب الأرض، شراء احتياجات النساء من السوق، مقابل بضعة قروش وبعض الأرغفة والملابس القديمة. وعدا الثمانية ، أطال الله عمرهم ووهبهم الصحة والطعام ، فقد ثكل ابراهيم وزوجته اربعة أطفال ، ويقال ان سبب موتهم قلة التغذية، الأمر الذي حرك عواطف الجيران، ومن يومها لم يتوقف الجيران عن ارسال ما تيسر من طعام زائد ، او بعض الخضار والفواكه التي بدأت بالذبول الى زوجة ابراهيم لتقيت اولادها.
لا يعرف أحد سببا لعدم مشاركة ابراهيم وزوجته صلاة أيام الأحد. وكان هناك شبه اتفاق بالصمت، بأن لا يحثوا ابراهيم على ضرورة الاهتمام بالمشاركة بصلاة الأحد من أجل اكتمال دينه. حتى الخوري الذي لا يمل من القول ان الله يحب كل ابنائه بالتساوي ، لا فرق بين غني وفقير قوي وضعيف ، لم يحاول حث ابراهيم على التواجد في الكنيسة أيام الآحاد.
كان أكثر ما يخيف الخوري ان يؤدي تواجد ابراهيم بينهم بثيابه الرثة، ورائحة عرقه المثيرة للإمتعاض والضيق، الى مشكلة، يتوقعها بتفكيره، من انفضاض المصلين من الجلوس بقربه، وربما عدم عودتهم لصلاة الأحد ، الأمر الذي سيترك أثره الكبير على صينية التبرعات النقدية يوم الأحد، وكان الخوري يجد الجواب لنفسه بقوله:" لعل في ذلك حكمة ربانية". ان مصروفات الكنيسة تتزايد مع ارتفاع الأسعار ، وحتى سعر الكهرباء صار يحتاج الى "لمة" يحث عليها الخوري في موعظته كلما تلقى وصلا جديدا.
ومع ذلك ، والتزاما بتعاليم المسيح، كان الخوري لا يستثني ابراهيم وعائلته من زياراته لبيوت أبناء الطائفة ، لمباركة البيت وأهله والدعاء لهم بالصحة والفلاح. وحمايتهم من كل مكروه ، وان يبارك الله بيتهم بالذرية الطيبة، وبالوفرة والوفاق. لم تكن زيارة الخوري تسبب الفرح للسيد ابراهيم، ولكنه يخفي ضيقه ، ويستقبل الخوري بكل ترحاب، بل ويجمع أولاده ليباركهم الخوري، ثم يبحث في جيبه عن بضعة قروش ليضعها بيد الخوري، الذي يمتنع من أخذها في البداية من منطلقات معرفته لواقع هذا البيت. ولكن ابراهيم يصر ان لا يخرج الخوري مفشلا، وان المسالة ليست بقيمة ما يقدم لأبونا الخوري والكنيسة ، انما هي تعبير رمزي عن التقدير الكبير لجهود الخوري في ايصال الرسالة للمخلص يسوع المسيح ان يشمل ابراهيم وأولاده بعطفه ومحبته وخيراته.
صحيح ان الخوري كان يزور بعض البيوت أكثر من غيرها، ويقيم صلوات أطول مما يقيمها في بيوت أخرى.والأقاويل تتردد ان السبب هو التبرعات السخية التي ترد لصندوق الكنيسة من أصحابها.
وهكذا مضت الأيام .. والأشهر والسنوات .. وكأن الرتابة هي قانون لهذه الحياة. وما عدا موسم الزواج الذي يحل كل عام مع حلول الربيع، وبعض الوفيات، لا شيء يشغل الخوري إلا الحفاظ على رابط مع جميع رعيته في البلدة.
ولكن الرتابة كسرت.
في ظهر أحد الأيام استيقظ الخوري من قيلولة الظهر على صوت بكاء وصراخ غير بعيد عن كنيسته.
سارع الى الخارج ليعرف ما حدث ، فوجد ابراهيم ملقى على الأرض، والدم ينزف من أنفه، ويبكي ويصرخ بحرقة بشكل هستيري يصعب فهم ما جرى له. وحوله تجمع العديد من عابري السبيل وأصحاب المحلات المجاورة، يحاولون ايقافه على قدميه، ومسح الدم عن وجهه ، وهو يجلس مذهولا يبكي بحرقة وألم .
- ما الحكاية؟ سال الخوري.
- بعض الزعران اعتدوا عليه وسرقوا نقوده وهربوا .
قال الخوري بشيء من الغضب مجيلا نظره بمن حوله :
- ولم يساعده أحد ؟
لم تكن ضرورة للجواب. الصمت كان جوابا مجلجلا. مد يده لابراهيم :
- تعال يا ابني .
استجاب ابراهيم ليد الخوري وقام ذليلا باكيا ، وقاده الخوري الى غرفته الملاصقة للكنيسة.
أسعفه ببعض الماء ومسح الدماء عن انفه ووجهه ، وغاب للحظات في غرفة ثانية، وعاد ليدس بيد ابراهيم بضع ليرات. ملمس النقود أجفله فتراجع رافضا المال.ولكن الخوري أصر مذكرا اياه ان وظيفة الكنيسة رعاية الفقراء ، والفقر ليس عارا. وان هذه النقود من أجل اولاده، وليسامح الله اولئك الزعران لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
بعد تلك الحادثة دخل ابراهيم في صباح أحد الأيام ، القى التحية بهز رأسه على الخوري والمصلين، وركع لدقائق طويلة امام أيقونة للسيد المسيح معلقا على الصليب ، كان يبكي بمرارة مخفيا صوت بكائه، وخرج بعد ان قام بالتصليب ثلاث مرات، وخرج كما دخل لوحده، ومن بعدها اختفى ابراهيم من الحارة ومن البلد .
حتى نساء الحارة لم يلاحظن اختفاء ابراهيم وزوجته واولادهما الثمانية.
تناقل المصلين اقاويل كثيرة عن اختفاء ابراهيم. وانه قام بالصلاة لمرة واحدة في الكنيسة قبل اختفائه، وتمنى الجميع ان لا تكون مصيبة قد نزلت به هي السبب وراء اختفائه . ومضت الأيام وبدأت تتوارد معلومات عن ابراهيم، من الصعب ربطها بابراهيم ابن بلدهم، البعض يقول انه شاهده في المدينة القريبة يجلس بجانب سائق شاحنة كبيرة محملة بالحديد الخردة. وانه كان يرتدي ملابس جديدة ، ويبدو أصغر من عمره بعقد كامل. شك البعض بأن الحديث لا اساس له وان ما تناقله البعض عن رؤية ابراهيم من المؤكد انه شخص آخر.
ويبدو ان قصة ابراهيم قد طويت. لم يعد يذكره أحد. عادت حياة البلدة الى مسارها الطبيعي، وكأن ابراهيم لم يكن له وجود بينهم في يوم من الأيام.
ذلك النهار الربيعي كان عاديا. الخوري يجلس على شرفة منزله يقرأ كتابا ، وامامه صحن فواكه . وهو يتمطى تحت شمس الربيع الدافئة. حين سمع قرعا خفيفا على باب منزله. لم يتأكد من ان احدا يقرع باب بيته، أنصت ولم يسمع القرع من جديد. وعاد ليقرأ في الكتاب، ولكنه لم يكد يقرأ كلمتين حتى عاد يسمع القرع من جديد، وهذه المرة أقوى. فقام متمهلا ليرى من الطارق.
فتح باب منزله، على شخص ببدلة من الجوخ الإنكليزي الفاخر، تفوح منه رائحة عطر ذكية، نظر اليه من رأسه الى قدميه، ولاحظ حذائه الأسود اللامع، بالتأكيد من نوع فاخر كملابسه. كان الطارق يقف هادئا ، ومبتسما ابتسامة خجولة. لوهلة خيل للخوري ان الوجه مألوف له. بل مألوف جدا. لا ليس من المترددين للصلاة يوم الأحد. هل هو قادم جديد للبلدة؟ الوجه قريب جدا من الوجوه المألوفة للخوري. ولكنه متأكد ان فيه تغيير ما.. وفجأة لمعت الصور جيدا بذاكرته، سأل مترددا:
- ابراهيم..؟
- أجل يا أبونا انا ابراهيم نفسه
- تفضل يا ابني ، أدخل. أهلا بك في بلدك وبيتك.
مليون فكرة التمعت بثوان في ذهن الخوري. ما تناقله بعض أهل البلد عن ابراهيم الذي شاهدوه في المدينة القريبة يبدو انه صحيح . ربما هذا ابراهيم آخر؟
- قل لي يا ابني ، انت ابراهيم نفسه ابن بلدنا ، الذي غادرنا قبل سنة؟
- انا ابراهيم الذي مددت يدك له بالمساعدة حين وقف الجميع متفرجين على زعران يعتدون علي ويسرقون ثمن خبز الأولاد. جئت ارد اليك الدين الذي في رقبتي.
- انها قروش قليلة يا ابني.. والمصلين لا يبخلون على صندوق الكنيسة.
- انه دين كبير يا ابونا، تفضل..
ومد يده بورقة شيك للخوري.
- يا ابني ما ساعدتك به ليس دينا، انه واجبي...
وصمت الخوري وهو يتأمل المبلغ الذي كتب على الشك.. اجال نظره بين ورقة الشك وابراهيم، عاجزا عن ايجاد كلمات يعبر فيها عن الموقف الذي وضعه فيه ابراهيم بورقة الشيك. وبعد صمت قصير وجد جملة مناسبة:
- انه مبلغ كبير .. كبير جدا.. عشرة الاف ليرة مرة واحدة؟
- انه ديني للكنيسة .. ولأهل البلد الذين لولا ما تكرموا علينا به لمات اولادي من الجوع.
- ومن أين كسبت هذه الأموال؟
- منذ ركعت في الكنيسة لوداع البلد ، فتحها الله بوجهي ، أصبح الحديد الخردة تجارة مربحة، اليوم لدي عدة شاحنات وعدد من العمال ، اشتريت بيتا ، والمسيح فتحها في وجهي بعد ان رجوته في صلاتي الوحيدة ان يتطلف بي وبالأولاد .
- وانا كاهن واصلي يوميا باخلاص عدة مرات .. ولكني لم احلم ان اكتب يوما شيكا بقيمة عشرة الاف ليره..؟ بالكاد نسدد اثمان الكهرباء والماء والتنظيف.
- واوصيت للكنيسة على مكيفات هوائية سيحضر الفنيون لتركيبها غدا.
- كيف من صلاة واحدة، ورجاء واحد وصلت الى ما وصلت اليه، وانا الخوري المؤمن والذي يصلي كل نهاره وليله ويطلب ان يفتحها الله بوجه كنيسته لا نحصل على ما يساعدنا في تغيير مقاعد الكنيسة مثلا ؟
- الصلاة ليست بالكم، ولا بالصراخ والصوت المرتفع، ولا بالشكل الذي نظهر به في الشارع وليس بملابس غريبة عجيبة. الصلاة يا أبونا الخوري من القلب، والقلب لا يغير شكله ولا قوة دقاته واذا كان الله كما تصفونه فهو قادر على سماعنا وقراءة تفكيرنا.. وساغير مقاعد الكنيسة على حسابي.
- ولكني اصلي بصمت ومن القلب ، وعدة مرات كل يوم؟
- يبدو انك ملحاح يا ابونا الخوري ، هل تظن ان الله لك وحدك؟!