منتدى الحوار الثّقافيّ و"نقدٌ على نقد"!/ آمال عوّاد رضوان

بتاريخ 27-1-2011 التأمَ لقاءُ منتدى الحوار الثقافيّ الشّهريّ في مركز تراثِ الباديةِ عسفيا الكرمل، على تحيّةٍ غادرَها الزّؤانُ مِن غربالِ النّقد، وذلكَ لمناقشةِ كتاب النّاقدِ د. محمّد خليل "نقدٌ على نقد"، لِما للكتاب مِن أهمّيّةٍ في نماذجهِ التّطبيقيّةِ في نقدِ النقدِ مِنَ الأدب المَحلّيّ والعربيّ والعالميّ، كخطوةٍ رائدةٍ وجريئةٍ في المشوار الأدبي.

افتتح اللّقاءَ الأستاذ رشدي الماضي بقولِهِ:

د. محمّد خليل حملَ ولمّا يزلْ يحملُ وعيَهُ النّقديُّ الرّائي والفاحص، ليسيرَ ملاّحًا ذا بوصلةٍ هاديةٍ بحثًا عن أفق الكلمات، كيف لا وهو المُفعَمُ بنبضاتِ الكلمةِ والأحاسيس الصّادقةِ الكامنةِ فيها، والمُصِرُّ أن يُصبحَ المرآةَ الشّفّافةَ التي تعكسُ ملامحَها الفكريّةَ والجماليّة بكلِّ مهنيّةٍ وأمانة، لذلكَ تظلُّ الكلمةُ أمّ قلقِهِ الدّائم حتّى يفتحَ مخازنَها المُتخمةَ بالمعرفةِ والجَمال، كي لا تبقى تلفّها حلكةٌ دامسة، بل نافذة تسربلُ حياتنا بالمتعةِ والفائدة، ومنارة ساطعة تغمرُ بنورِها كلّ فصول الإبداع، نعم، ضممتَ ولمّا تزلْ تضمُّ كلماتِ النّصوص إلى صدرِك لتتوهّجَ جذورُها، فتُطيلُ النّظرَ إليها، وتسبرُ أقبيتَها ودهاليزَها، فتكسوها بضمّةِ برْقٍ وكِسرةِ ضوءٍ، وتجعلها تقفُ أمامَك شجرةً عاريةً تقرأ خرائطَ تضاريسِها منطقةً منطقة، وهذا ليسَ بغريب عليك، فأنت النّاقدُ الواقفُ أبدًا أمامَ النّصّ لتتساءلَ وتتساءل، حتّى تستحيلَ عيناك إلى نافذتيْنِ، كلُّ دمعةٍ فيهما مِن حبرٍ وأشرعة، تبحرُ بحثًا عن ربيعِ وطنِ الحقيقة، وعن الأجوبةِ لأكبر عددٍ ممكنٍ من الأسئلةِ الّتي يُثيرُها كلُّ عملٍ إبداعيّ. د. محمّد خليل النّاقد، معكَ لن تبقى الكلمةُ إبداعًا مِن رمادٍ يبحثُ عن بعْثِهِ، بل شلاّلاً زاخرًا لا يتوقّفُ عن التّدفّق!


ثمّ قدّم د. فهد أبو خضرة مداخلةً عامّةً عن أنواعِ وأدوارِ وماهيّةِ النّقد:

تحدّثَ عن أنواع النّقدِ المنهجيّ والمتواجد لدينا بشكلٍ قليل، والنّقدِ التّأثّريَ والموجود لدينا بكثرة، وعن النّقد الصّحفيّ الأكثر والأخطر الّذي لا قيمةَ له، وتابع، لقد قد استقيْنا مناهجَنا مِن مدارسَ غربيّةٍ، وليسَ لدينا منهجٌ نقديٌّ تبنّيناهُ أو لاءمناهُ أو طوّرناهُ لأدبِنا، بل اعتمدْنا على مناهجَ غربيّةٍ ننقدُ على أساسِها كما هي وجعلناها أساسًا لنقدِنا، وأحيانًا هذهِ المناهجُ قد لا تلائمُ أدبَنا، وبالرّغم مِن ذلك نُطبّقُها ونُحلّلُها.

كما تحدّثَ عن العولمةِ وأهمّيّةِ النّقدِ ودوْرِهِ في تطويرِ الحركةِ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ عالميًّا، وتحدّثَ عن المدارس النّقديّةِ البُنيويّةِ والأسلوبيّةِ والتّفكيكيّةِ، وتطرّقَ إلى الإبداعِ والحركةِ الحداثيّةِ ونظريّةِ التّلقّي واختيارِ نقّادنا مضامينَ المدارس، لكنّي شخصيًّا لستُ مع التّفكيكيّةِ، لأنّها لا تُناسبُنا، ونحنُ نقبَلُ تعدُّدَ التّفسيراتِ، لكن نرفضُ اعتبارَ المعنى غيرَ نهائيٍّ كما تريدُ، فالتّفكيكيّةُ يمكنُ أن تلائمَ مدرسةَ النّقدِ الجديدِ والبُنيويّة، وعلى النّقادِ اختيار ما يناسبُ أدبَنا من مدارسَ نطوّرُها مع اعتبارِ النّصّ نفسِهِ وما يحتاجُه، فالمدارسُ تضعُ النّصّ في مركزِ البحثِ لا المبدع ولا المُتلقّي وهذا جيّد.

العولمةُ وما تُشكّلُهُ مِن مخاطرَ على أدبِنا وثقافتِنا وتراثِنا نرفضُها، إلاّ إذا اخذناها بشكلٍ مدروسٍ، ويجبُ أن يكونَ الأمرُ اختياريًّا بما يُلائمُنا، وأن نعتمدَ المنهجيّةَ والنّقدَ المنهجيّ.

كما تحدّثَ عن فتراتٍ نقديّةٍ هامّةٍ في الحداثةِ الفكريّة، مثل طه حسين، العقاد، محمّد منظور وسلامة موسى، ومحاولتهم في تطوير التّوجّهِ نحوَ الفِكرِ والعقلانيّةِ والمنهجيّة والبحثِ الجادّ، وأخْذِ الملائم لأدبِنا بانفتاحٍ فكريٍّ عقلانيٍّ، ولكنّ الأمرَ انتهى بسرعةٍ، وانتقلنا إلى ما بعْدِ الحداثةِ الغربيّة والّتي أسميْناها الحداثة، على اعتبار هذا النّوع مِنَ التّجديدِ، والحداثةُ هي الأساسُ ما بعْدَ الحداثة غربيًّا، مع أنّها وصلتنا عام 1956 عندَ العرب، واستعملَها يوسف الخال في أوّلِ محاضرة.

تحدّثَ عن دوْرِ النّقدِ المنهجيِّ للمنقود، والّذي قد يكونُ قاسيًا لا يُحبُّهُ المبدعونَ إذا كانَ في غيرِ صالحِهم، وهناكَ نُقّادٌ مَحلّيّونَ جيّدونَ مثل إبراهيم طه وحسين حمزة، وهناكَ باحثون جامعيّون محليّون تعتبرُ أبحاثُهم الجامعيّة جيّدة، اذ يتناولونَ النّقدَ الثّقافيَّ الجامعيّ شاملاً ومبنيًّا على مجموعةِ مناهج، فيتناولونَ الشّكلَ والمضمونَ وكلَّ نواحي النّصّ مِن تحليلٍ وشرحٍ وتوضيح.



وفي مداخلة د. منير توما حول كتاب "نقدٌ على نقد" قال:

كان قد صدر الكتابُ عامَ 2007، تناولَ فيهِ قضايا النّقد ونقدِ النّقدِ في الأدبِ المّحلّيَ والعربيّ والعالميّ، وقد ورَدَ في الفصلِ الأوّلِ للكتاب ركيزة البحثِ في هذا الموضوع، حيث يُشكّلُ هذا الفصلُ محورَ النّقد ونقدَ النّقد بشكلٍ أساسيٍّ وجوهريّ، باعتبارِهِ مركز ثِقل الكتاب في نظرنا، ويسوقُ لنا د. محمّد خليل رأيًا لجبرا إبراهيم جبرا يقول فيه: "النقدّ عندي عمليّةُ استغوارٍ وكشفٍ، وأنا بالطّبعِ لا أستطيعُ استغوارَ ما لا غورَ له، كما لا يهمُّني أن أكشفَ أرضًا يطرقُها كلُّ غادٍ ورائح، إذن؛ فأنا بمجرّدِ إقبالي على بحثِ عملٍ أدبيّ، أقرُّ ضمنًا بإعجابي بهِ وإحساسي بقيمتِهِ".

ويبغي د. خليل مِن إيرادِ رأي جبرا هنا، إلى بيانِ أهمّيّة التّذوّق في نقدِ العملِ الأدبيّ، ومع أنّهُ لا يُقلّلُ مِن أهمّيّةِ التّذوّقِ فإنّه يقول:

"التّذوّقُ وحده لا يكفي، فقد ينخدعُ بهِ صاحبُهُ تمامًا كما ينخدعُ بالبصرِ صاحبُهُ، ناهيكَ بأنّ التّذوّقَ يختلفُ مِن مُتلقٍّ إلى آخر، فما حسُنَ في ذوقِ هذا قد يقبحُ في ذوق ذاك، فكانتْ إضافةُ المِرانِ أو ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ بالدُّربةِ ضرورةً واجبة".

نتّفقُ مع د. خليل في هذه النّقطة، فالنّقد هو "فحصٌ حُرٌّ" كما يُعرّفُهُ كانط، أي أنّ النّقدَ غيرُ مُقيّدٍ بمذهبٍ فلسفيّ، حيثُ يمكنُ الأخذ بتعريفيْن في النّقدِ الأدبيّ:

الأوّلُ هو النّقدُ الحُرُّ القائمُ على التّذوّق، والثّاني هو النّقدُ المنهجيُّ القائمُ على مذهبٍ نقديّ، والواقعُ أنّهُ لا يوجد نقدٌ مِن دونِ أساسٍ مذهبيّ، لأنّهُ لا يوجدُ ناقدٌ لا يعكسُ ثقافةَ عصرِهِ الموروثِ منها أو المُستحدَث، أمّا في الباطن فهو أداةُ المجتمع لمراقبةِ الفِكر، والدّفاع عن القِيم العامّة، ويتميّزُ النّقدُ الأدبيّ بأنّ مادّتَهُ عمومًا الأثرُ الواحد، وأنّ منهجَهُ تطبيقيٌّ، وأنّ غايتَهُ كشْفُ معنى النّصّ، كذلكَ لا قيمةَ لأيّ تفسيرٍ لا يَنهضُ على فحصِ العملِ وتحليلِهِ، ولا يتأتّى هذا للنّاقد إلاّ إذا كانَ صاحبَ خبرةٍ واسعةٍ وثقافةٍ شاملةٍ في مجالِ التّقاليدِ الفنّيّة، ويملكُ نظرةً علميّةً ثاقبةً إلى منهج الفنّانِ وخصائصِ العملِ الّذي يقومُ بتقييمِهِ.



ويتطرّقُ د. خليل إلى دوْرِ النّاقدِ والنّقدِ الأدبيّ فيقولُ: "إنّ هذا الدّوْرَ لم يعُدْ شرحًا أو تفسيرًا ليكونَ وسيطًا بينَ المبدعِ والمُتلقّي، ولا حتّى فتحًا لمغاليقِ النّصّ الأدبيّ فحسب، إنّما هو تشكيلُ نصٍّ إبداعيٍّ جديدٍ، نصّ تتجلّى فيهِ معاييرُ وقِيمٌ ودلالاتٌ ذاتُ أبعادٍ فنّيّةٍ جماليّةٍ ولغويّةٍ، وأخرى إنسانيّة تلامسُ حياةَ الإنسانِ في الصّميمِ ومِن وجوهٍ متعدّدةٍ، فالنّقدُ فعاليّةٌ إبداعيّةٌ لا تقلُّ عن إبداعيّةِ النّصّ الأدبيّ ذاتِه، والنّاقدُ المبدعُ مثلُه مثل الأديب المبدع تمامًا، لأنّ منطلقاتِ كليهما واحدةٌ هي أبعادٌ أربعة: الإنسانُ والمكانُ والزّمان واللّغة كما يقول عبدالرحمن ياغي".

وهنا يتّضحُ لنا أنّ د. خليل قد أصابَ كبدَ الحقيقة، فنحن نعتقدُ معَهُ أيضًا أنّ عمليّةَ النّقدِ الأدبيّ هي بمثابةِ عمليّةِ إبداعٍ على إبداع، ود. طه حسين يرى أنّ العملَ الأدبيّ ذو صلةٍ بأربعةِ جوانب، هي المجتمع والأديبُ والإنسانيّةُ والنّاقد، وهو يعتمدُ على المقياسِ الأدبيّ بالدّرجةِ الأولى، وبخاصّة المقاييس المعتمدة على الذّوق، حيثُ دراسة الأدب أو الشّعر لنفسه وفي نفسِهِ مِن حيث هو ظاهرةٌ مستقلّة، ومهما حاولَ الدّارسُ أن يكونَ موضوعيًّا، إذ يَرجعُ استحسانُ النّصّ إلى ملاءمتِهِ النّفسَ والعاطفةَ والهوى.



ويرى د. محمّد مندور أنّ الأدبّ أرقُّ وأرهفُ وأغنى مِن أن نُخطّطَ لهُ طرُقَهُ، ونجني عليهِ حينَ نضعُ لهُ المعادلاتِ، ليَخلصَ النّقدُ عندَهُ إلى فنِّ دراسةِ النّصوصِ الأدبيّةِ والتّمييزِ بينَ الأساليبِ المختلفة، وهو لا يمكنُ أن يكونَ إلا موضعيًّا بالاعتمادِ على الذّوق، أي المَلكةِ النّابعةِ مِن أصالةِ الطّبعِ والنّاميةِ بالصّقلِ والمِران.

إنّ وجهةَ نظر د. مندور هذهِ الّتي لا تتناقضُ مع ما أوردَهُ د. خليل في هذا السّياق، بل إنّها تتلاقى مع دعوة المدرسةِ التّأثّريّةِ الّتي راجت في النّقد في أوروبّا في أواخرِ القرن التّاسع عشر، وظلّت حتّى حوالي عام 1940، وفي رأي كبارِ نقّاد هذه المدرسةِ، أنّهُ يجبُ أن يتوافرَ للنّاقدِ الحسُّ المُرهفُ بالجَمال، فعلى قدْرِ عُمقِ إحساسِهِ به تكونُ قوّةُ نقدِهِ، فلا قيمةَ لإلمامِهِ بالقواعدِ أو تعريفاتِ الجَمال أو الأسسِ الذّهنيّةِ العامّة، إذ القيمة كلّ القيمةِ لرهفِ المزاجِ الفنّيّ، وإذا كانَ الفنّانُ نفسُهُ هو الأشدُّ حساسيّةً تجاهَ الجَمالِ كي يُنتجَهُ ويُعبّرَ عنه، إذن لا ينقدُ النّاسَ سوى الفنّانِ، ولا ينقدُ الشّاعرَ سوى الشّاعر.



ويخلصُ د. خليل إلى القولِ في مقدّمتِهِ النّظريّةِ مَنَ الكتاب بأنّ: "النّقدُ الأدبيُّ مهمّةٌ صعبةُ المراسِ وصعبةٌ جدًّا، فهو يحتاجُ إلى عِلمٍ كثيرٍ واطّلاعٍ غزيرٍ ومِرانٍ، ناهيكَ بالموهبةِ الأصليّةِ، ولن تتأتّى تلكَ الخاصّيّةُ للنّاقدِ الأدبيّ الحقّ، إلاّ إذا جَمعَ في جعبتِهِ وتمَلّكَ ثقافةً أدبيّة، كي يتسنّى له تكوينُ ملَكةٍ خاصّةٍ نافذةٍ تُعينُهُ على القيامِ بمهمّتِهِ".

إنّ قوْلَ د. خليل بهذا الشّأنِ يُؤدّي بنا إلى الإشارةِ، بأنّهُ تجنّبًا لمخاطرِ التّأثّريّةِ في رؤيةِ النّصّ الإبداعيّ، نرى ناقدًا يهتمُّ بفهْمِ العملِ وتفسيرِهِ في إطارِ التّقاليدِ الأدبيّةِ، وهو قابلٌ للتّحقيقِ في الشّعرِ كما هو في الرّواية، وعلى هذا الأساسِ يجبُ أن نُركّزَ جُهدَنا على استخراجِ التّقاليدِ الأدبيّةِ للفنّ، وذلكَ مِن خلالِ قراءةِ العملِ الأدبيّ بهدفِ فهم وإضاءةِ جوانبِ العملِ الأدبيّ، بحيثُ لا يصحبُ النّاقدُ إلاّ نفسَهُ أي ذوقَهُ الأدبيّ بما في ذلك من معنى واسع، كما تصحبُهُ ثقافتُهُ والتّقاليدُ الأدبيّةُ، ومِن هذا المنطلق؛ فإنّ الأدبَ يحتاجُ إلى الإضاءةِ أكثرَ مِن احتياجِهِ إلى الحُكم ِالماثلِ في النّقدِ التّقنينيّ، مُفرّقًا بينَ قراءةِ العملِ للحُكم عليه وقراءتِهِ لفهْمِهِ وتفسيرِهِ، وهكذا فإنّ النّقدَ الصّحيحَ للأثرِ الأدبيِّ يَشملُ على كثيرٍ مِنَ التّعقيدِ كما ألمحَ د. خليل آنفًا، كما أنّهُ يستحيلُ أحيانًا كثيرةً، إذا لم يكنْ لدى النّاقدِ قدرةً على الولوج إلى الحالاتِ النّفسيّةِ والفنّيّةِ الّتي خلص إليها الشّاعرُ أو الأديبُ في جهدِهِ للتّعبيرِ عن المشاعرِ المظلمة الّتي تعتملُ في أعماقِ وجدانِهِ، ولهذا ينبغي أن يدركَ النّاقدُ أبدًا، أنّ الشّاعرَ أو الأديبَ لا يُفسّرُ تجربتَهُ تفسيرًا، لأنّ التّفسيرَ يُحيلُها إلى أجزاءَ وقطعٍ نثريّةٍ يُفقدُها الحرارةَ والأشعّةَ الشّعوريّة.

وفي حديثِ د. خليل عن النّقدِ الأدبيّ العربيّ، فإنّهُ لا يتّفقُ تمامًا معَ الشّاعرةِ العراقيّة نازك الملائكة بشأن التّأثّر بالنّظريّاتِ النّقديّةِ الغربيّة الوافدة، فهو يعتقدُ بأنّها قد جانبت الصّوابَ بتأكيدِها أنّ النّقدَ الأدبيّ الّذي يَصلحُ لشعرِنا العربيّ، يختلفُ عن النّقدِ الأوروبيّ، فإنّ د. خليل يرى أنّهُ لا ضررَ مِن هذهِ النّظريّاتِ الغربيّةِ، فهذا أمرٌ مرغوبٌ فيهِ ومطلوبٌ إذا أحْسَنّا كيفيّةَ التّعاملِ معها، لا سيّما وقد أصبحَ العالمُ أشبهُ ما يكونُ بقريةٍ كونيّةٍ صغيرة، وليسَ مِنَ الحكمة أن يفرضَ الإنسانُ على نفسِهِ وبإرادتِهِ عزلةً قسريّةً لا طائلَ تحتّها في عصرِ العولمة، لذلك ليسَ مِنَ المبالغةِ القول: "لاعزلةَ عن العالم بعدَ اليوم".

وبهذا نرى بأن د. خليل قد كان صائبًا في مخالفتِهِ لرأي نازك الملائكة في هذا الصّدد، ففي النّقدِ يجبُ أن تتوفّرَ نظرةٌ عميقةٌ للأمر مِن حيث كوْن صلة الكاتب أو النّاقد هي صلةٌ بالتّراثِ الأدبيّ الإنسانيّ، وبضرورة إفادةِ الكاتبِ أو النّاقد منهُ في أصالة، وهذهِ قاعدةٌ هامّةٌ تمَسُّ جوهرَ الدّراساتِ المقارنةِ انطلاقًا مِن مبدأ المعاييرِ الأدبيّةِ العالميّة، والتّواصلِ بينَ الأفكارِ والمواضيعِ الإنسانيّةِ الشّاملة، علاوةً على الاستفادةِ مِنَ المصطلحِ النّقديّ الغربيّ وتطبيقِهِ في عمليّةِ نقدِ الأعمالِ الأدبيّةِ والشّعريّةِ العربيّة، ممّا يُثري عمليّةَ التّقييم ويمنحُها تقنيّةً فنّيّةً مستحدَثةً، تعودُ بالفائدةِ والنّفع على كلِّ الآدابِ القوميّة لدى الشّعوب المختلفة، وتصبغُها بصبغةٍ إنسانيّةٍ كونيّة.

ويُشير د. خليل إلى ظاهرةِ النّقّاد الجُدد في الغرب، تحديدًا الّذين "يرَوْنَ أنّ الأثرَ الأدبيّ أو النّصّ بذاتِهِ يجبُ أن يكونَ بؤرةَ الاهتمام ولا شيء سواه"، ويُنوّهُ إلى مقولةِ النّاقدِ الفرنسيّ رولان بارت "بموت المؤلّف"، وخروجِهِ مِن نصِّهِ بمجرّدِ فراغِهِ مِن تأليفِهِ، وبذلك ينتهي دورُ المؤلّف حتّى لو بقيَ المعنى في بطنِهِ، حيثُ يُؤكّدُ ميشيل فوكو المبدأ قائلا: "مِنَ العبثِ أن ننكرَ وجودَ الكاتب أو المبدع".

وهنا يتّفقُ د. خليل مع هذا المبدأ باعتقادِهِ أنّ "المؤلّفَ هو صاحبُ الفضلِ الأوّل في أثرِهِ الأدبيّ لأنّهُ مُبدِعَهُ، وقد أودعَهُ مِن عصارةِ قلبِهِ وخلاصةِ فكرِهِ، لذلك مِنَ المفيدِ إلقاءِ نظرة أو التفاتة إليه، لأنّ معرفةَ القصديّة تتطلّبُ معرفةَ المؤلّف".

ويبدو في هذه المقولةِ الوسطيّةِ أو الاعتدال في إبداءِ الرّأي بشأن النّصّ والمؤلّف، حيثُ يستطردُ ويُضيف: "يجبُ أن لا يكونَ إعلاءُ شأن المؤلّف إلى مصاف عليا على حساب النّاقد الأدبيّ، فهو بالتّالي المبدعُ الحقيقيّ في جلاء مكنوناتِ النّصّ، وهو صاحبُ الشّأن الأوّل والأخير في تلك العمليّة الإجرائيّة، ولا نقد أدبيّ مِن دون ناقد".

ونحنُ نتّفقُ مع رأي د. خليل هذا، مع الميل أكثر إلى رأي النّاقدِ الغذاميّ برفضِهِ لسلطةِ المؤلّف، لِما فيها مِن تعطيلٍ لدوْرِ النّصّ ولفعل القارئ، حيث يورد د. خليل قولَ الغذاميّ، "بأنّ المعنى أوّلاً وآخِرًا هو شيءٌ في النّصّ بإمكانيّاتٍ دلاليّةٍ تنطوي عليها عناصرُ النّصّ الإدبيّ وتتحفّزُ بها، وهو أيضًا شيءٌ مِن فِعل القارئ يُدركُهُ ويلتقطُهُ مِن داخلِ نسيج النّصّ، وليسَ مِن داخلِ بطنِ الشّاعر".

ومِن المناسبِ في هذا السّياقِ أن نذكر، أنّ ت. س. إليوت كان قد سبق وتناولَ بالبحث هذا الأمرَ بشأنِ أولويّةِ النّصّ أو المؤلّف في عالم النّقدِ الأدبيّ، فكتبَ مؤكِّدًا استقلالَ الأدب عن حياةِ كاتبِهِ نفسِهِ، واسترسلَ قائلاً: "إنّنا لو عرفنا عن حياة شكسبير ما تتّسعُ له مكتبةٌ بأكملِها، لَما ساعدَنا ذلكَ على فهْمِ شعرِهِ وإدراكِ قيمتِهِ، مثلما يساعدُنا على هذا الفهم دراسةُ أسلوبِهِ الفنّيّ وعقلِهِ الخالق، وعندما نقرأ قصيدةً أو قصّة، ننسى كلّ ما هو خارجٌ عنها، أفلا ننسى أيضًا الشّاعرَ أو الكاتبَ الّذي كَتبَها؟ فتصبحُ هي الحقيقة الوحيدة الكائنة الّتي تتضاءلُ إلى جانبها جميعُ الحقائق الأخرى، حتى الأخرى، حتّى حقيقةُ الكاتب الّذي كتبها، فالعملُ الأدبيّ لا يمكنُ أن يكونَ إلاّ صورةً لنفسِهِ فقط، بمعنى أنّهُ لا يمكنُ أن يُزوّدَنا بشيءٍ خارجٍ عن نطاقِ ذاتِه".



رأيُ إليوت في إعلاءِ شأن النّصّ يتماشى تمامًا مع مفهوم النّقد التّفكيكيّ (deconstruction او deconstructive criticism)، وهو منهجٌ في نقدِ النّصوصِ الأدبيّة خاصّة، يقومُ على فكرة استحالةِ أن يقدّمَ النّصُّ معنًى ثابتًا مستقرًّا، وأنّ على القارئ أن يُخلّفَ وراءَهُ كلَّ المفاهيم الفلسفيّةِ إلخ..، حينَ يحاولُ فهْمَ نصٍّ معيّنٍ، وهذا المنهجُ في النّقدِ هو الأقربُ والأصلحُ في قناعاتِنا الأدبيّة، مع أن هناك الكثيرين ممّن يتحفّظونَ مِنَ التّعاطي المُطْلق مع هذا المنهج في نقدِ النّصوص الأدبيّة.



وبمتابعةِ د. خليل في تناولِهِ لنقد النّقد يَذكر، بأنّ "ثمّةَ مَن كتبَ في النّقد الأدبيّ المّحلّيّ وليسَ له شانٌ فيه، لأنّهُ لا يملكُ مِن وسائلِهِ أو أدواتِهِ شيئًا، ومنهم مَن كَتبَ فيهِ دونَ أن يفهمَ ظاهرَ النّصّ وتفسيرِهِ كما يجب، فكيفَ لهُ أن يفهمَ باطنَ النّصّ أو تأويلِه"؟

ولا يستبعدُ د. خليل "أن يكونَ أحدُ أسبابِ عدم تطوّر النّقدِ الأدبيّ المَحلّيَ بالشّكل المطلوب، وما يعتريهِ مِن أزمةٍ حقيقيّةٍ تُعيقُ تطوّرَهُ، هو غيابُ نقد النّقد".

ونعتقدُ هنا أنّهُ مصيبٌ في أقوالِهِ وآرائِهِ هذه، حيث أنّ العديدَ ممّن مارسوا ما اعتقدوهُ بأنّهُ نقدٌ أدبيّ، هم أبعدُ ما يكونون عن إتقانِ فنّ ومهارةِ النّقدِ الأدبيّ بمعناهُ الصّحيح ومعاييرِهِ الموضوعيّةِ التّحليليّة، وذلك نابعٌ مِن فقدان البعض منهم لثقافةِ المصطلح النّقديّ وجهْلِهم لتقنيّاتِ الحدس التّعبيريّ، باعتقادِهم أنّ عمليّةَ النّقد الأدبيّ هي مجرّدُ استعراضٍ للعمل الأدبيّ، دونَ الخوض بالنّاحيةِ الابتكاريّةِ التّحليليّة ذاتِ المعاييرِ الجماليّةِ للشّكل والمضمون، بالإضافة إلى عدم إتقان البعض ممّن يتعاطونَ النّقد لغةً أجنبيّةً كالإنجليزيّةِ أو الفرنسيّة، تتيحُ لهم الاطّلاع على المستجدّاتِ في عالم الأدب والنقدِ والمصطلحاتِ اللاّزمةِ لفهْم الأسس الذّهنيّة العامّة للآداب العالميّة، وتواصلها الإنسانيّ مع الآداب القوميّة للشّعوب، رغمَ أنّ ثمّة مَن يزعمُ بأنّ الأعمالَ الأدبيّة المترجَمة، قد تُغني عن القراءةِ بلغةٍ أجنبيّةٍ، وقد يكون هذا التّبريرُ صحيحًا بشكلٍ جزئيّ، إلاّ أنّه لا يفي بالغرض المطلوب بشكلٍ كافٍ، ويبقى منقوصًا في جوانبَ معيّنة.



إنّ هنالكَ العديدَ ممّن يتعاطون نقدَ الأدب المحلّيّ في بلادنا، لا يتقنون بل يجهلونَ في كثيرٍ مِن الأحيان التّكويناتِ أو التّقسيماتِ الاصطلاحيّة النّقديّة المختلفة، كمناهج النّقد التّكوينيّ، والنّقد التّحليليّ النّفسيّ، والنّقد الموضوعاتيّ، والنّقد الاجتماعيّ والنّقد النّصّيّ، ممّا يعكسُ ظاهرةً سلبيّةً غيرَ صحّيّةٍ لدى متعاطي النّقدِ وأهمّيّتِهِ بالنّسبة للإبداع، فالإبداعُ نفسُهُ لا يتحقّقُ وجودُهُ وفاعليّتُهُ إلاّ بمشاركةِ النّقدِ القويم، وهذا يعني أنّ الدّائرةَ الإبداعيّةَ لا تكتملُ إلاّ بالأدبِ والنّقد، أو لِنقلْ بالمؤلّفِ والقارئ، وهنا تبرزُ قضيّةَ "التّقويم في النّقد"، ونعني بالتقويم في خلاصتِهِ- إصدارَ النّاقد حكمًا محدّدًا على العمل الأدبيّ، ولا يعني هذا أنّ جهدَ النّاقد أن يوزّعَ أحكامًا بالقيمة، فيذكر أنّ هذا عملٌ ممتاز وذاكَ جيّدٌ أو دونَ المتوسّط، إلخ..، أو يصفُ عملاً بأنّهُ روحيٌّ وآخرُ مادّيٌّ، أو بأنّهُ أخلاقيٌّ أو ضدّ الأخلاق، أو يدعوهُ إلى الحرّيّةِ أو أنّه يُدافعُ عن الاستبداد، إلخ..، فلو كانَ هذا مِنَ النّقد لَما كانَ النّقّادُ المؤثّرون بهذه النّدرة، وما كانتْ ثقافةُ النّاقد ودُربتُهُ على الممارسةِ التطبيقيّةِ تحتاجُ جهدًا ومكابدةً.

إنّ إصدارَ حكم القيمة لا ينفصل عن "خطواتٍ" منهجيّةٍ يقطعُها البحثُ النقدي لكي يصل إليه، وهذه الخطواتُ تهدفُ إلى تحليلِ النّصّ، فالتّحليلُ لا بدّ أن يسبقَ التّقويمَ الّذي هو حكمٌ بالقيمة، وينبغي أن نعترفَ بأنّ التقويمَ في النّقد، أو النّقد الّذي ينتهي بإصدارِ حكم، يعطي الأهمّيّة لموضوعِ العمل الابداعيّ أكثرَ ممّا يهتمُّ بالشّكل، ولكنّهُ لا يغفلُ الشّكلَ، لأنّ الموضوعَ في أيّ عملٍ إبداعيٍّ؛ (قصيدةً أو قصّةً أو روايةً أو مسرحيّة)، لا يقومُ بنفسِهِ، وإنّما هو ماثلٌ عبْرَ مراحلِ تشكيلِ (تركيبِ وبناءِ) التّجربةِ، وهذا التّشكيلُ بدوْرِهِ بمثابةِ تقويمٍ للتّجربةِ، فالنّقدُ في هذه الحالة تقويمٌ للتقويم.



وفي ختام حديث د. خليل عن موضوع نقد النّقد يقول، بأنّ "الأدبَ والنّقدَ الأدبيّ قد ركّزَ على المضمون أكثرَ بكثيرٍ مِن التّركيزِ على الشّكلِ والجوانبِ الفنّيّةِ الأخرى، وهيَ سمةٌ غالبةٌ وبارزةٌ للعيان تكادُ تلازمُ معظمَ الكتاباتِ في النّقدِ الأدبيّ المَحلّيَ".

ونحنُ نلتقي مع د. خليل في تأكيدِهِ بأنّ "المضمونَ وحدَهُ لا يَخلقُ أدبًا رفيعًا، والفنّانُ المبدعُ هو القادرُ على الجمْع بينَ المضمون والشّكل"، وعندَ هذه المعاني لا بدَّ لنا أن نؤكّدَ انتصارَنا للشّكلِ والمضمونِ معًا في مجالِ النّقدِ الأدبيّ، حيثُ أنّه في اعتقادِنا يعودُ اهتمامُ وتركيزُ النّقدِ الأدبيّ المَحلّيَ على المضمون أكثرَ مِن الشّكل، إلى الصّعوبةِ الفنّيّة عندَ الكثير مِنَ النّقادِ بتحليلِ العمل الأدبيّ وبُنيتِهِ مِن وجهةِ النّظر الجماليّة، نظرًا لكوْن كلّ عملٍ أدبيّ نتاجًا فكريًّا تسيطرُ عليهِ قوانينُهُ الخاصّة به، الّتي يستعصي على بعضِ النّقّاد التّعامل والتّفاعل معها، لافتقادِهم المعرفة بالأهدافِ الفنّيّةِ للأدب، ولهذا؛ فإنّهُ مِن الأسهلِ لهم أن ينتصرَ التّعبيرُ عن المضمونِ على الشّكل، وبالمقابل، ينبغي أن نعرفَ أن النّقدَ الشّكليَّ أو الشّكلانيّ الجَماليّ، وبخاصّةٍ الألسنيّ والبُنيويّ والأسلوبيّ، يتجنّبُ ويرفضُ إصدارَ أحكام القيمة، لأنّهُ يحصرُ اهتمامَهُ في النّصّ وحدَهُ، فيُجرّدُهُ مِن صاحبِهِ تحتَ مقولةِ "موت المؤلف"، ويُجرّدُهُ مِن ظروفِهِ، فلا ينشغلُ بالدّوافع ولا يتوسّعُ إلى أعمالٍ أخرى لهذا المؤلّف، لأنّ عملَ النّقد ينبغي أن ينحصرَ في اللّغةِ دونَ غيرِها، فهذهِ اللّغةُ تمثّلُ الحدودَ والضّفافَ وتنطوي على جميع العناصر، وباستطاعتِها أن تُعطيَ النّقدَ كلَّ ما يبحثُ عنهُ مِن أمورٍ أدبيّة.

وهكذا نكون قد تناولنا بالدّراسة وركّزنا عى الجوانب الأكثر أهمّيّةً وإضاءةً في كتاب د. محمد خليل "نقدٌ على نقد"، نتمنّى له موفورَ الصّحّة ودوام التّوفيق والعطاءِ في عالم الأدب والمعرفة.

وكانت المداخلة التّالية للشّاعر فهيم أبو ركن:

بداية، ننوّهُ أنّنا بحاجة للوصولِ بالنّقد إلى القرّاء العاديّين، ولكي نصلَ بالنّقدِ إلى القرّاء يجبُ أن نبدعَ في النّقد، ولكي نبدعَ في النقدِ يجبُ أن نفهمَ الإبداع.

فالحركةُ الأدبيّةُ العربيّة عامّةً والمَحلّيّةُ خاصّةً تعاني مِن نقصٍ في العمليّةِ النّقديّةِ الجادّة، ففي حين تزخر المنابرُ الأدبيّةُ في المواقع، والمنتدياتُ وبعض الصّحف بالنّتاج الشّعريّ والنّثريّ الغزير، فإنّها تفتقرُ إلى الدّراساتِ التّحليليّة، ونادرًا ما نجدُ مقالاً نقديًّا هنا، أو حتّى استعراضًا هناك، ولكنّنا نجدُ فيضانًا مِن المجاملات في التعقيب على المنشور في المنتديات، وهي عادةً تكونُ ردُّ جميلٍ، من باب (اُكتبْ لي أكتبُ لك!).

ولكي لا نقعَ تحتَ طائلةِ التّعميم نقول، بأنّنا أحيانًا نقرأ مقالاتٍ ودراساتٍ تحليليّة، ورغمَ أهمّيّتَها إلاّ أنّ بعضَها يكونُ جافًّا، وتبقى قليلة لا تستطيعُ أن تغطّي أو تواكبَ جميعَ الإصداراتِ مِن ناحيةِ الكمّ. وإنْ تطرّقنا إلى النّقد في كمِّهِ، فلا مجالَ في هذا المقام للغوصِ في جميع قضايا النّقدِ الكيفيّةِ ومصداقيّتِهِ وجرأتِهِ في تحليلِ النّصوصِ المختلفة.

وإذا كانَ الحالُ كذلك مع النّقد، فكيف سيكونُ مع عمليّةِ نقدِ النّقد نادرةِ الوجود؟ مِن هنا نقفُ على أهمّيّةِ هذا الكتاب الذي أتحفنا به الدكتور محمد خليل، والذي اعترفَ في مقدّمتِهِ أنّهُ يتناول بعضَ النّماذج النّقديّةِ المَحلّيّة الّتي استطاعَ الوصولَ إليها، ولا يدّعي أنّه يتناولُ جميعَ النّماذج.

لقد قسّم المؤلّفُ الكتابَ إلى أربعةِ فصول؛

الأول: في النّقد ونقد النّقد/ الثّاني: النّقد والأدب المحلّيّ/ الثالث: نقد على نقد (في الأدب المَحلّيّ)/ والفصل الرّابع نقد على نقد (في الأدب العربي والعالمي)، وتضمَّنَ كلّ فصلٍ عدّةَ أبوابٍ لا يمكنُ التطرّق إلى جميعها بالتّحليل والتفصيل في هذه العجالة، لأنّها تتناول قضايا الأدب والنّقدِ العربيّ والعالميّ والمَحلّيّ، وعلاقة هذا بذاك، وتأثير الأوّل على الثّاني أو بالعكس، وتاريخ وتطوّر المدارس، وآراء النّقاد في مختلف القضايا، لذلك سأركّزُ حديثي حولَ نقطةٍ واحدة، وهي جرأةُ الكاتب في نقدِ أو مدحِ زملائِهِ في المكان المناسب، حولَ بعض القضايا والنّظريّاتِ أو الأفكار الّتي ورَدَتْ في دراساتِهم، واستشهد بها في فصول وأبواب الكتاب.

فمثلا استحسنتُ جرأةَ المؤلّف في الاعتراض على بعض الأساتذةِ والنّقّاد في عدّة قضايا، واستحسنتُ أكثرَ جرأتَهُ في موافقتِهم أحيانًا على بعض الأفكارِ المطروحةِ في المقالاتِ الّتي تناولَها البحث.

مِنَ الاعتراضات الّتي وردتْ على سبيل المثال لا الحصر، أصابَ المؤلّفُ حين اعترضَ على الدّكتور (البروفيسور) جورج قنازع، لاعتقادِهِ أنّ قنازع في تحليلِهِ لرواية "مذكّرات دجاجة" للدّكتور إسحق موسى الحسيني، اعتمدَ في تحليلِهِ على رأي مؤلّف النّصّ نفسِهِ، إذ يقول ص 90:

"لكنّه مِن الواضح أنّه قد اتّخذ من أقوالِ المؤلف متكأ"، ويعلّلُ اعتراضَهُ ذلك بقوله في نفس الصّفحة – وأنا أوافقُهُ الرّأي في ذلك: "تفسير كاتب ما لإنتاجهِ الأدبيّ لا يجبُ أن يُعتبرَ بالضّرورةِ القولَ الفصْلَ في تحليل أيّ إنتاج وفهمِهِ، إذ كثيرًا ما يهتدي النّقّاد إلى آراءٍ وتفسيراتٍ لم تكن قد خطرتْ للكاتب على بال، ...لأنّ الأديبَ مهما كتب، فليسَ في وُسعِهِ أن ينقدَ ما كَتب".



كذلك ناقشَ د. خليل بروفيسور قنازع في أسلوب دراسة الرّواية متسائلاً صفحة 96:

"هل يحقّ للقارئ أو النّاقد الأدبيّ أن يقرأ نصًّا ما، أو يدرسُهُ بمعزلٍ عن سياقاتِهِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ، حتى السّياسيّة كما فعل الدكتور قنازع"، ثمّ يقرّرُ في نفس الصّفحةِ قائلا:

"إنّ قراءةَ نصٍّ ما لا يمكن أن تستقيم دون فحْصِ تلك الشروط! وعليه فمعرفةُ السّياق إذًا شرطٌ في تلقّي النّصّ تلقّيًا صحيحًا".

هذا بالنّسبةِ للاعتراض، وأعترفُ أنّني لم أقرأ دراسةَ الدّكتور قنازع لأوافقَ أو اعترضَ على مضمون رأي د. خليل بهذا الخصوص، ولكنّي أسمحُ لنفسي أن أضعَ ملاحظةً حولَ تعميمِ د. خليل في هذا الرّأي، وعدم تعريف أو تحديدِ القراءة المقصودة، وأتساءلُ:

إذا كانَ ما رمى إليهِ صحيحًا في حالتِنا هذه، وفي مقامِنا هذا في تحليلِ هذه الرّواية، فهل ثمّة بعض التّعميم في ما تذهب إليه هذه النّظريّة؟ إذ أنّنا في مجال تخصّصِ الدّراسات، والّتي تتناولُ أحيانًا سياقًا واحدًا في تحليلِها للنّصّ، فهل تحليلُنا لقصيدةٍ ما مِن خلال دراسةٍ خاصّةٍ مِن ناحيةِ الوزن والبحور مثلاً، تفرضُ علينا الاهتمامَ بالسّياق السّياسيّ؟ أو إذا أردنا دراسة السّرقات الشّعريّة، كما فعل د. فهد أبو خضرة مثلاً، هل يفرضُ علينا دراسة السّياق البنيويّ للأبياتِ المسروقة؟

أنا أرى الدّقّة في تعريفِ وتحديدِ نوع القراءة أمرًا هامًّا جدّا. ومثالا للدّقّة في استعمال المصطلحات أسوقُ نموذجًا واحدًا بسيطًا، لكنّهُ يُشيرُ إلى هذه الأهمّيّة، فقد جاءَ في كتاب "شرح كافية ابن الحاجب" لبدر الدّين بن جماعة تحقيق د. محمّد محمّد داود صفحة 57:

(قالَ الشّيخ الإمام العالم أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله: "الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد").

لأوّلِ وهلةٍ تظهرُ الجملة صحيحةً، ولكن جاءَ التّصحيحُ مِن المؤلّف المُحقّق بأنّ حقّهُ أن يقول: "الكلمةُ اصطلاحًا..."، لأنّ الكلمة قد تكون لغةَ للكلام والجُمل، كقولِهِ تعالى: {تعالَوْا إلى كلمةٍ سَواءٍ بينَنًا وبينَكم ...} وكقول الرّسول: "خيرُ كلمةٍ قالها لبيد: "ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل".

هكذا في النقد، لكلّ كلمةٍ معنًى ودلالة يجب الالتفات إليهما.



وما استحسنتُهُ أيضًا جرأته على موافقةِ الكتاب أحيانًا في بعض الأفكار المطروحة في المقالات التي تناولها البحث، فإنّ د. خليل لا يبخلُ على كاتب المقالةِ بالمديح حين يجدُ ما يستدعي ذلك، ومِن ذلك قولُهُ صفحة 93: "حسنًا فعلَ الدكتور قنازع في هذا الاتجاه...".



وقد تعرّض إلى المقالات الّتي تنشر عن بعض الأعمال الأدبيّة بجرأة ومباشرة، فقال مثلا صفحة 130: "وكتب الشّاعرُ شفيق حبيب مقالةً مقتضبة عن رواية "المشوّهون"، أبعدُ ما تكون عن النّقد الأدبيّ، وأقربُ ما تكون إلى العتاب، فقد وقعَ في الخطأ إيّاه كما فعل غيره... الخ".

ممّا يعطينا صورةً عمّا كان سائدًا في المقالات الّتي قالوا عنها "نقديّة"!



ويتطرّقُ الكاتب د. خليل إلى بعض الكلام الإنشائيّ وليس العلميّ، الذي يسيطرُ على العديدِ مِن الأعمال النقديّة والأمثلة كثيرة. (136).

في الحقيقةِ تمتعت جدا في قراءة هذا الكتاب، وأعتقد أنّني أستطيعُ أن أكتب عنه كتابًا آخر، لذلك أكتفي بهذه النقاط، آملاً أن أكون قد أضأتُ زاويةً ولو صغيرة عنه، مع علمي بوجوب بحثِهِ بحثًا أعمق، فهو يستحقُّ ذلك، ومؤلّفُهُ يستحقّ كلّ الثّناء والتّقدير.



وكانت المداخلة الأخيرة للمحتفى به مؤلّف كتاب "نقدٌ على نقد" د. محمّد خليل:

بداية، اسمحوا لي أن أنتهز هذه الفرصةَ لأسجلَ جزيلَ الشّكرِ وخالصَ المودّة وفائقَ الاحترام للأخوة القائمين على هذا المنتدى الثّقافيّ الرّفيع وللمشاركين فيه، وفي لقاء اليوم، على حدّ سواء. إنّه لأمرٌ جميل جدًا أن نلتقيَ هنا لمناقشة كتاب، على الرّغم من كلّ ما يواجهنا من هموم الحياة ومشاغلها وتبعاتها، ثمّ أقول:

أعلمُ مسبقًا أنّني في حضرة كوكبةٍ من الأدباء والشّعراء والكتّاب والنّقّاد والمهتمّين، وأعلم أيضًا أنّهم من المستمعين الخطيرين من الدّرجة الأولى، الأمر الّذي يزيدُني رهبة ورغبة في الوقت نفسه. الرّهبةُ رهبةُ الموقف، وأمّا الرّغبةُ، ففي الطّموح إلى المزيد من الإبداع ومن التّربية للإبداع، لأنّ الإبداع يظلُّ المقياسَ الحقيقيَ لكلّ عمل فنّيّ. إنّ السّمةَ الأساسيّةَ الّتي لازمت مفهوم الإبداع، بأنّه يتضمّنُ أو يجب أن يتضمنَ عناصرَ تخييليةً قادرة على تحويل انتباه القارئ عن كلّ ما هو يوميّ مبتذل، إلى كلّ ما هو مثيرٌ ومدهش وجديد ومجاوز للواقع المألوف.

لذا، ظلّت وسيلة المبدع فيما يخصّ الخطابَ الأدبيّ، وستبقى على الدّوام هي الإيهامُ بواقعيّةِ الحدَث بواسطة التّمثيلِ أو التّأثيرِ بسحرِ اللّغة، وما تحملُهُ في أعطافِها مِن الدّلالاتِ وإمكاناتها، وذلك عن طريق التّصوير والرّمزِ والأسطورة وما شابه.

غيرَ أنّهُ في منظور بعضهم، يمكن أن يُعدَّ الناقدُ الأدبيُّ أكثرَ إبداعًا من الأديب نفسِه. ويُسوّغون ذلك بقولهم: صحيحٌ أنّ الأديب؛ شاعرًا كان أم كاتبًا، يهندسُ النّصّ ويَبنيه، لكنَّ النّاقد حين (يعالجه) تفكيكًا أو تشريحًا، فإنّه مُطالَبٌ بإعادة تركيبِهِ أو بنائِهِ مِن جديد وِفقَ تصوّرِه هو. فالنّقدُ ممارسةٌ وإنتاج.



من هنا، يمكن القول: إنّهُ مِن الضّروريّ أن يكونَ النّقدُ وصفيًّا لا معياريًّا، بمعنى أن يكون النّصُّ النّقديُّ الذي يُنسج أو يُشيّدُ، أقربَ ما يكونُ إلى النّصّ الأدبيّ وشبيهًا به لكلّ شيء، على أن تلك الإشكاليّة تبقى قضيةً خلافيّة.

لن أتحدّث هنا عن كتابي (نقد على نقد) موضوعِ اللّقاء، وذلك محاذرةَ الوقوعِ في بعض منزلقاتِ النّقد الأدبيّ، ومنها شهادتي بحقّ نفسي الّتي سوف تكون بكلّ تأكيدٍ مجروحةً، وعليه فإنّ الكلامَ فيه، والحكمَ له أو عليه، متروكٌ للآخرين من الدّارسين والباحثين وكلِّ المهتمّين بالأدب والنّقد.

لكن، ما أودُّ أن أقوله ولا فخر: إنّه الكتاب الأوّل لدينا في نوعه، في ما تناهى إليه علمنا، هو كتاب غيرُ مسبوق في بابه، ومن هنا تكمن أهميّتُه الأولى. وفي الوقت نفسه، كنت وما زلت أتطلّعُ إلى أن تفتح تجربتي هذه البابَ في وجه المزيدِ مِنَ التّجاربِ الأخرى، بغية استكمالِ هذا المشروع والتّوسّعِ فيه، في سبيل الوصول بنقدنا الأدبيّ إلى مراتبَ أرقى. علمًا بأن محاولتي تلك لم ترُق للأسف في أعين بعضهم، وذلك من منطلق أن نقدَهُ أو ما يكتبه لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه! ولهذا السّبب فهو في منظوره يقع خارجَ دائرة النّقد.

تُرى هل ثمّة نقدٌ أو أيّةُ كتابة أخرى فوق النّقد؟ إنّ النّقد الأدبيّ ونقدَ النّقد وكلَّ نتاج إبداعيّ آخر يجب أن تتوافر له مطلقُ الحرّيّة. الإبداعُ لا يخضعُ لأيّ قيد أو شرط، ولا يمكنه أن ينشأ أو يتطوّر إلاّ في ظلّ أجواء من الحرّيّة المطلقة. إذًا لا بد من وضع النّقد الأدبيّ موضعَ النّقد والمساءلة إذا أردنا له أن يكون نقدًا أدبيًّا خاصًّا ومتميّزًا. مهما يكن، فإنّ كلَّ الرّوايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون كما يعلن ذلك جورج أوريل. ومن الطّبيعي أن ينطبق ذلك القولُ على كلّ كتابةٍ أخرى عظيمة.

2

لم يعد دور النقد الأدبيّ أو النّاقدِ شرحًا أو تفسيرًا، ولا حتى فتحًا لمغاليق النّصّ الأدبيّ ومكنوناتِهِ فحسب، بل هو أيضًا تشكيلُ نصّ إبداعيّ جديد لكلّ شيء، تتجلّى فيه رؤية وقيمٌ ومعاييرُ ودلالاتٌ ذاتُ أبعادٍ فنّيّة وأخرى إنسانيّة، تلامس حياة الإنسان من وجوه متعدّدة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، العلومَ الإداريّة، والعلومَ الإنسانيّة والاجتماعيّة، والعلومَ التربويّة.

يقولُ النّاقد شكري الماضي بأنّ "وظيفة النّقد الأدبيّ لا تعني البحثَ عن الجودة والرّداءة أو الحسناتِ والعيوبِ (فهذه مهمّة قديمة) بل تعني الفهمَ، فهمَ نظامِ النّصّ وتفاعلاتِه الذّاتيّةَ والموضوعيّةَ، وفهمَ الإنسان المبدع للأدب والمتلقّي له أيضًا وعلاقتَهما المعقّدة بالعالم المعيش"!

(شكري عزيز الماضي: غالب هلسا.. وتطوّر النّسق الرّوائي، وعي الكتابة والحياة، قراءات في أعمال غالب هلسا، ص95، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2004).



لقد أصبحَ من الضّروريّ عدمُ الاكتفاء بمتن النّصّ، لهذا السّبب يُفترض الالتفات إلى كلّ ما له صلة بالنّصّ أثناءَ تطبيقِ الإجراءات النقديّة، لنتمكّنَ من تحقيق قراءةٍ أنموذجيّة، كما يكتب أحدهم ويقول:

"لا يقتصرُ الفضاء التّشكيليّ للنّصّ الأدبيّ على (المتن الرّسميّ) له بوصفه آلةَ المواجهةِ المركزيةِ مع نشاط القراءة، بل يتّسعُ ويمتدّ ليشملَ كلَّ ما يحيط بالمتن من هوامشَ وعتباتٍ ومصاحباتٍ وإلحاقاتٍ وإحالاتٍ، لما تنطوي عليه من خطورة في عمليّة القراءة، فهي مكملةٌ وموجِّهةٌ لفعاليات المتن". (محمد صابرعبيد: شيفرة أدونيس الشعرية، سيمياء الدال ولعبة المعنى، ص27، الجزائر و بيروت، 2009).



ويضيفُ آخرُ في السّياق ذاته داعيًا إلى ضرورة الاهتمام بكلّ ما يتعلّق بالنّصّ:

"من توطئة وفذلكة ومقدمة ومدخل وتنبيه وكذلك الإهداءِ والشّكرِ والتّذييلِ، إلخ. وغايةُ كلِّ هذه النّصوصِ الجانبيّةِ هي توجيهُ القارئ وإرشادُ خطاه إلى كيفيّة قراءة النّصّ". (حسن مصطفى سحلول: نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ص66، دمشق، 2001).



ما يقوله النّصّ ليس شيئًا مهمًّا في الأغلب، لكنَّ الأهمَّ ما يتركُه في المتلقّي من أثر وما يثيره فيه من أسئلة ونقاش، فالسّؤالُ مِفتاحُ المعرفة، ومن صلب النّقاش يولد النّور، كما يقول أرسطو.

من هنا، قد نجد أنفسنا في مواجهة خطيرة مع فعاليّة القراءة الحرّة، باعتبارها سلطةً أوّليّةً على النّصّ، علمًا أنّ النّصّ هو السّلطة الحقيقيّة، كما يعلن ذلك جاك دريدا قائلاً: لا وجود لشيء خارجَ النّصّ! الأمر الذي أدّى إلى اختلاف القراءات وتعدّدها، فكلّ قارئ وقراءتُه. لذا نستطيع القول: من سمات النّصّ النّاجح أنّه لا يُقفل على قراءة واحدة ووحيدة. وهذا ما يفسر مقولة جاك دريدا: في البدء كان الاختلاف(جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ص31، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988).



3

في المقابل لا نستطيع أن نتجاهل ما قد يتعرّض له النّصّ من مشاكلَ معقّدةٍ تأتي من جرأة القرّاء على النّصوص. فكيف نحمي النّصّ، لاسيّما من أولئك الذين لا يكونون مؤهّلين لأداء هذا الدّور؟ الشّيفرة والسّياق هما أفضل حماية للنّصّ الأدبيّ من التّشويه والضّرر، طبعًا إلى جانب مرجعيتي النّاقد المؤهّل: الثّقافيّة والمهنيّة.

الكلام السّابق يقودنا إلى تساؤل مقلق، يبرز أمامنا من حين لآخر، لكنّه مشروع وحيويّ وهو: هل النّقد وجهان لعملة واحدة؟ بمعنى أنّ فيه ما فيه من الكشف والإضاءة والإبداع، وفيه أيضًا ما فيه من التّشويش والإساءة إلى النّصّ، عن قصد أو من دون قصد، ما يمكن أن يُعدَّ جَوْرًا على حرّيّة الأدب أو صاحب الفنّ؟



يقول الشّاعر الألماني ماريا رينيه ليركة في رسالته الأولى: إنّه ليس هناك أسوأُ من كلمات النّقد الأدبيّ للإمساك بالعمل الفنّيّ. أمّا النّاقد الكنديّ نور ثروب فراي فيتساءل: من قال إن الكلمة الأخيرة أو القولَ الفصلَ هو للنّاقد؟!

مع ذلك وعلى الرّغم من ذلك، فإلى الآن لا يوجد تنازل أو بديل عن النّقد، ولا يمكن الاستغناء عنه، لأنّ النّقد أصبح ضروريًّا ولازمًا في كلّ المجتمعات، وفي كلّ مجالات الحياة، وأنواعِ الفنون المتعدّدة. فالنّقد يُعدُّ آليّةً أو رافعةً في سبيل نهضة الأفراد والمجتمعات وتقدّمها على حدّ سواء.

وبعد، فإن المقياس الحقيقيّ والمحصّلةَ النّهائيّة لكلّ نتاج أدبيّ وغير أدبيّ يكمن في القيمة المضافة التي يحقّقها أو يثيرها ذلك النّتاج، مثال ذلك: الدّهشة والمعرفة والفائدة والمتعة والوعي والإبداع، وما شابه، ولا يفوتنا، في هذا السّياق، أن نتذكّر حضرة أينشتاين.

أخيرًا، مهمّتنا، نحن في مجتمعنا بالدّرجة الأولى في ما أراه، تكمن في إنتاج حراك نهضويّ حقيقيّ، يتجلّى بإنتاج القارئ الذّكيّ والواعي والمثقّف، في سبيل صنع الحضارة وفي صنع الحياة، بعيدًا عن كلّ أنواع التّملّق والنّفاق والتّلوّن.

نحن نؤدّي ذلك بدافع من الواجب والمسؤوليّة، ومن دون أن ننتظر المقابِل لما نبذلُه. يقول أدونيس: ليس الماءُ وحدَه جوابًا عن العطش! وهو يقصد بالطبع العطشَ إلى الثّقافة وإلى المعرفة والوعي وإلى الشّعر تحديدًا، على نمط قول المسيح عليه السلام: ليس بالخبز وحدَه يحيا الإنسان!

فلنعمل بروح هذا الكلام! وشكرًا

وفي ختام اللّقاء كان مجال نقاش الحضور المشارك مستفيضًا وحيويًّا، لِما لهذه اللّقاءات من أهمّيّة ومتابعة للحركة الأدبيّةِ المحلّيّة.

وتأبى عكّا إلاّ أن تعانقَ قممَ الكرمل في هذا اللّقاء الحميميّ، ويأبى الشّاعر نظير شمالي إلاّ أن يتحفَ الحضور بلقطاتٍ وومضاتٍ من معرضِهِ الّذي أقامّهُ في عكّا "عكّا في ذاكرة العدسة"، والّتي تحاكي تاريخ عكّا بأحيائها وشعبها، وبمشاهدَ أثريّةٍ ورسوماتٍ تاريخيّةٍ وصورٍ تعبق بالذّاكرة العكّيّة!
 

العدد العاشر من مجلة السايح


صدر العدد العاشر من مجلة السايح للزجل وللشعر المحكي .تقرؤون في هذا العدد حواراً شيقاً مع الشاعر البرحليوني سليمان طراد و قصائد زجل وشعر محكي للشعراء سمير هلال , يوسف روحانا وغيرهم . كما تجدون في العدد إفتتاحيات الشاعر المشتاوي الكبير عصام يوسف في حلقة برنامج أوف التي عُرضت اليوم الواقع في تسع وعشرين 11-2011
نرجو لكم الفائدة والمتعة

افتتاح دار مديات ثقافية بالشطرة العراق

ويأبى العراق إلا أن يبقى بلد الثقافة والأدب والعلوم رغم كل الإرهاصات…
ها هو ذا احد أبناء العراق الأبرار يفتتح دارا للنشر والتوزيع والإعلان وهو الأستاذ "سعدي عوض الزيدي" الذي قام بافتتاح دار "مديات ثقافية" بذي قار بمدينة الشطرة بمنطقة الناصرية.
تهتم الدار بالطباعة والنشر والتوزيع والإعلان وهي تفتح أبوابها لكل المؤهلات العربية و لكل الشباب الموهوب من كل الأقطار العربية...
هو صرح عربي جديد ينطلق من العراق ليطال كل الدول العربية ولدى الدار عددا من المتعاونين من كل من العراق والمغرب ولبنان وسوريا وتسعى إلى نشر ثقافة الوحدة والحوار و التواصل...
**
Malgré toutes les difficultés, l’Irak demeure le pays de la culture, de la littérature et des sciences.
Aujourd’hui, un de ses fidèles citoyens qui n’est autre que Monsieur " Sady Awad Zaidi" a pu ouvrir une maison d’édition, de distribution et de communication qui porte le nom de « Mediates Taqafia » à la ville de Chatra de la région de Nasiriya.
La maison offre les activités suivantes : impression, édition, distribution et communication, elle ouvre ses portes à tous les arabes et tous les jeunes talents de tous les pays arabes.
La maison annonce son ouverture à l’Irak dans un premier temps pour s’étendre à tous les pays arabes par la suite et elle est assistée par plusieurs collaborateurs à la fois à l’Irak, le Maroc, le Liban et la Syrie et cherche à promouvoir une culture de solidarité, de dialogue et de communication.
**
In spite of all the difficulties, Iraq remains the country of the culture, literature and sciences.
Today, one of it’s faithful citizens, the Sir « Sady Awad Zaidi », was able to open a house of publishing, distribution and communication which called "Mediates Taqafia" in the city of Chatra of the region of Nasiriya.
The house offers the following activities: printing, edition, distribution and communication, it opens its doors to all Arabic people and all the young talents of all the Arab countries.
The house announces its opening in Iraq at first to extend in all the Arab countries afterward and it has several co-workers at once in Iraq, Morocco, Lebanon and Syria and tries to promote a culture of solidarity, dialogue and communication.

قصائد متعددة الجنسيات في مجلة الحركة الشعرية


بيروت- جورج جحا

العدد الاخير من مجلة "الحركة الشعرية" الفصلية التي تعنى بالشعر الحديث وبالشعراء العرب من مهاجرين ومقيمين في بلدانهم حفل بقصائد لما لا يقل عن 40 شاعرا وشاعرة معظمهم من العرب ومن من اقطار مختلفة مع نتاج اجنبي وترجمة لقصائد لكبار من الاسماء العالمية.

المجلة التي يصح الى حد ما وصفها بانها مجلة للشعر المهجري العربي الجديد ولشعراء مهجريين ومهجرين من بلدانهم ولاخرين من المقيمين فيها حملت كذك بعض الدراسات الادبية.

يصدر مجلة الحركة الشعرية في المكسيك الشاعر المهجري اللبناني قيصر عفيف ويتولى رئاسة تحريرها بينما يتولى محمود شريح امانة التحرير.

قيصر عفيف درج في السنوات الاخيرة على امضاء نحو نصف السنة في لبنان ونصفها الاخر في مهجره المكسيكي.

وفي العدد ثلاث دراسات واحدة عن الشاعر اللبناني شوقي ابي شقرا كتبها محمود شريح بعنوان هو "برناسيسة شوقي ابي شقرا..عبارة نسيج وحدها". الثانية وعنوانها "سقف الحروف" كتبها عبد الغني فوزي عن ديوان "اربعون قصيدة عن الحرف" للشاعر العراقي المقيم في استراليا اديب كمال الدين.

اما الموضوع الثالث فهو للشاعر اللبناني صلاح مطر وعنوانه "حوار مع شريف الشافعي..قصيدتي كعاهدة صلح مع الحياة" وفيها آراء للشاعر المصري.

اسماء الشعراء جاءت كما يلي: قيصر عفيف/ يوسف الجباعي/ عذاب الركابي/ جريس ديكوك/ خلدون البرغوتي/ فاتن يوسف/ عبدالله بيلا/ رحاب حسين الصائغ/ نزار الحميدي/ أليس معلوف/ امامة الزاير/ احمد الدمناتي/ حسن رحيم الخرساني/ حنان بديع/ عبد الرحيم حسن حمد النيل/ بن يونس ماجن/ حليم كريم السماوي/ بشير ونيسي/ ادريس علوش/ حسين القهواجي/ زياد كاج/ روبير شربان/ عدنان الاحمدي/ فريد السعدني/ لقمان محمود/ جنان نويهض سليم/ فاروق سلوم/ صفاء دياب/ عماد فؤاد/ ايليا الهبر/ الشريف حسن بوغزيل/ منية بو ليلة/ محمد فاهي/ اكتافيو باث/ حاتم النقاطي/ خورخي لويس بورخيس/ تهاني دربي/ مثنى حامد.

ترجمة النصوص الشعرية المنشورة قام بها كل من منية بوليلة وقيصر عفيف.
القصائد كلها مع استثاءات قليلة هي قصائد نثر تتفاوت في الجودة وفي التمكن من الفن الشعري. وهي في غالبها
خاصة في الاسماء الاقل شهرة والتي قد تكون لشعراء وشاعرات من جيل الشباب تعكس الانماط الشعرية السائدة حاليا.

وهذا القول وصفي وليس حكما ايجابيا او سلبيا. وحيث التجربة الشعرية حية حارة والقدرة على التعبير متوفرة فالشاعر يجعل من النمط السائد حالة خاصة. فالنمط ليس هو مقياس الحكم بل القدرة على الانطلاق من خلاله الى حالات انسانية وجمالية. ولو كان الامر غير ذلك لصح الحكم على كل الشعراء الكلاسيكيين انطلاقا من الجاهليين بالتساوي تقريبا في القيمة الشعرية لاتباعهم نمطا واحدا بشكل عام.

اولى هذه القصائد لقيصر عفيف وعنوانها "انا الغصن والشجرة". يبدأ الشاعر قصيدته بقوله "انا غصن هذه الثمرة/ ليست الغابة غايتي/بل السماء/
"اسبح في المساحة الكبرى/ اسافر واسكر/ لا سياج يحدني/ لا يباس/ اسرع دون ان انقسم/ ليس في حسابي سوى:/ سراج الرحلة/ وسرج الوصول...

"انا الغصن لا انسى الجذور/ انا الجذور لا انسى الغصون/ انا لصيق بالشجرة/ وانت؟"
قصيدة جريس ديكوك وعنوانها "الشتاء" ذات اجواء موحية مؤثرة وتأتي في هدوء يجمع بين الحزن وبين حقائق الحياة الدائمة التي تطل علينا باستمرار موحية بل موهمة بالجدة وبغير المألوف. تبدأ القصيدة على الصورة التالية:

"غدا يأتي الشتاء/ مثل كل شتاء/ يأتي بلا قلب/ متعبا/ مهزوما/ يأتي الشتاء/ مثل كل شتاء/ غدا نفترق/ وتسكن الاصداء/ غدا يغسل المطر/ كل الذكريات/ وتختفي السماء/ غدا تتفتت الكلمات/ ترحل الطرقات/ ويسهر في مواقدنا/ البرد/ والرماد."

وفي الجو نفسه تقريبا وبتصويرية بارزة نقرأها في قصيدة "الصمت" تقول "كالمجنون يطرق الصمت بابي/ يطالب بحاضري وماضي وبغدي/ يبدد اسراري/ يقلب صفحاتي/ يقتحم مراياي/ ويسرق الوجوه/ ويكسر الصمت اسراري/ ويشرد كل الدموع."

اما فاتن يوسف وفي قصيدة "التقينا في حلم لا موعد له" وفي تصويرية رمزية وموسيقى نابضة تقول "بصباحات كفك الجريئة/ تمزق ثياب الصمت/ امد اطرافي لاتذوقك في نشوة مرعبة/ لا مثيل لها/ رغبتك مستلقية في النفس لا تعرف الانكسار/ شيء ما في القلب يخبرني عنك/ احبك كلما نبض القلب/ احبك كلما تسارعت انفاسي."

في "حالات" يقول الشاعر التونسي نزار الحميدي في ايقاع بارز "لن اكتب شيئا/ لن اكتب شيئا/ لن ازرع في الغيمات الفكرة/ لن اجلس في مقهى القدس/ لن اتسلى بمرور الايام امام عيوني/ وانا ارتشف القهوة كالبدوي النازح."

وفي قصيدة ذات جو قصصي عنوانها "الجد" قال الحميدي "أدرك الشيخ وهو يداعب ستين عاما على ذقنه/ أن غول الحكاية مات اخيرا/ وان الشتاء الذي يتهدد قريته بالسيول/ سيجرفه/ اغمض الشيخ عينيه وهو يحملق في تربة البيت/ حين سألت عن الجدة الجازية.../ غمغم الجد:/ يا ولدي ليس لي ما اقول/ قلت: نذهب في اثرها؟/ اطرق الجد/ يا جد/ يا جد/ يا جد/ والجد ليس له ما يقول."

وفي قصيدة "عناية عائلة عاشقة" قال الشاعر المغربي احمد الدمناتي في تصويرية رمزية ايضا "زنبقة/ الزنبقة التي انتعلت مظلة/ من غيم كثيف/ تتثاءب في الظهيرة/ كسنجاب في الظهيرة/ كسنجاب يفر من ذاكرة الحر."

الشاعر حسن رحيم الخرساني في قصيدة "عصافير المطر" يقول في ايقاعية واضحة متنوعة متغيرة "على اصواتنا/ صوت غريب/ في يديه قبورنا/ وقبورنا/ ذكرى على الابواب/ تسمعنا../ وقبورنا/ صوت ينام به المعنى/ وفيه/ يستريح الرأس/ من قلق الذباب/ ونار الصيف/ واغنية الرئيس على دفوف الحرب/ وقبورنا/ كل القصائد/ حين يدخلها السواد/ بنبضنا.../

"تابوت امي/ والنخيل/ وصمت بغداد الممزق/ لنبض يكتب/ وقبورنا ذكرى على الابواب/ تسمعنا قال الصباح/ ايهاالقمح العراقي انتظر/ شاهدت تنور المدينة/ يأكل الاطفال/ والشجر اليتيم/ والرطب."

ومع "عفوا ملهمي" لحنان بديع عودة الى ما يشبه النثرية في ما يراد به ان يكون قافية كما في عدم قدرة الاسطر
على احداث ايقاع فعلي. تقول الشاعرة "عفوا ملهمي/ لست من يغير في الحب عادة/ كانت عادتي/ ان المح في التجريح بعض الاشادة/ ان ارى في النقصان/ شيء من زيادة/ كانت عادتي ان اتبنى في مواسم الحزن/ اطفال السعادة/ ان ابقى/ على قيد حياتك/ برغم كل اصناف الابادة."

من القصائد المترجمة قصيدة لخورخي لويس بورخس عنوانها "فن الشعر" ترجمها الى العربية قيصر عفيف. قال الشاعر "ان تحدق في نهر مجبول من الزمان والماء/ وتتذكر ان الزمان نهر آخر/ ان تعرف اننا نضيع مثل نهر/ وتختفي وجوهنا مثل الماء.../
"ان ترى في كل يوم وكل سنة/ رمزا لكل ايام الانسان وسنواته/ ان تحول سخط السنوات/ الى موسيقى وصوت ورمز/ ان ترى الموت حلما/ والغروب كآبة ذهبية/ هذا هو الشعر.. ابدي وبسيط/ ويعود مثل الفجر والغروب.""رويترز".

الكتاب القصصيّ "لعبة مفترق الطّرق" للكاتب المغربيّ اسماعيل غزالي


عن دار فضاءات للنّشر والتّوزيع والطّباعة في عمّان الأردن، صدر الكتاب القصصيّ "لعبة مفترق الطّرق" للقاص المغربيّ اسماعيل غزالي. يضمّ هذا الكتاب بين دفّتيه 10 قصص قصيرة مستوقفة ذات نزعة تجريبيّة حادّة.

غلاف الكتاب الأماميّ يحمل لوحة لجبران خليل جبران، وهو من تصميم الفنّان نضال جمهور. أمّا الغلاف الخلفيّ فقد حمل كلمة عدنان المبارك الكاتب والمترجم العراقيّ االمقيم في الدّانمارك، معنونة بـ: باخ السّرد الجديد، نقرأ فيها:

" في هذا الكتاب القصصيّ يصهر غزالي تقنيّات فنون مختلفة في جوهرها، فهناك الشّعر الّذي له حظوة كبيرة في نثره المستند إلى قصديّة واضحة: تنثير الشّعر أو شعرنة النّثر. وهناك الاشتغال التّقنيّ الرّصين الّذي يمهره باختراعات خاصّة منها: تقنيّة هندسة المثلثات وتقنيّة زوبعة الماء وتقنيّة مرايا السّيّارة الثّلاث وتقنيّة التّشفير السّيميولوجيّ وتقنيّة الأفعى الّتي تعض على ذيلها... إلى جانب التّقليد المسرحي القديم- أقصد ما هو قريب من تقنيّة الكورال اليونانيّ والّتي نلقاها في عدد من قصص هذه المجموعة. لا يلجأ غزالي هنا إلى (اللصق) أو (الدغم)، بل تطويع التقنية للنص وكامل مشيّداته. أما المنحى وموقع المراقبة لدى غزالي فنكتشفهما سريعا: تعرية (خرافات الحياة) التي ينجح في مسكها ساخنة، منتفضة كما السمكة التي تقاوم الهواء بعد أن أبعدت عن مائها. يراوح بين التعرية القاسية والتجاوب العميق مع كل مآزق الانسان وأحوال وجوده في دوائر طباشيرية آخذة بالصغر. في هذه القصص وغيرها أيضا، يمارس غزالي حسّية مفرطة عند التعامل مع الداخل و الخارج . إنه يبتعد كثيرا عن الإيهام الذهني موّظفا طاقاته وذاك الزخم المدهش، في صنع / تسجيل أحداث - ولايهم إن كانت كبيرة أو صغيرة - منتزعة من هذه الدوامة أوتلك في الحياة التي يعاملها غزالي كـ (ظاهرة) معقدة التركيب تنحدر عناصرها من مختلف فضاءات الواقع وليس المباشر وحده. هناك في ما بعد الحداثة من يرى أن العمل الأدبي لا يحاكي الواقع بل هو عمل للمخيلة، أوهيمنة للإصطفائية eclecticism: المزج المتعمد للأساليب والشعريات. لكن غزالي يأخذ بأقانيم أخرى لما بعد الحداثة هذه: الهيبننغ الأدبي، الذاتويات، بل اللهو وتلك الفكاهة السوداء.

يشق غزالي في أدغال الإنسان مسالكه الخاصة أو على حد تعبير مصطفى الحسناوي يعبر هو الأرض / الحياة / الكتابة شأن مسّاح مسكون بالهندسات السرّية للأجساد، الرغبات ، الغرائز ، اللغات والإختلافات. انتبه الحسناوي أيضا الى العصب الأساس لكتابة اسماعيل غزالي أي الممارسة المولهة باللغة. وقد أضيف هنا قول الشاعر العراقي الجواهري حين تفاخر، وعن حق، بأن الشعر أطوع من بنانه. هكذا الحال مع غزالي الذي يبهرنا في كل مرة بمثل هذا الترويض، وهو مذهل عندي، للعربية مما يذكرني بنيكولو باغانيني وهيمنته الشيطانية على الكمان بل أبعد من ذلك، ولن أجازف إذا وسمته بباخ السرد الجديد، فما يقوم به إسماعيل هو إكتشاف متواصل وحفر دائب لآبار إرتوازية جديدة في هذه اللغة. يمكن إضافة ما سجله وجدي الأهدل في شهادة سابقة: كالنسر المحلق في الأعالي، يمتلك إسماعيل غزالي تحكما صارما بعناصر القصة الزمانية والمكانية، وبناء الشخصيات، وتقنية المفارقة والعصف باللغة وتحويل مفرداتها إلى تروس مسنونة، تدير فتنة قصصه التي لاتقاوم .

لكل هذا وغيره لا بدّ من أن تصبح مجموعة (لعبة مفترق الطرق) حدثًا فنيًّا مهمًّا في مسيرة القصّة العربيّة".

نجاح مقاطعة الأدباء المغاربة

المرصد المغربي للثقافة :

قبل أقل من ثلاثة أسابيع عن انطلاق فعاليات معرض الكتاب والنشر بالدار البيضاء يواصل عدد من الكتاب المغاربة من مختلف المدن الإعلان عن اعتذارهم عن المشاركة في مجموعة من الندوات المقررة باسم وزارة الثقافة او بالإشتراك معها، مثلما اعتذر بعض الأدباء العرب الذين وُجهت إليهم الدعوة احتراما لموقف المقاطعة .

ويأتي سبب الإعتذارات المتواصلة انسجاما مع الموقف الذي عبر عنه المرصد المغربي للثقافة ومثقفون مغاربة من كل جهات المغرب ؛ وأيضا نتيجة أساليب التعامل مع الأدباء في ملف الثقافة ككل ، كما أن لا شيء تغير في كل ما كان مثار احتجاج المثقفين في الدورة السابقة ؛ فقد ظلت مشاريع الأوراش الكبرى التي تُشرف عليها الوزارة متوقفة ( المتحف الوطني، المعهد الوطني للموسيقى والرقص ... )، كما أن الوزارة لم تستطع بلورة أي تصوّر وطني للعمل الثقافي ذا مصداقية ويلبي تطلعات المثقفين،بل ظل عملها ارتجاليا تخلت فيه عن مكتسبات ذات أهمية على مستوى دعم الكتاب ، والجمعيات الثقافية، والاعتناء بدور الثقافة، وتنظيم المعارض الجهوية، والأسابيع الثقافية الوطنية واللقاءات الفكرية ...وغيرها من القضايا المرتبطةبالتنمية الثقافية ، والوضع الاعتباري للمثقف.

وبهذه المناسبة يعلن المرصد المغربي للثقافة عن مواصلته العمل التنسيقي التشاوري مع كل المثقفين أفرادا ومؤسسات مدنية في مجموع المغرب دفاعا عن ثقافتنا ، ويُعبر عن بالغ اعتزازه بكل المواقف الواقعية الشجاعة ، كما هو معتز بمواقف الكتاب الذين قاطعوا الترشح لجائزة المغرب للكتاب أو سحبوا مؤلفاتهم وهو الأمر الذي توضحه بجلاء عدد المؤلفات المترشحة والتي تم الإعلان عن عددها (81) في جميع فروع المعرفة .
ومن أجل إسماع صوت المثقفين يناشد المرصد باقي المثقفين المغاربة إلى الإعتذار عن المشاركة أو الحضور في الانشطة الحكومية التابعة لوزارة الثقافة أو أية وزارة أخرى .

وقد وجه المرصد رسالة الى الجمعيات الثقافية الفاعلة لاتخاذ مواقف تنسجم والموقف العام لشريحة كبيرة من الأدباء، بعدما لم يعد خافيا على أحد أن وضعنا الثقافي يجتاز أزمة تدبير قطاع حيوي يحظى برهانات أساسية من المفروض أن تلعب فيها وزارة الثقافة دورا محوريا لفتح الشأن الثقافي على شراكات فعلية ومبادرات عملية بين مؤسسات من قطاع عمومي وخاصّ يسمح بالتوفّر على ميزانية قارة لدعم برامج ثقافية تطال السنة وتغدو موعدا معلوما.

إن الطريقة التي يتمّ بها التحضير لمعرض الكتاب لهذه الدورة بتهميش الناشرين وإقصائهم من اقتراح التصورات والبرامج الثقافية سيفقدانه البريق المأمول والنجاح المرجوّ. والحالّ أن تنظيم معرض للكتاب في عرف الدول التي تحترم الثقافة والمثقفين يكون مصحوبا دوما بمشروع ثقافي مستقبلي للوزارة الوصية أو المجلس المشرف على القطاع يساهم في خلق سوق ثقافية تبعث الحياة في المكتبات العمومية ودور الثقافة والشباب والمسارح والساحات العمومية...

قصر النخاسة/ مايا رزق


رفعت بنظري ووجدتني بين جيش من البشر يجمعهم زي موحد ويفرقهم رقم. رقم إستطاع تمييز كل فرد عن الآخر. ١٠٤٥٢ كان الرقم الذي حملته بورقة على صدري. إلى يميني رجل كهل قد طالت فترة خدمته؛ سألته عن سبب تواجدنا في هذا المكان ولكنه لم يجب. فرأيتني اكرر سؤالي على مسمع شاب إلى يساري، وقد بدا عليه الحماس، إلا أن حماسه لم يساعده على اعطائي الجواب. فعبثاً ضاعت محاولتي.
كان الصمت سيد الموقف، يخرق حرمته صوت، لم يكن بالغريب. يقوم بتعداد الأرقام الواحد تلو الآخر. ومع كل رقم، يتقدم طابور الموجودين فنقترب من الصوت أكثر فأكثر.
في الواجهة، على التنظيم، ماردان يحددان مسار كل رقمٍ لإحدى الحجرتان الموجودتان في القبو.
تملكني خوفان لم أعرف أيهما أكبر، أهو خوفي من الصمت، أو خوفي من الظلمة الذي حثني إلى الخروج من هذا المكان؟ فما كان مني إلا أن أقلب ورقتي إلى جهتها البيضاء. بعد أن قيد من أمامي، وقفت بمواجهة الماردان والرجل المنادي. تسمرت الأعين على ورقتي البيضاء. وإذا بهذا الصوت المألوف يصرخ بما أردت سماعه:”إلى الخارج.”
القيت بنظرة أخيرة على المكان متمعنة فتوضح لي أنه قصر كتبت على بابه “قصر زعيم من لبنان”.
كان ثمن حريتي ورقة ولحظة رعب تملكت الزعيم. أخافته ورقتي الفارغة وكبلته فكرة أن أدون عليها حقيقة أن قصره بات سوق نخاسة وأنه عبد هذا القصر.
مشيت ولم أسأل عن القصر، ما همني القصر وسيده سارقه، وأهله عبيده.
خرجت ورائحة الغيرة الممزوجة بالحسد تطاردني. سيد القصر يحسد حريتي ويتوق للمس ورقتي البيضاء. فإذا بي أعكر صفاء غيبوبته وأبعث له برسالة مختومة برقم ” عبوديتي”:
أدخلتني قصرك تحت شعار “من سواك بنفسه ما ظلمك” ولكن من قال لك أن ضخامة قصرك تغريني، ومرارة كأسك تروي عطشي. ظمئي لا يروى من عالمك الواسع بل من حبر قلمي. ما همني الخلود بين حاشيتك، أغرتني لحظة حرية على حساب خوفك.
يوماً ما سأعود… سأعود من أجل كهل اليمين وشاب اليسار. سأعود وشعاع ورقتي سيضيء حجرتي الموالاة والمعارضة. سأعود وسواد الأرقام سيسقط على جبروت السلطات الثلاث. سأعود ورقم عبوديتي سيتسلل إلى خارطتي من جديد

مطر.. وتراب/ زياد جيوسي

مطر وتراب/ رام الله بعدسة: زياد جيوسي

في هذا النص فاجأتنا رائدة شلالفة بأسلوب جديد من بوح روحها، ولعل مثلي من عرف رائدة صحافية متميزة أولاً، وتابعها عبر ما نشرته خلال الفترة الزمنية الأخيرة من نصوص أدبية، يستطيع أن يلحظ الفارق بين هذا النص ونصوص سابقة لها، ففي هذا النص يلفت العنوان النظر من البداية (مطر و.. تراب)، يعطينا صورة مسبقة حول طبيعة العلاقة الأزلية بين هذه العناصر، فتمازج الماء مع التراب صنع الطين الذي هو أصل الحياة، وفي الأديان السماوية الثلاثة، ففي قصة خلق سيدنا آدم أبي البشرية كانت الإشارة واضحة عن مزج التراب بالماء ليتكون الطين الذي به خلق آدم ونفخ الله فيه الحياة من روحه، ولعل بداية رائدة نصها بهذه الكلمتين، عنصري الخلق، رسالة موجهة إلى القارئ ليجول في مدارات النص الخمسة بعد مقدمة للنص.

المقدمة التي استخدمتها رائدة لنصها تحدثت عن قصة (إنانا/ عشتار) كما ورد الاسم في الأساطير وكيف انتقلت من الأعالي إلى (ديموزي/ تموز) الذي اختطفته شياطين العالم السفلي، وتقول الأسطورة إن عشتار كانت متآمرة عليها في عملية الاختطاف، فتوقف الخصب في الأرض، فشعرت إنانا بذنبها فهبطت لتبحث عنه لتعيد الخصب وتكفر عن ذنبها، ولعل استخدام هذه الفكرة كمقدمة للنص توحي لنا إضافة إلى العنوان لما تريد رائدة أن تبوح لنا به من خلال ثنايا النص، هذا النص الذي استخدمت فيه الرمزية كثيراً إلى درجة تجعل القارئ المهتم يعيد قراءة النص أكثر من مرة لفهم المغزى والمعنى والرسالة المستترة وراء الكلمات.

لجأت رائدة إلى ممازجة الأسطورة (ديموزي وإنانا) مع الخيال الأدبي (زوربا) وهو الشخصية المميزة التي ابتكرها نيكوس كازنتزاكس والحقيقة العلمية (مطر وتراب) في النص، إضافة إلى ورود كلمات من آية قرآنية (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) وإن كان من المفترض أن تضعها كاتبة النص بين قوسين إشارة للاقتباس، رغم أنها في الاستكمال قالت: (دُونَ أَنْ تَمْسَسْهُ نَارٌ(، فغيرت في سياق النص الآية التي تقول بعد بسم الله الرحمن الرحيم : (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ)، [النور: 35])، فجعلت هذه الممازجة من النص لوحات مثيرة للروح جمالاً وفكرة.

نجد الكاتبة قررت من خلال سيدة النص كما إنانا أن تهبط إلى مَن تخاطبه، (إلى العالم السفلي سأهبك .. أبيضي)، فهل كانت سيدة النص قد تسببت أن يُختطف المُخَاطب وشعرت بالندم، فقررت أن تذهب إليه وأن تطلب منه أن يسامحها بحيث أنها قالت: (سأهبك.. أبيضي)؟ وناشدته بالقول: (صبّني إليك!!)، أم أنها شعرت أنه رغم البعاد والمسافة التي تفصلهما، أنه ينتظرها بأشواق ويحلم رغم قسوتها عليه باللقاء فقالت: (فتفوحني رائحة انتظار قبيل.. أوائل المطر)، فنجد من خلال ذلك أننا نعود إلى العنوان: (مطر و.. تراب)، فالتراب يكون متشوقاً للمطر، ولعله أيضاً يشعر أن المطر مهما طال انحباسه لن يوقف شوقه للقائه، فكان تشبيه سيدة النص بالتراب بشكل مستتر وبدون توضيح في الشطر السابق، يعطي التشبيه للمخَاطب بالمطر، وتتواصل هذه الصورة من خلال الأشطر اللاحقة حين تقول: (أي "دغدغةٍ" تلفح وجعي، حين أنتظر موعده، ليهطل قلبي.. رعشات حارة)، فنجد حجم التشبيه بهذه الصورة الجمالية للتراب وهو يرتعش جفافاً بانتظار المطر.

في اللوحات الرابعة والخامسة تعبر الكاتبة من خلال سيدة النص عن حجم الشوق ووصف اللحظة التي تنتظر، لقاء روحين وجسدين، كما لقاء التراب مع المطر، فالإشارة إلى لقاء الجسد تتجلى من خلال: (ملحُ جسده فائضٌ(، فلا يفيض الملح من الجسد إلا بالتعرق، والإشارة إلى اللقاء الروحي من خلال: (وارتعاشة المساء في حضنِ الليل، تشبهنا.. إلى حد بعيد)، وإن كانت سيدة النص تعتبر أن هذا اللقاء رغم الشوق له يحفل بالذنب حين تقول: (كي .. أقترفه أجمل الذنوب)، رغم أنها تصرخ بقوة: (لأرتدي جسدي إليه)، فهي تتوق لمعانقة التراب مع المطر لخلق حياة جديدة، حياة يملؤها الخصب من خلال استخدام رمز (تموز)، والشوق والعاطفة من خلال (عشتار)، فهي تريده أن: (يتساقط بين يديَّ نبيذاً حاراً أشربه من بين شفتيه ساعة احتضار).

وخاتمة الحديث والتجوال في نص (مطر و.. تراب) لرائدة شلالفة أنه بعض من نزف روحي، نزفته روحها ذات تشرين، حين كان الجميع ينتظر المطر الذي تأخر كثيرا لهذا العام الذي كتبت به النص 2010 وهي تجول دروب عمان الغربية، حيث يسكن أولئك المرفهون الذين قد ينـزعج البعض منهم من المطر، لأنه قد يبلل ثيابهم أو يفسد تسريحة شَعرهِم، أخالها تجول الدروب، أفكارها شاردة تحلم بالمطر الذي تنتظره سيدة نصها، كما تنتظره الأرض، فمازجت ما بين أشواق سيدة النص لمطرها، والأرض لمطرها، فسكبت علينا نزفها مطراً وجمال صور، تاركة المجال للقارئ لأن تجول روحه قبل عينيه في أروقة النص ومحراب المطر والتراب ونزف الروح.

(رام الله 17/12/2010 )

مطر.. وتراب ..
رائده شلالفه
هامش:

"إنانا هجرت السماء والأرض
وإلى العالم السفلي هبطت
نبذت السيادة ونبذت السلطان .."

1

سأهبط إلى علوّك .. "ديموزي"

وإلى العالم السفلي سأهبك.. أبيضي !!

"ديموزي" .. يا إله المتعبين

صبّني إليك !!

2

ترابه يراود حبات مطري
فتفوحني رائحة انتظار
قبيل ... أوائل المطر!

أي "دغدغةٍ" تلفح وجعي
حين أنتظر موعده
ليهطل قلبي
رعشات حارة
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء
دون أن تَمْسَسْه نَار !

3

مشبع مسائي بخطواته من ورائي
وعلى حافة ثوبي المتوثب
أشيح بخاصرتي له .. أن تعال
ليراقصني
كما يديّ زوربا الثملتين !

4

أدنو منه
فتحملني "طقطقات" أصابعه

لتَدُلّني إليّ ..

ملحُ جسده فائضٌ..
وارتعاشة المساء في حضنِ الليل
تشبهنا ..
إلى حدٍ بعيد !!

5

لرائحة فجره
"همهمات" أشمّها الآن ..
وصرير سرير
يدعوني إلى فنجان قهوته
كي .. أقترفه
أجمل الذنوب !!

تدهشني أصابعه العارية ..
أيُّ صباحٍ يشتاقُه
لأرتدي جسدي إليه !

أطلع منه .. مثقلة به
ما أينعه .. حين أعبر بين أصابعه
ليتساقط بين يديَّ
نبيذاً حاراً
أشربه
من بين شفتيه
ساعة احتضار !!

ذات تشرين / عمان .. غرباً /2011

الغنى في الغُربةِ وَطنٌ/ آمال عوّاد رضوان


صوبَ أجملِ البقاعِ انطلقتِ الحافلة، تجتذبُها بوصلةُ الشّمالِ الباردِ في رحلةٍ ترفيهيّة، والعيونُ مشدودةٌ أهدابُها إلى المدى المفتوح، حيثُ تمتزجُ خضرةُ الجبالِ العاشقةِ بزرقةِ السّماءِ الحالمةِ بانسجامٍ فنّيٍّ مُتناغِم، يُتوّجُ صَفوتَها بياضُ الشّيخ الضّبابيّ، وعلى أنغام الرّحبانيّ تتراقصُ كلماتُ "سعيد عقل" في حنجرةٍ فيروزيّةٍ تصدحُ:

"يا جبل الشّيْخ يا قصْر النّدي/ حبيبي بكّير لعندَك غِدي/ يا الجبلِ العالي/

يا لونِ اليمامةِ ويا التّفاح الشّاميّ/ لو تعرف بحالي/ هِديت رياحك وقلبي ما هِدي".

كانت دلّة القهوةِ تداعبُ أفواهَ فناجين تنتظرُ مُرتشفيها ممّن يترجّلونَ مِنَ الحافلة، قهوةُ قدِمتُم أهلَ بني معروف، ووطئتم سهلَ هضبةِ الجولانِ السّوريّة، التي وقعت ضحيّةً منذ عام 1967 بقبضةِ السّلطةِ الإسرائيليّة الآنيّةِ المفروضةِ المرفوضة، ونحنُ ما زلنا نُقرُّ أنّنا سوريّو الهُويّة والتّبعيّة، ونتغذّى بإيمانِ استقلالِنا المتينِ مهما طالَ الزّمان!

إحساسٌ سِحريٌّ يُراودُ الزّائرَ حينَ يهبطُ على جنّةٍ تنبضُ جمالاً وتتدفّقُ حياةً، والوجوهُ البشوشةُ تستقبلُكَ بحفاوتِها الغامرةِ، وتوشّحُكَ بشفافيّةِ ضيافتِها الأصيلة، وأنتَ مأخوذٌ بجَمالِ أهل الجولانِ والتّلال، كأنّ اللهَ صبَّ فتنةً على هذهِ الأرض، فتخضّبتِ التّلالُ والجبالُ بحُمرةِ تربةٍ لوّنتْها أيادي المعروفيّينَ بحنينِ صخورِهم المصفوفةِ بأشكالٍ هندسيّةٍ مرسومةٍ ببراعةٍ، لتُشكّلَ لوحةً طبيعيّةً باهرة، تقفُ أمامَها مشدوهًا، ولسانُ قلبِكَ يُسبّحُ الجَمالَ والباري.

لكن؛

كيفَ يمكنُ للجولانِ أن يُحقّقَ رفاهيّتَهُ الجَماليّةَ والاقتصاديّةَ والاجتماعيّة، وهو يقبعُ في عُزلةٍ عن بلدِ الأمّ سوريا، وبمقاطعةٍ تامّةٍ مع الاحتلال، الّذي غدا "كمثلِ صخرةٍ وقعتْ على فمِ نهرٍ، لا هي تشربُ منه، ولا تتركُهُ يُخلصُ إلى الزرع"!؟

كيفَ استطاعَ بنو معروف أن يُغدقوا على أبنائِهم أكثر من أربعين عامًا بهذهِ الرّوح الرّافضةِ للاحتلال، ويَشحنوهُم بهِمّةٍ واعدةٍ بالاستقلال، رغمَ سجنِهم الجولانيّ؟

ويلوحُ قولُ عبدُ الرّحمن منيف في روايتِهِ "شرقُ المتوسّط مرّةً أخرى":

"إنّ السّجنَ ليسَ فقط الجدران الأربع، وليسَ الجلاّدَ أو التّعذيب، إنّهُ بالدّرجةِ الأولى خوفُ الإنسانِ ورُعبُهُ، حتّى قبلَ أن يَدخلَ السّجن، وهذا بالضّبطِ ما يُريدُهُ الجلاّدونَ، وما يجعلُ الإنسانَ سجينًا دائمًا".

لكن؛ كيف يمكنُ لبلدٍ يقعُ في ظِلِّ الاحتلالِ أن يصمدَ اقتصاديًّا أمامَ أزماتٍ سياسيّةٍ عنيفة؟

هل يمكنُ أن يُحقّقَ اكتفاءً ذاتيًّا خدماتيًّا وتنظيميًّا، وأمنًا غذائيًّا وزراعيًّا وصناعيًّا؟

ومعّ إشكاليّةِ المقولةِ: "الغِنى في الغُربةِ وطنٌ، والفقرُ في الوطنِ غُربةٌ"، استطاعَ غِنى الرّوحِ المعروفيّ الرّاسخ أن يهزمَ الخوفَ، وتمكّنَ جبروتُ بني معروف الصّارخِ أن يَدحرَ الرّعب، باقتطاع الصّخورِ مِنَ الجبال، ليتَحَدّوْا الجرفَ الطّبيعيّ والاحتلاليّ، فأقاموا السّناسلَ الصّخريّةَ منعًا لجرفِ التّربةِ، واصطصلحوا الأراضيَ وزرعوها بكُرومِ التّفاحِ والكرز والزيتون.

حاولوا توفيرَ احتياجاتِهم اليوميّة مِن خلالِ إمكانيّاتِهم الاستهلاكيّةِ المُتوفّرةِ لديهم بشكلٍ شبهِ مستقلّ، بهدفِ رفضِ التّبعيّةِ السّياسيّةِ والاقتصاديّةِ للاحتلال، وللمحافظةِ على مواقفَ ثابتةٍ غير قابلةٍ للمقايضةِ والتّنازل.

قالَ جون وليامز: "ما فائدةُ الدّنيا الواسعة، إذا كانَ حذاؤُكَ ضيّقًا"؟

أهلُ الجولانِ اتّسعتْ أحذيتُهم وما ضاقَ عليهم سجنُ الدّنيا، بل كثّفوا جهودَهم الحثيثةَ المعطاءة، وهَبّوا بالأفرادِ والأهلِ إلى تأسيسِ مؤسّساتٍ خاصّة على كافّةِ المستوياتِ لترعى الحاجاتِ الأساسيّة، كأنّما يتعايشونَ مع حالةِ حصارٍ حربيٍّ دائمٍ؛ تكتنفُهُ المخاطرُ والصّعوبات، وسَعَوْا إلى الاستغناءِ عن الوارداتِ الاستهلاكيّةِ الخارجيّة، وعملوا إلى استغلالِ الطّاقاتِ المُعطّلةِ لديهم في الميادينِ البشريّةِ والزّراعيّةِ والإنتاجيّةِ، ووفّروا مواردَ الموادّ الغذائيّةِ الأساسيّةِ النّباتيّةِ والحيوانيّة في غِمار العُزلةِ والمقاطعة، وتكيّفوا معَ الواقعِ الجديدِ لسدّ فجوةِ الحاجة، بتأمينِ الشّروطِ الأساسيّةِ لتنميةِ الإنتاجِ المَحَلّيّ كمّيًّا ونوعيًّا على المستوى الاستهلاكيّ والاستثماريّ، وبذلك، أمكنَهم تخطّي مفهوم الاكتفاءِ الذّاتيّ، والقفز إلى مفهوم التّطوّر الاقتصاديّ، وتوفير مزايا نسبيّة أساسيّة، مِن حيث التّكاليفِ المنخفضة والجودة العالية في المنتوج، مِن أجل تنشيطِ التّجارةِ المّحلّيّةِ والسّياحة!

الفواكهُ المُجفّفة، العسلُ الطّبيعيّ، مُربّى الفواكهِ بأشكالِهِ، خبزُ الورقِ، التُّحَف، التّفاح، الكرز والزيتون، والأجبان والألبان، منتوجاتٌ لها طعمُها المميّز، وما فاضَ مِنَ المنتوج كانَ نصيبُهُ البرّاداتُ الخاصّة الحافظة، وكلّها مُطعّمةٌ بنكهةِ الصّمودِ الجبّار!

هل يستكفي الجولانُ بالشّبعِ الجسديّ؟

عشرونَ ألفًا تعدادُهُ، وما غفلَ عن المقولة: "كلُّ وعاء يَضيقُ بما جُعِلَ فيهِ، إِلاّ وِعاءَ العِلمِ فإِنّهُ يتّسِعُ"، فلدى الجولان اكتفاءٌ خدماتيّ مِن أكثر مِن ثلاثةِ آلاف أكاديميّ، يشغلونَ كافّة المرافئ الحياتيّة مِن طبّ، هندسة، محاماة، تدريس وإلخ..

لكن؛ ما سِرُّ التّماثيلِ الضّخمةِ والزّينة في شوارع الجولان؟

استعدادٌ لعرسٍ وطنيٍّ لا يفترُ أجيجُهُ، يُحيي ذكرى الإضراب العام الموافق 14 شباط لعام 1982، ليُثبتَ "أنَّ الهُويّةَ الحقيقيّةَ للأهل في الجولان عربيَّةٌ سوريَّة، راسخةٌ رسوخَ جبل الشّيخ، نقيَّةٌ كبياضِ ثلوجِهِ"، وقد صرَخَ الرّسمُ بألوانِهِ، وكانَ للصّخرِ صداهُ في نحْتِهِ، وحلّقتْ أصابعُ النّساء أجنحةً بفنونِها اليدويّة، كأنّ الأهلَ يُصرّونَ على استغلالِ فسيفساءِ الإمكاناتِ والجهودِ، لملْءِ ثغراتِ الزّمنِ بما يُخلّدُ وجودَهم، بتماثيلَ صخريّةٍ ثمينةٍ تُزيّنُ جُزُرَ ودوّاراتِ الشّوارع، نحتَها الفنّانونَ مجّانًا بكلِّ ما تَحملُهُ مِن عُمقِ فلسفةِ البقاءِ وترسيخِ الجُذور!

أقاموا منتدياتٍ ثقافيّةً ومتاحفَ تاريخيّةً وتُراثيّةً ومعارضَ فنّيّةً متعدّدة، ودوراتٍ تدريبيّةً لمختلفِ الأجيال، على الحساب الخاصّ دونَ أيّ دعمٍ خارجيّ، مِن أجلِ متابعةِ المشوارِ النّضاليّ!

فما سِرُّ هذا المصْلِ الوطنيّ الجارف، الّذي طعّمَ القلوبَ بنفَسٍ سوريٍّ، وشحَنَ العقولَ بروحٍ وطنيٍّ، لا يقبلانِ الرّضوخَ والمُساومة؟

وهل عقابٌ قاسٍ - أبسطُهُ حرمانٌ ومقاطعةٌ ونبذٌ تامّ لكلِّ متعاونٍ تُسوّلُ له نفسُهُ أن يخونَ العهدَ، فلا يَجدُ العميلُ مَن يُؤاجرُهُ في أتراحِهِ، ولا مَن يشاركُهُ أفراحَه- هو أحد الأسرار الفعّالة في النّضال؟

بـــــلا مــــذاق/ إشراف شيراز


لا أعلم في أي عصر نحن... ربما نحن في عصر الليمون!!!

كل شيء بدا بلا مذاق... بلا رائحة ... أقضم تفاحة...كأنني أقضم جذع شجرة أو قطعة أثاث قاسية. طعم الخشب هو الطاغي...بات سائدا في الفم. سلة الخضروات والفاكهة حجما ولونا ولا أجمل... لكن الرائحة غائبة، و النكهة في غربة... لا شيء يشي بما خزنته الذاكرة في وقت سابق لا أذكر تحديدا متى انقطعت حبال الوصل فيما بينها.

...الحواس باتت في حيرة ... أي تناقض هذا بين صخب الألوان و بهجة ثمرة عاشقة تتأنق في المظهر في معبد الجمال و الكمال. تغريك استدارتها بشدة ... يمتلكك دوار الرغبة الجامحة للتذوق والاختلاء بالمتعة والامتلاء في خلاء ساعة احتياج جائع . تستنشقها ملء الرئتين...يا للمفاجأة... كأنك تدس أنفك فيما لا يعنيك...أو تشك أنك مصاب بزكام مزمن... كأن حاسة الشم خانتك...غادرتك بدون رسالة اعتذار...أو ربما تجمدت عند نقطة الصفر تماما.

لا أعم تماما كيف سيتحقق الاستمتاع و تمييز ما تستدعيه حاجاتنا و متطلباتنا من غذاء و مشرب... وبأي نسبة ترى سوف تعمل...حين نحشد حواسنا التي لا نشك يوما في كفاءتها و نحسن بها الظن... نتفقدنا .. ربما حاسة الشم في عطب مؤقت... لعلها في سبات مرض أو ربما أصابها ما أصابها من تذمر فاستلقت في راحة على الجنب.

ماذا تفعل حين تفقد حواسك هيبتها... أمام أشياء لا هوية لها انتزعت منها وقارها ...كأنها الوهم أو ما يحاذيه. وهذه الحقيقة كم بدت ناصعة...

نتساءل متى يعود الإحساس بالطعم و الرائحة... إلى مداره... ولا تعبر اللقمة و الجرعة في الفم كالضجر ..كأغنية معطوبة...كسحابة مخادعة لا تروي... تسكت صراخ جوع تمنح الطاقة ...لكن لا متعة للروح ....

كيف أسكت صهيل أفكاري ولا أكمل نوبة الشكوى التي أصابت حواسي بحرقة. أسمعها تصيح في دمي..:""ألستُ موجودة حقا...لا وظيفة أشغل..سوى التذمر...من أطاح بي...من؟"...
الحقيقة أنها بخير و في حالة سوية ...لكن

كأن الشمس ما عادت تشرق كما ينبغي...كانت على سطح ألسنتنا مذاقات...من سيقاضي الحقول التي غيرت وجهها... من سيحاسب الأيادي التي غيرت حقيقة الشجر.

توهج الياسمين/ إشراف شيراز



كيف أثور لك يا قلبي و لا أحرق من حول ضفافك ماانتشى من اخضرار...

كيف تكون ثورتي بملمس الحرير... من ساتان... من مخمل... كيف تكون رائحة الحرائق عبير ياسمين... كيف يكون دمي نهرا مباركا يعبر شرايين التاريخ و يصب عاليا في شَرفِه.

كيف أرفع سقف أحلامي و لا أتقهقر و أنحني للفتات... كيف أتقدم معك ولا أتراجع... ولا ألتفت... ولا أنقلب...ولا أتباطأ.

كيف أقلب صفحة تشع بالظلام... صفحة امتلأت بالصمت... صفحة تمارس جمع العاهات وترهات بكل حجم ... كيف أمزق صفحة أخرى بتراكمات تحتكر الإستمرار حان موسم هجرتها إلى الخلف... وأخرى لا تنوي الإقلاع عن نفسها من فرط إدمانها لأفكار ألقيت في المنافي منذ دهر... وصفحات فصلت على مقاس حفنة سائدة بلون واحد... كيف أقرأ صفحة ناهبة لكل الحروف المضيئة... صفحات جففت الندى في مهرجان الصحاري... وقالت إلى الصبار هلم بنا إلى الشوك...

ها أنا أقلبها كفكرة عابرة واجبة الإختفاء... وأنسف ما سلف بدون ارتجاف قادم من أقصى الخوف بحنجرة صافية لا يوترها نشاز...

ثم أنبت للحلم أجنحة البياض... أُفق لا يضيق... سقف لا ينخفض ... لا يتساقط... لا ينهزم... ولا يدكني دكاًّ ولا يسحق مكاسبي ولا أصطدم بخطأ تاريخي... ولا بشري.... ولا أنحسر.

في باحة النبض... هنا... لحظة عطش... أتنفس حريتي... أستنشق هواءً نقيا شطب كل الملوثات من ساحاته.

هتافاتك الصارمة... لسانها طليق لا تتهجى الحروف ولا تشتكي تعثر ولاهشاشة... صارمة هي... صلبة الحضور...لم تتكسر على حائط التردد... روضت الكواسر ... و أدخلت الوحوش الجحور في انتظار الردم.... ومتاحف الديناصورات.

لا للوقوف الآن على الأطلال المطمئنة... تلك التي يدهسها الفراغ... كقش علق في عجزه فبعثرته يد الريح عاليا . ويد أخرى عاشقة ... تنثر الحياة أينما ذهبت... تغرس سنبلة و فسيلة و زيتونة وبرتقالة مضيئة.

لم تمت من قبل يا قلبي... و لم توشك... لكن الحرية منحتك جناحيها ورسمت لك بريشة الفصول رحبا من ربيع... فكان البياض ناصعا في هديل و النبض بات أراجيح عيد.

بمن ألوذ... أبغيرك... وكل الأصابع تشير إليك و تحج إليك الضلوع كي تحميك... و تحتمي بك.

كنت أتوسد حلما ...ذلك المأهول بالمعجزات... لا يعمر بالنوم فقط... لا ينهمك في شرود اليقظة فحسب ... والأمنيات التي نحملها في حقائبنا اليومية...رجاءات لا تتشابه... هي كالمسافات ليست واحدة ولا تمسها السهولة بأي حال... ربما هي أكثر امتناعا من بعض المستحيلات...

ها هي الآن كحقيقة شاهقة تأتينا... مستطيلة القامة كجبل... شقت بحر صمتها المحتشد بالصخب ... بعصا سحرية مارسه نداء الجميع... حقيقة جاءت واعدة... باذخة... سخية... مذهلة... في لحظة خاطفة فرت من حلم معلق بين حقيقتين ...بين واقعين وعجز.... بين وهم و مستحيل ... كنت أظنها أكبر من أن تتحقق... فأتت تُلبس المشهد ملامحه بأمانة بدون ابتسامة منفصمة... ولا قناع مستورد .. ولا بشكل معلب... قدِمت مختلفة... جديدة... حديثة....... من صنع محلي... منزوعة من أي مثيل شائع... في ظاهرة نادرة لم نعتدها...غير مسبوقة.... أوجدها الإستثناء...أتت مفتوحة الذراعين تحمل قوة التغيير ....تمتلك قوة الشفاء من كل علة... متخطية حواجز كبيرة بقفزات قياسية... عصية منيعة ... في نهاية الأمر و أنا ألتقط اللحظة الذاهلة... بعد دفعة من المفاجآت قلما تتتابع بتسلسل راكض... لم تكن نتاج عبقرية بل هي حركة عفوية... تلقائية... في قمة الآداء ... والتناسق الأخاذ... كبيرة هي في تجلياتها حتى على الوصف...

هكذا يا قلب... ثورتك منذ عدة خطوات مهدت لك عتبة البدايات... لأبواب تفتح على أبواب... وساحات... و مساحات تحتفي بكل قادم... وهتافات أقسمت أن تعيد كوكب العدل إلى مداره.

المناخ يتعافى أخيرا بعد تسونامي أطاح بالطحالب... وأصبحت شواطئك الفيروزية بعد انحسار المد... منطقة لجوء... هكذا الحياة تمنح وجهها الجميل لبعض من أحبها...أحيانا...

أتساءل عما سيحدث تاليا...حين بات التغير في حكم المؤكد... هل سنرى تداعياته... أعراضه...هل سنتقدم دون أن تتجدد تشوهاته... وهل سنرى إنجازاته... وسيكون أقل قسوة من صفحة تاريخ فازت بلقب "فاشل " طوينا صفحته في الماضي القريب....وتم إعلانها على أنها "خطأ"... وبعد أن صببنا عتابنا غزيرا...ننقل الواقع الجديد إلى صورة ضوئية ونتحول به من الرسوب إلى الرسوخ في نجاح أكيد....

حين نحلق في آفاق واعدة مترامية الأطراف... نصنع التاريخ... كيف نصنع مستقبلا آمنا... هكذا ينتابنا التساؤل... لا أستشعر الخطر بتاتا... لكنه القلق... مارس الحشد طويلا... وأراد أن يحل أزمة لا تعقيدها ...أود فقط أن ترسخ فكرة العدالة و الحريات و المشاركة... وتخرج النتائج صحيحة بعد كل هذه المقدمات.. .بالشكل الذي يليق... وبحجم الحدث... يتحرك مع الزمن إلى الأمام... ولا يلتوي ولا يضيق كشارع متوجع من دهس الزحام.

هكذا الحياة سوف تعمل بكامل طاقتها...دون هدر... ولا أوهام... ولا أوجاع... لن تكون الجنة لكن حتما إحدى حدائقها الغناء...

الزمن لا يتوقف و الحاضر سيصبح حتما ماضيا... يمر سريعا في رشاقة لا تصدقها العين و الأذهان... نحن عشاق المستقبل...لا نريده أن يطل علينا مضيئا لنا فقط بل لأجيال و أجيال... وأجيال...و أجيال.

***