عدد جديد من مجلة الشعر

صدر عدد جديد من مجلة الشعر الفصلية التى تصدر عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون، احتوى العدد على ثلاثة ملفات : الملف الأول يتناول تجربة الشاعر محمد فريد أبوسعدة بعنوان "سيرة ذاتية لملاك" وتقرأ فيه: أبو سعدة: لا شعر بدون أسئلة.. ولا أسئلة بدون وعى، حاوره: أشرف عويس، وإشكالية الجنس الأدبي وسيميائية النص لمحمد فكرى الجزار، ومقاربةٌ أوليّةٌ فى «ذاكرة الوعل» لهدية الأيوبى، وعندما ترتفع الهارمونيكا لمحمد طلبة الغريب، ومختارات شعرية لفريد أبو سعدة. والملف أعده: أشرف عويس.

أما الملف الثانى فهو ملف نقدى وحمل عنوان:"الشعر الثورى" وتقرأ فيه:التواصل الثقافى والخطاب الثوري فى الإبداع الشعرى لمحمود الضبع، وقراءة نقدية لثلاث تجارب شعرية لصابر عبد الدايم، وشعر الثورة .. ثورة الشعر لمصطفى الضبع، والشعر وإرادة العـود الأبـدي لسعيد الفـراع، وفُحولة الحَرْف الرّمْزيّ والثّورات العربيّة لحياة الخياري.

أما الملف الثالث فتقرأ فيه قصائد من القارة السمراء حيث يقدم ويترجم الحسين خضيرى مختارات من ديوان الشعر الإفريقى المعاصر ويضم مختارات للشعراء: أوليفر بامارا (نيجيريا)، بادمور أجبمابيس -ديلا بوبوبى (غانا)، جيدون بور - هيلين ماسيدو موامبى (كينيا)، بيتر هورن (جنوب إفريقيا)، مونيكا كرومهوت (زيمبابوى)، راس ناس أكا - زهرة حسن على فازال (تنزانيا)، جى. إن. يو (رواندا)، سوزان كيجولى (أوغندا)، كارى يانج (مالى)، مولو سليمان - كيفل بنتاييهو - سيجاي جبر ميدهين (إثيوبيا).

كما تنشر مجلة الشعر ديوانا كاملا للشاعر عبد الرحيم طايع الذى يقدم فيه خمسة وتسعين مربعا شعريا كتبها منذ بدء ثورة 25 يناير، بعنوان :"روايح فُل تحريرها".

أما باب النصوص فحفل بقصائد: أفـاعٍ مُلوَّنـة لعماد غزالي، وفي مديح النسيان لعاطف عبد العزيز، والوجه ذو السن الباسم لعبدالحكم العلامى، وسكبتُ في التراب دواءك لمهدي بندق، وصوت العصافير لمحمد عبدالستار الدش، ومنكِ وإليك لعيد صالح، وغازات ضاحكة لشريف الشافعي، وبنات قرغيزيا لمحمود قرني، والدّيكْتَاتُور... كَانَ هُنَاك لعبدالحق بن رحمون، وقصائد لأحمد خالد، ودمشق لسمر علوش، ولا تعجل عليهم بالبحار لكمال علي مهدي، وصدفةٌ.. تمطرُ بنتًا بغمازتين لمحمود مغربى، وأَلَمٌ داكنٌ يَرتَعِدُ ببراءة! لأحمد كمال زكي، ومحاكمة عاطفية لمحمود عبد الصمد زكريا، ومزرعة بيوخْرة لمصطفى معاذ، وماريونيتي أنا لرانيا مسعود، وميكانيكا لعبد الرحمن مقلد، وتصطاد الشياطين لسمير درويش، وألوان نيلية لرمضان عبداللاه إبراهيم، وجسيكا لمحمد بديوي، وانفصال لفاطمة الزهراء فلا، وإِنَّ الَّـذي لَملَمتَهُ سَقَطَ لمحمد محمد عيسى، ومـا بيـنَ بـيـني مـيـتٌ لأحمد المقدم، ومَعْزُوفَةٌ صَغِيرَةٌ لنَسِيمَة الرَّاوِي، وقصيدتان لدعاء زياد، ورحلة لمحمد منصور.

وفى أسئلة الشعر عمر شهريار يحاور علاء خالد الذى قال: المستقبل للسرد الشعرى.

وفى باب القراءات النقدية دراستان: رحـلة فـى عــالم الذات لرجاء على، و زهرة النار بين الحب والأسطورة لحاتم عبدالهادى.

وفى ديوان العامية تقرأ: قصيدتان لخالد حنفي، وتوبة التمثال لخالد أمين، ونقطة.. ومن أول يناير لمحمد إبراهيم فرغلى، وصرخة مصرية لمحمود عبد الحليم، وحـــالة لعلاء عبد السميع، وفي بيـتي لطاهر جـلال الدين، وآخر اغنيه حزينه لعلى حمدان، وعيارين في الهوا لعبيد طربوش، ومابحبكيش لبكرى عبد الحميد.

وفى زاويته قلم الضيف يكتب أحــمد المريخـى قصيدة بعنوان:"مُلصقات العابر".

وفى خارج السرب يكتب فـــارس خــضر عن ظاهرة "الشبيحة" فى الشعر المصرى...!

واحتل الغلاف الأخير للشعر قصيدة للشاعر"مصباح المهدى".

يذكر أن هيئة تحرير مجلة الشعر مكونة من الشعراء "فارس خضر" رئيسا للتحرير، و"عبد الناصر عيسوى" مديرا للتحرير، و"أحمد المريخى" سكرتيرا للتحرير. والمدير الفني للمجلة الفنان والمخرج الصحفي مدحت عبد السميع والغلاف والإخراج الداخلي للفنانة هند سمير، ولوحة الغلاف واللوحات الداخلية إهداء من الفنان السورى "عايش طحيمر" والتنفيذ لحسام عنتر. ويرأس مجلس الإدارة "د. ثروت مكى" رئيس مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون.

رجب عبد العزيز يكتب عن المبدعين-2-: ميمي قدري- كل عام والإبداع بخير

اليوم سيكتب القلم عن شخصية تملك كل نواحي الإبداع إنها المبدعة الراقية ميمي قدري والذي وقفنا أمامها كثيرا عندما اشتركت في مسابقة القلم الحر للإبداع العربي – فعندما قرأنا مشاركتها تعجبنا كثيرا من كل حرف خطه قلمها من إبداع- وكنا لا نعرفها وعندما تحدثنا معها أنا وزملائي فمنذ الوهلة الأولى تيقنا إننا إمام مبدعة من مبدعين الزمن الجميل لأنها جمعت بشخصيتها كل نواحي الإبداع فالإبداع ليس حرف يكتب بحرفة ولكن الإبداع عندي هو إن تكون مبدع في كل شي بداية من احترام النفس واحترام الآخرين مرورا بالثقافة والمعرفة في كل شي حتى نأتي إلى إبداع الحر وعندما تكتب ميمي قدري فتكتب بإحساس وهذا هو قمة الإبداع لأنها تكتب بصدق من قلبها فتدخل حروفها القلوب دون استئذان – أنها ميمي قدري والتي حصلت على درع مهرجان القلم الحر للإبداع العربي عن استحقاق- واليوم نحتفل جميعا بيوم مولدها وكما قلت لها إثناء المهرجان إن العالم العربي سيشهد مولد مبدعة فلا تفرطي في الفرصة لان كل خوفي كما حدث مع كثير من المبدعين ينشغلون بأمور أخرى ويفرطون في موهبة الله عز وجل- واكرر النصيحة ألان حافظي على موهبة الله وغدا ستتذكر كلمتي فمع الأيام سيكتشف العالم مولد مبدعة من مبدعين الزمن الجميل- احترام+رقى+مشاعر جميلة لكل من حولها+حرف متمكن بحرفية عالية+ثقافة عالية= إبداع - فكل عام وحضرتك بخير وعيد ميلاد سعيد وتبدعينا بمعاني جميلة يا صاحبة ارق وأجمل كل المعاني-
خالص تحياتي واحترامي- القلم الحر

وإنه لمن الدينار/ أحمد ختاوي


قصة/الجزائر

حصريا على قناة الدينار جاء يسعى متثاقلا يسترقي أهل الدار ، الجو كان حارا في النهار فاترا بالليل ،تقدم من عون الإدارة ، سأله عما إذا كان بحوزته دينار من الشرك وآخر من الربا والثالث من الحسنات والصدقات ، أجابه العون بأن لا حاجة له بهذا السؤال حتى يسترشد زملاءه.

عاد إليه بعد فجر الغد وفي يده مشكاة يوم بلا فجر وآخر بلا ظل ،وثالث بلا ضحى ،وأخرى بلا بحر ، رمقه العون يرتعد من شدة البرد ، أدخله غرفة بطابق سفلى كانت تتلظى ,,,

خرج العون بسرعة حتى لا يرتطم باللظى... تركه بمدخل الدهليز ، استوقفه عون آخر

إلى أين ؟

هم الذين قادوني إلى هنا ، جئت استرقي أهل الدار, فيما هو على هذه الحال حتى جاءه رجل غليظ ،مناكبه كانت تبدو له عرض السموات والأرض

طرحه أرضا : تلمس بطنه كما يجس الطبيب سقم مرضاه

قال الذي فحصه : دعوه يموت بين أهله وذويه ، مرضه عسير ، بطنه مملوء سحتا ،

وإنه لمن الدينار ،،،

وقد يكون من أكلة الدينار ،،،، لا شفاء له إلا شفاء لا يغادر سقمه.

صباحكم أجمل/ اللبن الشرقية أحلام حمامة بيضاء (الحلقة الأولى)/ زياد جيوسي


اللبن الشرقية بعدسة: زياد جيوسي
احلام حمامة بيضاء توشح ريشها بحصاد القمح الذهبي، هكذا كنت أصف بلدة (الِلبن الشرقية) حين مروري من جوارها مغادراً رام الله باتجاه بلدات فلسطين ومدنها شمال الضّفة الغربية للنهر المقدس أو عائداً إليها، وفي كل مرة مررت بجوار اللِبن الشرقية كانت تشدني مروج القثاء (المقاثي) وبيادر القمح لأنظر إليها من نافذة السيارة التي أركبها، وأنظر إلى تلك البيوت التي تعتلي سفوح التلال من البعيد، لكن لم يسمح الظرف أن أدخل البلدة أو أجول فيها ولا مرة، فكنت أكتفي بالنظر بشوق لهذه الحمامة البيضاء البهية، حتى كان ذلك اليوم الذي وجهت لي الدعوة لزيارة اللبن الشرقية من قِبل رئيس مجلسها البلدي الأخ جمال ضراغمة (أبو علاء)، وكان قد اطلع عبر وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية، على بعض من سلسلة (صباحكم أجمل) التي أكتبها منذ سنوات طويلة، والتي توثق المكان والزمان والتراث بالكلمة والصورة، فدفعته غيرته ومحبته لبلدته للاتصال بي ودعوتي لزيارة البلدة، فحقق رغبة كامنة في روحي تنتظر لحظة الانطلاق.

وافقت على الدعوة، ولكني طلبت التأجيل قليلاً حتى أتمكن من إنجاز دعوات أخرى كنت قد ارتبطت بها في رحاب الوطن الجميل، حتى جاء يوم الثلاثاء/ الحادي والعشرون من حزيران، حيث لبيت الدعوة بفرح، وغادرت رام الله صباحاً هامساً لها: لن أتأخر فسأعود في المساء فلا تقلقي، وأعدك أني لن أغيب عدة أيام كما اعتدت في جولاتي الأخيرة، فابتسمت وودعتني بكل حنو وحب.

ما أن اقتربت السيارة التي ركبت بها من مشارف اللِبن حتى اتصلت بصديقي عبد الحليم ضراغمة أعلمه باقترابي، فوجدته ينتظرني على بوابة البلدة، فنـزلت من السيارة وسلمنا على بعضنا بحرارة، وركبت بسيارته ولم أترك الفرصة تفوتني بالتقاط الصور لمدخل البلدة والجمال، لنتجه معاً إلى المجلس البلدي للقاء رئيس المجلس الذي استقبلني بحرارة وطيبة وبشاشة وجه تدل على خلق طيب، وما أن وصلت حتى حضر الأخ عبد الجبار ضراغمة (أبو خالد) شقيق أصدقائي عبد الرحيم وعبد الحليم، مرحباً ومصرّاً على دعوتنا جميعاً للغداء، فشكرته بمحبة فقد أصر بكرم وأصالة الأخ رئيس المجلس على الغداء عنده لجميع الحضور من قبل أن أصل البلدة، وحضر الأستاذ حامد الهندي وكان لقاءً طيبًا فاحتسينا القهوة لنبدأ الجولة في الِلبن تلالا وسهول وبيادر، تاريخ وتراث وحضارة، بعد ان اتفقنا أن نبدأ الجولة من الأطراف المرتفعة لنعود بعدها إلى القلب حيث ترقد الحمامة البيضاء، اللبن الشرقية بجمالها وتاريخها وأهلها المضيافين والرائعين.

مقام طاروجه بعدسة: زياد جيوسي
اللبن بلدة ضاربة في القدم، ويقال إن اسمها جاء من اللغة السريانية (لبانوتا) وتعني صناعة اللبن، وإن لم تتوفر معلومات كثيرة عن تاريخ البلدة، إلا أن مشاهداتي للكهوف المحفورة في التلال تؤكد أن تاريخ البلدة يسبق الفترة الرومانية، واللبن الشرقية سميت بالشرقية لتمييزها عن اللبن الغربية، وهي بلدة صغيرة المساحة على الطريق بين نابلس ورام الله وتقع جنوب مدينة نابلس على مسافة تقارب الخمسة والعشرين كيلومتراً، وتحيط بها مجموعة من الخرب والجبال ولعل أعلاها جبل طاروجة، وقريب منها خربة عمورية وتحيط بها أراض تابعة لبلدات سلفيت وعبوين وعارورة، وواضح من البلدة القديمة التي تقع آثارها تحت البلدة الحالية، أن اللبن كان لها تاريخ ودور مميز وموقع استراتيجي يسيطر على الطريق باتجاه نابلس.

بدأت جولتي بصحبة الإخوة جمال ضراغمة رئيس المجلس وصديقي عبد الحليم ضراغمة والأستاذ حامد الهندي بالصعود إلى جبل طاروجة، وهناك فوجئت بجمال التلة وحجم الأشجار فيها وإطلالتها البهية والمرتفعة، فهي تصلح لأن تكون نقطة جذب سياحية، وبالإمكان استثمار المنطقة لمنتجع سياحي لطيب الهواء فيها وارتفاعها، وفيها يقع مقام مجهول صاحبه ويقول أهل المنطقة إنه من بلدة عرورة، ويسمى (طاروجة) وهي مشتقة من عبارة (طار وجاء)، ومعتمدة على أسطورة منتشرة عن شيخ مات وحين حاولوا دفنه طار النعش إلى منطقة أخرى ودفن فيها، فنجد هذه الأسطورة في دمشق في حي الساروجة، وهي مشتقة من (سار وجاء) وفي فلوجة فلسطين (فل وجاء) وفي فلوجة العراق أيضاً، وفي مناطق أخرى في الوطن العربي، وجرى الاشتقاق من اللهجة المحكية (طار وأجى، فل وأجى، سار وأجى)، وبكل أسف وجدت المقام مهمل، حيث سكن البدو الرحل المنطقة وحولوا المقام إلى مخزن لمخلفات الأغنام والتبن، والمنطقة بأكملها لمنطقة ملوثة بالأوساخ، مضافاً إلى ذلك أن القبر جرى هدمه، فهل أجد وأهل المنطقة جهة رسمية تستمع وتعمل على المحافظة على هذا المكان الجميل والمتميز؟

ما تبقى من قبر شيخ طاروجه بعد عبث العابثين بعدسة: زياد جيوسي

 مضافاً إلى ذلك تشوّه الرؤية وتمزق الروح وتثير الغضب المستوطنات الاحتلالية، حيث تقع مستوطنة (معاليه لبونه) وهي قامت على الاستيلاء على أراض من اللبن الشرقية، وتعني (اللبن العليا) في محاولة لسرقة الاسم التاريخي للمنطقة والبلدة ونسبتها إلى تاريخ عبري غير موجود في المنطقة، وكذلك مستوطنة (عيليه) والأصل العربي للاسم هو (وادي علي) في محاولة أخرى لتزوير التاريخ، ومقامة على أراض تتبع اللبن الشرقية والساوية. من طاروجة نزلنا باتجاه خربة عمورية، وهي بلدة صغيرة جداً وتتبع مجلس بلدي اللبن، وعدد سكانها قليل جداً، ، ويعتقد أن اسم (عمورية) تحريف لكلمة (عمرية) السريانية، ومعناها سكان الأديرة من الرهبان، وأعتقد أن هذا التفسير صحيح حيث شاهدت أثناء تجوالي في المنطقة كهف قديم ولكنه مهمل، ومدخله تحول إلى مكب نفايات، وقد دخلت إلى داخل الكهف فوجدته يدل على أن المنطقة كانت مسكونة، فهو على شكل مساحة مربعة، وتوجد حفرية في الصخر على جوانبه تدل أنها مكان للجلوس، وخلفها على ثلاثة جوانب أيضاً حفريات على شكل أقواس بالصخر، ربما كانت خوابي للغذاء والتخزين، واستمعت إلى حكاية أن السكان وجدوا في هذه المغارة صندوقاً حجرياً مغلقاً، فثار نزاع بينهم، وأن موشيه دايان وزير الدفاع الصهيوني بتلك الفترة حضر بنفسه مع قوة من الجيش واستولوا على هذا الصندوق ولم يعرف ما بداخله، والسؤال الذي ثار في داخلي: من أبلغ الاحتلال عن هذا الصندوق ليحضروا بسرعة ومع طائرة مروحية ويستولوا عليه؟ كما توجد في المنطقة العديد من هذه الكهوف والآثار، وإن جرى توجه حقيقي من الجهات الرسمية المعنية بذلك، فبالتأكيد سيتم اكتشاف آثار كثيرة تروي لنا الحكاية.


كهف تاريخي محفور بالصخور سرق ما وجد فيه الاحتلال بعدسة: زياد جيوسي

من خربة عمورية انحدرنا باتجاه خربة (دار ذيب) وقسم منها يسمى (خربة دار الهندي) وهم يعودون بنسبهم إلى دار ذيب، حيث أوقفنا السيارة في منطقة مرتفعة لصعوبة نزولها المنحدر ووعورة الأراضي، ونزلنا سيراً على الأقدام على الرغم من ارتفاع درجة الحرارة، إلا أن النسمات الغربية خففت علينا بعض من الجهد، وكان المشهد العام رائعاً بجماله، حيث الطبيعة الخلابة وأشجار الزيتون، ومشهد الوادي الذي كانت تنتشر فيه ينابيع المياه، وهذه الخربة سيكون لها حديث في الحلقة القادمة وحكاية التاريخ وأسطورة الذهب ولصوص الآثار.

أقف إلى نافذة صومعتي في هذا الصباح الجميل بجمال رام الله، أحتسي فنجان قهوتي الصباحية وروح طيفي ترافقني، أستذكر رحلة الأمس وحكاية التاريخ في اللبن الشرقية ومحيطها، فأرى أن بلادنا عبارة عن متحف تاريخي، كل ما فيها يروي حكايات وروايات، وكلها تؤكد على تاريخ حضاري متميز وجميل، منذ وطأت أقدام أجدادنا من كنعان ويبوس هذه الأراضي التي عمروها ونقشوا بعرقهم وبأياديهم العارية الحكاية، وأرى حجم الإهمال تجاه هذا التاريخ إضافة إلى دور الاحتلال؛ فأشعر بالألم، ولكني أرى الأمل من جانب آخر في السواعد الشابة والحوريات الكنعانيات، فهم مستقبلنا المشرق الذي سيعيد بناء الحكاية كما هي الحقيقة، ويبنون لنا الصباح الأجمل، وأستمع لشدو فيروز وهي تشدوا:

(بيضل فيها اتنين، عيون حلوه وايد يعمروا من جديد، ضيعتي الخضرا ع مد العين، وزغيره ومشيره ع الغيم بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمرقوا عليها رياح وضيم وبتضلها تلاقي نواطيرها).

فحتى ألتقي بكم في استكمال حكاية الحمامة البيضاء والحلقة القادمة أهمس لكم: ليكن صباحكم أجمل.


الدكتور إميل توما والثّقافةّ العربيّة الفلسطينية في البلاد/ د. حبيب بولس

كان رحيل الدكتور إميل توما المفاجئ خسارة كبيرة للحركة الثّقافيّة العربيّة الفلسطينية في البلاد فبرحيله خسرنا علما بارزا من أعلام الفكر ورائدا شجاعا لمسيرة هذه الحركة وحين نتحدّث عن الدكتور إميل توما كفرد يجب ألّا يغيب عن بالنا أنّنا بذلك نتحدّث أيضا عن إميل الإنسان والقائد الشّيوعي صاحب النّهج الماركسي وباني صحافتنا الحزبيّة- الّتي كان لها الدّور الأكبر في توجيه ثقافتنا وتطوّرها. بمعنى آخر لا يمكننا الفصل بين أثر إميل توما الفرد وأثر الحزب الشّيوعي وصحافته في بناء حركتنا الثّقافيّة .
وإذا أردنا أن نستجلي دور إميل توما وأثره على الحركة الثّقافيّة وتطويرها علينا أن نعود إلى الوراء قليلا، أي إلى عام 1948، عام النّكبة الّذي شكّل مرحلة خطيرة في حياة شعبنا بشكل عام وذلك كي نستطيع أن نسجّل الحالة الّتي سادت آنذاك ومن ثمّ كي نسهّل على أنفسنا متابعة التّطوّر الّذي حدث في الثّقافة العربيّة الفلسطينية في البلاد.
جاءت النّكبة عام 1948، وطرد معظم الشّعب الفلسطيني وأبعد عن وطنه، فمثّلت سنوات الخمسين في حياته عدم الإستقرار والتّشتّت وتمزيق الشّمل والقطيعة عن الأشقّاء وعن العالم العربي، وتبدّلت الحالة جذريّا في ظل إحساس بالعار نفسيّا وحرمان من كلّ شيء ماديّا.
إزاء كلّ هذه الأحداث المتسارعة وقف النّاس مشدوهين بمن فيهم الكتّاب والشّعراء، فهم لم يستسيغوا ما حدث ومرّت سنوات حتّى استطاع شعبنا أن يفهم أنّ ما حلّ به لم يكن شيئا عابرا، إنّما هو حقيقة مُرّة عليه أن يتأقلم معها ويقاومها في الوقت نفسه، فمع الخروج من النكبة 1948 فرض على البقيّة الباقية هنا علينا- حصار ثقافي وعسكري، فأصبح هَمّ الواحد منّا الجري وراء لقمة عيشه في جوّ كهذا من الإرهاب والقمع حاولت السّلطة تذويبنا وذلك عن طريق إعداد مناهج تعليميّة غثّة وترويج كتب غيبيّة وبث برامج إذاعيّة هزيلة، كان الهدف منها إلهاءنا عن قضايانا الملحّة، لذلك جنح بعض كتّابنا وشعرائنا في هذه المرحلة الإنتقاليّة إلى الأدب البكائي والغيبي والرّومانسي الرّاكد كما مال قسم آخر تحت تأثير المستجدّات، ربّما عامدا أو من حيث لا يدري، إلى خدمة نوازع السّلطة بأدبه.
في هذه السّنوات عشنا صراعا مذهلا، حيث كنّا نتخبّط في طرق وعريّة شائكة مظلمة. لكن سرعان ما لملم شعبنا جراحه وانتصب ثانية، وكان الفضل في ذلك يعود إلى الحزب الشّيوعي وصحفه وقادته فبعد أن أنزل الإستعمار والصّهيونيّة والرّجعيّة العربيّة أقسى النّكبات على شعبنا ومسحت الصّهيونيّة غالبيّة معالمه الثّقافيّة والتّراثيّة وفرضت عليه سياسة عنصريّة تجهيليّة وعدميّة قوميّة وجدنا هذا الحزب يقاوم وحيدا في الميدان، وبفضل صحفه بما كانت تنشره من فكر تقدّمي وإنساني ثوري، عربي وعالمي، وبفضل محافظة هذه الصّحف على هويّتنا الفلسطينيّة العربيّة، وعلى تراثنا الأصيل وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
وهنا يجيء دور الرّاحل الدكتور إميل توما كمحرّر لِ "الإتّحاد" أوّلا وفيما بعد لِ "الجديد" فقد جعل الدكتور إميل توما صحافتنا تسترشد ببوصلتين هما:
1. تقويمها الصّادق القائم على أنّ الثّقافة العربيّة والفلسطينيّة تؤلف جدولا حيّا ومتميّزا من جداول الثّقافة العربيّة العامّة الّتي يصب في نهرها الكبير ما يبدعه المنتجون العرب في مختلف الأقطار العربيّة.
2. إنتهاج هذه الصّحف توجّها ثوريّا إنتقاديّا إزاء التّراث العربي الغني والضّخم، واختيار قطاعاته التّقدميّة والإنسانيّة ورفضها لما هو غيبي وسلبي. وممّا ساعد هذه الصّحف على تفادي الحفر والألغام كان إسترشاد إميل توما ورفاقه بالمنهج الإشتراكي العلمي الماركسي اللّينيني. لذلك كان مفهوم إميل توما ومن ثمّ "الإتّحاد" "والجديد" أنّ الثّقافة لا تنمو في برج عاجي أو تحوم في الفضاء بل هي تترعرع في تربة حاجات الجماهير المتزايدة إلى الغذاء الرّوحي.
مسترشدة بهاتين البوصلتين واجهت صحفنا التّيّارات الإنعزاليّة الرّجعيّة الّتي حاولت السّلطة غرسها في نفوسنا ووضعت البديل الثّوري للبكائيّات وأدب التّخاذل والغيبيّات، فكان البديل شعرا ثوريّا ذا رؤية تقدّميّة أبرز حقّنا وفضح كلّ مكائد الدّعاية الصّهيونيّة، كما كان البديل قصصا تقدّميّة إنسانيّة وروايات ومسرحيّات ودراسات وفنّا وغير ذلك.
والكلّ يعلم أنّه، وبتشجيع من الرّاحل إميل توما، نشأت في أحضان "الإتّحاد" "والجديد" "والغد" كوكبة من الأدباء كانت في حينه براعم صغيرة لما تتقتّح بعد، ووجدت في إميل توما ورفاقه وصحف حزبنا جذعا شحدت عليه المناقير فاستنسرت، وبيدرا حبت عليه إلى أن اشتدّ ساعدها وقوي عودها.
لم يفتح إميل توما صحفنا في وجه هذه البراعم وحسب بل أطلعهم على أدب شعبهم قبل النّكبة، ذلك الأدب الّذي كان ردّا على الصّهيونيّة مؤكّدا أنّه ما من أدب ينشأ في فراغ وإنّما أدبنا اليوم هو إستمرار للحركة الأدبيّة والثّقافيّة في فلسطين قبل النّكبة.
فضح إميل توما بما كتبه أهداف السّلطة وعرى مطامعها فكانت كتاباته، لجيلنا، الوقود الّذي زوّدنا بالرّؤية الصّحيحة، والزّيت الّذي أشعل نار الكرامة والبقاء.
تجاهلت المؤسّسات الثّقافيّة الرّسميّة، تماما، وجود حركة أدبيّة محليّة، ولا أتصوّر الآن كيف كان من الممكن في تلك الظّروف أن تنمو حركة أدبيّة محليّة بدون صحف الحزب الشّيوعي وبدون إرشادات إميل توما وتوجيهاته.
أمّا في مجال الدّراسات فقد وفّر لنا إميل توما على صفحات "الجديد" عبر هذه السّنين الطّويلة منذ عام 1951 إنتاجا كبيرا شاملا عالج الحضارة والتّاريخ العربي والفلسطيني وقضايا السّاعة. وهذا الإنتاج يستحق أن يحفظ ويصان ويفهرس ويصدر في مجلّد خاص فلولا إميل توما و"الجديد" لما رأت هذه الدّراسات النّور لأنّ زاوية إنطلاقها تتعارض مع النّهج الصّهيوني ومع سياسة السّلطة واليوم نستطيع القول بفخر أنّ إميل توما و "الجديد" قدمّا خزانة كبيرة من الأبحاث والدّراسات الجادّة المحليّة والعربيّة والفلسطينيّة والعالميّة الّتي ثقّفت جيلا كاملا وحثّته على الأفادة والإبداع ونوّرته بمنظور علمي موضوعي تقدّمي واعٍ.
يعرف الجميع تماما أنّ المؤسّسة الثّقافيّة والتّعليميّة الرّسميّة حاولت هادفة تزييف تاريخ أدبنا العربي عامّة وعرض "انصاف الحقائق"- كما أنّها تجاهلت الأدب الفلسطيني في برامجها التّعليميّة وحاولت أن تصوّر أدبنا منذ الجاهليّة حتّى العصر الحديث على أنّه أدب يتسكّع على أقدام الحكّام والسّلاطين، تكسّبا للمال، كما حاولت أن تصوّره على أنّه فخر أرعن أو غزل ساذج أو نفاق ووصف أهوج فارغ، أو هجاء يعكس "أبديّة المنازعات في المجتمع العربي"!!.
وكان لإميل توما دور كبير في فضح هذا التّوجّه الرّسمي- الصّهيوني وفي إبراز الوجه الحقيقي لأدبنا وتاريخنا وتراثنا- الوجه النّاصع، وذلك عن طريق نشر النّماذج الإنسانيّة والتّقدميّة لأدبنا العربي على صفحات "الجديد" فأصبحت "الجديد" بذلك المرجع الأساسي للإطّلاع على حقيقة هذا الأدب.
أمّا بالنّسبة للفنون فقد كان إميل توما بصفته رئيس تحرير "الجديد" رائدا في نشر كلّ ما يتعلّق بالفنون على أنواعها، فقد إعتمدت "الجديد" في نشرها للفنون على معرفة إميل توما الواسعة بعلم الجمال الماركسي اللّينيني الّذي يعتبر الفن من أهمّ الوسائل الّتي تعكس واقع العالم الموضوعي جماليّا. كما أنّ إميل توما إهتمّ ورعى الفنّانين المحليّين وشجّعهم من على صفحات "الجديد" وذلك عن طريق إقامة المعارض والنّدوات ونشر الأبحاث ومناقشة فنّهم أو عن طريق تخصيص زاوية خاصّة بالفن. وعندما نقول الفن نعنيه بأشكاله العديدة.
وإذا إنتقلت إلى الحديث عن القصّة والشّعر فالحديث سيطول كثيرا لأنّني على ثقة من أنّ القارئ يعرف دور إميل توما و "الجديد" في هذا المجال، لا بل حتّى أعداء إميل و"الجديد" لا يستطيعون إنكار دورهما في تطوير هذين اللّونين الأدبيّين فقد فتحت "الجديد" بمبادرة وإرشاد إميل توما منذ صدورها، أبوابها للقصّة المحليّة والشّعر المحلي وما زالت تعطي الأولويّة لكلّ إبداع محلي- فنشرت وناقشت ونقدت وأقامت النّدوات حتّى وصلنا إلى قصّة راقية شكلا ومضمونا وشعر ثوري إنساني.
متسلّحا بالرّؤية الماركسيّة الّتي زوّده بها إميل توما ومطّلعا على الأدب العالمي التّقدّمي استطاع أدبنا أن يصل إلى هذه الدّرجة من الرّقيّ والتّطوّر. وكما العناية بالقصّة والشّعر كانت رائعة، كذلك العناية بالكتّاب والشّعراء كانت رائعة هي الأخرى والدّليل على ذلك تلك القائمة الطّويلة من أدبائنا وشعرائنا الّذين يعتبرون أنفسهم خرّيجي مدرسة إميل توما و"الجديد".
لقد كان إميل توما هاديا ومعلّما وموجّها، وكان أيضا رائدا ولأنّه كان رائدا تفرّعت إهتماماته وتعدّدت حتّى شملت أيضا عمليّة النّقد الأدبي.
لقد رصد إميل توما من خلال عمله الصّحافي الحركة الأدبيّة العربيّة الفلسطينيّة عندنا، فكتب عنها الكثير وقوّمها بالمعنيّين ورسم لها خطوطها الموجّهة على صفحات "الجديد".
لقد شجّع إميل توما الأدب والأدباء فخلق جوّا أدبيّا نعتز به ونفتخر. وللحقيقة نقول أنّ إميل توما كان أوّل من فتح أعيننا على الأدب الصّريح والموضوعي والملتزم. فقد كان في ذلك رائدا منذ صدور "الجديد" عام 1951 كملحق "للإتّحاد" حتى رحيله
وفي نقده للعديد من الأعمال الأدبيّة إلتزم إميل توما خطّا ومنهجا سار عليهما طول حياته، فهو لم يرحم بنقده أؤلئك الكتّاب الّذين تقوقعوا أو الّذين باعوا أقلامهم لخدمة الظّالمين- كما أنه لم يبخل على الّذين كانوا يكتبون أدبا تقدّميّا بالتّشجيع والإطراء.
كان إميل توما في نقده يسترشد بعلم الجمال الماركسي اللّينيني، فعلم الجمال هذا كان البوصلة الموجّهة في نقده للأعمال الأدبيّة المحليّة، لذلك لم يكن إميل توما في نقده يسلخ العمل الأدبي عن الظّروف الموضوعيّة المحيطة به، بل كان يردّه إليها ويبني على ذلك أحكامه.
وللفقيد مجموعة مقالات نّقديّة كان قد نشرها في "الإتّحاد" و"الجديد" جمعت بعد رحيله مع انه، كان يحبّ أن ترى النّور في حياته وكان قد أطلعنا عليها فأعجبنا بها كما كان قد عمل مع آخرين على إصدار مجموعة نقديّة صدرت هي الاخرى بعد رحيله ونحن نامل ان يتمكن الدارسون من خلال هذين الكتابين من دراسة منهجه النّقدي بصورة صحيحة. وكفى إميل توما ناقدا أنّه كان الرّائد والموجّه في هذا المضمار.
ممّا تقدّم رأينا صورة عامّة لدور إميل توما الكبير في تطوير وتوجيه حركتنا الثّقافيّة العربيّة الفلسطينية في البلاد ولمسنا كذلك تعدّد إهتماماته. فقد كان فعلا رائدا وللرّيادة ضريبتها، وكانت الضّريبة الّتي دفعها إميل توما مرضه العضال الّذي لم يمهله طويلا.
وأخيرا.. مات إميل توما وكانت خسارتنا بموته فادحة. مات الإنسان الجامعة، لكن لم يمت فينا ما تركه، بل هو حيّ في كلّ ما كتبه باق إلى الأبد. وإلى شعبنا نقول: إنّ شعبا أنبت إميل توما هو شعب غنيّ حقّا، قادر على تقديم العظماء والمبدعين، باستمرار.
ونحن أعني تلاميذه الّذين عملوا معه أو التقوا به في ساحات الفكر والنّضال وميادين العلم والثّقافة، كفانا فخرا أنّنا عشنا في زمن إميل توما وكفانا شرفا أنّنا عنه أخذنا وعلى يديه تتلمذنا وإلى ما وصل إليه نصبو ونتطلّع.
نم قرير العين يا أبا ميخائيل، فالبذرة الّتي زرعتها والّتي عملت، جاهدا كي تنمو وتكبر نمت وكبرت وأصبحت شجرة تضرب عميقا في رحم الأرض تردّ كلّ هجمة وتحطّم كلّ مؤامرة. فشعب أنبتك فأحببته وجعلت عمرك وقفا عليه يعرف كيف يردّ لك الجميل وكيف يكرّم أبناءه البررة أمثالك.
ولسوف تظلّ صحافتنا الحزبية قويّة راسخة تواصل الطّريق الأدبي- الفكري الّذي شققته أنت ورفاقك الرّوّاد أمام شعبنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أودّ أن أشكر أبا خالد – الرفيق زاهي كركبي الّذي يقرع لنا دائما ناقوس الذّاكرة لينبّهنا إلى الجذوع التي شحذنا عليها المناقير والتي صقلت بسيرتها ومسيرتها الوطنية شخصيتنا.
ستة وعشرون عاما على غياب والدي الروحي القائد والمعلم الدكتور اميل توما لذكراه ولما قدّمه يكون هذا الكلام.

drhbolus@yahoo.com

آمال عوّاد رضوان تحاورُ الشاعر أحمد بشير العيلة


الشاعر والإعلاميّ الفلسطينيّ أحمد بشير العيلة من مواليد رفح 7-6-1966، عاد بتاريخ 15-4-2011 إلى ربوع وطنه في غزة، بعدما عاش حالات الضياع والتشرّد في مصر وليبيا، وقد استقبلته رابطة الأدباء الفلسطينيّين بترحيب عال في أمسية أقامتها الرابطة بوزارة الأسرى والمحررين ومنحته عضوية مجلس إدارة في الرابطة، و"الجديدة" التقت الشاعر العيلة في استعراض تفصيلي لأوجه حياته وتدرجه في التخصص والعمل، وتنقلاته التي حشدت ذاكرته بالكثير من المواقف، تركناه يتحدث بعيدا عن رتوش الحوارات، أملا منا أن نصل نحن وقراؤنا الأعزاء إلى ما تضمنته ذاكرة الشاعر والإعلامي والإنسان، من لحظة خروجه من وطنه فلسطين، إلى لحظات انتظاره لطائرة الأباتشي التي تقصف غزة هذه الأيام في النصف الثاني من رمضان 2011، ولكن هذه المرة أمام ناظريه ......

تفاصيل الحوار...

* بطاقة الميلاد تأشيرة الدخول الى الحياة، جاء مولدك على عتبة النكسة العربية.. من أين أتى الشاعر والإعلامي أحمد بشير العيلة؟

ولدتُ في السابع من حزيران عام 1966 في مخيم رفح للاجئين الفلسطينيّين، من أبوَيْن هُجّرا صغيريْن من قرية يبنا بقضاء الرملة، التي قاومت الصهاينة وانتصرت ودحرتهم في معركة وعاها والدي وحكى لي تفاصيلها، وتفاصيل نكبة 1948، عشتُ بالفعل تحت أفرع والدي التي عرّشتْ فوقي لا تملّ من حكايا القرية والتهجير، وعشتُ بالفعل تحت جناح والدتي التي أمضت العمر غريبة تسّاقط دموعها على جسدي، الذي كان حريصًا على جمعها وتخبئتها في سُرةِ الذاكرة..

عندما احتلّ الصّهاينة قطاع غزة في نكسة 1967، كان عمري عامًا بالضبط، لكن قلبي الذي خفق طويلاً في بطن أمّي الموجوعة من فقدٍ لا يوصف، كان وراء فتحي باب البيت وزحفي نحو الشارع الرئيس أثناء فرضٍ صارم للتجوّل، كادوا يطلقون النار، لكن جدّتي من أبي هرولت تجاهي واختطفتني من حالة التمرّد اللاواعية.. وانتهت الحرب، ووالدي كان في مصر يتعلم ويعمل، فأصبح بين ليلةٍ وضحاها نازحًا، فما كان مِن حلّ إلاّ لحاق الأسرة بالوالد في مصر وعمري عامٌ ونيف.

*ماذا يعني لك أن تكون شاعرًا؟

أن تكون شاعرًا أي أن تمتلك القدرة على قبس النار بيديْن عاريتيْن وقلبٍ يدوس الجمر، فالشاعر يدخل منطقة الأحاسيس العليا، ينتزع ما فيها من مصهور الألم والحب لغةً وإيقاعًا وتصويرًا، كلّ ذلك وأنتَ الشاعر الإنسان، فماذا لو زاد ذاك الألم أن تكون فلسطينيًّا..

*متى بدأت بجني ثمار موهبتك الشعرية؟ وهل كان للأحداث الوطنية التي واكبت جيلك دورٌ في نموّ موهبتك ونضجها؟

بدأ جني الشعر يخرج من قمقم وجداني في سنٍ مبكرة اقتربت من الخامس عشر ربيعًا، خرج ينطق وأنا أكتب ووحيي الإيقاع والموسيقا، لكن قبل ذلك كان لي ألفة اختلفت بها عن أترابي مع الطبيعة وأنا طفل، كنت رفيقًا لورقات الشجر وحبّات التراب ورفات الطير وصخور الأرض، ألفةٌ جعلت هناك خطاب خاصّ بيني وبين كلّ التفاصيل الصغيرة، وقد اشتدّ شحنها وهي تختلط بهمومٍ تكبر مع ازدياد وعي الطفل، الوعي الذي تفتح على مأساة الغربة والحنين والفقد، أنتَ إذن مختلف عمّن حولك، أنتَ كائنٌ مصابٌ وعاجز لا وطن لكَ ولا أهل ولا حكايا جدّةٍ تفرد بساطها السّحريّ لتجلس فوقه، ولا جري وراء شجرات البيارات ولا اصطياد لعصافير وطنك، ولا خالَ يأخذك لنزهةٍ ولا عمّ ينهرك ولا أحد..

أنتَ وحيدٌ وغريبٌ أمام فرعك الذي يعلو وعودك الذي يشتدّ تحت روائح الزعتر والمريميّة في حقائب المسافرين الآتين من الوطن، ولا ذاكرةَ لكَ سوى الذاكرة الجمعيّة التي يحكيها أبوكَ ووالدتك عن القرية والأهل وأحداث الترحيل المؤلمة، وتلك التي تحكيها كتب التاريخ عن النكبةِ والنكسةِ والهزيمة وكسر الشوكة المغروزة في لحمكَ، وأنتَ تقرأ تاريخًا يتشكّل حول المأساة، كما تتشكّل الدّبابير على فريسةٍ سهلة، بدأتُ قراءة الصّحفِ مبكّرًا مع تعلمي القراءة والكتابة في الصّفّ الأوّل الابتدائيّ، وكانت السّياسة وأخبارها هي محطتي في صحيفة الأهرام أو الأخبار الكبيرة، الأكبر كثيرًا من الرّسائل التي يبعثها الأقارب لوالديّ، وأحسّ الصّغير داخلي باللغة المغايرة بين خبرٍ في جريدة وخبرٍ في رسالة مكتوبةٍ بالدّمع، وبين ما تقوله كتب القراءة عن الوطن.

* للشّاعر العيلة قضيّة مع الضياع.. أين نجدها وأنت تتحدّث عن وجدانيّاتٍ من ذاكرة الطفولة والشباب؟

في مصر العظيمة، تعلمتُ كيف أضيع منذ أوّل نزول لي في مطار القاهرة بعد مجيئنا من عمّان، ووجدوني، ثمّ ضياعٍ أكبر في الاسكندريّة أوّل يومٍ للعيد، لدرجة أنّ مآذن الاسكندريّة وإذاعتها المحليّة كانت تنادي بصفاتي لمن يجدني .. هههه أول إعلانٍ للشهرة ... ووجدوني بعد يومٍ كامل في حضن امرأة عجوز.. ودلت قصص الضياع المتكرّر عن أني أبحث عن شيء في تلك المدن البعيدة وفي المطارات، لكن الطفل لم ينطق رغم الإلحاح عليه، واحتفظ بسرّه في لا وعيهِ إلى اليوم.

*هل انتهت قصّتك مع مصر في حضن العجوز، أم أنّ لمصر حكاية أخرى في مضامينك الإنسانيّة والأدبيّة؟

في مصر شُحنت بالأحزان الكبيرة، فقد شهدت تفاصيل حزنٍ تاريخيّ بموت الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، يوم تشييع الجنازة كنا ننتقل من حيّ إلى آخر، لنستقرّ في سيدي بشر حيث بحر الاسكندريّة، وكان المشهدُ فظيعًا لأمٍّ تبكي بحرقة في غرفةٍ فارغة، والنساء في الشارع يولولن في حلقاتِ متشحة السّواد، لكن لأمّي حزنًا إضافيًّا أحسستُ به وأنا ابن الرّابعة، فألقيتُ نفسي في حضنها والبكاء يعتصرها، فهي صاحبة همٍّ لم تمتلكه كلّ النسوة في شوارع الاسكندريّة، لقد ذكّرها الموت والرّحيل بالتهجير والغربة والبُعد عن الأهل وفقد الوطن.

في انتقالنا كنت على سيارة (العفش) أرقب الاسكندريّة الباكية المتشحة بالسّواد، وكانت هذه الرّحلة فرصة لي لأرصد كيف يكون الحزن عامًّا وشعبيًّا ووطنيًّا بل وقوميًّا، وازدادت رمزيّة المشهد في الأيّام الأولى لإقامتنا في سيدي بشر، عندما جاء المخاض أمّي في أختي الخامسة، واحترنا ماذا نفعل، فنحن لا نعرف أحدًا، لكن إحدى جاراتنا كانت داية، والغريب أنّها زوجة فلسطينيّ هاجر إلى مصر عام 1948.

* لماذا نجدك تربط الحزن بمصر؟ وما دوْرُ مصر في صياغة مستقبل شاعرنا العيلة؟

مصر تعرف كيف تحزن، وتعرف كيف تسحبنا لحزنها، بكينا كلّ القامات الكبيرة في مصر، السّياسيّة والفنيّة والأدبيّة، بكينا جمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ وانتحار عشيقاته، وفريد الأطرش وأم كلثوم التي كانت مصر كلها تسمع حفلتها عند أغنية جديدة، وصباح اليوم التالي كانت كلّ مصر تردّد أغنيتها الجديدة، وكان صديق لأبي يعزف العود يأتينا بعد كلّ غناء ، ويغنّي الأغنية الجديدة لأمّ كلثوم، كنت أجلس منتشيًا بقربه مسحورًا بكلّ شيء، العود والكلمات والصّوت، وبقدرة هؤلاء على رفع درجة الوجدان إلى قيمةٍ جماعيّةٍ قصوى.

في الاسكندريّة السّاحرة تعلمتُ الأبجديّة، كتبت الواجبات الرّتيبة حتى مللت رتابة أن أعيد الفقرة عشرين مرّة، فأصبحت أكتبها ثلاث أو أربع مرّات، ثم أخربش في باقي الصّفحات، كنتُ مرتاحًا هكذا رافضًا التكرار والنسخ والرتابة، تحمّلت العقاب لكني لم أتحمّل النمطيّة، وفي الصّفّ الثاني الابتدائيّ كتبت أوّل قصّة قصيرة في يومِ مفتوحٍ في المدرسة، كانت عن ولدٍ لم يستطع أن يشتري هديّة لأمّه في عيد الأمّ، وقد فزت وكانت هديّتي برتقالة.. فرحت كثيرًا، وزادت دلالة البرتقالة هذه لتكون معادلاً رمزيًّا لوطنٍ مفقود.

من المصادفة أن يكون اسم مدرستي علي مصطفى المشرفة، عالم الفيزياء المصريّ الذي صحّح وطوّر النظريّة النسبيّة لآينشتين، والمصادفة تأتي كوني تخصّصتُ في الفيزياء فيما بعد، بحصولي على بكالوريوس فيزياء من جامعة قاريونس ببنغازي.

* من غزة إلى مصر إلى بنغازي الليبيّة.. كيف ومتى تجلّى هذا الوصول؟

في عام 1975، تحصّل الوالد على بعثة في ليبيا للعمل في مجال التدريس، تقدّمنا ثمّ دعانا إلى ليبيا، اليوم الأخير من مدرسة مصطفى المشرفة بعد سحب ملفّي كان جيّاشًا.. لقد خرج كلّ طلاب الصّفّ يودّعونني من المدرسة إلى البيت البعيد عنها، كنت أُحمَل على الأكتاف، والكثير قدّموا لي قصاصاتٍ مكتوبة للذكرى وصور، شارع جمال عبد الناصر كان سيّد المكان، لم أكن أدري أنّي سأفتقد هؤلاء الأصدقاء العفويّين المليئين بالحبّ إلى الأبد، فمصر عصيت على عاشقها.

في بنغازي وفي أوّل يوم دراسيّ لي فيها كانت الصّورة معاكسة تمامًا، هناك في مصر ودّعوني بأكثر من الحبّ، وهنا في بنغازي استقبلوني بالحجارة عندما خرجت من المدرسة، وقفت في وسط الشارع مندهشًا غريبًا مُصابًا في أنفي لا أدري ما أفعل، وقفتي كانت قراءةٌ مؤلمة لمشهديْن متعاكسيْن، فهمت من خلاله أنّ المجتمع هنا يلفظ الآخر، وهو ما استمرّ معي حتى آخر مقالٍ كتبته في ليبيا بعد ستٍّ وثلاثين عامًا من الإقامة، حيث كان (لفظ الآخر وضرورة التلاقح الثقافيّ) ردًّا على كُتّاب وصحفيّين ليبيّين نادوا بليبيّتهم ونكرونا في الوسط الثقافيّ، الذي كنت فيه مع آخرين نُعدّ على أصابع اليد الواحدة من المؤثّرين والمتأثرين، ولنا حضورٌ قويّ استنكره البعض الذي كان يعمل بنفسيّةٍ، كأنها نقاط سوداء في الثوب الليبيّ الأبيض لأصدقاء وكُتّاب رائعين.

حاولت كطفل داخل إلى عالمٍ ليس لي، أن أبتلع همومي وخوفي وأعضّ على ثوبي خوف أن يخرج صراخي، كي لا أُحمّل أبويّ أيّ ألم، تشرّبت الحزن وحدي، ومضيت على طريقٍ صخريّ لأقوّي أقدامي الصّغيرة المتعثرة.

في المرحلة الثانويّة استقام الشعر ونهض في قمقم روحي، وعملت سبورة الفصل كحاضنة لأبياتي، وكم من مرة قرأ مدرّس اللغة العربية تلك الأبيات، ويسأل عمّن كتبها، ثمّ وضع يومًا يده على كتفيّ وقال: اِذهب الآن وانشرْ هذا الشعر، يجب أن يرى النور ، أنت شاعر...

* إذن هي ليبيا اللّملمة والأوراق المبعثرة لشاعر مبتدئ؟

نعم.. انطلقت أحمل أوراقي المبعثرة من مدرسة شهداء يناير إلى مجلة الثقافة العربيّة المقابلة لها، وأيضًا في شارع جمال عبد الناصر لكن في بنغازي، ركبت المصعد الكهربائيّ أنا وصديقي صلاح، لكن المصعد توقف بها ، وأطال حتى أننا فقدنا تقريبًا الأكسجين، وكانت المجلة في الطابق الأخير من العمارة، وللمصادفة أنّ أسرة تحرير المجلة هي التي شغّلت المصعد يدويًّا لإنقاذنا، وخرجت إليهم لأقول جئت أنشر شعري ..

بالفعل نشروا لي أوّلا في باب القرّاء، ثمّ ما لبث أن وضعوا شعري مع كبار الشعراء العرب، فقد كانت مجلة الثقافة العربية أهمّ مجلة ثقافية في ليبيا، وكان لها حضور ثقافيّ في الوطن العربي، لدرجة أنّ المغرب كان نصيبها 20 ألف نسخة، هذا الكلام في بداية الثمانينيات، وقد ترأس تحريرها مثقفون معروفون منهم الشاعر محمد الفيتوري، وقد كان مُشرفًا على ملفّ الشعر وقت مجيئي الشاعر المهمّ في ليبيا حسن السّوسي، ومن خلال المجلة التي تقلدت فيها منصب منسّق التحرير بعد سنوات عدّة، تعرّفت على الوسط الأدبيّ والإعلاميّ، ومنهم الأستاذ القاصّ سالم العبار الذي كان مُعِدًّا لبرنامج يرعى المواهب الأدبيّة اسمه "ما يكتبه المستمعون"، وكان ينشر لي قصائدي بتعليقٍ جميل أتاح للعامّة عشاق الإذاعة التعرّف عليّ، ووجدت ذلك من الترحاب الذي كنت ألاقيه أينما حللت ممّن يتعرّف على اسمي، ومن البرنامج دخلت باب الإعداد الإذاعيّ أيضًا لأكتب عشرات البرامج بين إذاعات الجماهيريّة وإذاعة بنغازي المحليّة، وصوت الوطن العربي الكبير، وصوت إفريقيا التي تعرّفت من خلالها بالثقافة الإفريقيّة الثريّة.

تعاملت أيضًا في الإنتاج والإعداد المرئيّ، وخاصّة برنامج منازل القمر الذي كان من مُقدّميه الأستاذ أحمد النائليّ والأستاذ القدير على أحمد سالم الذي قام بدور بلال في فيلم الرسالة، وقدّم لي برامجي كبار المذيعين الليبيّين، منهم الأستاذ القدير عبد الفتاح الوسيع، أحد مذيعي البي بي سي ، وأحد ممثلي المسرح الشكسبيريّ في لندن، وكذلك أصوات مهمّة في الإذاعة الليبيّة كعزيزة عبد المحسن وشقيقها المرحوم عبد الله عبد المحسن وسالم الفيتوري، وقد تنوّعت برامجي بين الثقافيّ والأدبيّ والوطنيّ.

كان الشعر بوّابتي لعالم الصّحافة الذي بدأته وأنا طالب في قسم الفيزياء، لأكون من أسرة تحرير الصّحيفة الرّسميّة للجامعة، ومُشرفًا على الصّفحة الثقافيّة فيها، مُتقاضيًا مُرتبًا من الجامعة التي أدرس فيها، ثمّ تنوّعت إسهاماتي بين المراسل والمحرّر ومنسق التحرير ومدير التحرير لعدّة مطبوعات، وقد أسّستُ مَركزًا إعلاميًّا كبيرًا يتبع جامعة العرب الطبيّة وترأست إدارته، ولم أكتفِ بأنشطته من تغطية الأنشطة العلميّة والطلابيّة ، بل وسّعت دائرة عمله حتى أنني بعثت مراسلين من بنغازي إلى بوّابة رفح لتغطية أحداث حرب 2008 على غزة، وكان للمركز حضورٌ إعلاميٌّ قويٌّ، لدرجة أنّ مدير الهيأة العامّة لإذاعات الجماهيريّة فرع بنغازي قال في لقاء عامّ، أنّ المركز الإعلاميّ لجامعة العرب الطبيّة قد سحب البساط من تحت المؤسّسات الإعلاميّة الأخرى.

* كيف تُقيّم الحالة الثقافيّة في ظلّ نظام القذافيّ؟

عانى الوضع الثقافيّ الليبيّ من حالات التغييب والانكسار وفرض الرّأي الواحد، فكلّ المشهد الثقافيّ الليبيّ غاب وراء خيمة العقيد معمّر القذافي، الذي حاول مؤخّرًا أن يُكرّس نفسه ككاتب، دافعًا الكثير لأجل أن يكتب عنه كبار النقاد العرب وأن تُعقد عنه الندوات والمؤتمرات، في حين أنّ المثقف الليبيّ كان مهضومًا ويعيش بالكفاف، وعلى الرّغم من وجود نصوص قويّة وأدباء كبار في عطائهم، إلاّ أنّ الخارج لا يعرف إلاّ مَن خرج من وراء الزجاج المعتم، كأمثال إبراهيم الكونيّ وأحمد إبراهيم الفقيه والصّادق النيهوم، الذين خرجوا إلى أوروبا ليستنشقوا أكسجين الإبداع، وتخيّلوا أنّ حقبة كاملة من مُثقّفي الستينات والسّبعينات زُجّ بهم في السّجن في مشهد تراجيديّ، حيث كان هناك مهرجان أدبيّ أقيم، للمفارقة، في مسرح مدرستي الثانويّة - شهداء يناير في منتصف السّبعينات، وفي ذروة المهرجان طُوّق المكان، وأخذوا كلّ مَن فيه من المشاركين إلى السجن، ليخرجوا بعد ذلك في مشهد تمثيليّ حطم به معمّر القذافيّ جدران السجن في 1988، لينشد في خطابه أمام الخارجين من زنازينهم:

"أصبح الصّبحُ.. فلا السجنُ ولا السّجانُ باق"...

لذلك عُرف هؤلاء الكُتّاب أنهم "مجموعة أصبح الصّبح"، مون بعدها عزف الناس عن حضور الأمسيات الأدبيّة على الرّغم من عشق الليبيّين للأدب.

* هل تعني أنّ المشهد الثقافيّ الليبيّ كان غائبًا؟

على العكس المشهد الثقافيّ الليبيّ على الرغم من عديد القيود التي كانت تُكبّله، من أكثر المشاهد الثقافيّة ثراءً وتنوّعًا وعُمقًا، وإنّي لأتوقّع مستقبلاً عظيمًا للأدب في ليبيا بعد ثورة 17 فبراير الحاليّة، لأنّ العطاء الأدبيّ سيشهد مناخًا جيّدًا للحرّيّات، إضافة إلى تجدّد عطائه بالمؤثرات الإنسانيّة التي رافقت الثورة الليبيّة ضدّ القذافي.

* هل ما حصل في ليبيا من ثورة كان متوقعًا؟

قصّة الثورة الليبيّة مؤثرةٌ بالفعل، لم يكن أحد يتوقّع أن يحدث كلّ هذا في ليبيا، كنتُ في بنغازي شاهدًا على تبلور الأحداث وعلى همجيّة ودكتاتوريّة نظام القذافي، فكيف يقتل بدم بارد مئات الشباب العُزّل برصاص مضادّ للطائرات؟

* وكيف شاهدتَ تفجّرَ شرارة الثورة بعينيْك؟

حدث هذا قرب بيتي في منطقة البركة أمام كتيبة الفضيل بوعمر؛ وهو مجاهد والساعد الأيمن لعمر المختار، والفضيل بوعمر عندما قُتل طلب غريسياني رأسه ليتأكد، وبالفعل جزّوا رأسه عن جسده ليقدّموه لغريسياني، كنت شاهدًا على المذبحة، وعلى اللحظة التي أُنقذت فيها بنغازي من الدّمار الشامل، ولا ألوم كما يفعل الكثيرون الناتو على دخوله في مكوّنات الثورة الليبيّة، لقد رفع السّكين عن أكثر من مليون نسمة في لحظةٍ واحدة.

كان للثورة الليبيّة ما يُبرّرها، فناهيك عن الوضع السّياسيّ الدّكتاتوريّ الأوحد الذي لا يمكن إطلاقًا مخالفته، وناهيك عن الوضع الاقتصاديّ السّيّئ حيث النفط ليس مُلكًا لليبيّين بل له ولحاشيته، فقد كان يقول عن النفط إنُه "المُجنّب" الذي لاعلاقة لكم فيه، فلا بُنية تحتيّة جيّدة في المدن الليبية، وانتشرت البطالة والأمراض الاجتماعيّة كانتشار المخدرات والفساد الإداريّ الذي نخر الدّولة من أوّلها لآخرها، بل إنّ وقود الثورة كان ذلك الدّم المسفوك من ضحايا خيرة شباب وأساتذة وعلماء ليبيا، كالذي حدث في سجن بوسليم ، حدثت القصّة عام 1996 عندما أطلق الرصاص مضادّ الطائرات على المسجونين بعد جمْعهم في الساحة، ليقتل منهم 1270 سجينُ رأيٍ في دقائق، ثمّ دُفنوا جماعيًّا في باحة السّجن وصبّوا عليهم الخرسانة، ولا أحد يعرف أسماء الذين قُتِلوا، إلاّ بعد برنامج سيف الإصلاحيّ الذي بدأ في إظهار أسماء الضّحايا في قوائم صغيرة في حدود 4 أو 5 أسماء على فترات متقطعة منذ 2007، حدثت تسريبات عن وصف المجزرة، ولقد حكى لي تفاصيلها الفنان السّاخر الكبير محمد الزّواوي، بعد أن أطفأت مسجّل اللقاءات بعد لقاء مطوّل استمرّ لساعات معه حول تجربته الإبداعيّة، وحكى لي شخصيًّا فنان الكاريكاتير الليبي الكبير محمّد الزّواوي كيف قُتل ابنه في مجزرة بوسليم الشّهيرة:

قتلوا ولدي وزوج ابنتي في سجن بوسليم، أتعرف يا أستاذ أحمد أنّ أهلي كلّهم يُقاطعونني الآن، لأنّ القذافي كلمني في مكتبه مرّتيْن وابني في السجن، ولم أطلب منه إطلاق سراح ولدي!

استغربت، فهو الفنان الأوّل في ليبيا والمعروف عربيًّا، كيف تأتيه فرصةٌ كهذه ولا يطلب، قلت له أنت مخطئ، لماذا لم تطلب إطلاق سراح ولدك، فقال:

"أنا استودعت ابني بين يدي الله ولا أطلب حرّيّة ولدي من أحدٍ غير الله، والقذافي يعرف أنّ ابني مسجون عنده".

عظّمتُ في الرّجل عزة نفس.

*كيف تمّ التعايش مع تفاصيل الثورة بالنسبة لكم كمواطنيين غير ليبيّين؟

عشنا تفاصيل الثورة .. وكانت قلوبنا مربوطة مع كلّ رصاصةٍ أو قذيفةٍ تطلق..

معركة الكتيبة كانت من أشرس ما فعله نظام بشعبه، أطلقت من الكتيبة جميع أنواع الأسلحة من مضادّات للطائرات إلى قذائف الدّبّابات، كنا تحت استهداف مباشر ونحن في بيوتنا، لكن الله سلّم، لقد سجّل الشباب الليبيّون أسمى ملاحم البطولة، ولقد شهدت بعينيّ قوّة العزيمة والتقدّم بصدور عارية نحو الموت، استخدموا كافة الوسائل للهجوم على الكتيبة وهم عُزّل، قادوا الشاحنات والجرّافات وقُتلوا وهم فيها، لقد تناوب على إحدى الجرّافات تسعة شهداء، كلّما قادها أحدهم أطلقت النيران عليه فسقط وحلّ محلّه آخر، ولا بدّ من سقوط الكتيبة، حتى أنّ أحد موظفي شركة الخليج العربيّ للنفط قد فجّر نفسه في سيّارة مفخّخة في باب الكتيبة، وسقطت الكتيبة بعد نجدة من القوّات الخاصّة التابعة للواء عبد الفتاح يونس رحمه الله.

كادت بنغازي أن تسقط فريسة للكتائب، لقد سخّر القذافي رتلاً عسكريًّا يبلغ طوله 90كم، مُدجّجًا بالقذائف وحبوب الفياجرا لمهاجمة بنغازي، فعندما كانت طلائعه في منطقة طابلينو وقاريونس، كانت مؤخّرته عند منطقة المقرون، لكن طيّارتيْن للثوّار ضربتا مقدّمة ووسط الرّتل وسقطتا إحداهما من نيران الكتائب، والأخرى من نيران صديقة حيث حسبها الثوار طائرة معادية، ثمّ جاء الطيران الفرنسيّ وأجهز على الرّتل الذي شاهدتُ آليّاته، وقد تفحّمت على طول الطريق السّاحليّ.

* كيف تحوّلت بنغازي إلى عاصمة ثوريّة؟

لم يكن الشعور بالنجاة مجرّدَ حدث إنسانيٍّ عابرٍ في بنغازي، بل كان حدثًا تاريخيًّا، مدينة بكاملها كادت تهوي وتسحق تحت الدّبابات وصواريخ جراد التي وصل منها العديد لأطراف المدينة، فجأة تحوّلت كلّ بنغازي والمناطق المحرّرة إلى جوّ ثوريّ إنسانيٍّ راقٍ تسوده المودّة والرّحمة والعمل التطوعيّ، على الرّغم من وجود تجاوزات منطقيّة بسبب انتشار السّلاح بعد فتح المخازن أثناء سقوط الكتيبة، ولم يستطع قلمي أن يشاهد كلّ هذه الأحداث التاريخيّة ويصمت، ممّا كتبتُ قصيدة بعنوان "عند الكتيبة"، ظلّ راديو الثوّار يصدح بها، ممّا شكّل خطرًا عليّ شخصيًّا، خاصّة وأنّ مديري المباشر لإدارة المطبوعات التي كنت أعمل فيها كان الناطق الرّسميّ باسم القذافي، د. موسى إبراهيم.

* كلاجئٍ فلسطينيّ.. هل ترى نفسك تدفع الثمن مرّة أخرى بلجوءٍ جديد؟

من فضل الثّورات العربيّة عليّ أنا اللاّجئ النازح مَهيض الجناحيْن هو السّماح لنا بالذهاب إلى قطاع غزة بترحيل عبْرَ مصر، وبدأ الترحيل ...

* وكيف كانت رحلتكم مِن ليبيا إلى مصر؟

على الحدود الليبيّة المصريّة في بوّابة السّلوم، كان لا بدّ من إذلال الفلسطينيّ، كيف لا وذلّ الفلسطينيّ ارتبط بالمعابر والحواجز! رُمينا مع أُسَرِنا أيّامًا في العراء، لأنّ التنسيق لم يتمّ بعد حسب حججهم، ووصل الأمر حدّ الانفجار، فقد أغلقنا معبر السّلوم الدّوليّ ومَنعنا الحركة فيه، حتى أتى اللواء السّيّد المحلاّوي مُهدّدًا وموعدًا الفلسطينيّين الذين أغلقوا بوّابة السلوم، وداسوا على شرف مصر وكرامتها حسب قوله، فوجدت نفسي في مواجهته والشّجار معه ،كونهم يدوسون على كرامة الفلسطينيّ ويمتهنون إذلاله، حتى سحبني من يدي شيخ قبيلة "أولاد علي" ساكنة الصحراء الغربية المصريّة، ليَعدَني بإنهاء الإجراءات الليلة إن فتحنا المعبر، وتمّ ذلك..

وصل خبر إغلاقنا لمعبر السلوم إلى الحكومة الفلسطينيّة في غزة، وناولني أحد أطباء الإغاثة المصريّة هاتفًا من د. عبد الرحمن حمد، الذي قال إن الحكومة تبذل قصارى جهدها مع المصريّين، للسّماح لنا بالمرور عبر مصر، وبعدها اتّصلتْ بي فضائيّة الأقصى لأُدليَ بتصريحٍ صحفيّ في النشرة الإخباريّة عن الحدث...

* لم تتحدّث عن التعب والإرهاق والاعياء في رحلتكم.. هل كانت مسيرة ترحيلكم خالية مِن المتاعب؟

أضاع التعب والإرهاق لذة الموافقة على دخولنا "مُرحّلين" عبْر مصر، فجثى الليل فوقنا باردًا ثقيلاً، لكن الأجفان لم تغلق حتى لثانية، كيف وأنا أعبر مصر لأوّل مرة منذ 36 عامًا؟

أعدت قصّة عشقي لمصر، وحاورت كلّ بقعة ضوءٍ خارجة من شباكٍ بعيد ذلك اللّيل، وهمستُ لكلّ نسمةٍ هبتْ على وجهي من شباك الحافلة، وأسررتُ مشاعري لكلّ شعاعٍ ضعيفٍ يتسلّلُ عبْر ستارة اللّيل، إنه الفجر، فجر مصر الذي تشقّق فوقي من جديد وفي مرحلة تاريخيّة جديدة، تبللتُ بالضّوء، وحالةٌ عاليةٌ من الإنشاد تجتاحني وأنا أعبر الاسكندريّة العظيمة الحبيبة، لولا أنّهم سيتّهموني بالجنون ويزجّوا بي في السّجن لهربت من الحافلة، لأتلمّس شواطئها وأمشي في شوارعها وأشتم هواءها، وأشرب القهوة في مقاهيها، يا إلهي إنها الاسكندريّة...

كيف تلقّيتم الرّفض المصريّ بمنعكم من دخولها أثناء عودتكم إلى غزة؟

قلنا.. أنُحرَمُ نحن مِن مصرَ فقط لكوننا فلسطينيّين؟

أنُحرَمُ من نيلِها الخالد ومن عبقها الجماليّ الخاصّ المليء بكلّ تفاصيل الحياة؟

وهل يعقل أن أُحرم من أن أمشي في شوارعها شاعرًا وإنسانًا فقط لكوني فلسطينيّ؟

وهل يُعقل أن أرى بأمّ عيني الصّهاينة وهم يدخلون إلى مصر بكلابهم، ونحن تغلق في وجوهنا البوابات بكثيرٍ من الإهانات، وللمفارقة، أنني أحمل وثيقة سفر مصرية؟

وكيف كانت ردود الفعل الإعلاميّة المصريّة على نكبتكم على الحدود؟

كتبت من قبل عدة مقالات لصحيفة أخبار الأدب عن أحقيتي كمثقف في مصر، لكنها لم تنشر، قال لي ضابط مصري برتبة عقيد على السلوم، انتظر .. ستسمع أخباراً سارة بخصوص وضع الفلسطينيين ... ومازلت أنتظر، ولا أملُّ الانتظار.......

قالت الثورة " ذاهبون إلى فلسطين" ولم يعبر أحد..

هتف ميدان التحرير بفك الحصار عن غزة.. لكن الحصار يشتد...

قالت الأحزاب المصرية يجب منع تدفق الغاز الطبيعي إلى (إسرائيل) والغاز مصرٌ على التدفق شبه مجاني، في حين أنه سعره خيالي في غزة،

الشارع قال .. الإعلام المصري قال .. ((ثورةٌ بكاملكها تقول ولا تفعل، ليست ثورة )) .. من همومي ،، أخشى أن تكون الثورة المصرية بالنسبة لفلسطين مجرد تحرك في زجاجة مغلقة أمام مكتب السي آي إيه ......

* كيف رأيتم مصر وأنتم تدخلونها بعد الثورة التي أطاحت بمبارك؟

الحافلة المدفوع أجرتها من الأمم المتحدة، كانت لا تزال تشقّ الطريق، تدخل في شوارعٍ مرصوفةٍ فوق المياه، إنّها الدلتا، دلتا النيل.. الحياة المصريّة المليونيّة تتفاعل في عيون تلك الشبكة الكبرى التي اصطادت عشرات الآلاف من سني المصريّين في مشهدٍ يعجز عن التطوّر.. إننا نعبر متحفًا للفنون التشكيليّة وليس مساحة وطن..

لا أدري ماذا حدث لي وأنا أعبر مُرحّلاً بور سعيد، فورًا قفزتْ مجزرةُ بحر البقر إلى ذهني، لقد سمعت أصوات ثلاثين طفلاً يستصرخون الدّم جنوب بور سعيد في مركز الحسينيّة، وبمروري المكانيّ مرّت الذكرى الحادية والأربعين للمذبحة، ولأكون دقيقًا مرّ خمسة أيام على الذكرى...

ولا أدري ماذا حدث لي وأنا أدخل الاسماعيليّة مُرحّلاً بمراقبةِ دقيقة من جندي من الأمن المصريّ، شريط حرب الاستنزاف يمرُّ سريعًا، ولا زلت أشتمّ رائحة الغارات الإسرائيليّة على المدنيّين في الاسماعيليّة..

ولا أدري ماذا حدث لي وأنا أرى قناة السّويس، وأعبُرُ من فوق كوبري السّلام لأرى عشرات الآلاف من المصريّين الذين ماتوا وهم يحفرون القناة، أراهم يتلاشون في مياه القناة وينتشرون في روحها..

* كيف كانت مشاعرك شخصيًّا وأنت على مشارف غزة؟

لا أدري ماذا حدث لي في سيناء .. الحافلة كانت تشق البلدات والقرى، وفي لحظة قلت لأهلي الذين يرافقونني: "امكثوا.. إنّي آنستُ نارًا لعلّي آتيكم منها بقبسٍ".. وكانت النار المقدسة تتعالى في داخلي وأنا أقتربُ للبوّابة الوحيدة لوطنٍ لم أعرف منه غير الاسم .. فلسطين..

النار تتعالى والنداء يكاد يقول لي "اِخلع نعليْكَ.. إنّكَ في الطريق إلى الوطن".. جميلٌ أن تشعرَ أنك تخلق من جديد، وأنك تخرج من رحمٍ ما من جديد، لكن هذه المرة بوعيٍ تامٍّ وشغف..

سيناء رحم كبير أخرج موسى نبيًّا، ويُخرجني الآن عاشقًا في رحلته الصّوفيّة إلى غزة .. وهو عنوان أوّل قصيدة كتبتها بعد دخولي فلسطين "رحلة الصّوفي الأخيرة إلى غزة"..

* كيف كان الأمن المصريّ في تعامله معكم؟

لا يزال الأمن المصريّ يلبس قناع النظام القديم في التكشير والسّباب على كلّ ما هو فلسطينيّ، لكن قرارًا أعلى بالسّماح لنا بالدّخول كوننا آتين من حربٍ، وطبعًا داخلين إلى حرب وليس إلى منطقةٍ آمنة، هو الذي جعلني مسيحًا أسيرُ بمعجزتي هذه التي لم تتحقق منذ 44 عامًا بالسير على ماء الوصول!

وكدت في صالات رفح أُشفي الأبرص والأكمه لو وُجدوا، لكني خشيتُ الصّلب..

* بعد أن وصلت فلسطين مرّة أخرى.. هل تجد نفسك في غربة أخرى جديدة؟

إنها فلسطين، لكن ليست الجنّة، بعدت عنها منذ 44 عامًا نازحًا، وعدتُ إليها مُرحّلاً ودخلتُ فيها أجرجرُ صليبي في طريقٍ طويل، لا أدري أهو طريق الآلام أم غربة جديدة تُكتب لي في وطني، كما عنونته صحيفة فلسطين في لقاء مطوّل على حلقتيْن، "عودة الطيْر إلى سربه غريبًا".

هذا الطير استطاع الولوج من فتحةٍ قيصريّة في السّياج، دخل يحلمُ بسماء، لكنها سماءٌ صغيرة محدودة التحليق، الظروف كلّها أمسكت بجناحيّ كي لا أحلق بعيدًا، بوثيقتي المصريّة دخلت لكن إلى سجنٍ كبير اسمه قطاع غزة، وثيقة لا تسمح سوى بالتحرّك في اتّجاهٍ واحدٍ، والطائر لا سماء له، لأنها مسكونةٌ بطائرات الاستطلاع والإف 16، والانتهاك الذي أصبح اعتياديًّا، والممزوج بقصف أهدافٍ هنا وهناك، وهذا ما يحدث هذه اللحظة وأنا أكتب حيث أسمع دويّ قصفٍ من طائرة استطلاع في مكانٍ أجهله ...

* كيف تصف للقارئ دخولك إلى وطنك؟

دخلتُ إلى وطني بلا حدائق فرحٍ تصاحبني، لا بيت لي ولا مال ولا فضاء، فقط أملٌ أن أملأ هذا الوطن بقصائدي وأعمالي الإعلاميّة، أن أزرع في المساحة التاريخيّة لفلسطين نثار ضوئي، إني لم أدخل الجنة، لكني دخلت الوطن الذي قد يُهديني بيتًا أو قبرًا سيان..

كان لنسيبي حسام الفضل في تعريفي بتفاصيل القطاع، شارعًا شارعًا ومَعلمًا معلمًا، وأنا على ظهر درّاجة بخاريّة خلفه، كنت أرى على طول الرّحلة حدود القطاع، وأشير إنها فلسطين، وكان لإقامتي مع أهل زوجتي في بيت حانون فرصة لأكون قريبًا جدًّا من بلدتي يبنا، لدرجة أنّي أتمنى أن أنصبَ خيمةً قرب الحدود في انتظار تحرير فلسطين، لأكون أوّل الدّاخلين.

هههه.. قالوا سيقصفونك بمجرد الاقتراب، وهو ماحدث من إطلاق نار عندما حملتُ لوحةً كتبتُ عليها (عائدٌ إلى يبنا) يوم النكبة في الذكرى 63 على حاجز (إيريز)!

* كيف ترى الوطن من الداخل؟ وكيف كنتَ تنظرُ له مِن الخارج؟

الوطن من الخارج مختلفٌ تمامًا عن الوطن في الدّاخل، من الخارج هو قيمة وحلم بعيد ورومانسيّة تُشبِع خلاياك، ونظرة نضاليّة نمطيّة لأصحابه، ومن الدّاخل كلّ شيء اختلف فجأة، وخاصّة وأنا أرى مخيّم جباليا، تلك الحيويّة التي لم أعتد رؤيتها، والأسواق العامرة أكثر من أيّ بلدٍ عربيّ رغم الحصار، والتفاصيل الكثيرة الكثيرة التي لم يقلها الإعلام في الاقتصاد والسّياسة والسّلوك الاجتماعيّ.

الواقع في قطاع غزة مليء بتفاصيل متداخلة يصعب إيجادها في أي قطعة أخرى من العالم، تحتاج أن تكون ليس شاعرًا أو صحفيًّا لتشرحه، بل أن تكون فيلسوفًا وعالِمًا في الاجتماع والاقتصاد، وخبيرًا بدهاء السّياسة وعاشقًا..

إنه قطاع المتناقضات بالفعل، تتعايش فيه كلّ صنوف الحياة المخلوقة في الأرض، الفقر المذقع مع الغنى الفاحش، الحياة اليائسة مع الموت الرّحيم ، والموت اليائس مع الحياة الرّحيمة، التعليم مع الجهل والإبداع مع الابتداع، الحديد مع البشر، الأمل مع اليأس ، الوطنيّة مع العمالة، أقصى اليسار مع أقصى التشدّد، والخدّ مع الصّفعة .. إنه قطاع المتناقضات

*هل ما زلت على أبواب التفاصيل، أم أنك اقتحمت تفاصيل الوطن بشغف؟

دخولي للتفاصيل المرهقة تلك والتي تجعلك طفلاً عجولاً في الإجابة عن أسئلته التي لا تتوقف، جعلَ المشهد غير جدير بكتابات الحنين والرّومانسيّة والعاطفة الجيّاشة تجاه معشوقٍ لم ترَه، إنني الآن سيّد التفاصيل، وراعيها الرّسميّ لأُدخِلها في نصّي الشّعريّ، واتسعت الرؤية بي في الكتابة لحدّ أنّ قصيدة النثر أخذت حيّزًا في كتاباتي داخل قطاع غزة، أن أكتب عن "غزة من فوق" بكلّ التفاصيل التي تشاهدها، وأنتَ أعلى أبراجها العديدة التي بنيت في عهد الرّئيس الرّاحل عرفات؛ لا يمكن أن تكتبها باتّساع إلاّ بقصيدة النثر، وأن أكتب – بعيدًا عن الحماس عن مخيم جباليا بكلّ فسيفسائه وتعقيداته، لا تحتمله قصيدةٌ عموديّة ولا حتى تفعيلة، لقد كتبته بقصيدة نثر، وأن تكتب عن منطاد المراقبة الذي يراقب كلّ شاردةٍ أو واردة لا يكون إلاّ بقصيدة نثر... ولأنّي امتلأت بالتفاصيل حتى التخمة، قرّرت أن أُنتج أشرطة وثائقيّة عن الكثير ممّا يُقال، وقد بدأتْ.....

* كيف تلمس الأجواء في قطاع غزة بعد 44 عامًا من الغياب؟

هنا في قطاع غزة الحسابات دقيقة في سؤال الانتماء، ليس الانتماء العام للوطن، بل الانتماء التنظيميّ الضيّق .. التعامل معك، خاصّة في المؤسسات الرّسميّة يكون ضمن إطار "مَن أنت"؟

وإن لم تمتلك الإجابة يمتلكون الشكوك لدرجة الرّفض، وهذا أحد طقوس الغربة التي يعيشها قادم من زمنٍ بعيد، وهنا في غزة تنتهي بيولوجيًّا بسرعة، أنتَ في الخامسة والأربعين كهلٌ ليس بالهموم، لا، فذلك اعتياديّ بل في كلّ شيء، وظيفيًّا يُلوّح أمامك بالتقاعد الإجباريّ أو الاختياريّ، اجتماعيًّا أنتَ في الأربعين جدٌّ تتعلق على كتوفك سلسلة من الأجيال، وهي في الأربعين جدّة .. نسيت حياتها في دورة بيولوجيّة مغلقة، وبحكم كونكما من فئة الجدود، فأنتما أيّها الكهلين على الرّفّ، والشباب الكثيرون جدًّا هنا يدفعونكم إلى جنبات الطريق أثناء عبورهم في الحياة..

* والآن؟

صوت الأباتشي الآن يقترب، وهناك قصف متقطّعٌ ردًّا على عمليّة إيلات، وأيّ فردٍ هنا؛ حياته معلّقةٌ في زرّ الإطلاق لطائرة الأباتشي أو الإف 16 لا فرق، فقد تعدّدت الأسباب والموتُ واحدٌ، الموت الذي يعتبره الغزيّون في الأزمات حالة اعتياديّة ينتظرها الجميع..

صمت السنين/ مجد عوني



بعباءاتهم الغبراء جاءوا قوافل شقت طريقها للوصول إلى بلاد قوم ألفوا مودتهم وعطائهم يتبادلون التجارة فيما بينهم وعيونهم إلى الحضر حيث هم القدوة وهم العالمون المتعلمون وهم أهل الدين والدنيا وأهل المعرفة والكرم والأصالة لكن هي حال الدنيا فالبدو أيضا لهم شمائلهم وشهامتهم وفراستهم وان شقت الدنيا عليهم مسعاهم وحلهم وترحالهم . نادى فلاح ابنه جاسم أن أسرع بابني لقد أدركنا الوقت فغدا صباحا موعد تجمع القوافل عند مدينة الكسوة للعودة إلى الديار " الكسوة مدينة صغيرة قرب دمشق وسميت كذلك لأنها كانت تجهز كسوة الكعبة المشرفة سنويا " فقد قارب الشفق على المغيب و أمامنا سويعات قليلة وشاقة للوصول الى الكسوة وهناك نبيت مابقي لنا من الليل , ربطوا خيلهم وإبلهم المحملة من تين وزيتون وزبيب وقمرالدين وغيرها من بضائع وخيرات الشام ساروا بضعة ساعات حتى وصلوا الكسوة , سال جاسم أبيه فلاح عن معرفته بهؤلاء القوم وكم من السنين أمضى برحلة الصيف تلك فقد كانت المرة الأولى لجاسم مع أبيه حيث بلغ أربعة عشر ربيعا واشتد عوده قليلا وأصبح يتحمل مشاق السفر كان الأب فظا بعض الشيء مع ابنه فيجيبه إجابات مختصرة تنم عن نصائح وتوجيه يتعلم من خلالها الولد مسيرة آباءه وأجداده , سنة الله في الأرض ميراث الآباء للأبناء كما هي سنة الله في ارضه " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم " صدق الله العظيم , هي صورة مصغرة جدا عن تاريخ مضى وهذا الحال يزيد تاريخه عن مائة عام إلى ما قبل ألف وأربعمائة عام في جزء صغير أيضا من تاريخ الأمة , الأمة التي انزل الله عليها كتابا يتلى الى قيام الساعة فيه هدى ونور فيه اخبار الاولين والاخرين فيه الاعجاز العلمي الذي يبرز وضوحا كلما تقدمت السنين وتطور الانسان وجعل امة العرب خير امة أخرجت للناس تشرفت البشرية بقدومه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهذا التشريف من الله جل في علاه لهذه الأمة لأنها وسطا ولأنها مشيئة الله تعالى لشيء نعلمه وأشياء لا نعلم منها إلا قليل , نظرة سريعة الى عصر النبوة وتاريخ فتوحات الإسلام التي لم ولن تتكرر أبدا حيث كان الفتح الإسلامي الذي حير العالم بأسره فوصلت فتوحات المسلمين من الصين شرقا إلى الأندلس غربا وما فيها من مئات المدن والبلدان خلال فترة لا تزيد على ستون عاما انطلقت جحافل الفاتحين بسرعة لم يتخيلها العقل انطلقت من بلاد العرب الأولى من مدن كانت تتناحر فيما بينها بين اوس وخزرج وبني قحطان وبني آخرين لم يكن لها أي وزن عند الدول العظمى آنذاك الفرس والروم انطلق العرب المسلمين فاتحين مؤزرين من نصر إلى نصر بداية من مكة والمدينة في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم ما لبثت إن بدأت الخلافة الأموية بعد ما يقرب من ثلاثون عاما من الهجرة حيث أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الإسلامية وهناك اتسعت الفتوحات شرقا وغربا شمالا وجنوبا , نقول ونعرف ان كثيرا من السلاطين والخلفاء كانوا قد ابتعدوا عن كلمة الحق وأصبح الحاكم أو الخليفة أو بعض الولاة ظلاما أو عصاة عن أمر الله الحق لكن كانوا تحت راية حكم الإسلام بكل الأحوال حتى من كان عاصيا أو فاجرا أو كان يدعي الصلاح فقد كان متسترا تحت عباءة الإسلام وكانت كلمة الحق هي السائدة مجتمعيا والقران والحديث النبوي الشريف هو أساس الحكم وبقي كل من تولى أمر المسلمين تحت هذا اللواء حتى انهيار الخلافة العثمانية قبل مائة عام تقريبا , حارت اوروبا مئات السنين مع المسلمين بعد نجاح الاسبان في كسر شوكة المسلمين خلال اكثر من خمسون عام من حروب كر وفر انتهت بعدها دولة الاندلس الاموية وعاد الحكم الى الكنيسة في القرن السادس عشر الميلادي لكن انذاك لم يكن كسر شوكة المسلمين في الاندلس او في شبه الجزيرة الايبيرية كما يسمونها هو انكسارا للدولة الاسلامية اذ بقي المسلمون على مكانتهم وقوتهم في بلادهم من شرق اسيا الى شمال افريقيا هو عهد الخلافة العثمانية الذي طال مايقرب من اربعمائة عام , اما مانعرف نحن في التاريخ فقد قيل لنا في دروس التاريخ المدرسية انه كان احتلالا عثمانيا للوطن العربي بكل بساطة هذا ماعلمونا اياه في التاريخ قد يكون ذلك صحيحا في السنوات الاخيرة من الخلافة العثمانية كانت حروب طاحنة بين الدولة العثمانية واوروبا امتدت عشرات السنين كانت ترمي الى اقصاء المسلمين عن وحدتهم وشرذمتهم كانت اليونان وبلغاريا والبوسنة والبانيا هي ارض تلك المعارك وكان هناك دور كبير للشيوعيين ايضا في بخارى وطاجيكستان واوزبكستان وغيرها من بلاد الاسلام الى ان توصلوا الى هدم الروح المعنوية للدولة الاسلامية بقيادة اتاتورك الذي نجحت اوروبا بعد صبر طويل من تركين دعائم حكمه كمؤسس دولة تركيا الحديثة فتغير الحرف العربي في تركيا الى حرف لاتيني وتغيرت معالم ملبس وحياة الاتراك وفي ذات الوقت كانت ترمي افخاخا للمسلمين من عرب الجزيرة والشام ومصر بانه حان الخلاص من الاتراك او العثمانيين لقد كان ما قبل ذلك مباشرة كان السلطان عبد الحميد هو الخليفة الفعلي للمسلمين كان قويا تخشاه اوروبا وتلتمس بريطانيا منه عطفا وشفقة على اليهود بان يسمح لهم بزيارة بيت المقدس الا انه رفض مرارا وتكرارا فقد كان يدرك ماترمي له بريطانيا من تاسيس دولة يهودية في فلسطين , نعود قليلا لنرى التاثير الذي تركته الدول الاستعمارية على الامة العربية الاسلامية لنجد ان الغرب بقيادة بريطانيا اختار لنا قيادات كان لها وزن ما في اطياف المجتمع فكان الهاشميون كالملك فيصل الذي جعلوه ملكا على سوريا والعراق وال سعود في الجزيرة العربية وبعض المشايخ في المحميات البريطانية في الخليج كما نصبوا ملك مصر واميرا هنا وشيخا هناك , لقد نجحوا ببراعة في تفكيك اطر واسس الدولة الاسلامية واعطي الوعد الحلم لليهود بدولة يهودية في فلسطين وبدأت ملامح سايكس بيكو تظهر في تقطيع اوصال هذه الدولة التي انهكتها الحروب والجهل والنزعات الطائفية التي لم يكن احد يتفوه بها وهي صنيعة الغرب ايضا, لن نطيل هنا فسايكس بيكو غني عن التعريف وبعد ان صار احدنا يخشى ان يتجاوز حدود دولته الى دولة اخرى سيرا على الاقدام احيانا او على دابته احيانا خشية من اوامر سايكس بيكو صار حق علينا وعد الله بعد ان تركنا الاعتصام بحبل الله وفهمنا " ولاتفرقوا " بأن تشرذموا شيعا ودويلات هنا اسمحوا لي ان الفت النظر الى امر جلل قد وقعنا فيه وهو الثروات النفطية ركاز الله في ارضه كيف صارت حكرا للبعض ومحروم منها البعض الاخر بطريقة مريبة اذ ان من دولنا العربية الاسلامية عوائدها اليومية بالمليارات وعلى حدود هذه الدولة بلد آخر لا يملك قطميرا من هذا النفط لا بل والانكى من هذا كله لعلك تجد فقر مدقع في ذات الدولة الغنية جدا تلك اذ ان الثروة لأل فلان وماتتفضل به على بعض شعبها هو عطية يبقى الآخذ منها عليه شكر الملك وحكومة الملك الى يوم الدين , أسرد هنا كلاما يعرفه الجميع وما أتيت بجديد فلقد اعتدنا على ماوجدنا عليه اباؤنا ونقرأ في قرآننا يوميا " او لو كان آباؤهم لايعقلون, لايفقهون , لايعلمون" الا اننا صم بكم كالأنعام بل هم أضل, لاعيب ان نذكر ونعيد ونذكر فقطرة الماء المتوالية تشق الصخر فبالأمس القريب كان فرعون مصر على عرشه وهاهو يتمارض كالطفل عله يفلت او يخفف عنه العقاب وطاغيه تونس يتلمس استمرار عطف ذات الملك الذي تحدثنا عنه أما أضل ما خلق ربي من طغاة الارض ملك الملوك وعميد الحكام نراه اليوم كالفأر مختبئا متخفيا واذا سألنا عن ملياراتهم بل تريليوناتهم بل ثرواتنا المنهوبة علمها عند ربي يتنعم بها ال صهيون وال العم سام وآل كاميرون وساركوزي وغيرهم , الغرب تيقن من هواننا على انفسنا فهو لايبالي بأن ينخلع هذا الحاكم او ذاك فالفضيحة الان ليست ذات اهمية وان نعرف من دعم ساركوزي من أعرابنا الرؤساء ايضا غير مهمة وصفقات الاسلحة التي تمت بمئات بالمليارات كي ترمى في المخازن ينتظرها الصدأ وبعد عشرات من السنين تعود لتباع خردة فتصهر من جديد والمليارات اصبحت دراهم معدودة ولم نعد نخجل او يخجل الغرب وامريكا من استمرار تفاوض الفلسطيني مع الاسرائيلي مثل تفاوض النمر مع الأرنب فأسرائيل بالنسبة لامريكا هي الابن المدلل ونحن يمكن ان نكون حراسا لهذا الطفل او لانكون, هذا منطقهم اما نحن فليتنا نجعلهم يدركون اننا سنصحوا يوما اذ انهم ايقنوا ان نومنا سرمديا.


شقة رقم خمسة عشر/ امينة اوبنزكري


كعادته يبحث في علبة رسائله الصدئة المثبتة في ردهة العمارة حيث يسكن , كمن ينتظر رسالة مهمة ... أو كأنما يوهم نفسه بذلك . عله يكسر رتابة يومه المتصدع . يدخل يمناه ويتحسس جوف الصندوق المهترئ ... فيجده فارغا ككل يوم , ويجد نفسه ملزما بالعودة إلى شقته مذيلا بخيبات الأمل ... يجر خطواته في تثاقل الى أن يبلغ عتبة داره ...
وبينما هو منشغل بالبحث عن المفتاح الذي أظله في جيبه, تبادر الى مسمعيه صوت خافت قادم من الشقة رقم خمسة عشر , تلك الشقة المدفونة هناك , في آخر الممر , والتي تضاربت حولها قصص سكان العمارة , من روايات عابثة ظلوا يختلقونها في مجالسهم حتى باتوا يصدقونها. حول سيدة عجوز , مات زوجها مذ سنوات فأصبح شبحا يزورها في كل انتصاف ليل , يئنس وحدتها بين جدران شقتها الهرمة ...
"سخافات ... سخافات ", ظل يتمتم بتلك الكلمات بنبرة مختنقة وهو يتحسس جيوبه بحثا عن المفتاح , بينما ظل بصره يجاري فضوله ويمده الى اخر الممر عله يأتيه بالخبر اليقين , لكن نظراته الثاقبة لم تشبع فضوله المتصابي , فقد تسيدته رغبة جامحة لمعرفة مصدر الصوت , أو لربما تسلل اليه الشك حول قصص الجيران العابثة ,أو أنه يحاول كسر رتابة يومه الذي يشبه كل الأيام في جداول معصمه الهزيل ...من يدري فيما يفكر ...
ظل يتوغل في الممر باتجاه الشقة رقم خمسة عشر , وكله توجس ... الى أن تلاشت معالمه في ظلمة المكان , اقترب من باب الشقة , ومد سمعه عله يتحصل على اجابات شافية لفضوله المتؤجح , فضول بالكاد يتعرفه اليوم مجددا , بعد مضي وقت على انعزاله بشقته وطمسه لمعالم الانسانية بداخله . فبات مجرد كيان هزيل تتقاذفه الأهوال في الدروب الجائعة للتجارب , حتى انعدم لديه الاحساس بالزمن أو بالاخرين من حوله ...
اقترب من عتبة الباب , وظل متخشبا في مكانه بينما يسمع صوت السيدة العجوز وهي تحاكي زوجها المتوفى . فاندثر غبار الشك من على يقينه , وتأكد من أن قصص الجيران مجرد سخافات , وأن العجوز تعاني من هوس جعلها تحاكي نفسها ظنا منها أنها تحاكي زوجها ...
عاد أدراجه الى شقته وهو يرثي السيدة الذي حز في خاطره حالها كثيرا , وجعل ينساق مع واقعه المرير الذي يكاد يشبه حالها , فهي تنتظر زوجها الميت بل وتحاكيه حتى باتت تصدق بوجوده معها , بينما هو ينتظر مرسالا من شخص كان يوما عزيزا على قلبه , تركه وحيدا بين أربعة جدران يتجرع فيها مرار الوحدة... استحضر شريط ذكرياته , مذ أن هجرته , فوجد أن حياته قد توقفت مذ ذلك الحين , وانه اختار الانتحار على ضفاف جحودها بينما هي تغدق بالحياة بعيدا عنه , اكتشف أنه يدفن شبابه تحت أنقاض معاناته , وأنه سيأتي عليه يوم يحل فيه محل العجوز في العمارة , ويصبح مجرد رواية عابثة يتسلى بها الجيران ...
فاكتشف أنها لا تستحق الانتظار , وأن عليه المضي قدما في حياته ... وأيقن أن علبة رسائله الصدئة ستظل دائما فارغا ان ظل هو على ماهو عليه الان ...


اعترافات أمجد ريان في اتحاد كتاب الدقهلية

كتبت الشاعرة فاطمة الزهراء فلا‏

بكثير من الإعجاب وقليل من المناوشات تحدث الناقد والشاعر الكبير د. أمجد ريان عن ديوان الشاعرة فاتن شوقي ( الفيض يلقي لنا التسابيح )بين جمع كبير من أعضاء اتحاد كتاب الدقهلية الأدباء فؤاد حجازي والسعيد نجم وعلي عوض وفرج مجاهد ووحيد راغب ورضا عودة ود. سمية عودة وعلي حليمة والناقد ابراهيم حمزة وعبد الناصر الجوهري وآخرون , وأدار الندوة الشاعر عبده الريس وبحضور الشاعرة فاطمة الزهراء فلا رئيس الفرع .

استطاع الدكتور أمجد أن يكون حلقة وصل بين الديوان والحاضرين فقرأ القصائد وحللها وعلق عليها مبديا إعجابه بالقصائد التي وصفها بالعمق والثقافة والبعد التاريخي ولضم الأحداث وثورتها علي العولمة ثم تدرج فاتن شوقي في القصيدة رويدا رويدا لتسرق القارئ إلي عوالمها الملونة بألوان مفرحة أحيانا قاتمة في أحيان أخري , كما أبدي إعجابه بالعنوان وأنه يجعل القارئ يتخيله أشياء كثيرة , قد تكون صوفية قد تكون اجتماعية .
وسرد الناقد مفردات لغتها الذي وصفها بأنها لغة خاصة بها وأن قصائد بيتك ..بيتك , وقصيدة الحية كانتا أكثر من رائعة .

استطاع اتحاد كتاب الدقهلية أن يكون مشاركا حقيقيا في تسليط الضوء علي إبداع أبناء الدقهلية الذين لا يقلون في إبداعهم عن أبناء العاصمة , وفي نهاية المناقشةاعترف أمجد ريان بأن هذه الندوة أذهلته بكثرة العدد الذي حضرها وتمني أن تكون ندوات العاصمة مثلها

صراخ النوافذ المغلقة/ خليل الوافي


اغلق الباب مغاضبا
احدث الصوت جلبة الفضول
البديهي عن فحوى القلق المعلن على ايقاع النشيد الوطني
تذكر الصبى والطفلة المكتنزة لرطوبة الاماكن الاسنة
تذكر كل شيء وهو على مرمى تقاطع شارعين قريب
من حدود النزاع القائم بين الجيران
كادت احدى السيارات ان تدوسه من فرط الهذيان
والسيجارة الذايلة بين اصابعه تفرز خاصية التوتر المكشوف
للاعداء والاصدقاء...
اوقف منبه السيارة شريط احلامه التائهة في ذاكرة
اثقلها هم النسيان المفاجئ لقرار الابعاد والاقصاء
لاتحمل قلما احمر في جيبك الايسر
ولا تضع نظارات شفافة تغير ملامح وجهك الرجولي
وتدفعك الاحاسيس الجديدة لمعنى الاختيار لشخصية...
الممثل الخارج عن مسرح الاحدات...واصوات لا تمثل الا نفسها
في زحمة النجاة والفرار الى ذات انهكها تعب الانتظار
كانت الحرب اعلنت بداية اللوائح الطويلة لقائمة القتلى
في زحمة الحياة السريعة نسى ان يتذكر وجهته
نسى لماذا خرج في هذا الوقت بالذات
ولم يكن وقت اخر
حاول جاهدا ان يتذكر...لماذا وجد نفسه هنا
...خارج البت
حاول ثانية...استعصى الامر الى حد ندم على لحظة الخروج
وهذا الموقف الماساوي الذي وجد نفسه
يواجه مصير النسيان المركب من عنصر المواجهة...
لا يريد ان يكون صورة هامشية لاحداث الصراع
في قلب المعركة يجد نفسه بطلا اسطوريا
يحمي جبهات القتال...ويدفع الاذى عن نفسه
في كبرياء متعال...وشموخ يسقط السيف في عتمة
الجماجم القديمة تحملها خفافيش تاريخ مغاراة معزولة
على حدود جزر موغلة في العذرية والكائنات الاولى
...قبل بدء الخليقة
تراه يرىالوجوه في الصفوف الاولى من المارة
لا يرى احدا في ظل هذا الانكماش الخرافي...
يعيش عالمه بقوة الاحساس الممزوج بالوحدة القاتلة...
والظلال المتعافية خلف اسوار قلاعه البعيدة
ترمي نفسها للبحر...تطلب اغاثة مؤجلة
لملايين السنين...ضاعت الرسالة...وانكسرت الزجاجة
ولم تعد الرسالة الى معنى الخطاب ولا فحوى الانكسار
تردد كثيرا في قول الحقيقة
وهو ينظر الى وجهه في زجاج النافذة المقابل لسكناه
لم يعد يعرف وصف الكلام المعبر على صورة الشكل
ولا المجاز الخفيف على ظل امراة لا ترتدي الا انوثتها الفاضحة
ربما لم يخرج من بيته
شعر بالندم...كيف خرج...وما السبب
كيف انا هنا في هذا المكان الذي لا اعرفه...
تتشابه الوجوه والمنازل المتلاصقة تحن الى بعضها
اكثر ما يحن الانسان لاخيه الانسان...
حاول ان يستوعب الموقف والحرج النفسي الذي وضع فيه
لكنه حاول جاهدا مرة اخرى ليتحسس وجه الذاكرة
وامساك الامور حتى لا تخرج عن السيطرة
التفت الى الجهة المقابلة لبيته...رفع راسه ليرى شكل النوافذ
الحمام يقف على حافة الشرفة...يحدث ارتياكا عميقا في نفسه...
لم يصدق ان الحمام يطير...ويعود الى النافذة...
حاول ان يتذكر كل شيء...تفاصيل بيته من الداخل...
لكن حركات الحمام المتكررة افسدت عليه فسحة الادراك
وجمع شتات المفكرة...ووضع الصورة في مكانها المالوف
تضيع الاشياء منه بسرعة كبيرة...
اختفى الحمام على مرمى النافذة...
تذكر انه خارج البيت...وعليه معرفة وجوده هنا.
ماذا افعل بجسدي الذي يدفعني لقول الحقيقة
اضيع في متاهات الاسئلة المحرجة والمطابات المضحكة...
يشتد ايقاع الصورة الهاربة...تنزلق الكلمات المعبرة...
اتيه في ضوضاء الناس وضجيج الحياة الجديدة...
هل انا من هنا...من هذه البلاد
اعرف كل شيء...اتذكر كل شيء...
فكر في هذا الوضع...ولم يستسلم...عاود المشي
عساه ان يعرف احدا او شخصا او شيء يدله على هذا المكان
الذي وجد نفسه-بشكل من الاشكال-داخله...
خطى خطوات مشدودة كما يريد ان يعود الى الوراء
وفي لحظة السير المتثاقل لاحظ وجود كشك في الجوار
الان...بدا يتذكر كل شيء...
-انه بائع الجرائد...ساذهب لاقتناء جريدتي المفضلة
لقد تعود كل صباح قراءة الجريدة...نظرالى صاحب الكشك فعرفه على الفور
احس في داخله بثقة كبيرة وهو يحمل الجريدة في يده
هكذا تكون الامور بسيطة الى حد التفاهة...وتتعفد خيوط الحياة
لمجرد انفلات احدى هذه الخيوط التي تربطنا بالذات وبالوجود
اعاد النظر في المحلات...والاماكن المالوفة ...تعرف على كل شيء
فكر في العودة الى البيت ليتاكد من فكرة الانفراج الذهني وصفاء الروح
بعد تشويش قليل...
اراد العودة الى البيت ليصدق حقيقة نفسه وان كل شيء على ما يرام
اردت ان تعود الفرحة الى داخلي.
ابتهج فليلا ولو لفترة معينة
اتيه في عوامل الاحساس الغريب بالوحدة في ظل صخب الشوارع الشاردة
اقترب من البيت...تطلع الى نوافذ شقته...شعر ان الوقت يمر سريعا
يسرع في اتجاه نهاية قريبة لوجود مفعم بالغموض الاسطوري
واختفى الحمام على حافة النافذة...وغابت الشوارع الصاخبة
وتذكر انه خرج ليشتري الجريدة
فتح باب بيته ودخل..مازالت النوافذ مغلقة
والسيجارة مشتعلة فوق المنضدة...وكاس شاي وقطعة خبز وشريحة جبن مستوردة
واوراق مبعثرة على الارض
تاكد ان كل شيء في مكانه...تحسس اعضاءه...وكشف لنفسه ان الحياة اعطته فرصة جديدة
وابتسمت له حياة اخرى على الورق.........

في ذكرى رحيله نواف عبد حسن كاتب الوعي الكنعاني والفلسطيني/ شاكر فريد حسن

مرت 8 أعوام منذ أن هزم الموت نواف عبد حسن ، الشخصية الثقافية والفكرية والوطنية متعددة الجوانب والاتجاهات ، التي كان لها اليد الطولى في أعلاء راية الفكر القومي التحرري والكنعاني ـ الفلسطيني والثقافة الانسانية الحقيقية وترسيخ الوعي الثوري المقاوم والملتزم والكلمة النظيفة الشريفة . ورغم هذا الغياب الا أننا أهله وأحباءه ، لم نستوعب حتى الان أن نواف قد رحل الى الأبد ولن يعود.
لقد مات نواف ، مات من كان لاصدقائه ومجايليه من الكتاب والمثقفين والمتأدبين السند واللواء الذي يرفعونه والدليل الأدبي الذي يهتدون به ويلتفون حوله.
كان نواف انسانا خلوقاً ، جسوراً ، نبيلاً ، طاهراً ، متواضعاً في طعامه وشرابه وزيه، معتمداً على نفسه ويكسب الخبز من عرق جبينه . وتكمن عظمته في طيبته وانسانيته الصادقة المجبولة في دمه وفكره ، وفي اتساع ثقافته وتنوع قراءاته ومداركه الأدبية والفكرية والفلسفية والتاريخية والسياسية والاجتماعية. وكان بحساسيته المفرطة ووعيه الثقافي المركب ومعرفته العميقة بما يجري حوله من متغيرات وتحولات مؤرخاً وكاتباً للوعي الكنعاني والفلسطيني ، وكانت الكتابة الأبداعية والنقدية الحقيقية الصادقة سلاحه البتار في حياته ، التي أتسمت بالفقر والقهر والمعاناة ، رغم بعده عن ألأضواء .

نواف عبد حسن الرمز الثقافي والقارئ الذواق النهم والمثقف الأصيل والعميق والمبدع ، حمل هموماً كثيرة وعرف بمواكبته ومتابعته لحركة النشر وللثقافة العربية ، وبحثه الدائم والمستمر عن الدوريات الأدبية والفكرية والثقافية المضيئة والجادة، ونتيجة لوعيه وثقافته الواسعة والمامه بالتراث العربي والانساني العالمي وقف طوال حياته ضد الأدب المزيف الضحل والثقافة المدجنة.

عاش نواف الحالات الفلسطينية بمدها وجزرها ، وأرغمته حالة الجزر الفلسطينية على مجابهة التأملات والتساؤلات بشأن المفاهيم الأساسية التي تسم الخطاب السياسي الفلسطيني، وفي أحيان كثيرة كان ينخرط في حالة مبررة من السوداوية والقنوط .

لم يكن نواف أديباً فحسب ، بل كان كاتباً ومنظراً سياسياً يكتب السياسة بلغة الأدب ، وكان صاحب مواقف سياسية ورؤى مستقبلية واضحة . عبّر عن مواقفه وطروحاته السياسية وأفكاره التقدمية والقومية التحررية الجلية من خلال مجلة" كنعان" الصادرة عن مركز التراث العربي ، التي أشرف على تحريرها، حيث كان يكتب افتتاحيتها التي كانت تتناول أحداث الساعة وتطورات الأحداث وافرازاتها 0 ومن خلال هذه الكتابات يتضح أن طيب الذكر نواف كان رافضاً للحلول التصفوية المتساوقة مع المشاريع الأمبريالية ، التي تستهدف تصفية وتبديد حقوق الشعب الفلسطيني . ويتجلى هذا الموقف في حديثه عن الجريمة الحقيقية ، وهي محادثات الجولة السادسة في واشنطن بين الوفدين الأسرائيلي والفلسطيني ، اذ كتب يقول : " لا نريد ان نناقش وعاظ " الظروف الموضوعية" الذين يتساءلون عن البديل بعدما أكدوا مراراً تبني القيادة الفلسطينية لطروحاتهم التي تفيد ملاحقة " العيار " لباب الدار من منطلق التكتيك السياسي. صحيح أن الأنتفاضة وحدها لا تسترجع الوطن لكنها الخطوة الأولى في استعادة الأرادة وتأكيد الذات وهي الصوت الذي يعلن حضور الشعب الفلسطيني عند كل منعطف يمس وجوده ومصيره وأكبر دليل على أهمية الأنتفاضة النضالية هو حجم المؤامرة لطعنها بسكين التفاوض وبمشاركة فلسطينيين وفروا الغطاء لسوريا والاردن ولبنان في تجاوز الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية". اما البديل الذي طرحه الراحل نواف في مواجهة تحديات المرحلة فهو " رفض الأستسلام ومقاطعة المفاوضات والمطالبة بتطبيق القرارات الدولية بشأن الحقوق الفلسطينية وطرحها مجدداً على طاولة الأمم المتحدة" .

كتب نواف الشعر وله مجموعة من القصائد نشرها في صحف ومجلات الداخل الفلسطيني ، وأهم ميزة لشعره العاكس لوجعه وألمه ومعاناته الوجودية ، كأنسان مستلب ، تلك الصور الموحية الخارجة عن المألوف ، ونجده في هذه الأشعار يبحث عن الأمل والخلاص والتغيير في عالم مليء بالخوف والقلق والضياع والارهاب الفكري والتكفير .

اقتحم نواف ايضاً بوابة النقد الأدبي بثقة ، وكان في نقده حاداً ولاذعاً ، لا يحابي ولا ينافق أو يجامل ، ويقول ما يحس به تجاه العمل المنقود . وفي كتاباته النقدية أفاد من النظريات النقدية المعاصرة ، ولعل من جميل ما كتبه في النقد مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفلسطيني الراحل راشد حسين ، فكتب قائلا: " لقد كان راشد حسين يتمتع ببصيرة بلغت من الوضوح حد النبوءة ، وحضوراً يرافق الزمان مع مهب الثورات من أجل خلاص الأنسان والأرض من قوى الشر والظلام التي نشرت أشرعتها لحجب أهداف الفجر الطالع . هذا الفجر الذي كان هاجسه ، مع أول لحظاته الشعرية حتى اخرها فكلماته تحية فلسطينية نقلت مشاعرنا وتنقلها اليوم ايضاً، وذلك لأن راشد شاعر ثوري وملتزم وأصيل ، فحيثما تقرأه تجده معاصراً ومشعاً ، يضيء مسيرة الأجيال الصاعدة في صنع المستقبل الأجمل، ولهذا فحين يسود الظلام وتنتشر سيول الأباطيل تبقى لامعة عيون الأطفال وكلمات الشعراء ، وراشد من الشعراء الذين عانق بريق كلماتهم بريق عيون الأطفال بصورة مدهشة وبارعة بحيث لم تستطع الة الجريمة العصرية التي يحشدها الطغاة من أجل اطفاء اللهب العاصف لمهمة حملها أطفال القدس ، وقد ضبطوا خطواتهم على أيقاعهم الشخصي الى أن صار:
للأشجار
والأحجار
والأنهار
والماء أظافر.

وعن لغة الحياة والكتابة عند خليل السكاكيني كتب نواف : "لقد كان خليل السكاكيني يتمتع بجذوة من الأحساس الصادق الخلاق ، بالاضافة الى ثقافته المتنوعة والعميقة أهلته لاحتلال موقعه الريادي في دفع عملية التجديد والتنوير لكل فاعلية انسانية وعلى رأسها المسألة الثقافية ، بحيث يمكن احتسابها المنبع الاول لكل اجتهاد لاحق. ويضيف قائلاً:" ثمة حقيقة، هي أن الرجل كان يتحرق شوقاً الى قول الشعر الموزون المقفى وقد نظم الكثير منه ، الا أنه كان يفاجأ ان قوالب وتراكيب شاعره " المتنبي" كانت تتسلل مع الدفقة العاطفية وتحجب الرؤية الخاصة وأغلب الظن ان وطأة الشاعر العظيم على شعره كانت السبب وراء اقلاع السكاكيني عن فكرة قول الشعر موزونا، وهي التي كانت وراء اعادته النظر في أساليب الكتابة وتجديد اللغة وخاصة بعدما أوغلت الذات المبدعة عنده في نظرية تربوية قائمة على التخلص من طريقة التلقين الشائعة، ثم الاستقصاء المتواصل في ردم الهوة بين لغة الكتابة ولغة الحياة ، وهي الأزدواجية التي وقفت عائقاً أمام المواهب العديدة من التعبير عن تجاربها الحياتية المعاشة" .

انني بعد مرور 8 أعوام على الرحيل كم أحس بالفجيعة والخسارة الفادحة لفقدان نواف ، أنيس الليالي وراوي الحكايات والقصص، وسلوى القلب الذي كان ينسيني الهموم والعذابات والأحزان بنكاته الشعبية وطرائفه وملحه الجميلة . وكم أشتاق اليه حين تسألني طفلتي الحبيبة " ألاء" عن " عمو نواف" الذي كان يداعبها ويمازحها ، فلا أجد سوى الدموع تترقرق في ماقي وتذرفها عيناي.

وفي الختام أقول أن نواف عبد حسن فقيد الثقافة العربية ، هو واحد من الجيل الفلسطيني الذي حمل راية الفكر الكنعاني والقومي العربي. وفي ذكرى رحيله نجدد العهد بأن نصون الأمانة والرسالة التي حمّلنا اياها، وسيظل طيفاً حقيقياً للون العباءة الفلسطينية وقمراً لا يغيب ، ونبراساً وهاجاً ينير دروبنا المظلمة بالكلمة المضيئة والمشرقة.