الاصلاح تنعى صديق ورفيق المجلة الطبيب د.حسن عبد الحميد متاني

عرعرة - مكاتب الاصلاح –
تنعى مجلة الاصلاح للثققافة والادب والتوعية والاصلاح ، الرفيق المثقف الدكتور حسن عبد الحميد متاني (ابو شادن) من مدينة قلنسوة في المثلث، الذي وافته المنية اثر مرض عضال لم يمهله طويلاً.
ولد الدكتور حسن عبد الحميد متاني من بلدة قلنسوة سنة 1946 لأسرة ديمقراطية شيوعية مكافحة، تحمل والده كمؤسس لفرع الحزب في قلنسوة للاعتقال والعقاب السلطوي ، تعلم حتى الصف الثامن في مسقط رأسه في قلنسوة ، ثم انتقل للتعليم الثانوي في مدرسة الطيبة الثانوية، وهناك تتلمذ ايضاً على يد المربي المرحوم حسن بشارة وغيره من خيرة المعلمين ، وكان هو وزملاؤه ، حسن عبد الفتاح متاني وربحي جبالي ، من خيرة الطلاب في الثانوية ومثالاً يحتذى في الدراسة والاخلاق والوطنية، وانتسبوا للشبيبة الشيوعية ومن ثم تعلموا في الدول الاشتراكية ليصبحوا من خيرة الاطباء والقيادات الشعبية في البلاد.
في عام 1966 أنهى المرحوم تعليمه الثانوي بعلامات ملفتة للنظر، مما جعل قيادة منطقة المثلث(الشمالي والجنوبي) ان تختاره ليتعلم الطب في الاتحاد السوفييتي سابقاً ، وانهى تعليمه بنجاح باهر في جامعة ليننغراد - المشهورة عالمياً- عام 1973، وعاد الى البلد عام 1974، وتخصص في طب العائلة ، واصبح مديراً لعيادة صندوق المرضى في مدينة الطيرة في المثلث وكان له تقديراً خاصاً من اهالي الطيره ومن مرضاه خاصة.
لم يكتف بمهنة الطب كمهنة انسانية ، بل شارك شعبه كفاحاته ونضالاته، تبوأ مناصب قيادية في فرعه في قلنسوة والمنطقة ،ومن ثم عضواً في لجنة المراقبة المركزية للحزب الشيوعي .
خلال فترة التعليم الثانوي كان ورفيقيه وصديقيه (حسن ويحيى)بالنسبة لي ولنا من نصغرهم من طلاب المدرسة الثانوية مثالاً يحتذى نشاطاً وسيرة ومواقف وطنية .
بعد عودته رافقته في هيئات الحزب وخاصة عضويته في لجنة منطقة المثلث، وعضويته في لجنة المراقبة المركزية التي كنت عضوها ومن ثم سكرتيرها وكان عوناً لاتخاذ القرار الصائب والموقف الصحيح.
قبل اربع سنوات بدأ اشتراكه الفعلي كمشترك ومبدياً ملاحظاته وتأييده ومساندته لمجلة "الاصلاح" كمجلة وطنية وادبية ، وقبل عيد الفطر الأخير زرته والدكتور يوسف بشارة (الطيرة) ، في مستشفى هداسا في القدس وأصر على تجديد اشتراكه لسنتين، هذا فرض يا رفيق اذا لم اؤيد ولم اساند انا فمن يساند مثل هذه المجلة الضرورية ، وفي عيد الفطر كان بين يديه احد اعداد المجلة وابدى اعجابه بزاوية ضيف العدد وغيرها من الزوايا.
كان قارئاً ومثقفاً ثورياً انساناً مسانداً للادب الوطني والثوري والانساني الملتزم، أحب الناس فأحبوه، وترك أسرة سعيدة مثقفة ، زوجته الثكلى د. لاريسا التي وقفت الى جانبه طيلة الوقت، ود. شادن ابنه البكر وهو ايضاً طبيب متخصص ولينا معلمة ومربية ثانوية والدكتورة نادية طبيبة اسنان.
الاصلاح مجلته التي احبها بأعضاء هيئة التحرير تتقدم لأسرته ولعائلته وللحزب في قلنسوة ولصديقه الصدوق د. حسن عبد الفتاح متاني ، شق البرتقالة ، باحر التعازي القلبية.
وحتماً ستخلد قلنسوة وشعبنا ذكراه على أتم وجه وبما يليق به
باحترام
مفيد صيداوي
رئيس تحرير مجلة" الاصلاح " عرعرة

مناقشة مسرحيّة الزينة في الكرمل!/ آمال عوّاد رضوان


منتدى الحوار الثقافي أقام ندوته المزنرة بزيق زينة المحبّة والعطاء والإنسانيّة في مركز البادية عسفيا الكرمل بتاريخ 27-10-2011، حيث ناقش "مسرحيّة الزينة" لمؤلفها الفنان والشاعر د. سليم مخولي، فاستهلّ الشّاعر رشدي الماضي اللقاءَ بكلمة جاء فيها:

أهلاً بالحضور وبدوريّ حفل الكلام د سليم مخولي، الذي ركبَ ولمّا يزلْ صهوةَ الحرف عصفورًا دوريًّا يُزقزق على صفصافةِ الكلام، ويُسافرُ في الحاضر المرئيّ منه واللاّمرئيّ بنحو الآتي والمستقبَل، يسافرُ إلى مبتغاهُ وما مِن زادٍ لديهِ غير اللغة والخيال والرّسم باللّوحات، فهو المزارع في حقل الكلمات يُرتّبُها ويُنقّي بيادرَ حنطتها، لتظلّ قطراتِ ندى على جبين الإبداع، وطوافًا يجرفُ عورته ويحتمي فيهِ كلّ المرتعشين من صقيع الحياة.

نعم أيّها المبدع د. مخولي، تؤكّدُ سيرتك ومسيرتك وتجربتك الإبداعيّة الخصبة، إنك لمّا تزلْ منذ سنواتٍ ضوئيّةٍ تحفرُ وتُنقّبُ في أسرار الكلمة وفي أركيولوجيا وجغرافيّة تضاريسها بحثًا دؤوبًا، إلى ما يجعلُ منها لحظة إبداعيّة تضجُّ بالجَمال.

أخي أبو حبيب.. كلّ كلمةٍ مِن قلمك وكلّ لونٍ مِن ريشتك ولدٌ شقيّ في جامعة الإبداع، لأنه أبى إلاّ أن يظلّ الشقيّ الوفيّ لشعبهِ المُرهَق ووطنِهِ الهارب، فمنذ إبداعِك الأوّل "معزوفة القرن العشرين" عام 1974، وحتى جديدك "الزينة" بقيتَ الخلَّ الأمين بقلمِكَ وريشتِكَ لمسارِك الإبداعيّ، تداعبُ الحروفَ والكلماتِ وتمزجُ قوسَ قزح الألوان، لترسمَ الصّورَ واللوحاتِ وتتدفّقَ بالمعاني المُحلِّقة بعيدًا، لتظلّ شجرة التغيير والتغيّر، وتبقى شعاعَهُ ووقودَه.

وجاء في مداخلة الدكتور الشاعر فهد أبو خضرة:

التقييمُ العامّ للمسرحيّة جيّد، والمسرحيّة ناجحة والمضمون يُواكب الأحداث الرّاهنة بطريقةٍ فنّيّة وليسَ توثيقا، وإنّما هو يعكسُ الواقعَ ويُحاولُ أن يُوجّهَ إلى حلّ مقبول، وعادةً مَن يُواكبُ الأحداثَ بطريقةٍ ناجحة هو المسرحُ الكوميديّ الهزليّ السّاخر، وهو مقبولٌ جدّا عندَ الجمهور ولهُ رُوّادٌ كثيرون ودائمون في لبنان ومصر وغيرهما، والمسرحُ الجادّ عليه أن يختارَ بين إرضاءِ الجمهور وإرضاء العقل والمنطق والأصول وما إلى ذلك، وإرضاءُ الجمهور جيّدٌ لشبّاكِ التذاكر، ولكنّهُ قد يتعارضُ مع ما يجبُ أن يكونَ الحلّ الذكيّ مطلوب، و(أدهم الشرقاويّ ليوسف وهبه: ما هو الحلّ الذكيّ اليوم؟

البعدُ الزمنيّ عن الأحداثِ يُعطي رؤية أكثرَ وضوحًا.

لغة المسرحيّة هي اللغة الفصيحة المعاصرة، مع خروج في بعض المواضع على القواعد (المنصوب غير المنوّن- أدعمه)، وهذا الخروجُ يجبُ أن يكون مدروسًا ليُشكّلَ لغةً مقبولة، كيف ولماذا؟ ونبدأ بالسؤال لماذا؟

اللغة العامّيّة مقبولة في التمثيل وليست مقبولة كأدب مكتوب، واللغة الفصيحة مقبولة كأدب مكتوب وليست ناجحة في التمثيل، فالحلّ إذن في نوع من المزج بينهما، وذلك بالعودة إلى اللغةِ الثالثة التي اقترحَها وطبّقها توفيق الحكيم في عددٍ قليل مِن مسرحيّاتِهِ (الصّفقة.. الورطة).

ما هي هذه اللغة؟ هي لغة فصيحة مفرداتُها يمكن أن تُقرأ مشكولة أو غير مشكولة، ولكن العائقَ الأساسيّ فيها هو المنصوب، والتغلّبُ عليهِ في رأيي ميسورٌ إمّا بتجنُّبِهِ إو بإجازةِ الوقفِ بالسّاكن، والخروجُ الذي أشرتُ إليه في هذه المسرحيّةِ يُطبّقُهُ بحذرٍ د. مخولي وبدون التزام، وهذه اللغة الثالثة المُشارُ إليها هي التي أُطلِقَ عليها لغة المثقفين، وهي صالحة للتفاهم بين جميع الشّعوب العربيّة.



ثمّ كانت مقاربة الفنان المسرحيّ والأديب عفيف شليوط لمسرحيّة الزينة لد. سليم مخولي

جاء فيها:

من أهمّ مقوّمات الكتابة المسرحيّة هي العلاقة بين المؤلف المسرحيّ وعمليّة الإخراج، وضرورة مواكبة المؤلف لعمليّةِ إخراج المسرحيّة، الفعل، الدّراما.

ثم تحدّث عن المسرح الإغريقيّ وعن أرسطو وفنّ الشّعر، وتعريف المسرحيّة التراجيديّة والكوميديّة، فالمسرحيّة تتميّز عن بقيّةِ الأنواع الأدبيّة أنّها تعتمدُ بالأساس على الحوار، فالمسرحيّة تُكتبُ لتُمثّلَ لا لتقرأ. وتحدّث عن مسرحيّات توفيق الحكيم (المسرح الذّهني).

وبناءً على كلّ ما جاء في المقدّمة بدأ بموضوع شخصيّةِ الرّاوي في المسرحيّة:

في ص8 الرّاوي يسردُ لنا عن الملك الجبّار الذي كان يعيش في جزيرة نائية ويصِفُ هذا الملك، وهذا سردٌ ووصف يتناقضُ كلّيًّا مع الفعل الدّراميّ، رغم أنّ المسرحَ العربيّ وللأسف يُكثّفُ من استخدام الرّاوي.

ربّما يقولُ لي البعض أنّ المسرحَ الإغريقيّ استخدم الجوقة، ومسرح بريخت استخدمَ الرّاوي والشّخصيّات التي تتدخّلُ وتتحدّث مع الجمهور، وتُعلّق مثل شخصيّة الرّاوي عندنا، ولكن شتّان ما بين هذا وذاك.
ولو طُلب منّي أن أُخرِجَ هذه المسرحيّة يُشرّفني ذلك، أو أن أكتب إعدادًا لها كنتُ أُلغي شخصيّة الرّاوي تمامًا، وهذا لا ينتقصُ مِن المسرحيّة أو من الأحداث، بل على العكس الرّاوي بتعليقاتِهِ وسرْدِهِ كان يكشفُ الأمورَ أكثر، ولا يتركُ لنا ولخيالِنا كمشاهدين شيئًا.

أمّا أن يبدأ الكاتب مسرحيّته بدون الرّاوي من خلال الحوار بين الحاجب والوزير فهو أكثر دراميّة، والبداية مشوّقة لمتابعةِ الأحداث، حيث نتابعُ الاستعداداتِ والتحضيرات للاحتفال بِعيدِ المَلك، فما أجملَ أن تنتقلَ لنا المعلوماتُ عن التحضيراتِ للاحتفالاتِ بواسطة هذا الحوار الدّراميّ، وتخيّلوا لو نُقلت إلينا بواسطة السّرد (الرّاوي مثلاً) لفقد العنصر الدّراميّ.

ومنذ بدايةِ المسرحيّةِ، ورغم الأجواء الاحتفاليّة والاستعدادات، نشعرُ بالأجواءِ الشّاحبة في ظلّ هذا الفرح، مثلاً :"وإنّ شيئًا سيكون يُشبه السّقوط أو الانهيار" ص5.

فهنا النّصّ مشحونٌ ومُدَعّمٌ بالصّراعات والتّناقضات منذ اللحظة الأولى لبداية المسرحيّة، وهذا يُسجَّلُ لصالح الكاتب، ولو يسمح لي الوقت لخصّصتُ وقتًا أكثرَ للحديثِ فقط عن افتتاحيّة المسرحيّة. كما أنّ النّبوءة في بدايةِ المسرحيّة "وإنّ شيئًا سيكون يشبه السّقوط أو الانهيار"، تذكّرُني بالنّبوءاتِ أو اللّعنات التي كانت تطاردُ أبطالَ المسرحيّاتِ التراجيديّةِ في المسرحيّاتِ الإغريقيّة أمثال أوديبوس (الملك أوديب)، وأنتيجوني لسوفوكليس.

وتحدّث عن البطل التراجيديّ وتعريفِه، والنّهاية المحتومة المأساويّة التي لا يمكن تغييرَها.

وبعدَ بداية المسرحيّة والتقدّم بالأحداث قليلاً نكتشفُ تلميحاتٍ ذكيّة مِن قِبل الكاتب، عن علاقةِ الوزير بالملكة والتي يكتنفها الغموض، فكم هي حزينة هذه الملكة، وكم هي وحيدة، وكم هي غير راضية. وفي الوقت ذاته نكتشفُ شخصيّة الوزير في هذا الحوار كم هو دبلوماسيّ، ويمسك بكلّ الخيوطِ دون أن ينقطعَ أحدُها، فهو يتمتعُ بثقةِ الملك وبثقة الملكة في آن واحد، رغم التناقضات الكبيرة في مواقفهما، وهو يُوفّقُ بين الأمريْن لحِكمتِهِ لا لدهائِهِ ونفاقِه.

وهو نفسه يتحدّث عن نفسِه: "عليّ أن أكون يقِظًا مُستنفَرًا في كلّ حين، أذود عن الملك وأحميه، أدافع عن الملكة وأحفظ سلامتها وسعادتها، أدافع عن القلاع والجنود ولا أميّز هذا وذاك". ص 22

أي أنّه يتدبّرُ أمرَهُ مع الجميع ويهتمّ بأمر الجميع ومُخلصٌ للجميع، فكيف لنا أن نحلّ هذا اللغز؟

كيف يمكن أن يكون هذا؟

ولكن فوْرَ هذا المشهد لدى دخولِ الملك نلاحظ التزلّفَ والمديحَ المُبالَغَ به للملك مِن قِبل الوزير، ممّا يزيدنا حيرةً من أمره. مَن هو؟ ماذا يريد؟ مَع مَن وضدّ مَن؟ أم هو بلا طعم ولا لون، بدون موقف حتى يحافظ على مركزه ومَنصبِه؟!

ويستمرُّ التزلّفُ والمديحُ الى أن يبدأ الوزيرُ بمكاشفةِ الملك، من خلال تلميحات لِما يُفكّرُ به الوزير حقيقة، ممّا يُخفّفُ مِن حدة تساؤلاتنا حولَ هُويّةِ الوزير وعن صِدق مواقفِهِ وإخلاصِه، حيث يبدأ بمصارحةِ الملك مِن خلال تلميحاتٍ خفيفة، تمهيدًا للكشف عمّا هو أشدُّ وأكثرُ خطورة، وهنا تبدأ علاقة الوزير والملك بالتوتر، لأنّ المَلكَ يرفضُ هذا الطّرح الجديد مِن الوزير. الاقتباس من صفحة 36 الحوار بين الملك والوزير.

ونرى قمّة جنون العظمة لدى الملك ومدى عنجهيّتِهِ وعدم واقعيّته عندما يقول:

"وهل تجرؤ الرّياح دخول مدينتي دون إذن؟" ص39، ويتابع: "سأسجن الرّيحَ إذا هبّت".

وهذا يُذكّرُنا بما يجري للرّؤساء العرب المخلوعين والذين على طريق الخلع، كيف لا يُقدّرون الأمورَ بشكل صحيح، وكيف يتعاملون مع ثوراتِ شعوبهم، ولكن إرادة الشعوب أقوى من كلّ السّلاطين وغطرستهم، كما جاء على لسان الشاعر الفلسطينيّ الرّاحل راشد حسين:

سنُفهمُ الصّخرَ إن لم يفهم البشر/ إنّ الشعوبَ إذا هبّت ستنتصر/ مهما صنعتم من النيران نـخمدُها/ ألَمْ ترَوْا أنّنا مِن لفحِها سُمر/ ولو قضيتم على الثوّار كلهم/ تمرّدَ الشّيخ والعكّازُ والحجر!



وهنا يستمرُّ الكاتبُ في استعراض مواقف متكرّرة تصفُ حالاتٍ مختلفةً ومُتعدّدةً مِن غطرسةِ واستبداد المَلك، وعدم استجابتِهِ لإرادةِ الجماهير، ومرّة أخرى هنا يستخدم الكاتب الرّاوي ليسردَ لنا ماذا يجري ص47، وهنا أيضًا يمكننا تبديل هذا السّرد بحالةٍ مسرحيّةٍ، برقصةٍ مُعبّرة، بحوارٍ مسرحيّ دراميّ، لئلاّ نقعَ مرّة أخرى في مطبّ السّرد.

يستخدمُ الكاتب ص49 ألعابًا جميلة بالألفاظ، فعن طريق الصّدى يُزوّدُنا الكاتبُ بالمعنى الخفيّ وبشكلٍ ساتيريٍّ ساخر، وهنا يمكن تطوير المشهد لدى إخراج المسرحيّة، لتتحوّلَ إلى طقس معيّن يدمجُ الحركة مع التلاعب بالألفاظ، مع استخدام الموسيقا التأثيريّةِ والمُؤثّرات الصّوتيّة، التي تخدمُ الحالة المسرحيّة التي نحن بصددِها.

ومرة أخرى ص75 الرّاوي يشرحُ ويُفسّرُ الأمورَ بدلاً من عرض الحالة، فلا يتركُ المشاهدَ أو القارئَ يفكّرُ بما شاهد أو قرأ، وهنا مرّة أخرى يمكن تقديم مشهدٍ دراميّ مُثير، يُصوّرُ لنا الحالة التي كان يمرُّ بها الملك من غرورٍ وعنجهيّة ومرض عظمة. ولا أدري لماذا تحضرُني هنا قصيدة الشّاعر نزار قباني في "السّيرة الذّاتيّة لسفّاحٍ عربيّ" يقولُ فيها:

أيّها الناس/ لقد أصبحتُ سلطانًا عليكم/ فاكسروا أصنامَكم بعدَ ضلالٍ واعبُدوني/ إنّني لا أتجلّى دائمًا/ فاجلسوا فوقَ رصيفِ الصّبر حتى تبصروني/ أتركوا أطفالَكم مِن غير خبز/ واتركوا نسوانَكم مِن غير بعل واتبعوني/ احمدوا اللهَ على نعمتِهِ/ فلقد أرسلني كي أكتبَ التاريخ/ والتاريخُ لا يُكتبُ دوني/



لا أدري لماذا عندما قرأت هذا المشهدَ، وجدت من المناسب ومن خلال رؤيةٍ إخراجيّة، أن يتمّ إدخال هذه القصيدة في هذا المقطع، مع خلفيّةٍ سينمائيّةٍ تَعرضُ حالة الشّعوب العربيّةِ التعيسة، وهو الملك، يتحدّث بعنفوان غروره وتأليهِهِ لذاتِه.

موضوعُ مرض ابن الملك الوهميّ جاءَ ليُحدِثَ نقطةَ التحوّلِ لدى شخصيّةِ الملك، لكنّه لم يكن مُوفّقًا، وكان غيرَ مقنع بتاتًا.

أمّا فكرة إدخالِ شبح الموت للحدّ مِن غرور الملك، ولوضع حدّ لجنون العظمة لديه فكان مُوفّقًا، وهذا الدّمج بين الخيال والواقع في المسرحيّة التي كان طابعُها العامّ الواقعيّة، كان بمثابةِ حُلم، أو حالة هذيان لدى شخصيّة الملك، وقد تمّ تجسيدُ هذه الحالة بحالة مسرحيّةٍ دراميّة مُوفّقة.

نهاية المسرحية تعلن جنونَ الملك رغم صراخِهِ في نهايةِ المسرحيّة، ص101:

"سأقطعُ رؤوسكم جميعًا، سأقتلكم! أنا الملك العظيم، أنا ملك الملوك".

واضح الإشارة والرّمز والإيحاء لمَن.. للحاكم الذي يعكس شريحة كاملة من القادة العرب الذين خانوا شعبَهم وتغنّوْا بعظمَتِهم، فكان المصيرُ المحتوم لأمثالِهم!



وقد جاء في مداخلة الشاعر د. منير توما: ملامحُ داء جنون العظمة البارانويا عند الحاكم في مسرحيّة الزينة لد. سليم مخولي:

يمكن تصنيف الملك في مسرحيّة الزينة لد. سليم مخولي بأنه يندرجُ ضمن الشّخصيّات التي تعاني من مرض البارانويا، فالملك يمارسُ الطّغيانَ والاستبدادَ في حُكمِهِ، ولا يرى في رعاياه سوى قطعان مِن البهائم، له حقّ التّصرّفِ في مصائرهم كما يشاء، سواء أكان ذلك بالإذلال أو القتل، ويُرجّحُ أنّ ذلك نابعٌ من مرض البارانويا الذي تفاقم لديه، كما تُصوّرُ لنا المسرحيّة من خلال تواتر الحوار والأحداث فيها، ويُصنّفُ مرضُ البارانويا بأنّه ذُهانٌ وظيفيّ، ويُعرَفُ بجنون العظمةmegalomania ، لأنّ أهمَّ ما يُميّزُ المَرضَ أنّه يُشعِرُ المريضَ بالعظمة، وأنّه صاحبَ منصبٍ رفيع أو جاهٍ لا مثيلَ له، كما يَشعُرُ مريضُ البارانويا بالغيرة الشديدة والشّكّ في الآخرين وأهدافِهم، ويُفسّرُ سلوكَهم مِن وجهةِ نظرِهِ هو، كما فعلَ الملكُ في المسرحيّة مع وزيره، ولذلك كثيرًا ما يعملُ مريضُ البارانويا على إيقاع غيره في مشاكلَ ينسجُها من خيالِه، وجنونُ العظمة هذا الذي يُعاني منه المَلكُ هو مرضٌ نفسيٌّ خطير، إذ يُخالفُ الواقعَ ويدّعي امتلاكَ قابليّاتٍ استثنائيّة وقدراتٍ جبّارة، والمريضُ عادةً يعتقدُ بشكل قاطع بامتلاكِهِ صفاتٍ غير واقعيّة وعظمة وهميّة، ولا يقتنعُ بمخالفةِ الآخرين له في هذا المضمار، والذي يُصابُ بمرض جنون العظمة يرى نفسَهُ فقط ولا يرى الآخرين، كما هو الحال مع الملك في هذه المسرحيّة، وكما قالَ الشاعر العربيّ قديمًا:

ما أكثرَ النّاسَ لا بل ما أقلَّهم/ الله يعلمُ أنّي لم أقل فنَدا/ إنّي لأفتحُ عيني حين أفتحُها/ على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا

فهو يعيش في عالَم الوهم المُكتسَب، ويعتقدُ أنّ كلَّ الناس رهْنُ إشارتِهِ وطوْعُ أمرِه:

"الملكُ عظيمٌ عظيم! صدّقْ هذا.. هذا الحشريّ أي قيمة لهذه الجموع؟ إنّهم مُخنّثون بل إناث، لا يعرفون سوى الطاعة كالخِراف، طاعة القطيع خوفًا مِن الكرابيج. كلّ الجمع مؤنّث... ها.. ها..." ص34.

الملك: "إذن مَن هُم؟ هل العبيد؟ سأقتلُ كلّ العبيد، فرؤوسُهم لي مشاعٌ وهي من أرخص المتاع" ص39.



إنّ وهْمَ الاعتقادِ بالعظمةِ يجعلُ الشّخصَ المُصابَ به لا يقبلُ من أحدٍ أن يُنزلَهُ مِن عرْشِهِ ولا أن يُزحزحَه، ويكون لدى المرضى المصابين بهذا الدّاء حساسيّة مُفرطة للرّفض أو المَساس بهم، وهم يَشعرونَ أنّ الآخرين يُسيئون إليهم، مع أنّه ليسَ هناك تبريرٌ موضوعيّ لهذا الشعور.

وكما نرى في مسرحيّتنا هنا فإنّ المَلكَ صاحبَ الشّخصيّة البارانويّة المُصابَة بداء جنون العظمة، يمتاز كنموذج لهذه الشخصيّة، بكوْنِها عدوانيّة عنيدة كثيرة الانتقاد، وحسّاسة تجاهَ ذاتها اكثر من اللاّزم، تميلُ إلى النزاعات والصّراعات التي لاحاجة لها، وتُبالغُ في الحفاظ على مكانتِها وحقّها في امورٍ مختلفة كالسّلطة المطلقة عند الملك في هذه المسرحيّة:

"الملك.. الرّعيّة! الرّعية لا تطيع؟! هذه البهائم لا تطيع؟ مَن يستطيع أن يعصى أمري؟ أنا الملك الجبار الشديد لو شئت قيّدت الشمس بالحديد، وحبست القمر في علبة سردين فلا يظهر من جديد. اِبتعدْ عنّي اغرُبْ عن وجهي أيّها الغراب الماكر، قبلَ أن آمُرَ بأن تقتلك العساكر" ص 40.



وتتجلّى الشخصيّة البارانويّة في الملك بوضوح، بكوْن ثقة هذه الشخصيّة بالآخرين ضئيلة جدًّا، حيث يميل الملك صاحب هذه الشخصيّة إلى الشّكّ بالآخرين وقتلهم لخيانتهم له وغدرهم وهجرهم له، ومِن الصّعب أن يصلَ إلى وضع الراحة والمتعة، لأنّ عليه دائمًا أن يكون جاهزًا ومُستعدًّا، كما أنّ سلوكه يخلق الشعور والانطباعَ بالتّصلّب والبرود الشعوريّ، حيث أنّ علاقته بالمحيط عمومًا تتدهورُ باستمرار، وتزداد هذه العلاقات سوءًا بازدياد الشعور لديهم بأنّ كلّ الناس سيّئون.

"الملك مخاطِبًا الوزير:

أما زلتَ هنا يا وجه النحس، ولك بين كتفيْك رأس؟ تتجرّأ وتتكلم بعدما عكّرت مزاجي وطيّرت فرحتي في عيدي وابتهاجي؟ لولا حِلمي وأناتي لقطعت رأسك في الحال، لكن ساطيّرُ غضبتي في رأس هذا المنحوس (مشيرًا إلى الرجل). حظّك كبير أيّها الوزير، فقد جاء مَن يَفديكَ مِن حُكم مقدور. خذوا هذا الرّجل اقطعوا رأسَه وارموه للكلاب!

الرّجل: العفو العفو يامولاي، أنا والله صادق فيما قلت. والله صادق.. والله صادق.

الملك: إذن هذا جزاء صِدقك. يسحبه الجنود خارجًا ويتابع... الصّدقُ صِدقي أنا، والكلّ كلّ النّاس كذابون ص 45-46.

ومن اللافت أنّ أصحاب الشخصيّة البارانوية التي يُمثلها الملك هنا يستخفّون بالضّعفاء، وليس لديهم أيّ تعاطفٍ مع آلامِهم، ومن الصّعب أن تظهرَ لديهم مشاعر الليونة أو اللطافة أو الحساسيّة تجاه الآخرين، وإنّ اجهزة الدّفاع الفعّالة لدى أصحاب هذه الشخصيّة هي الإنكار والتبرير، وكلّ هذه المعاني تظهر جليًّا في النصّ التالي في المسرحيّة:

الملك واقفًا: الويل لكم جميعًا.. الويل لهذا الشعب اللئيم.. الويل لهؤلاء الرّعاع.. الويل لهم.. يُنغّصون حياتي في عيدي الكبير؟ أكلوا الزينة! أزالوا معالمَها من الطرقات ويتجرّؤون ويطلبون عدلاً ورحمة؟ هذا جوابي لكم وهذا عدلي.. سأهدمُ فوق رؤوسكم المدينة.. آه منكم! حتى الآن لم يدخل عليّ أحدٌ ليُهنّئني بعيدي الملوكيّ؟ الويل لهم لا أحد منهم؟ أين أهل البلد وأين الناس؟ يا للعجب! أنا الملك الجبار.. أنا الملك العظيم يا للعار!



وعند الحديث عن إصابة الملك بالبارانويا أو جنون العظمة، فإنّه لا بدّ لنا أن نشيرَ عندَ هذه النقطة، إلى أنّ مَن يُعاني من هذا الاضطراب الجنونيّ يكون الجوع الجنسيُّ لديهِ مُفرِطًا، وهذا ما نلحظُهُ مِن حديثِ الوزير مع الملكة حول معاشرة الملك للجواري، ووصْفِهِ لها حادثة مطارحة الملك الغرام لإحدى الجواري الفاتنات في الحديقة، مع كلّ ما صاحبَ ذلكَ مِن أوصافِ الشّبق والمشاهد الجنسيّة المثيرة، كما يتّضحُ لنا من كلام الوزير في حوارِهِ التالي مع الملكة:

"الوزير: بل جذبَها بعنفٍ إليه وأجلسَها على ركبتيه، وراحَ يُقبّلها بنهم من شفتيها حتى ساقيها وهي تتأوّه وتحنو عليه، تتلوّى كأفعى أليفة بين يديه" ص 19.

ويمتزجُ جنونُ العظمة لدى الملك بظاهرة الغرور المستفحِل عنده، حيث تظلُّ الظنون الخاصّة تؤثر بالجهاز العصبيّ لمثل هذه الشّخصيّةِ البارانويّة، حتى تصبح نشاطاتُها منسجمةً مع أخطاء الفِكر، ومِن هذا الخطأ ينشأ الشعور بالغرور، ويتصوّرُ الفِكر أنّه قادرٌ أن يفعلَ كلّ شيء بما لديه مِن الظروف والإمكانيّات، وباستغراق هذه الحالةِ يتطوّرُ الغرورُ إلى حقد لا يتورّعُ عن أن يتمنّى الإضرارَ بالآخرين، أو مخالفتهم ليشعر بأنه يفوقهم درجةً مِن درجات الصّعود المهزوزة أصلا:

"الملك: وهل تجرؤ الرّياحُ دخولَ مدينتي دون إذن؟ كيف يمكنها أن تفعلَ هذا؟ يا للرّياح الوقاح! سأسجن الرّيحَ إذا هبّت. اِذهبوا وسدّوا مداخلَ الأسوار كي لا تتسلّل الرّياحُ منها. اِذهبوا وزيّنوا المدينة مِن جديد ص 39.

إنّ مرضَ جنون العظمة من أصعبِ الأمراضِ علاجًا، وتأتي صعوبة العلاج لأنّ الإحساسَ بالعظمةِ يتمركز حولَ الذات التي لها ثبات نسبيّ، ويتطلّبُ العلاجُ إحداثَ تغييرٍ في مفهوم المريض عن ذاته وقدراته وإمكاناته، وهو ما يجعله يضعُ قدميْه على أرض الواقع، ويُبعدُهُ عن شطحاتِ الخيال، فالعواملُ المتعلّقة بالشّعور والحسّ كالحزن مثلاً، يمكن أن يتسبّبَ في إيقاظِه مِن هذه الحالة، وهذا ما حدث مؤقّتًا مع الملك، حين بلغه خبرُ مرض ولدِهِ المُفتعَل وإشرافِهِ على الموت، دون وجودِ طبيبٍ يُداويهِ ويُبعدُ عنه خطرَ الموت، فالملك حينها عرفَ قيمة الحياة، وتحرّكَ فيه الإنسان ليصحوَ ويتراجع عن غيّهِ وغروره، ويتلاشى جنون العظمة لديه مؤقّتًا، إلى حين عِلمِهِ بحقيقة عدم مرض ابنه الذي كان مفتعَلاً ومُدبَّرًا، وبالتالي فإنّ أمكانيّة علاج الملك بتأثير صدمة مرض ابنه المفتعل يبدو مستحيلاً، لدى هذا الشخص الذي يُعاني من اضطرابات الشخصيّة البارانويّةparanoid personality disorder ، وبخاصّة إذا استفحلَ هذا المرضُ ووصلَ بصاحبهِ إلى حدّ الجنون الحقيقيّ كما يتضحُ في نهاية المسرحيّة.



ولا بدّ لنا مِن كلمةٍ حول عنوان هذه المسرحيّة الزّينة، حيث وردَ في حوار الوزير مع الملك، إنّ "الابتسامة في المدينة هي الزينة، وليست الأعلامُ وأقواسُ النصر والبالونات والشّعارات وغيرها"، ومع هذا فإنّنا نعتقد بأنّ كاتبَ المسرحيّة أرادَ أن يوحي لنا من خلال أحداث المسرحيّة وتداعياتها، أنّ الزّينة للإنسان وخاصّة للحاكم هي العقل، فإذا ما فقدَ الإنسانُ أو الحاكمُ عقله وأصيبَ بالجنون، فإنّه يكون بذلك قد فقد زينة حياتِه، فالعقلُ زينة الإنسان.

ومِن زاوية أخرى فقد وردَ في القرآن الكريم الآية القائلة بأنّ: "المالُ والبنونُ زينةُ الحياةِ الدّنيا"، فالملكُ حين علمَ بمرض ابنه المفتعَل، أصيبَ بالذعر في أن يموتَ ابنُهُ ويفقدَ أحدَ عمودَيْ زينةِ حياتِه الدّنيا وهو الابن، ومِن هنا فإنّ عودة الملك عن غيّه وغروره وجنون العظمة لديه مؤقّتًا، كانَ بفِعلِ الخوف من فقدان زينة حياتِهِ أي ولدِه بالموت، حيث كانت هذه الحادثة بكلّ حيثيّاتِها وما تأتّى بعدَها نقطةً مفصليّة ومحوريّةً في خلاصة وخاتمةِ المسرحيّة، لتكون "الزينة" غالبًا متجسّدة في ابن الملك المجنون المخلوع، باعتبارِهِ أملاً جديدًا للشّعب المقموع المقهور، كحاكمٍ عادل رحيم مدعوم برعاية والدته الملكة.

هكذا وبعد أن تناولنا بالدّراسة والتحليل الجانب النفسيّ في المسرحيّة المتمثل في دار البارانويا أو جنون العظمة عند الحاكم الملك، فإنّني أجدُ من المناسب أن أشيرَ إلى الحقيقة، بأنّ الحوارَ الدّراميّ من أهمّ العناصر الفعّالة والحيويّة التي يقوم عليها بناء المسرحيّة، فمِن خلاله يستطيعُ المضمون أن يُعبّرَ عن نفسه، وإذا كانت الحبكة بمواقفِها وأحداثِها تُمثّلُ الهيكل العظميّ للمسرحيّة، فالحوارُ هو اللّحم والخلايا والشرايين، ويبرز دورُ الحوار في إسعافِ وإطلاق المسرحيّة من عقالها، ممّا يُساعدُ في استمرارها، فالكاتبُ المسرحيّ لا يملك السّردَ الذي يستطيعُهُ المؤلف الرّوائيّ، والذي يساعدُهُ على التعليق على الأحداث وتحليل الشخصيّات وإلقاءِ الأضواء على ما يدورُ بداخلها، وربْطِ المواقفِ ببعضها البعض، وسدّ الفراغات التي قد تنشأ في التسلسل الدّراميّ.. إلخ.

أمّا الكاتب المسرحي فلا يملك هذه التّسهيلات الرّوائيّة، فهو يعتمد على الحوار كأفضل أداةٍ للكشف عن داخل شخصيّاتِهِ وتحليلها والتعليق عليها، وإحكام تسلسل المواقف وتتابعها، وسدّ الفراغاتِ التي تؤثّر في متانةِ البناءِ وعضويّتِه، ويتوقّفُ مدى نجاحِهِ أو فشلِهِ في إخراج عملِه المسرحيّ إلى الوجود، بمدى توفيقِهِ في استغلال الحوار، وإنّني أعتقدُ وأرى أنّ د. سليم مخولي قد نجحَ نجاحًا ملموسًا في معالجةِ وتناول الجوانب التقنيّة للبناء الدّراميّ للمسرحيّة، لا سيّما وأنّه أدخلَ شخصيّة الرّاوي ضمنَ شخصيّاتِ المسرحيّة، حيث تجنّبَ بمهنيّةٍ واضحةٍ إدخالَ عنصر السّرد الرّوائيّ المباشِر، واتخذ ببراعةٍ الكاتبُ المتمكّن من الرّاوي بديلاً للبرولوج prologue والإيبلوجepilogue كما في المسرحيّةِ القديمة، كما الكوروسchorus في المسرحيّة اليونانيّة القديمة، حيث أنّ وظيفة هذه العناصر المسرحيّة ليس السّرد الإيضاحيّ، وإنّما التعليق الكاشف عن مواقف غامضة أو خافيةٍ أو استشرافيّة، بهدف الغضافة إلى الحوار الدّراميّ عندَ الشخصيّات.



وممّا يستحقّ الذكر والإشادة، أن د. سليم مخولي قد التزم بالمواصفات العامّة التي لا بدّ مِن توافرِها في الحوار الدّراميّ، فقد كان الحوارُ لديه مُركّزًا ومُكثّفًا ومشحونًا بالمعاني والدّلالات والمشاعر، وتفادى الإطنابَ في الحوار، لأنّ الإطنابَ في مثل هذه الحالات كفيلٌ بإصابة الحوار بالأورام والنتوءات، التي تميّعُ مفعولَهُ الدّراميّ الحاسم، كذلك فقد راعى بمهارةٍ المستوياتِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة والثقافيّة المختلفة للشخصيّات، بحيث تناسبت مع مستويات الحوار والتراكيب اللّغويّةِ المستخدَمةِ فيه، فالشّخصيّة في المسرحيّة لا تجدُ سوى الحوار لكي تُعبّرَ به عن نفسِها، وقد وضع د. سليم مخولي ككاتبٍ مسرحيٍّ الإيقاعَ في اعتباره عندَ كلّ كلمةٍ كتبَها هنا، فالإيقاعُ هو الذي يمنحُ المسرحيّة نغمتها النفسيّة والانفعاليّة الخفيّة، وبدونه قد تفقد شخصيّتها المتميّزة، أمّا الحوار فهو الذي يخلق المواقفَ ويُطّورُ الشّخصيّاتِ ويُحدّدُ مسار الأحداث، ويرتفع بها إلى ذروة التعقيد ويهبط معَها حتى النهاية، فلصديقنا ولزميلنا د. سليم مخولي أجمل التهاني بصدور مسرحيّته هذه، مع أطيب التمنّيات بالصّحّة ودوام التوفيق والإبداع.



ثمّ كانت مداخلات الزميلات والزملاء حول مسرحيّة الزينة، واختتم اللقاءَ المُحتفى به د. سليم مخولي بشكر الحضور والمحاضرين، وتعقيب على المداخلات على مسرحية "الزينة":

لا بدّ مِن ذِكر ما هو غير معلوم، بأنّ هذه المسرحيّة ليست بنت السّاعة أو نتيجةً لِما يحدث في الدّول العربيّة مِن هبّات شعبيّة، وما يُسمّى "بالرّبيع العربيّ". فكرة المسرحيّة موجودة من أيّام "الخريف العربيّ"، وقد بدأت كتابتها قبل عدّة سنوات، آمِلا أن يكون تغييرٌ في أنظمة الطغيان القائمة، وبعد ما حدث من ثورات شعبيّة وما كان على الفيس بوك وفي ميدان التحرير وغير ذلك، عدتُ إلى المسرحيّة أُتِمُّ كتابتها حتى خرجت بالشكل التي هي عليه.

المسرحيّة تتحدّث عن الطغيان بشكل عامّ، ليس لها زمان أو مكان مُحدّديْن، وهذا ينطبق على ما هو عليه الآن في الدّول العربيّة، طلبًا للتغيير.

وعلى ذِكر اللغة فإنّني توخّيت اللغة الفصحى السّهلة القريبة لفهم المتلقي، وهي تتراوح بين بلاغةِ اللّفظ والأسلوب الوصفيّ الشاعريّ وهو قليل، وبين الأسلوب المُبسّط العادي، وهذا الأخير هو السّائد مع فقرات كثيرة من السّجع، تعطي وقعًا موسيقيَّا لذيذا على أذن المستمع، وكما ذكرت فإنّني توخّيتُ إسكانَ آخِرَ الكلمات عند الوقف، بما يتناسبُ مع الوقع السّماعيّ في السّجع.

الوزيرُ شخصيّة محوريّة في المسرحيّة، تُوازي دورَ الملك الذي يظهر كأنّه الشخصيّة المركزيّة،

وأودّ أن أنوّهَ أنّي بعد طباعة المسرحيّة قرأت مصادفة قولاً للأحنف المذكور في شعر أبي تمام:

إقدامُ عمرو في سماحةِ حاتم في حِلم أحنف في ذكاءِ إياس

الأحنف هو أبو بحر سيد تميم، كان صحابيًّا دخلَ الإسلام أيّام الرّسول ولم يرَه، وكان مشهورًا بحِلمِهِ وفطنته، يقول الأحنف: لا يتمُّ أمرُ السّلطان إلاّ بالوزراء والأعوان، ولا ينفعُ الوزراء والأعوان إلاّ بالمودّة والنصيحة، ولا تنفعُ المودّة والنصيحة إلاّ بالرّأي والعفّة...

سررت عندما قرأت هذا، فإنّه نفسه ينطبق تمامًا على تصرّف به الوزير مع الملك من مودّة ونصيحة وصواب رأي وعفّة.

لم أتدخّلْ في عمل المُخرج إلاّ في بعض الإشارات الطفيفة، مثل قال ضاحكا، أو يقف وهو نائم، أو بينما ينكمش الوزير على نفسه متوجّسًا، كما لم أذكر في بداية المسرحيّة ما هو الدّيكور على المسرح، وتركته لمخيلة المُخرج، وما يُفهَم من المسرحيّة أنّه يوجد كرسيّ العرش وشبّاكٌ يُطلُّ على المدينة فقط، غير باب الدّخول والخروج.

وفيما يخصّ الرّاوي فيُسمع صوته ولا يظهر على المسرح إلاّ في نهاية المسرحيّة، ودورُهُ هامّ خاصّة عندما يَذكرُ في النهاية مُعرّفًا عن نفسه: "أنا الرّاوي وأنا التاريخ".

كانت ملاحظات بالإيجاب وأيضا بالتحفظ حول دور ابن الملك المريض وكأنه مفتعَل، فلمرض ابن الملك دوْرٌ هامّ افتعله الوزير كصدمة نفسيّة للملك، ليُشعِرَهُ بالحزن وألم الموت الذي كان يجلبه لغيره، علّه يصحو ويتوب، وحقّا كان له فعل وأثر إيجابيّ.

أخيرًا.. لا يبقى إلاّ جزيلَ الشّكر لمشاركتكم وحُسن إصغائشكم.

ليزا: عنوان رواية جديدة لأحمد ختاوي


تجاعيد قدسية قصة حب# سامية# في سمو قصة إنسانية تجمع عناق روحين في تجاعيد مسار درامي ، تتوارى فيه الرذيلة ، تنبث فيه الفضائل والقيم ، وتخرج من شرنقة الضغائن جدائل # ليزا# في كينونة متنامية ، لتحوم حول شجرة # الصابونية # روح تسمو إلى سماء الفضائل لتعانق روحا أخرى تواقة إلى الخير ، تمقت الشر ، تتشبث بأقراط ليزا مريم أرواح نورانية لتعانق حواء وأدم في جنتهما.

لم تلفظهما السماء بقدر ما احتضنتهما الجنة في صلوات لتسمو الروح التي لم ترتكب الآثام والخطايا بالرغم من الغرائز الكامنة .

تتباهى أمام أقراط كليوباترا.

ضمن هذا المنحنى الدلالي ترتوي روحان لعشيقين تسوقهما الدلالة إلى أن العناق قد يكون في الرؤيا مثلما تسرقهما ومضة #من وحي شجرة $ الصابونية التي تلتف حولها كدلالة محورية مركزية ، روحية ...تسرق مرة ثانية في # دلالة طفولية أقراط وجدائل # كيليوباترا

وميتافيزيقيا الأشياء .

مسار درامي في مسحة رومانسية أخاذة يعيش أبوعادل البطل الرئيسي بين دفاتر # ليزا ## في سحر التواصل الروحي القدسي ليرمم ذات تواقة أيضا ...

ليزا تمد يدها إلى الإسلام بفضل الحوارات المستمرة والطروحات الفكرية المتواصلة على الدوام عن طرق الشبكة العنكبوتية بينها وبين أبي عادل، مفعما بعواطف إنسانية عميقة ، مما شجعها على زيارة كثير من البلدان العربية بحثا عن نسيم هذا الدين الذي وجدته يمتد إليها من وراء البحر عن طريق شحنات فكرية في طيات الكتابات التي كان يبعثها إليها بانتظام ،تغوص في البحث عن نفسها في الروح الشرقية . هذه العلاقة دامت سنوات طويلة إلى درجة أنها أصبحت كأنما هذا الشخص يعيش بداخلها

ليزا حوار بين حضارتين في قصة حب عن بعد

ليزا عنوان هذه الرواية التي قد يكون الروائي الجزائري أحمد ختاوي قد وضع آخر لمساتها ، تجري ترجمتها بالموازاة إلى الفرنسية من قبل الأديب الجزائري مجذوب قفة




النسيان/ ميمي احمد قدري


أحشد ذهني وطاقتي لكي أكتب في هذا الموضوع المؤرق للنفس المحير للعقل
تورطت بكل كياني للكتابة في هذا الأمر المبرح للكثيرين منا.....أبحر بقلمي
و أغوص بأعماق هذا الحلم البعيد القريب من الكثيرين ... نعم سو ف أتقمص دور المنشط لعملية النسيان بكينونة الروح... يغمرني الهدف لكي نصل معا" لكيفية نسيان الذكريات العالقة على أغصان الزمن.... الكائنة على خريطة القلب ...المورقة بالخيال... الحبلى بالوجع المستقر على جبين الحنين الآتي من شمس فقدت وسط الزحام المقدرة على بث الدفء.... فأشعتها كاذبة ... ولهيبها يبذر المرارة ليحل محل النبض العالق بين خطوط القلب... فتلهو بنا كيفما تشاء..وتنسينا اليوم الآمن الحاضن لأحلامنا.....ومذاق الغد الشهي.
النسيان أمر يتمناه كل من تعلقت أحلامه بشيء فقده.... طلب صعب إيجاده ..وهدف لكل منا..... أتساءل هنا كيف يمكن أن أنسى جزءا" من عمري؟؟!! ... كيف أنسى ذكريات نسجتها بالواقع وأمالا" تمنيتها وعقدت قراني عليها... وفي لحظة ولأي سببٍ من الأسباب فقدت هذا الشيء .. كيف يتم الركض لأحضان النسيان.؟؟!!!.. وهل استطيع إيجاده ومعانقته؟؟!! أم سوف أظل أبحث وأفتش عن وهم .. قال من قال انه نعمة ... نعمة صعب إيجادها!!!!..
هل من قال انه تمتع بنعمة النسيان صادقا"؟؟؟
أعتقد انه توهم هذا ... توهم فقط ..أين تذهب اللوعة والحسرة الناتجة عن فقدان من أحب؟؟!! وأين يهرب من شريط ذكرياته وعند مضاجعته الوحدة.. بماذا يفكر؟؟!!!
أقول هنا الأيام لها دورٌ مهمٌ... مرور الأيام وابتعاد الذكرى يجعلها تبدو باهتة
ولكنها موجودة تشجب وجه الزمن .
هنا وبين هذه الحروف القليلة أحاول تسطير كيفية الحصول على هذه النعمة ولومن أجل تقليل كم الألم المتغلغل بأعماق الروح .... والمساعدة على استقبال الذكريات بدون ندم أو قهر أو سكب لكؤوس التمني على صفحات الخيال...
أعلم أن الأمر يعتبر من وجهة نظر الكثيرين بعيد المنال... ولكني أكيدة من نجاح المحاولة للعثور أو الاقتراب من نعمة النسيان
الانشغال بالعمل وتكثيف كم الواجبات المطلوبة منا لأدائها.... عدم الاختلاء بالوحدة... وعدم الركون لشردات طائر الخيال.. لا تطلق لخيالك العنان في الأمر المفقود.. حاول تجنب التعثر بالذكرى... فالذكريات تستأسد على من يعطي ظلها المساحة الكافية لتخرج من مكمنها....هناك أمر صعب تنفيذه ولكن لابد منه هو عدم الاحتفاظ بأي شيء يدر عليك غصة أو يجعلك تتذكر ما فقدت... أعلم أنه أمر صعب ولكن لابد منه لكي نساعد أنفسنا وتمر عثرات النفس بسلام .
اقضي أوقاتا" كثيرة بالتريض فالرياضة والركض خاصة تساعد على التخلص من التراكمات النفسية المؤلمة.... الصداقة ... الصداقات والتفاف الأصدقاء حولك تساعدك على الانفلات من الحسرة واللوعة الناتجة من فقدان الشيء...الاهتمام بالهوايات المختلفة مثل القراءة وكتابة ما تجيش بها النفس من خواطر أو خربشات لتستكين الروح وتهدأ على أشرعة الحياة.
.يجب علينا القيام بتغيير الأجواء من حولنا كالسفر وتجربة أماكن كثيرة والتنزه مع من نأتمنه من الأصدقاء أو المقربين من العائلة....نحاول التجديد بالهيئة والشكل..يجب أن ننتهج نهج التناسي... ألا وهو أن نتفاعل مع الحاضر المنتظر بين أيدينا بصبر وروية... فيجب أن تتناسق مكنونات النفس مع الفعل الظاهر.........مهما تعلقنا بأذيال النسيان لن نصل لمرحلة فقدان الذاكرة التي يتمناها الجميع في هذه الحالة... ولكن سوف تحدث حالة من الهدوء المغلف بالرضا... سوف تنبت نخلات الأمل بالغد المشرق..
سوف نحيا بدون الإجهاض الناتج من تمني المحال....في عقل كل منا دفاتر لا يستطيع التخلص منها ولكن على الأقل نحاول أن يخبو الوله بها و عدم تصفحها كل وقت وحين...نعم سوف تشتعل قناديل النسيان رغما" عن الذكرى ... وبمرور الزمن تخبوا الذكريات وتنطفيء بالقلب كل الحكايات.... ونمني النفس بأشياء جديدة نعشقها ونحيا بها
وتتوالى الذكريات وتتراص في خلايا الروح... وهنا نكون وصلنا لأسطورة النسيان فذكريات قبعت مكان ذكريات... وأحلام سكنت بالقلوب
مكان أحلامٍ
اندثرت مع اندثار ظل غائب أفلته الزمن من بين أصابع الحنين

السندباد الذي طار وترك ريشه في كل مطار/ فاطمة الزهراء فلا‏

إذا خفت الليل فاجعل كتابك أنيسا, وإذا هجرك الأحباب اتخذ من كتابك جليسا .
رحل الفيلسوف والمفكر والمبدع والأديب أنيس منصور , والمثل يقول : من علمني حرفا صرت له عبدا , وهو علمني أشياء كثيرة , تعلمت منه أن الأدب والمعرفة شئ واحد , جزء لا يتجزأ , فأديب بلا ثقافة قلة بلا ماء , وزير بلا غطاء , ونهر ناضب بلا عطاء , وسيارة بلا بنزين , ونافذة لا تجلب الهواء .
أنيس منصور هذا الخضم الواسع ىمن المعرفة , أصابع ذهبية تكتب بعقل مسحور , أنتج أنيس أكثر من مائتين من الكتب التي يلهث القارئ لمتابعتها في شغف , متألق مع ذاته , عاشق لقلمه الثائرالهادئ , الباحث , المتقلب علي جمر الكلمات , كان قويا في كل شئ لكن هزمه السن والمرض وأين منهما المفر؟ ..لازالت تنهداته يرسلها من عالمه الآخر إلينا متسائلا ...هل حصاد العمر الملقي بين أيديكم يكفيكم لكي تتذكروني ؟ والإجابة نعم ..لقد كان أنيس يحلم بتأسيس دار للنشر , لكن الأمل لم يتحقق , مقولاته مأثورة , تذكرته وهو يقول ..قد تقول لنفسك كل هذا التعب في الحياة لماذا؟ ..العذاب لماذا ؟ ..صارعت وحاربت ومرضت وسهرت وناقشت , وشربت وكسبت وخسرت وعشقت المرأة وخانتك ودق قلبك طالعا , نازلا , ثم ضاق صدرك والتوت أمعاءك , واحترقت معدتك وزاغت عينيك , وانشطر رأسك ...والنهاية من الدنيا أخذت لا شئ , لأن الحياة لا شئ .
أنيس منصور موسوعة تغوص فيها بإرادتك وأنت قانع بأنك الكاسب ولن تخسر شيئا
الحب في حياته هو الحياة وزوجته رجاء عاشت لترويه سر الإبداع حين يصبح الإنسان عاشقا فعاش معها ولها وتحدث بلسان الحب وكأنه مراهقا يعيش الحب لأول مرة فيغني مثل عبد الحليم قائلا : ليه بيقولوا الحب أسية ..ليه بيقولوا دموع وعذاب ...أول حب يمر عليه أملا الدنيا شموع ..ذكرني أنيس بنزار قباني حين عشق زوجته بلقيس , وكتب لها أروع قصائد الحب , وما أروع أن يعشق الفيلسوف المرأة التي اختارها بقلبه , بالتأكيد حياة أخري يشع منها الحلم , ويذوب , ويقطر حلاوة رباني مع كل لحظة يعيشها , وياليت من يعيش بلا مشاعر يتعلم من أنيسكيف يعامل المرأة وينظر إليها
له كتب عديدة في معظم ما قيل عن المرأة وكيف جعل من المرأة نجمة تضئ السماء حين يغيب القمر
هو كرة من الثلج في لهيب الصيف وكرة من اللهيب في شتاء قارص يجعلك لا تغادر سريرك, فيلسوف يكتب بقلم شاعر , يسقيك المعلومة التي تكرهها في ملعقة دواء مسكن وملطف , فتتقبلها حتي وإن كانت لا تعنيك’ تسرح معه بخيالك وتغمض عينيك فتري أرواح من تحب تحلق حولك.
وإذا كانت المرأة شغلت حيزا كبيرا في كتابات أنيس منصورفإنه اهتم بالكتابة عن كل شئ في الحياة ..في التاريخ فكان أشهر رحالة في التاريخ , صعد الجبال وتسلق الأشجار باحثا عن جزء من الحقيقة , كتاباته معجونة بمية عفاريت , كما يقولون بها كمية شطة وبهارات, لا تقوي علي مقاومتها , فلا يسعك إلا أن تلتهمها مرة واحدة برغم التحذيرات من البواسير , وهذا لأنها طعمة تعطيك احساسا بالحياة والسرعة واللذة والحركة , وحينما نعجب بفلان نقول أنه مثل قرن الشطة , فالكتب التي أنتجها لم ينتجها كاتب سواه , خفيفة الظل , تشع بالشباب والحيوية , لم يعرف قلمه البرود ولا السماجة ولا الغلاسة , لكنه كان يقطر رقة وهمسا وجنونا وصراحة ووقاحة إذا لزم الأمر
كتبت عنه منذ عشرين عاما في كتابي ( المرأة في عيون المبدعين ) فأنيس بلدياتي وكان الفصل الذي كيبته عنه يحمل عنوان ( فيلسوف لالم يفهم المرأة يوما )ووصفته بأنه مثل القرموط الذي لا تستطيع أن تمسكه وتطلع روحه وهو لا زال يهابر حبا في الحياة , هكذا رحل أنيس منصور لكنه سوف يظل باقيا بيننا بحروفه وإبداعه ولن يموت وأقول أنا طار السندباد وستبقي ريشاته بكل مطار للعاشقين مزار .

الكنعاني المغدور يفكر فلسطينيا/ نزار الحميدي

- حركة نص
نشرت جريدة الشعب كتابا شعريا لعبد الحفيظ المختومي معنونا ب »الكنعاني المغدور« وقدم الكتاب الكاتب الحرّ سليم دولة وجاء في التقديم: »بإمكاننا أخذ هذا الكتاب بلين«، والاصغاء إلى »الكنعاني المغدور« بأذن اكثر رهافة وبعين اكثر تبصّرا وبصيرة إذ الالم لم يعد في الجلد وانما خطا ابعد، أبعد...« ولما كان الالم والغدر من معالم المأساة التي صنعت أدبا كان حريا بنا أن نفك عقال الالم ونحاسب الغدر وبعدُ، ليس علينا الا ان نفتق أكمام المعاني التي يتستر النص عليها لنفهم المعركة.
ان كتابة عبد الحفيظ المختومي تشعرنا بان نتلقى صفعة اينما ولَّينا وجوها ونحن مع كل نص نحاول ان نتعقب صفعة انها تشعرنا بمازوشيّتنا المفرطة وتدعونا إلى جلد الذات جلدا عنوانه »فلسطين، العراق، غزّة، الاندلس...« و»الكنعاني المغدور« كتاب أُنجز في مضمونين مركزيين عليهما تدور رحي الكتابة الشعرية المضمون المركزي الاول هو الذات المغدورة المحاصرة بالاقنعة التاريخية والمواصفات العربية القحّة: آخر طواسين الحلاّج / محنة يوسف / الكنعاني المغدور / النبيّ الاعزل... والشاعر من وراء هذ العناوين هو »صاحب نبوءة« كان مصيرهُ الصّلب او الجرّ او الاغتيال او القتل والجريمة هي: الكتابة والفكر الثورة، كما الشاعر في نصّه منبّه الثورة المضمون المركزي الثاني هو الوطن ومن شعاراته: أيها الحجر الفلسطيني / أحزان اندلسيّة / جيكور تموز/.. وهي نصوص تكشف الوجع العربي الدامي:
»عليهم الحجرْ / إلى ان يعود لنا الوطن / تعود لنا عكّا / يغني لنا القمرْ«
إن مدار النّص الحجارةُ التي كانت عنوان المقاومة الفلسطينية العزلاء لجسم غريب ينهب الارض والعرض والثقافة، فكانت كلمات الشاعر حضن الحجارة ورديفتها ان الحجارة هي عنوان الممانعة الدائم ولن تتوقف عن الهطول تماما كالامطار والكلمات لذا يدعو الشاعر للحجارة بالحياة »عش أيّها الحجر الفلسطيني« في سياق اخر وفي قصيدة صفعة اخرى يقول الشاعر في »أحزان أندلسيّة« متوجها إلى قائد أدب المقاومة صاحب »أرض البرتقال الحزين« غسان كنغاني: »ولم نعد... كما وعدوا... بالرجوع/ زيتونة... وأيقونة.../ وموّالا.../ تغنيه زوجاتنا في المساء إن حزن كنغاني هو حزن فلسطيني عميق، وجراح لن تندمل وأحلام بالعودة لم تتحقق انه حديث في النكبة جوهري لا يتعلق بشخص وانما بمصير جماعي والمختومي في نصوصه يستدعي أكثر من رمز تاريخي لمحاججته بما آل إليه الوضع العربي لذلك فهو يستجد بعبارات الشجن وببيانات الشجب و»ببيانات العصيان العاطفي« كما يقول سليم دولة في المقدمة. وتتلبس صورة عبد الحفيظ المختومي بصورة ابي الطيب المتني في قصيدة »وصيّة المتنبي (ص 48) فالمختومي يختفي خلف خبر من تاريخ الادب جاء فيه ان اللغوي ابن جنّي قد وقف الوقفة الاخيرة عل جسد الشاعر مثخنا بالجراح نشأت محاورة لغوية شعرية بين ابن جنّي الذي يسجل خبرا ويحفظ وصية وبين شاعر فارس، وما المتنبي إلا قناع يلبسه الشاعر ليمرّر وصية مشفّرة رمزية دالة، وقد كانت المحاورة اشبه ما تكون بالمناظرة الاخيرة ولكن لماذا الحق المختومي على وجهه قناع المتنبي؟ يسعفنا الخبر بنهايات المتنبي جريحا يلفظ انفاسه الشعرية وحيدا بعدما تكسّر العالم من حوله وكذلك »الكنعاني المغدور« والقناع ها هنا »قناع حال« وكثيرا ما يتقنع الشعراء ربّما لتشابه مصائرهم أو تقاطعهم في المعاناة الوجودية ونذر هاهنا آخر كلمات محمود المسعدي الذي ذكرها شفاهة ولم يكتبها وكانت بمثابة الوصيّة قال: »كن أنت اصفى ما تكون من غيرك وانفرد وحدك بمغامرة وجودك« ولئن اكد المسعدي ان النهاية الوجودية وحيدة دائما ومهملة فان نهاية المتنبي في رواية المؤلف المجهول لم تكن كذلك لانها استدعت حفظة الذكريات، فلم تذهب سيرة المتنبي، والمعنى المقصود هو أنّ الشاعر لن يرحل في الحقيقة ولان المتنبي مازال بيننا فإن »الكنعاني المغدور« سيظل بيننا وهذا ما يأمله كل شاعر وفي خطاب الشاعر المختومي المتنبي نغمة اعتراف وتحدّ وإدلاء بشهادة في خطر المرحلة والمرحلة دائما خطرة تذكرنا بشكل الاقامة النيتشوي في هذا العالم: »عش في خطر« قال المختومي (ص 48).
»كم متّ قبل الآن..
وكم نعوني في مجالسهم
وعدت منتفضا كمارد...
الآن أحمل أضلعي...«
إن الحصار الذي ضرب على الشاعر مكانيٌّ ولكنه كان ذائعَ الصّيت قد ملأ الدنيا وشغل الناس« (ابن رشيق القيرواني) وهو في جوهره حصار ضرب على الارض وهنا تتلبّس حال الشاعر بحال الارض المسلوبة فالشاعر في نصه يفكّر فلسطينيا« وليس ثمة من فرصة لقول الشعر إلا من أجل تحرير الارض والمعنى المستفاد من »الوصية« هو ان الشاعر باق، الأرض باقية وسيعودها أهلها يوما وهو ما نقرؤه في سؤال ابن جنّيّ: »أراحل يا غريب الدار.. أم عائد؟« (ص 48) ان المختومي في وصيته لم يعترف ولم يصالح وقد قرّر الشهادة على مفاوضة العدو فكان الشاعر المختومي / المتنبي: سيد الشعراء الشهداء: »ميتةٌ كيتيم.../ وأنا ريشة في هواء / الملوك ملوك / والرعايا إماء / وطن بين ماء ... وماء / سَمّه ما تشاءْ / سمّه لعنة / سمّه كربلاءْ... / وأنا.../ سمّني... سيّد الشهداء...« (ص 50).
يكشف الشاعر بعد الحشرجة الاخيرة سر التعالق بينه وبين الوطن القضية واحدة هي: اليتمُ، لذلك اشار سليم دولة في مقدمة الكتاب إلى: أنّ الشعر يقوم مقام القناع يتخفى به المقهور، بوعيه وبعشقه وبمرتجياته وامانيه المغدورة... في مهب اليتم الكوني... يحدد مقام هويته اذ غدر الشاعر من جنس غدر الوطن لذلك التبست صورة الشاعر بالمكان والمسُّ به مسٌّ يطالُ المكان...
يمعن عبد الحفيظ المختومي في إماطة اللثام عن الوجع العربي الذي اختار لحظة صلب الحلاج ليبدو جليّا:
»هذا دمي!!
فاخرجوا من عطره
إنكم لستم دمي...
ودمي إن كان منكم
فدمي يبكي دمي
ولكم أن تنكروا
انكم لستم... دمي« (ص 33).
إن استدعاء الحلاّج إلى القرن الحادي والعشرين هو استعادة لزمن الحصار على المثقفين والتعبيرة الحرّة لذلك نرجّح ان يكون الكتاب »الكنعاني المغدور في المقام الاول هو كتاب تاريخ: تاريخ القتل والاغتصاب والدم ولم يقرأ المختومي التاريخ وهو يتشمس وانما قرأه وكتبه وهو يعاني فكأنما كتبت نصوصه في الجبهة. يحمل نبوءة الشّعر وشرارة الثورة والحرية يحيي كل الكائنات التاريخية لتلتقي معاندة الزمن تطرح مشروع نقد ذاتي قبل ابداء الحلول لذلك استدعى فصولا من كتاب »شتربة« مجرّما الجميع قول: منافقون! / كلنا.. منافقون / من رأسنا لأخمص رؤوسنا / جميعنا.. منافقون / جميعنا كليلة ودمنة (ص 35) لقد اغتصبت الثقافة وضاعت الارض لان الضمير الجمعي انخرط في النفاق الجماعي ولم يتمكن من فرصة صدق جماعي.
ان نصوص عبد الحفيظ المختومي ترشح حزنا، لم تتحزّب وخاطبت اوجاع الناس وأل قت علينا مسؤولية الحرية مستدعية تاريخنا المشرق الدموي وجماهير المغدورين، ان المختومي ينطق نيابة عن كل المبعدين، المصلوبين في الارض وأوقفنا وجهها لوجه مام المرآة.
لم يسيّج الكنعاني المغدور قصيدته بالاعتيادي الايقاعي ليبلغ رسالته الخالدة الى جمهور المضطهدين والمثقفين والكتاب ليس إلا وصيّة صاغها متوسطا بين النّثر والشعر وجرح ذاكرتنا بذكر محمد العياشي طاع الله، إن الكنعاني المغدور لعبد الحفيظ المختومي هو كتاب محنة ووصيّة أبدية.


الجنازة حامية والمخطوف "شحاطة"/ محمود شباط

صداقات الغربة أشبه بسلعة تشتريها من بائع متجول، قد تكون بخسة كصداقات الضرورة التي تنطفىء شمعتها مع أول هبة ريح، أو قد تغالي بها وتدخرها كأيقونة مقدسة إلى الحد الذي يعوضك الأصدقاء الحقيقيون عن بعدك عن أهلك وبلدك.
من أولئك الأصدقاء صديقان لي هما رفيق عماد (أبو رمزي) و ابن عمه معروف عماد (أبو أدهم) من قرية بقعسم السورية. وما بين أبناء قريتي (عيحا) اللبنانية الحدودية وقريتهما السورية المتجاورتين العديد من القواسم المشتركة لناحية اللهجة (نسبياً) والعادات والتقاليد والمصاهرة والزيارات المتبادلة ، وأخيراً لا آخراً التهريب "القانوني".
الصديقان المذكوران كانا يقيمان في مدينة الخبر السعودية وغادراها منذ عدة سنوات، وفي أحد زياراتي إليهما قضينا سهرة لطيفة، تلطفها أكثر أخلاقهما الدمثة وطيب معشرهما. وحين انصرافي أنتعلتُ بطريق الخطأ فردة خف "أبو رمزي" المشابهة جداً لفردة خفي وتوجهت إلى سكني دون أن أدري بأني قد "سبيت" غنيمة وتركت في أرض المعركة "أسيراً" .
بعد وصولي إلى المنزل لاحظت باندهاش اختلافاً في لون أرضية إحدى فردتي الخف. إذ أن خفي لونه أسود وأرضيته سوداء بينما الفردة الدخيلة الجديدة سوداء وأرضيتها بيج. حيرني الأمر فعلاً ولم أصل إلى تفسير منطقي فصرفت النظر عن انشغالي بهذا الهم غير المهم.
في تلك الأثناء وردني اتصال هاتفي من إبي رمزي ليبلغني بأنه افتقد " فردة شحاطته ووجد بدلاً منها فردة شحاطة "غريبة" وطالبني برد الفردة على الفور وإلا ، أعقب "تهديده" بضحكته المجلجلة المحببة وتابع بأنه لن يستلم "أسيره" إلا بعد أن "أحرر" له مضبطة – قصيدة عن تلك الواقعة ، فرحبت ودعوته لزيارتي بصحبة ابن عمه معروف.
لبيا دعوتي وسهرنا . أهديتهما حبقاً وياسمينا مما لدي في فسحة صغيرة أمام السكن. وجرت مراسم عملية تسلم وتسليم الفردتين المختطفتين وغادرا بعد أن صار في جيب أبي رمزي القصيدة التالية بالعامية اللبنانية بعنوان "الجنازة حامية والمخطوف شحاطة ":

يا مْدوِّن التاريخ سجِّل هالخَبَر
عَن ْواقعه صارت حقيقة بالخُبَر
لا مْخططنلا .. ولا حسابا حاسبين
بلشِت لوَحْدا تشق بالواقع مَمَرّ
مِن بَعد سهرة مع أحبة طيبين
استأذنتهن ومشيت وببالي صور
عن وفاهن عن صداقة صادقين
عن ناس بحضورن إلو نكهة السمر
ولما وصلت عالبيت وصلة غافلين
عن خطأ صار بدون قصدي بالضرر
شفت أرض الخف بالأجر اليمين
تغير للون البيج .. حَسَّبـتو انقشر
بأمري احترت وبقيت بين شك ويقين
وما كنت إعثر للحقيقة عا أثر
حتى اتصل خيي بو رمزي بعد حين
ووضَّح الغامض للبصيرة والبصر
وعرفت أنو بعهدتي خفُّو الحزين
وأسرى ورهائن صار عَ مَدّ النظر
قـلي يا بو أياد نحنا قاصدين
بصحبة أخي معروف نعقد مؤتمر
رحبت واستنظرت وفد الساهرين
وتصوَّر بهاك الليل شو طاب السهر
بآخر السهرة قال بو رمزي الأمين
يلا يا بو أياد نتبادل نـمـَرْ
وبجو عابق بالحبق والياسمين
هوي استلم "شحاطتو" ورد الـ إلي
وكلمن استرجع فردتو و خَيُّو شكر

جائزة ساخاروف لرموز الربيع العربي

فاز خمسة من ناشطي الربيع العربي بجائزة ساخاروف المرموقة لحرية الفكر، وهم التونسي محمد البوعزيزي، الذي اطلق بانتحاره شرارة الثورة في تونس، والناشطة المصرية اسماء محفوظ، والناشط الليبي المعارض احمد الزبير احمد السنوسي، والمحامية السورية رزان زيتونة، ورسام الكاريكاتور السوري علي فرزات الذي اكد انه يتقاسم الجائزة مع شهداء الحرية، مشددا على انه "مجرد ساعي بريد" مكلف ايصالها الى "الشارع المنتفض".
هذا ما اعلنه البرلمان الاوروبي امس على ان توجه دعوة الى الفائزين لتسلم جوائزهم خلال حفل رسمي في كانون الاول (ديسمبر).
ومحمد البوعزيزي الذي احرق نفسه في 17 كانون الاول (ديسمبر) 2010 في سيدي بوزيد توفي بعد اسبوعين على ذلك، وقد شكل عمله نقطة انطلاق لتحرك شعبي عم البلاد وأدى الى سقوط نظام بن علي.
وفور تلقيه الخبر، اهدى سالم شقيق البوعزيزي هذا التكريم الى "الشعب التونسي". وقال "انا سعيد جدا بهذه الجائزة التي اهديها الى الشعب التونسي الذي صنع الثورة وواصل التعبير عن رايه خلال انتخابات" 23 تشرين الاول (اكتوبر). واعتبر هذا التكريم "اعترافا دوليا بدور محمد البوعزيزي في الثورة التونسية".
اما اسماء محفوظ، فهي من مؤسسي "حركة شباب 6 ابريل" التي اطلقت الدعوة الى التجمع في ساحة التحرير في القاهرة في بداية تحركات شعبية اطاحت الرئيس حسني مبارك.
كما تم تكريم احمد الزبير احمد السنوسي (77 عاما) المنشق الليبي السابق الذي قضى 31 عاما في السجن بسبب معارضته لنظام معمر القذافي.
ومنحت الجائزة ايضا الى رزان زيتونة المحامية السورية المعارضة التي تبلغ من العمر 34 عاما، وعلي فرزات رسام الكاريكاتور الذي تعرض لضرب مبرح على ايدي قوات الامن السورية وكسرت يداه.
وقال فرزات الموجود حاليا في الكويت لتلقي العلاج اثر الاعتداء عليه في اتصال هاتفي، ان "هذه الجائزة ليست فقط لي بل لكل مطالب بالحرية". اضاف ان الجائزة "تجسد معنى الحرية والانسانية كي تتناقلها الاجيال (...) وتمنح الامل بان المستقبل اجمل"، مؤكدا "ما انا الا ساعي بريد اتسلمها (الجائزة) لاوصلها الى الشارع". وقال فرزات "ارفع الجائزة تحية لكل الشهداء الذين بذلوا دماءهم في سبيل الحرية. لقد علمونا ثقافة الحرية وانا ممتن لهم وللشارع المنتفض في سبيل الحصول على الحرية والديموقراطية والكرامة ليس فقط في سوريا وانما في العالم بأسره".
وفي بيان رسمي صادر من باريس، هنأ وزير الخارجية الفرنسي الان جوبيه فرزات والمحامية السورية رزان زيتونة على منحهما جائزة ساخاروف. واثنى على دور فرزات وزيتونة في دعم الديموقراطية في سوريا التي تواجه بأشد انواع القمع. واعتبر ان اختيار البرلمان الاوروبي هذا العام شباب وشابات الثورات العربية في كل من تونس وليبيا ومصر وسوريا هو عربون تضامن واضح من الشعب الاوروبي الذي يقف الى جانب الشعوب العربية التائقة الى مستقبل حر وديموقراطي.

(أ ف ب، "المستقبل")

صباحكم أجمل: بيت لحم.. باب ومجدل وسلام ـ الحلقة الأولى/ زياد جيوسي


منذ الطفولة كان لديّ حلم خفي أن أزور بيت لحم وأجول فيها، ولعل ذلك ارتبط بذاكرة الطفولة حين كنت وأسرتي في رام الله، وانتقل والدي للعمل بشرطة السير الأردنية في بيت لحم، وكنت أسمع أحاديثه عن بيت لحم لوالدتي رحمها الله وأطال بعمر الوالد، فيجتاحني شوق لزيارة هذه المدينة التي اجتاحت روح الطفولة عندي، وأن أجول دروبها وأزقتها وأديرتها، وأتنسم عبق التاريخ، وكثيرة هي الأحلام، ولكن ليس كل حلم يتحقق، واعتدت في حياتي أن الكثير من أحلامي تأتي اللحظة لتحققها، فأتيح لي أن أمر من أطراف بيت لحم مروراً باتجاه الجنوب مرتين لمناسبات اجتماعية، وحين زرت بلدة (جناتا) مع حملة لنا جذور، أتيح لي أن أدخل ساحة المهد لوقت قصير بدون دخول كنيسة المهد أو التجوال، فاعتبرت كل هذه إشارات نحو تحقق الحلم.

وكانت اللحظة حين وجّهت لي دعوة من جمعية الباب الثقافية عبر صديقي الروائي نافز الرفاعي، فلم أتأخر عن تلبية الدعوة التي أتت تحت عنوان مناقشة كتابي (أطياف متمردة) في قاعة مؤسسة المجدل الثقافية يوم الخميس 26أيار2011، وبرفقة صديقة طيبة تكرمت بمرافقتي لبيت لحم وتأمين عودتي منها بسيارتها، كنت أتجه مبكراً إلى بيت لحم، فقد كنت معنياً أن أجول قدر الإمكان فيها ولو لوقت قصير لن يشفي غليلي، وأن أحضر معرضاً للفنانة التشكيلية سمر غطاس، فغادرنا رام الله مارين بجوار القدس التي يحرمها الاحتلال على طيورها، متجهين إلى بلدة (أبو ديس) ومن هناك عبر طريق وادي النار باتجاه مدينة ميلاد المسيح عليه السلام.

من لحظة الصعود من أسفل وادي النار؛ هذا الطريق الصعب والخطر الذي فرضه الاحتلال علينا منذ إغلاق الطريق إلى بيت لحم عبر القدس، كنت أنظر لبلدة العبيدية، وكنت أراها كعروس في أبهى حلتها تركب هودجها، وتفتح ذراعيها للقادمين من رحلة صعبة لترحب بهم وتمنحهم الراحة والأمان، فتمنيت لو أن الوقت يسمح أن أجول عبق التاريخ بها، فهي بلدة تمتد عبر التاريخ، ونالت اسمها من (العبيدي فارس) من أقحاح العشائر العربية، وتضم في جنباتها أديرة من أهم الأديرة مثل دير (مار سابا)، ودير ابن عبيد (دير القديس عطا الله- ثيودسيوس) للروم الأرثوذكس، وحين اقتربنا من هذا الدير همست صديقة الرحلة: أتمنى أن أزور هذا الدير، فكلما جئته وجدته مغلقاً، فقلت لها: توقفي، فلدينا بعض الوقت وسأفتح لك بوابة الدير لنـزوره معاً، ونزلنا من السيارة ودققت جرس البوابة فرد عليّ شخص من الداخل يسأل: من بالباب؟ فقلت له: أنا زياد جيوسي كاتب وإعلامي قادم من رام الله وأرغب بزيارة الدير، فقال أهلاً وسهلاً، وفتح بوابة الدير، ورافقنا في جولة سريعة لأنهم كانوا بانتظار حجيج قادم من روسيا حضروا أثناء وجودنا.

ما أن دخلنا الدير حتى شعرت بعبق التاريخ يفوح بالأرجاء، ويبدأ بالبوح لي عن عظمة الأجداد وتاريخنا، وهمست لنفسي: كم هو مجال فخار لك أن تكون هنا حيث كان سيدنا المسيح عليه السلام وسيدتنا العذراء مريم في الكهف الذي أوت إليه، وأن تتنشق عظمة الأجداد الذين بنوا الدير وجعلوه مكان عبادة ومنارة علم، فالدير بناه القديس عطا الله والملقب (ثيودسيوس) في أواخر القرن الخامس ميلادي ودفن فيه في العام 520 ميلادية، وأما الدير الحالي فقد بني في العام 1900 ميلادية، وقد بني على بقايا الدير القديم الذي ما زالت آثاره قائمة، ومنها الحوض الحجري القديم لمعصرة الزيتون، وقد تجولنا الدير بالكامل، ونزلنا إلى المغارة التاريخية والتي يقال إن سيدتنا مريم أوت إليها مع سيدنا المسيح عليه السلام، والتي كانت بداية إنشاء الدير حين استقر بها القديس عطا الله متعبداً، وقد كانت في الدير مدرسة لاهوت درس فيها البطريرك (صفرونيوس) الذي سلم مفاتيح القدس للخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن ثم غادرنا الدير بعد أن شكرنا بحرارة الشخص الذي استقبلنا بكل ترحاب وخلق، وحين غادرنا همست لصديقتي: ألا ترين كم كان أجدانا عظماء ورائعين؟ فحجم الإصرار لديهم هائل، فالقديس عطا الله أتى إلى هذه العزلة بإيمان وبقعة أرض لم تكن مأهولة، ولا تعيش فيها إلا الوحوش الكاسرة، ولا يحمل بقلبه إلا الإصرار والإيمان، ولا يمتلك من الدنيا شروى نقير، ولكنه أسس الدير وتبعه أجدادنا وعاشوا وتحملوا واضطهدوا وقتلوا من الغزاة، ولكنهم لم يفقدوا الإيمان والصمود، إنهم الرائعون أجدادنا أبناء هذه الأرض وأبناء فلسطين، والآن هذا الدير وكافة الأديرة التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس، العرب الأقحاح وأبناء فلسطين وأحفاد كنعان مستولى عليها من اليونان، فأملاكها وريعها والتبرعات التي تصلها تذهب لليونان، وتخضع لسيطرة كاملة منهم، وما زالت في الذاكرة عملية بيع لأراض للاحتلال الإسرائيلي من قبل بعض القائمين على أملاك الكنيسة الأرثوذكسية، وقد أتيح لي أن أشارك في بعض فعاليات من أجل تحرر الروم الأرثوذكس وأديرتهم وكنائسهم من هذا الاحتلال، فهذه قضية وطنية يجب أن لا نتوقف أبدا عن التضامن والتعاون من أجلها، فالأرض لنا والتاريخ لنا، وهذا الوطن بمساجده وكنائسة وأديرته التاريخية لنا بغض النظر عن الديانة، ويجب أن نكون ونبقى يداً واحدة من أجل تحرر الوطن من كل الاحتلالات.

اتجهنا إلى بيت لحم عبر بلدة بيت ساحور والمعروفة بحقل الرعاة، وهي مدينة قديمة تعود آثارها إلى العصر الحديدي والبرونزي، وقطنها الكنعانيون أجدادنا الأوائل، وعرفت بحقل الرعاة بسبب إقامة الرعاة فيها لرعاية مواشيهم في سهولها، وهم الذين بشروا بولادة سيدنا المسيح عليه السلام من قبل الملائكة كما تورد الديانة المسيحية، بينما اسمها يعود إلى اللغة الآرامية وتعني (بيت ساهور) أي بيت الساهر كون الرعاة كانوا يسهرون بها لرعاية مواشيهم، والبعض يقول إن الاسم مشتق من كلمة (المسحور) نسبة للرعاة الذين سحروا ببشارة الملائكة، وإن كنت أميل للغة الآرامية فهي أم اللغات السامية، فمعظم البلدات التاريخية مشتقة أسماؤها من هذه اللغة، وكان من المفترض أن أزور بيت ساحور قبل أكثر من عام بدعوة من صديقي الشاعر طلعت شعيبات خفيف الظل ثقيل الوزن، ولكن في اليوم المقرر اضطر طلعت للسفر للالتحاق بعمله في الخارج، فأخذ مني وعداً أن لا أزور بيت ساحور وأجولها بقصد الكتابة بدون ضيافته، ولكن لا أعرف كم سألتزم بهذا الوعد بعد أن طال بقاء صديقي طلعت في ظل الغياب، وإن كان هو اعتبر دعوتي لبيت لحم من خلال مؤسسة الباب الثقافية خيانة للوعد، فذكرته أن الوعد ارتبط ببيت ساحور فقط.

وصلنا بيت لحم هذه المدينة الكنعانية الأصيلة، والتي بناها أجدادنا الكنعانيون قبل أكثر من ثلاثة الآف سنة، ويعود اسمها إلى (بيت لخمو) وهو إله الخصب عند الكنعانيين، وفي اللغة الآرامية وردت تحت اسم (عفراتة) بمعنى الأرض الخصبة، وجذور المدينة تعود للعصر الحجري، وقد وردت في رسائل تل العمارنة المصرية في العصر البرونزي المتأخر، ولكنها أخذت أهميتها كونها مهد سيدنا المسيح عليه السلام، فأصبحت قبلة للزوار من كل أنحاء العالم، وأنموذجاً للتعايش العربي الإسلامي والمسيحي، فالدم واحد والتاريخ واحد والأرض واحدة، فجميعنا أحفاد كنعان وأبناء فلسطين هذه الأرض المقدسة، وبيت لحم تشتهر بخصوبة أراضيها وسهولها المحيطة بالمدينة على امتداد أراضي المحافظة، وقد شكلت السياحة فيها مصدر دخل أساسٍ، وتميزت بالمنتجات التقليدية من خشب الزيتون والمطرزات الفلسطينية التي تعود جذورها للكنعانيين.

ما أن وصلنا المدينة حتى اتجهنا فوراً إلى كنيسة المهد، فلا معنى لزيارة مدينة السلام بدون زيارة مهد رسول السلام سيدنا المسيح عليه السلام الفلسطيني الجليلي، وما أن دخلت البوابة حتى همست بنفسي بالسلام وقرأت الآية الكريمة (والسلامُ عَلَىَّ يَوم وُلدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعثُ حيّاً)، وبدأت التجوال تحكمني رهبة المكان وذاكرة الزمان، وشعرت بكل حجر من حجارة المهد يهمس لي بالحكايات ويروي لي حكاية شعب وأرض، فهذا المكان الطاهر مكان مقدس شهد ولادة سيدنا المسيح عليه السلام، وفوق مغارة المهد بنيت كنيسة من أقدم الكنائس في العالم، فقد بنيت على يد الإمبراطورة البيزنطية (القديسة هيلانة) تحقيقاً لرغبة ولدها الإمبراطور قسطنطين الكبير في أوائل القرن الرابع الميلادي ما بين الأعوام 326-339م، بعد اعتناقهم المسيحية وزيارة القديسة هيلانة للمهد كمكان له قدسيته.

أصحو من نومي مبكراً كالعادة على الرغم من أنه يوم جمعة، أجول دروب رام الله القريبة وأعانق الشمس وهي تنـزع عن أكتافها سدل الليل، أتنشق عبق ياسمينات رام الله ومن ثم أعود إلى صومعتي، وذهني يدور في أحداث الأمس وزيارتي لبيت لحم وكنيسة المهد وكل ما رأيته وعايشته، من معرض الفنانة سمر غطاس التي أسرتني بفنها وإبداعها، وصولاً إلى الأمسية الأدبية الرائعة بمشاركة أناس أروع، فأقف إلى نافذتي أروي حوض النعناع وأحواض الزهور، أحتسي وطيفي المشاكس قهوتي الصباحية، وأستمع لشدو فيروز: (يا مغارة كلها بيوت تلمع مثل الياقوت، كيف جبتي عالدار ثلج شرايط وأقمار، مين اللي جاي بعيد عم بيرش مواعيد، يدق بواب الناس و يمشي والخير علينا يزيد).

فأهمس: ما أجملك يا بيت لحم، وما أروع تاريخنا، وحتى التقيكم في الحلقة الثانية من همسات بيت لحم وقصة كنيسة المهد، "أناديكم وأشد علي أياديكم" وأهمس لكم: صباحكم كما الوطن أجمل.

(رام الله، صبيحة الجمعة 27/5/2011)

مع الدكتور نبيه القاسم في كتابه : "مواقف ومواجهات في حال الحركة الثقافية "/ شاكر فريد حسن

صدر حديثاً عن دار الهدى للطباعة والنشر كريم في كفر قرع كتاب "مواقف ومواجهات في حال الحركة الثقافية " للناقد الفلسطيني المعروف نبيه القاسم، المقيم في بلدة الرامة الجليلية،وهو المؤلف الواحد والثلاثون الذي يصدر له حتى الآن.
وكنا عرفنا نبيه القاسم كاتباً وقاصاً وباحثاً وناقداً جاداً ، واحد الناشطين والفاعلين في المجال الثقافي والادبي والجانر النقدي في الداخل الفلسطيني في اراضي العام 1948.
جاء الكتاب في 228صفحة من الحجم المتوسط والورق الاصفر الصقيل، وطباعة انيقة ولافتة ، وهو عبارة عن جهد تجميعي للحوارات والمواجهات الصحفية والمعارك الادبية ، التي جرت بين الكتاب والمبدعين والمثقفين الفلسطينيين حول مختلف الاجندة والقضايا والمسائل الفكرية والثقافية والادبية والسياسية المرتبطة والمتعلقة بحركتنا الثقافية والادبية داخل الحصار . وقد كان لنبيه القاسم حصة الاسد فيها ، ولعب دوراً كبيراً في هذه المعارك والمواجهات، التي شهدتها صحافتنا وادبياتنا في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين الماضي ،وشكل احد اقطابها ومحاورها الرئيسية .
ولا شك ان هذه الحوارات ذات اهمية قصوى ولها قيمة تاريخية وادبية وفكرية وتسجيلية ، وقد تركت اثراً بالغاً على تطور وازدها النهضة الادبية والثقافية الفلسطينية ومدتها بالحيوية والاستمرارية والغزارة .
وهذه المداخلات والمناقشات والمواجهات الحوارية كانت اثارت حينئذ اهتمام القراء وكل المشتغلين والمهتمين بالشأن الثقافي وقضايا الفكر والادب، وقد تميزت – كما يقول القاسم في مقدمة كتابه- بحدة بعضها وقسوة الكلمات وكثرة الاتهامات والتشكيك بالمصداقية والدفاع عن الذات ، لكنها في معظمها حافظت على عمق التناول للقضية المثارة وعلى الابقاء على العلاقة الشخصية والاحترام المتبادل.
وقد نشرت هذه السجالات والمطارحات الادبية في الصحف والادبيات والدوريات الادبية والثقافية الفلسطينية ،التي لا يزال جزء منها يواصل الصدور ، والجزء الآخر احتجب وتوقف ، وهي :"الجديد، الغد، الاتحاد، فصل المقال، كل العرب، الصنارة، صدى الجليل، العربي، الاسوار، الوطن ، جفرا". بالاضافة الى مجلة "البيادر الادبي"المحتجبة التي كان يصدرها الصحفي جاك خزمو في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967.
يوزع نبيه القاسم هذه الحوارات والمواجهات والمواقف ، التي ساهم فيها وانتقاها ، وفق المواضيع التي دارت حولها ، على عدة محاور وهي:
*مركزية الشعراء الاربعة سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران في ترسيخ واستمرارية الحركة الشعرية العربية داخل حدود دولة اسرائيل .
*مواجهات نقدية حول نقده لمؤلفات واصدارات اصدقائه وزملائه الكتاب والشعراء والادباء، المرحوم الشاعر فوزي عبداللـه ، الكاتب فهيم ابو ركن ،القاص جمال بنورة، الشاعر فاروق مواسي، الشاعر شفيق حبيب.
*حوارات ومداخلات حول الادب والسياسة وسياسة الادب وغيرذلك من قضايا مطروحة ، للشعراء والكتاب: المرحوم جورج نجيب خليل، سلمان مصالحة ، ادمون شحاده، وناجي ظاهر.
*مواجهة مع صديقه اللغوي الاستاذ الياس عطاللـه حول الاعتداء والتعدي ومسائل نحوية مختلفة.
ويشير الناقد نبيه القاسم الى ان هذه المواجهات والمعارك الثقافية الحادة والساخنة والصاخبة ، التي شارك فيها العديد من اصحاب الفكر والموقف الادبي النقدي ، كانت تؤدي احياناً الى القطيعة بين المتحاورين ، ولكنها قطيعة الى حين مع احترام الواحد للثاني وتثمين مواقفه ودوره وعطائه. لم يحاول الواحد محو الآخر ، بل ينحصر الجدل والحوار والاختلاف في الموقف والرؤية والغاية ، التي يدعو اليها كل منهما ولا يتعداها الى شخصية الآخر، وخصوصياته الا فيما ندر .
غني عن القول ، ان كتاب "مواقف ومواجهات في حال الحركة الثقافية " للدكتور الناقد نبيه القاسم يستحق القراءة والاهتمام والتقدير ، ويسد فراغاً في مكتبتنا النقدية وسجالنا الثقافي والفكري والادبي ، فهو مرجع هام وجهد فائق مشكور يسجل لحقبة تاريخيه مفصلية، ويلقي الضوء على النقاشات المشحونة والمواجهات الحادة والمعارك الادبية السجالية ، التي اثارت الاهتمام والمتابعة في حينه. انه كتاب يعيدنا الى الزمن الجميل ، لتلك الايام الخصبة الغنية من حياتنا الثقافية وتاريخنا الادبي الربيعي الاخضر ، التي كانت تعج بالحراك الثقافي والحوارات والندوات والمهرجانات والحلقات الادبية والنشاط الادبي المبارك ، وتزهو بمختلف الوان الكتابة الادبية والابداعية ، بعيداً عن المظاهر والقشور والزيف الادبي ، والانا الفارغة ،والضجيج الاعلامي ،وتزخر بالمعارك الثقافية والايديولوجية، التي بتنا نفتقدها اليوم في زمن الفضائيات والانترنت ، وزمن النفاق الثقافي والعهر الادبي .
واننا نتفق مع طرح القاسم الذي جاء في نهاية مقدمة كتابه ، حيث يقول :" املي ان تكون هذه المواقف والمواجهات دافعاً ومحفزاً للكتاب الشباب لتناول القضايا الفكرية والثقافية والادبية في ايام دراسية وندوات دورية لتعميق المعرفة وترسيخ الثقافة وانفتاح للفكر لينطلق بحرية ورغبة ومحبة وشوق ليلتقي ويتلاقح ويغنى مع الحضارات الانسانية كلها".
ختاماً نهنئ الصديق الكاتب الدكتور نبيه القاسم بصدور مؤلفه القيم ، ونشد على يديه متمنين له الحياة والعمر المديد والمزيد من العطاءات والمنجزات البحثية والنقدية لما فيه خير ومستقبل ادبنا وثقافتنا العربية الفلسطينية .

آمال عوّاد رضوان تحاور الباحث والمربّي الموسيقيّ الفلسطينيّ سهيل توفيق رضوان



هل ما زلتَ تقفُ على أطراف البروة القرية الفلسطينية المهجرة والتي حملت شهادة ميلادك، وتنفست مِن ربوعِها طفولتك؟

والدي توفيق وُلد وترعرع في قرية البروة المهجّرة، وفي أواخر الحُكم التركيّ تهرّب من الجنديّة وهاجر إلى جنوب أميركا لمدّة سنتين، ورجعَ إلى قريته بعد انتهاء حُكم الأتراك، حين بدأ الاحتلال البريطانيّ. عمل والدي في الشرطة وتنقّلَ في عمله إلى صفد، ثمّ بيسان حيث وُلدت، ثمّ إلى الناصرة، القدس، حيفا، عكّا ورجوعًا للناصرة، حيث قضيت عهدَ الشباب، وأنهيت الصّف الثاني ثانويّ، وانتخبتُ للتعلم في الكليّة الرّشيديّة في القدس في آخِر سنة للانتداب، وقبل الحرب بين العرب واليهود عام 1948، والتي أدّت إلى احتلال البلاد على يد جيش الهجناة الدّفاع.

*سهيل رضوان الذي عايشت طفولته عام 1948، ماذا حملَ مِن بروة المقاومة، وإلى أيّ مدى ساهمت البروة كإحدى القرى المهجرة في صقل شخصيّته كإنسان وموسيقار؟

لا أزالُ أذكرُ قريتي البروة التي كنت أقضي فيها الإجازاتُ والعُطلة الصّيفيّة، وأذكر الحارات والدّار التي كان يسكنها جدّي رضوان وبقيّة العائلة، ولا أزالُ أذكر أرض "عويص" الواسعة التي كان يملكها جدّي وفيها جميع أنواع الفاكهة والخضار، ولا أنسى كذلك أرض الموارس والمقاتي المليئة بالخضار والخرّوش والبطيخ، وفي مخيلتي بيت جدّي في الطابق الأوّل حيث يتواجدُ الطّرش من الأغنام، وكنّا ننامُ في الطابق الثاني حيث كنا نصعد على سلّم خشبيّ. إنّني لا زلت أشعر بالانتماء والاعتزاز والحنين إلى قريتي البروة وناسها وحاراتها والطفولة، وأقوم بزيارة البروة بين الحين والآخر، خاصّة في "يوم ذكرى استقلال إسرائيل"، لأقفَ على أطلال الذكريات والحارات، وعلى أنقاض الكنيسة التي هُدّمت بالكامل قبل عشرة أعوام تقريبًا، حيث حُوّلت أرضُها إلى مزبلة لروْث البقر، لحظائر البقر المجاورة.

*ما دلالة "سَكَس" العائلة تاريخيّا؟ ولمَ انشققتَ عن اسم العائلة المتعارَف عليه؟

كنية عائلتي الأصليّة سَكَس، ولكن عندَ إصدار الهُويّات الإسرائيليّة سجّلت اسم عائلتي رضوان، على اسم جدّي رضوان الذي تشبّث بأرضِهِ في البروة، ولم يغادرها هو وبعض المسنّين بعد دخول جيش الهجناة اليهوديّ، وبعد تدمير بيوت القرية، وقد مات في أرضِهِ بعدَ فترة وجيزة، ولم نعرف كيف مات أو بأيّة ظروف مات أو قُتل، والأمرُّ أنّنا لم نتمكّن مِن تسلّم جثّته، او معرفة المكان الذي دُفن فيه!

*سهيل رضوان من روّاد الموسيقا العربيّة في فلسطين.. كيف كانت بداياتك مع الفنّ؟

منذ احتلال الناصرة وإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، كنت في وضعٍ غير مستقرّ كسائر أبناء جيلي في فلسطين، إذ لم أُنْهِ دراستي الثانويّة لأخذ شهادة المتركوليشن، ولكن حبّي للدّراسة العالية دفعني للانضمام إلى الصّفوف الخاصّة، تحضيرًا لشهادة المتركوليشن الأخيرة، عن طريق المعهد البريطانيّ في الناصرة، وحصلت على الشهادة عام 1951.

عام 1952 انضممت إلى جوقة الطليعة في الناصرة التي أسّستها حركة الشبيبة الشيوعيّة، وأمضيت فيها سنتين، فتوطدت بيني وبين مدير الجوقة ميشيل ديرملكنيان علاقة وطيدة، وتحمّستُ لدراسة الموسيقا عنده، ومن ثمّ عند أساتذة متخصّصين في حيفا.

تعيّنت كأوّل مُعلّم للموسيقا في مدارس الناصرة الابتدائيّة، وفي الأعوام 1953- 1954 التحقت بسيمينار الكيبوتسيم في قريات عمال، وحصلت على دبلوم معلّم موسيقا مؤهَّل!

* دوْرُكَ مشهودٌ له تاريخيًّا وفنيًّا في الحركة الموسيقيّة الفلسطينيّة، وقد شاركتَ بتأسيس العديد من الفِرق الموسيقيّة والجوقات الكنسيّة، فما هي الدّوافع لانطلاقاتك الفنيّة، والتي أثرت بشكلٍ إيجابيّ فاعلٍ في بناء أجيال وأجيال موسيقيًّا؟

الحسّ الموسيقيّ المُرهف والتذوّق الجماليّ للموسيقا وثقافتي الموسيقيّة دفعوا بي في أواخر الخمسينيّات لإقامة جوقة كنسيّة في كنيسة مار يوحنّا في حيفا لمدّة سنتين، ثمّ انتقلت وأقمت جوقة كنسيّة أخرى في الكنيسة الأرثوذكسيّة في حيفا، بناءً على طلب كاهن الطائفة المرحوم قُدس الأب جورج حرب، وبطبيعة عملي في مدارس الناصرة وحبّي لبلدي ولأهلها أقمتُ جوقاتٍ مدرسيّةً بمستوى جيّد، أهّلتنا أن نحصلَ كلّ سنة على شهادات تقدير في مهرجانات الجوقات المناطقيّة والقطريّة.

*ما هو وجه الشبه بين الباحث في الموسيقا والباحث عن الحقيقة، وما الذي دفعك إلى مشروعِكَ الضخم، والاعتكاف على تجميع الزجل الشعبيّ والأغاني الشعبيّة منذ سنين؟

في السنوات ما بين 1956 – 1961 عملت كمساعد في الأبحاث الموسيقيّة في قسم الموسيقا الإلكترونيّة في الجامعة العبريّة في القدس، وكان لدراستي الموسيقيّة فضلٌ في تنمية وعيي إلى أهمّيّة التّراث في حضارة الشّعب الفلسطينيّ، وتنمية حسّي الوطنيّ وشعوري بالمسؤولية تجاه بلدي ووطني، وخوفًا من اندثار ما تبقّى من تراث موسيقيّ شعبيّ لذا توجّهت لهذا المشروع، وتمكّنت من جمع المئات من الأزجال الشّعبيّة من عدّة قرى في البلاد.

ما هي المُعيقات التي واجهتها في لملمة التراث الفنّيّ الفلسطينيّ الموسيقيّ بدقائقِهِ وتفاصيلِهِ؟

من ناحية كان الوضع في السّتينيّات أسهل في البحث، لأنّ العدد المتوفّر ممّن أفادوا البحث من فنانين وزجّالين من الرّجال والنساء في ذاك الجيل القديم كان كبيرًا ومتوفرًا بكثرة من كبار السّنّ، فتمكنت خلال أربع سنوات متواصلة من الحصول على تسجيلات صوتيّة لساعات طويلة لفنانين وزجّالين ومغنيين شعبيّين قبل أن توافيهم المنيّة وهُم كُثر، وذلك بفضل آلة التسجيل الحديثة والنّادرة التي اقتنيتها في ذاك الحين خصّيصًا لهذا المشروع، ولا زلت أحتفظ بكامل هذا الإرث الكبير النادر وهذه التسجيلات الصّوتيّة التي تجاوزت الخمس ساعات، مُرفقة بالغناء القديم الحقيقيّ، فالعمل اليوم جاهز يحتوي على كتاب للأغاني المكتوبة وتسجيلات صوتيّة.

وما ساهمَ في نجاح هذا المشروع هو نقاء القرى وعاداتها القديمة، التي كانت لا تزال قائمة في الأفراح والأتراح والمناسبات ومجالات الحياة المختلفة، إذ كان القديم يعتمدُ على الزّجل والفنّ الشعبيّ، بينما اليوم فقد تغيّرت العادات والتقاليد الفنيّة، وقلّ عدد الزجالين وفناني التراث الشعبيّ، وصار أغلبيّة الجمهور مع الموسيقا الحديثة الصّاخبة.

من ناحية أخرى كانت صعوبات جمّة في البحث تحتاج إلى مغامرة ومثابرة، لأنّ القرى كانت بعيدة والوصول إليها كانَ صعبًا، بسبب عدم توفّر السّيّارات ووسائل النقل كاليوم، وكان التنقل والوصول إلى تلك القرى في الحكم العسكري يتمّ فقط بتصريح من الحاكم العسكريّ بين القرى النائية، ولكن ورغم كلّ الصّعوبات كانت القرى بأصالتها وزخمها التراثيّ تستقطبني إلى أهلها المُرحِّبين والمُتعاونين المتفاعلين مع بحثي حينذاك لمتابعة المشوار، فلم تكن كالمدن والمراكز المدنيّة التي تعرّضت للحداثة وللتعديلات الفنيّة، وكلّما كانت القرية تبعُد أكثر عن المدينة كان التراث أبعد عن التأثر بالموسيقا الحديثة، كذلك في السّتينيّات كان التراث الموسيقيّ متوفّرًا بشكل زخم وكبير، يتماشى بخط موازٍ مع الحالة الوطنيّة والنّضاليّة والشعبيّة آنذاك.

كان الدّافع الأساسيّ في بلورة فكرة هذا البحث هو دراستي الجامعيّة، كأطروحة لرسالة الدكتوراه، ولكن للأسف الظروف لم تواتيني، ولم تسمح لي في إكمال دراستي وإتمام طموحي في هذا المشروع الثراثيّ، الذي بقي في طيّات دُرجي حتى اليوم، لأنّ الناحية المادّيّة وقفت عائقًا أمام إصدار هذا العمل التراثي الكبير، فالتكلفة حوالي عشرين ألف دولار، وقد توجّهت للسّلطة الفلسطينيّة عن طريق جمعيّة قطان وجمعيّة تعاون لدعم هذا العمل، ولكن للأسف اعتذروا ولم يدعموا، كذلك توجّهت لجمعية التعاون في القدس وطلبت دعم الفرقة العربيّة الموسيقيّة وأيضًا رفضوا، لأنّهم يُخصّصون الدّعم لمنطقة القدس نفسها، وبالرّغم من هذا الطرْق للجهات البعيدة والقرع على أبواب المساندات والدّعم لم تُفتح لنا الأبواب، ممّا زوّدني هذا بالإحباط، لأجد أنّنا عرب فلسطين المرابضين على جذور أرض الوطن، لا زلنا نعاني من حصْرِنا في المناطقيّة وحصارِنا في المَحليّة التي لا يمكننا الخروج منها، إلا بدعم أشقّائنا في الضّفة الأخرى من فلسطين ومن عالمنا العربيَّ،

والغريب ومن سخرية الأقدار، أنّي توجّهتُ بالتالي لطرق باب مركز الكتّاب والمكتبات الإسرائيلي، وقد فوجئت بموافقة لجنة دعم المؤلفات العربيّة عليه، ووافقت على شراء عدد من الكتب وتوزيعها في المكتبات العامّة المحليّة، ليظلّ المشروع رهين المحليّة وحبيس الداخل؟!

*لماذا بقي الفن الفلسطينيّ محصورًا بالتقليد المحلي، رغم أنّ المخزون الفلسطينيّ مليء بالحكايا والأحداث القادرة على تفجير المواهب؟

السّبب أننا محرومون من الوصول إلى العالم العربيّ. مثلاً على سبيل المثال، فقد اشتركت بالأبحاث في مصر أربع مرّات، ليس كممثّل عن عرب فلسطين الدّاخل، بل تحت بند فلسطين، وبإلغاء كامل لوجودنا كعرب في "إسرائيل"!

لماذا يتهرّبون من التعاون معنا كعرب 48؟ هذا الأمر غير واقعيّ أبدًا، لأنّنا استطعنا أن نتشبّث في أرضنا رغم المصاعب، فلماذا لا يُعترَف بنا كفلسطينيّي 48 وككيان وحضور قائم ومناضل؟

النقطة الثانية أنّ عملنا ككتّاب ومبدعين وفنانين وعلميّين ومثقفين نظلّ في قوقعة مُبعَدة عن العالم العربيّ، وتظلّ أعمالنا وإنجازاتنا وإبداعاتنا محصورة محلّيًّا، لا يكاد يُغطي تكاليفها السّوق المحليّة الضّعيفة، فعلى سبيل المثال أيضًا قمت بعمل جبّار، بتدوين الكتب الموسيقية المنوّتة، لكن لم يُسوّق الكتاب عربيًّا، وهذا العمل المُضني لم يُغطِّ تكاليفه!

*هل لمست بمرحلة من المراحل أننا أمام نهضة فنيّة؟

نعم.. إيماني بالفنّ والموسيقا وبرسالتي الموسيقيّة دفعني في السنوات ما بين 1962- 1974 إلى إقامة قسمٍ للموسيقا العربيّة في معهد روبين للموسيقا في حيفا، حيث تخرّجَ من هذه النواة الموسيقيّة العربيّة أكثرَ من خمسين طالبًا، انضمّ غالبيّتهم لاحقًا لسلك التعليم كمعلّمين مختصّين للموسيقا، ومُساهمين في رفع شأن الموسيقا في البلاد.

عام 1966 عُيّنتُ مفتّشًا للموسيقا في المدارس العربيّة، حيث قمت بإجراء قفزةٍ نوعيّة في الثنائيّة الموسيقيّة في البلاد، وأجريتُ عدّة دوراتٍ موسيقيّة للتأهيل، وأصدرت كتبًا لمجموعة أناشيد مدرسيّة من ألحاني الخاصّة أو بألحان شعبيّة.

عام 1968 حصلت على شهادة B.A من جامعة حيفا التي كانت تتبع لجامعة القدس، وذلك في اللغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة، وعام 1976 حصلت على شهادة الماجستير من جامعة القدس، وحتّى نهاية السّبعينيّات تمكّنت من توجيه أكثر من خمسين مُعلّم موسيقا، وُزّعوا في أكثر من مئة مدرسة عربيّة في البلاد.

في الأعوام 1972 -1984 قمت بإنتاج برامج موسيقيّة في التلفزيون الإسرائيلي، بِدءًا مِن البرنامج الموسيقي "من أجوائِنا الغنائيّة"، التي شملت برامج زجليّة متنوّعة، ثمّ برنامج "مِن ليالينا"، والذي شمل أغاني شعبيّة وأدوارًا ومواويلَ منوّعة ومواويلَ نصراويّة، وكان المشتركان الرّئيسيّان لهذا البرنامج هما الفنانيْن موشيه إلياهو وخليل موراني، ثمّ أنتجتُ برنامجًا "من ألحانِنا المَحلّيّة"، لدعم وإنتاج المُلحّنين والمُغنيين المَحلّيين، وأخيرًا عام 1980 قدّمت برنامج "الموشّحات"، والذي أشرف عليه الموسيقيّ المعروف زكي سرور.

في سنوات الثمانينيّات كانت قفزة نوعيّة ثانية، تمّت بعد فتح فرع موسيقيّ لصفوف الموسيقا في دار المعلمين في حيفا، والتي كنت أديرها، وقد تخرّج منها أكثر من ثلاثين خرّيجًا بدرجة معلّم مؤهّل كبير، والذي أضاف كادرًا شبابيًّا جديدًا إلى مُعلّمي الموسيقا في البلاد، وساعد على إثراء التربية والثقافة الموسيقيّة في المجتمع العربيّ!

*قلت في أحد حواراتك أنّ "الموسيقا كانت بنظر الفرس أدبًا، وبنظر الرّوم فلسفة، أمّا بنظر العرب فأصبحت عِلمًا"، فهل ما زلت تؤمن بهذه النظرة، رغم هذا الاجتياح الهائل من الفنّ الهابط؟

صحيح أنّ قسمًا من الجيل الحديث آخذٌ في التّوجّه للموسيقا الشّبابيّة الحديثة الصّاخبة سريعة الإيقاع الرّاقصة، وهذا ما يلاحظه معلمو الموسيقا، ولكن بما أنّني قمت بواجبي نحو مجتمعنا العربيّ، وساهمتُ بوضع حجر الأساس للتربية والثقافة الموسيقيّة وتأهيل معلّمي موسيقا وكادر من الفنانين الأصيلين، كما أصدرت في الثمانينيات كتاب تربويّ للمدارس العربيّة بعنوان "كلمة ونغم"، ترجم إلى العبريّة أيضًا، من هنا أرجع وأعود إلى المقولة التي أشرت إليها في عدّة مقالات، "أنّ النظرة إلى الموسيقا العربيّة الرّاقية أصبحت عِلمًا كما كانت أيّام العبّاسيّين".

بعد هذا المشوار الفنيّ والمسيرة الحافلة بالعطاء بالفنّ الأصيل.. كيف ترى التطوّر الفنّيّ في البلاد؟

بدأ الأهالي في توجيه إبنائهم إلى تعلّم الموسيقا ممّا يدلّ على بوادر الاهتمام بالموسيقا كثقافة، وتغيّرت النظرة نحو الموسيقا وتطوّرت وارتقت باهتمام ملموس، وفي معظم القرى هناك أكثر من خمسين مُعلّم مختصّين بالموسيقا، والذين بدؤوا بإثراء الثقافة الموسيقيّة في المدارس، وكثرت المعاهد الموسيقيّة والمؤسّسات في القرى وليس فقط في المدن، وفي القدس هناك أكاديميّة للموسيقا العربيّة تخرّج عازفين مختصين على اللآت الشرقية، وهناك فرع ميوزيك ثرابي في جامعة حيفا؛ أي موسيقا للعلاج عن طريق الموسيقا، وقد بدأت بهذا النوع من الموسيقا العلاجي الفنانة كيتي جرجورة النّصراويّة، ولديها جوقة غنائيّة باسم "عود الندّ".

*هل استطعتَ عبْر فرقة الموسيقا العربيّة أن تحقّق طموحَكَ الإنسانيّ والفنّيّ والوطنيّ؟

من ناحية إنسانيّة وطنيّة هناك شعور براحة نفسيّةٍ وشخصيّة تجاهَ البلد والوطن، إذ ساهمتُ في وضع المدماك الفنيّ الأصيل ودعم النّشاطات الموسيقيّة الإيجابيّة محلّيًّا، ولكن على صعيد العالم العربيّ، فلا زال يُراودني شعورٌ بالإحباط من تعامل الدّول العربيّة مع عرب 48 من فنانين ومبدعين ومثقفين، ومِثلي مثل سائر أهل بلدي المبدعين، لم أحصل على الاعتراف بكينونتي وحضوري وإبداعي ووجودي كعربيّ، ولم تتجسّد مكانتي الحقيقيّة عربيّا، رغم أنّ فرقة الموسيقا العربيّة لها مكانتها الرّاقية، وهي الفرقة المهنيّة والتي ظهرت في دول أوروبيّة عديدة، وحتى أنّ اليهودَ الشرقيّين في بلادنا يعيشون مِن خلال عروض فرقة الموسيقا العربيّة حالة نوستالجيا، لأنّ الفرقة تتحدّث عن فنّاني العالم العربيّ، وتُعطيهم حقّهم في تاريخهم الفنيّ.

لقد كان الفن في الأربعينيّات والخمسينيّات في مصر في ذروته، حيث كُتبت روائع القصائد الغنائيّة لكبار الشعراء، والتي غناها عبد الوهاب، أسمهان، أم كلثوم، فريد الأطرش، وردة الجزائرية، عبد الحليم حافظ، نجاة الصغيرة، ليلى مراد وإلخ..

أمّا في لبنان فقد بدأت نهضة موسيقيّة كلاسيكيّة في الخمسينيّات، بدءًا من الحركة الكلاسيكيّة ومهرجانات بعلبك، حيث انطلق المبدعون والمبدعات مثل فيروز، صباح، وديع الصافي، زكي ناصيف، ماجدة الرّومي، ومدرسة الرّحابنة التي حاولت إرضاء الذوق الشّرقيّ بترجمة الألحان الغربيّة بروح شرقيّة، وبأجواءٍ حميميّة تتغنّى بالوطن والرّيف والضّيعة والشّجرة والأرض والجَمال.

لكن في الثمانينيات بدأت الموسيقا العربيّة تبتعد عن أصالتها وتنحرف عن مسارها الفنيّ الأصيل، وعَمّ تلحين كلماتٍ مبتذلةٍ وسطحيّة، بدلاً من الكلمة والقصائد التي كان لها وزنها وإبداعها وشعراؤها، والتي كانت تمثل لغة شعبيّة وفصيحة راقية، وصارت المادّة هي الدّافع اعتمادًا على الأغنية المرئيّة في عروضها وحركاتها ولباسها وإغرائها، وتحوّلت الأغاني الحيّة والمسموعة من التذوّق السّمعي والتسجيلات الصّوتيّة والسّيديهات إلى تسجيل الصّورة والحركة، وغزا الفيديو كليب المبتذل عين الوطن العربيّ، بدلاً مِن أن يُغذّي أذنه الذوقيّة السّماعيّة بالفنّ الأصيل الرّاقي.

ما أعتزّ به أنّ فرقة الموسيقا العربيّة تحافظ على أصالتها منذ عام 1990، من ناحية تركيبها بآلاتها الوترية وآلات الإيقاع والناي الشرقيّة كآلة نفخ، وتتجنّب الآلات الغربية مثل الجيتار والبيانو والاكورديون وغيرها، كي تحافظ على الرّوح الشّرقيّة التي تؤدّي الموسيقا الشرقيّة دون تشويه وتزوير!

*هل انحسارُ دوْر الفِرق والجوقات الفنيّة في عروض دوريّة ورسميّة نابعٌ من وجود هوّة بين الجمهور وهذه الفرق، أم أنّ هناك عوامل أخرى جعلت مِن الفِرق حبيسة أمكنتها؟ وكيف تفسّر نجاح المطربين الهواة على حساب الفِرَق والجوقات الفنيّة؟

الجوقات والفِرق الرّسميّة تحتاجُ إلى معاملات وأوراق رسميّة في المؤسّسات الحكوميّة، وتتطلب مصاريف وتكاليف ينبغي تغطيتها من أجل أن تستمرّ، ولكن بما أنّ الأعمال الفنيّة الرّاقية لا تُدرّ مدخولاً وافرًا على الفِرق الموسيقية والجوقات والفنّانين، وكذلك جمهورُ الحفلات الموسيقيّة يكون قليلاً نسبيّا، بسبب الضغوطات الماديّة والانشغالات الحياتيّة اليوميّة، وبسبب تدنّي التذوّق الفنّيّ والتوجّه للرّقص، وليس للتعمّق النّفسيّ الذي يُقوّي شخصيّة ومفاهيم وخيال الإنسان الإبداعيّ، فعمليًّا يلجأ الفنانون للأعراس التي تستقطب جمهورًا يُجامل أهل الفرح والواجب، وكذلك أكثر مدخول الفنانين في بلادنا اليوم الذي نأسف له هو من الأعراس والأفراح والمناسبات، رغمَ أنّ أجواءَ الأفراح لا تدعم الإبداع والتذوّق الحقيقيّ للموسيقا العربيّة، بل تعتمد على الإيقاع والضجّة والصّراخ والأصوات القويّة للسّماعات، ممّا يُساهم في تشويه اللّحن وتدَنّي الذّوق الموسيقيّ العامّ.