يجتاحك الألم حبيبتي، ويجتاحني أكثر و(ترعف الريحُ أحزانه)، أقف ملتصقاً بنافذتي أتأمل المطر في هذا المساء، لعله يطهرني من اجتياح الألم، وأشعر أنه (سيقعي المساء على أربع ثم ينجب أيتامه)، وأرى الحزن يجتاحك وكأنه (نُدباً في ظهور ملائكة ذابلين)، فأشتاق إليك أكثر، فكيف لي- وأنت في البعيد- أن أصل إليكِ، وأنا (في جبتي وطن من بكاء)، ولا أرى في الحاضر إلا (رداء من الخز يستر عوراتنا، وتواريخ محمولة في الحقائب)، فتقفز بغداد إلى الذاكرة مع ألمنا في البعاد، فأذكر وطناً ضمني حين كانت بغداد (تورد ظهر الزجاج)، وأجرت في دمي ماء دجلة، فمازجته في شراييني مع فيء زيتون وطني (كي لا تطفئ الروح في جسدي).
أجول مدينتي رام الله، نسمات البحر المستلب تداعب روحي، أشعر بطيفي يرافقني وأشعر (أنه راح يجمع بقايا المدن المنهكة..!!)، ويحاول أن يرى (السماء التي لم يرها منذ زمن بعيد)، فسماء بغداد كما سماء رام الله، مليئة بالدخان الذي يحجبها عن الشمس، وتعصف بها (ريح تكنس المدن عن الخارطة)، وتقف شامخة رغم الجرح بمواجهة (قطيع من الظلال.. يمشط بأقدامه الغبار)، فمدننا تمتلك رغم العواصف (جناح مؤجل للطيران)، ومدننا اعتادت دوماً أن (تغزل أحلامها بمغازل من ذهب)، وأنا عاشق المكان الذي يعرفها جيداً، فأنا (رجل بذاكرة عارية)، ولم أكن أبداً من رواد (مقهى من أجل تكرير الجنون).
لماذا تشدني رام الله إلى بغداد؟ أنا هنا أعاني الوحدة في وطن أنغرس فيه، أفتش (في بقايا المدن المنهكة، المدن التي أخطأتها الريح، عن امرأة، وجدار..)، فلا حبيب هنا ولا أبناء يقتسمون معي ألمي، فتأتي بغداد إلى رام الله لتزيد من وهج الألم، وأنا الذي لا يمتلك متراً في الوطن، لكني أمتلك الوطن بأكمله، باقٍ رغم الألم مع طيف أحلم به، يأتيني هنا (كي يعانق آخر إبحاره.. أوّله..)، وأنا الذي (تسكن الأرض خاصرتيه نزيفاً)، و(تبرد في صدره طلقة قاتلة)، فما بين ذاكرة بغداد ومعانقتي رام الله بعد عقود الغياب، كنت أسير (في الطريق إلى وطني، كنت دوماً شهيداً، وكان الزمان صداي).
أترى لأن بغداد من ضمتني حين كنت أحلم أن أعود وألتقيكِ، حين كنت (أحلم بامرأة لا تجادل في النحو أو في البلاهة)، فكنت أكتب لكِ ما تركته فيها فضاع حين لم أعد إليها، ولم ألتقيكِ، ووأد جسدي، وبقيت أحلم بك وأنا (لم أزل أتهجى رماد المدينة)، وأحلم ببغداد سيدة (مدن العالم المشتهاة)، فيا بغداد عودي كما كنتِ (وامنحيني صلاتك أو هدهديني)، ضعي يدي بيدكِ في شارع أبي نواس وضفاف دجلة كما كنت تفعلين (فقد تعبت هذه الأرض من صخبي)، خذيني إلى الوزيرية والأعظمية والكاظمية، (فقد شاب مني الشراع)، أعيديني إلى روح أمي غريبة وابنتي نهلة في كمب الجيلاني، كي لا أكون أنا (سيد المتعبين إذا أقفرت من رفيق ذراعاي)، ضميني إلى صدرك في شارع الرشيد، فأنا بشوقي (مطر عالق في سقوف الغمام)، ودعينا نجول شارع المتنبي نلتقط بعض الكتب، شارع النهر حيث تتهادى حوريات بغداد، جولي معي في شارع المحيط وغابات النخيل حيث كنت (أتوسد الخرائط.. فتنبت على خدي الطرقات)، ودعينا نلتقي أساتذتي الذين كانوا (يغتسلون بحليب الحكمة)، وحين نتعب نحتسي القهوة في مقهى البرازيل (لكي أختصر الأرض)، ولا تتركيني (مثل جذع يتيم في عباب الحياة).
أيا رام الله، ضميني إلى صدرك وانثري على رأسي شلال شَعرك، احضنيني تحت شجرة البركة، فأنت وحدكِ من لها (أذنٌ أجفف فيها الكلام)، وأنا المغني الذي (أطلق لحنجرته عنان البكاء)، وأبذل روحي كي لا (يسقط الوطن من الخارطة)، ولا أمتلك إلا حلمي (وأوراق طرية الحبر)، بينما أرنو فأرى (ثمة أصدقاء عالقون على شفة الموت)، وأرى حلماً حلمناه وسعينا من أجله يتحطم، وأراه قد (سقط في بئر من الخرائط وتدلت فوقه أسماء المدن العتيقة)، وكان الحلم أن (يرى الشمس عنقوداً من المصابيح)، وأن يكون (القبلة لدى سماع آذان الفجر)، لكننا صرنا لا نرى الوقت إلا (من ساعة معطلة في سماء بغداد)، ولا نمتلك (سوى العمر الذي لا يأتيه النوم)، و(تحية لأرواح بعض أجدادنا).
وأسألك حبيبتي (كيف سأسرق باقة ضوء، من قمر.. سلبته النوافذ تاريخه؟)، فتعالي من بعادك كي (أصنع من نجمة.. نجمة)، وكي أخلق من وطني وطناً كي لا يقولون لي: كفاك (لك من الجغرافيا أطلس حافل بتضاريس الحنين)، أنا الذي حلمت و(أطلقت ذاكرتي للريح)، ولا أمتلك إلا حلمي (وأنا أرسم السماء بلون الدم)، وأصرخ بكل ما تمتلك حنجرة قد بُحت من كثر الصراخ: (أيها الناجون من بلادكم.. إلى أين المفر؟؟)، تعالوا ولا تكونوا مثل من (يغزو الظلام مفاصله فيحضن صورته.. ويموت)، تعالوا واسألوا أنفسكم (لماذا ينقش العابرون أسماءهم على سور المدينة.. أو على ما تبقى من جذوع الأشجار.؟).
يا صديقي الشاعر عبود الجابري، لا أريد أن أكون (عابر وطن)، فلماذا تصر أن تحملني من ميدان المنارة إلى (جسر الشهداء)، وتهمس بأذني بصمت: ترى (كم جسراً يلزمنا للشهداء..؟؟)، فأصمت كصمتك ولا تسمع مني إلا (زقزقة مبحوحة) وأهمس لك: لا تبتئس يا صديقي فما زال (ثمة أنت.. وأنا وترابٌ أحمر)، وأطفالنا (أجنحة مؤجلة)، ووطننا لن يكون مثل (غريب يموت من البرد في جنبات الفصول)، فما زلت أرى (غيمة في سماء البلاد) تحلم (بالطين المقدس) و(تمتثل لأذان الفجر)، وتحملنا أنت وأنا، رام الله وبغداد إلى جنين لننثر الورد على مقابر شهداء العراق في جنين.
* كلّ ما هو بين أقواس للشّاعر عبود الجابري (العراق)، من مجموعته الشّعريّة "فهرس الأخطاء"، الصادر عن دار أزمنة في عمّان 2007م.
ألمٌ يجتاحني وكأنه (فهرس الأخطاء)/ زياد جيوسي
السكوت ممنوع/ محمد محمد علي جنيدي
لما انت بتعرف تتكلم
طب ساكت ليه!!
خايف تصرخ أو تتألم
ما تقول من إيه..
أصبح من حقك ترفضني
تقدر تتحاور وتفدني
فيك انت هشوف نفسي كويس
من غير تلوين
وهتعرف نفسك وتميز
بعنيك لتنين
نفسي تقول لأه بعلو نداك
نفسي بحرية أقول وياك
لما تقول لأه بأعلى الصوت
أنا فعلا هسمع صوتي معاك
بس انت اتكلم من قلبك
ولا تخضع يوم إلا لربك
لو فاكر لسه زمان موجود
تبقى بتحلم
أو ليل الظلم ملهش حدود
مش راح تسلم
فتح عينك تسمع وتشوف
إيه اتغير ف. الكون حواليك
وارفع صوتك تجتاز الخوف
الدنيا بحالها هتسمع ليك
متخفش بجد
دا سكوتك مش راح ينفع حد
واتناقش رد
كل سدودك بإيديك تنهد
ممنوع الخوف وبلاها سكوت
رأيك من حق بلادي عليك
قول لأه وأيوه بأعلى الصوت
بحياتي وروحي وقلبي افديك
ممنوع تسكت.. أرجوك ممنوع
الضياع: 5-7 / أنطوني ولسن
تحذير: هذه القصة للكبار فقط
تعبت عفاف من كثرة الحركة في المنزل، وهي التي لم تذق طعم النوم منذ أسبوع تقريباً، أضف الى ذلك مشقات سفرها بالطائرة.. ما أطولها وما أتعبها من رحلة؟.. لكنها ابتسمت عندما تذكرت المضيفه التي كانت تخاطبها بالاشارة وتمنت رؤيتها مرة ثانية.
وسط الضباب الكثيف المحيط بها وبمستقبلها في هذه البلاد.. وسط احزانها لفراق والديها واخوتها وأهل حارتها ورفاقها في المدرسة.. وسط كل هذه الشجون سمعت صوت والدها يناديها، ارتجفت ووقفت تبحث عن الصوت، عن صاحب الصوت، لكنها لم تجده، رغم ان الصوت أصبح واضحا. لكنها لم تفهم منه ماذا يريدها أن تفعل.. فقط سمعت صوته الذي أخذ يتلاشى رويدا رويدا.
حدة البرق والرعد تزداد في الخارج، وزوجها فريد غائب عن عينيها، ولا تدري الى أين ذهب؟ وصوت والدها كان كالزائر الغريب الذي لم يجد راحته فأثر العودة الى ربوعه.. وهي وحيدة غريبة في بلاد الإفرنج.. انهارت واخذت تبكي بصوت عال، وما من احد يسمعها، كأن الارض انشقت وبلعت فريد. مسحت دموعها بيديها ونهضت تبحث عنه. دخلت غرفة النوم، قادها فضولها الى الخزانة. فتحت الباب وتطلعت بالصورة العارية الملصقة عليه، لم تصدق عينيها. أخذت تحدث نفسها.
- أمن المعقول ان تتصور امرأة بهذا الوضع المشين الفاضح؟ والأغرب من هذا ان تكون صاحبة الصورة صديقة لزوجي.. وسوف أراها الليلة اوغداً كما قال.. ياه.. بلاد الخواجات ياما فيها وياما.. آخ يا بت يا عفاف، دي لو كانت عندنا لقاموا بتقطيعها قطعاً قطعاً وألقوا بها للكلاب، وما الفرق بين تقطيعها وإلقاء جسدها للكلاب، وبين وقوفها عارية تماماً في وضع مخز امام عدسة المصور رجلا كان أم امرأة، وعيون الرجال تنهش جسدها العاري في الصورة.
استمرت في حديثها مع نفسها في صمت وهي تتفحص الصورة العارية، لكنها جميلة.. لم أر في حياتي امرأة بجمالها.. الشعر الأشقر الطويل يغطي الجهة اليمنى من صدرها، بينما الجهة اليسرى تشرئب بفضول وكأنها تتحدى الوجود، ويداها متجهتان الى أسفل، ووجهها الغجري تزينه عينان شقيتان توزعان نظرات التحدي والرغبة والاغراء، وشفتاها حبتا كرز يفصل بينهما شط لؤلؤ جميل.
تذكرت عفاف عُريها في تلك الليلة التي لم تتكرر. كم كان جسدها جميلاً وقوامها ممشوقا كقوام هذه المرأة، وإن كان اقصر منه بقليل.. هي في ريعان شبابها، في ربيعها السابع عشر.وصاحبة الصورة قد ناهزت الثلاثين من عمرها. يكفي عفاف انها محترمة وبنت عائلة لم ير جسدها انسان سوى زوجها فريد في تلك الليلة المشؤومة.
تطلعت خلفها، فوجدت طاولة التجميل «التسريحة»، ومرآة كبيرة، ولم تعرف أي شيطان دفعها الى الاستدارة نحو المرآة، وزرع بداخلها رغبة شديدة جامحة لأن تخلع ملابسها وتقف عارية تماماً كصاحبة الصورة.
عاد فريد من (الجراج) وحالة من الغيظ الشديد تجتاحه، بحث عن عفاف فلم يجدها. همّ ان يناديها، لكنه أحجم عن ذلك، بعد ان رأى باب حجرة النوم شبه مغلق. أطل برأسه، هاله ما رأى.. عفاف عارية. تسلل الى الغرفة بخفة، لكنها رأته من خلال المرآة، ابتسمت له لأول مرة، استدارت نحوه ووضعت يديها على كتفيه.. فوضع يديه حول خصرها، بعد تردد، وحاول تقبيلها. فإذا بدقات قوية ومتلاحقة تهزّ خشبات الباب الخارجي للمنزل.
ارتبكت عفاف وخافت من تلك الدقات المتلاحقة، التي ازدادت حدّتها، أبعد فريد بسرعة يديه عن جسدها، وطلب منها ارتداء ملابسها. أغلق باب غرفة النوم خلفه، واتجه صوب الباب الخارجي، وصوته يسبقه باللغة الانجليزية:
- من هناك؟
- الشرطة.. افتح وإلا..
أخذ يتلفت يمنة ويسرة، كأنه يبحث عن شيء يخفيه، أو يبعده عن عيون رجال الشرطة. بعد لحظات تماسك نفسه وفتح الباب بيد مرتعشة، فإذا به أمام مفاجأة..
- هالو فريدي.. انت ليه تأخرت في فتح الباب؟!
- يا اولاد الأبالسه.. هو انتو.. وقعتو قلبي بين ركبي..
- يا سلام.. ليه بقى.. انت جايب معاك من السفر ممنوعات؟
- ممنوعات إيه روجينا انت وسوسو..
- آه ممنوعات.. جايب معاك واحده ست.. مش كده برضه؟
- ما انت عارفه ان المدام بعتتني علشان اتجوز.. يبقى أجيب معايا واحده ست والا واحد راجل؟!
- ايوه كده.. أحسن كنت ازعل منك لو كنت جبت راجل معاك..
- هي فين عروستك يا فريدي؟
هنا ارتبك قليلاً وأجاب:
- في غرفة النوم..
- آه ياشقي.. وانت ما بقاش لك كام ساعة.. اشتقت خلاص؟
- لا أبداً روجينا.. انا مشتاق لك انت صدقيتي.. استنو شويه رايح أنده لها..
اتجه الى غرفة النوم، فتح الباب، وجد عفاف متكورة على الأرض، في جلستها المعتادة، عندما تكون في حالة نفسية سيئة، تطلع فيها.. ولأول مرة شعر بالعطف والحنان نحوها، ربت على شعرها، فرفعت عينين حزينتين ملؤهما الخوف والضياع. هدأ من روعها، طمأنها بان صديقه جاء للترحيب بها.
نهضت من جلستها، أخذت تصلح هندامها وشعرها. بينما هي على وشك الخروج، إذ بسوسو وروجينا يدخلان عليها. ما ان وقعت عيناها على روجينا حتى انتابها اعصار داخلي موجع. لم تتبين ان الواقفة امامها هي بشحمها ولحمها، صاحبة الصورة العارية الملصقة خلف باب خزانة غرفة نومها.. لكن هالها جمالها الشيطاني، ولجمتها الجرأة في عينيها، وفي حديثها الذي لم تفهم منه شيئاً.
أخذت روجينا تدور حول عفاف، وسوسو يضحك والدهشة تغمر فريد..
- حلوة.. أوريجنال خالص.. انت عندك ذوق حلو كتير فريدي..
رمت روجينا بفرمانها الهمايوني هذا، وسوسو يحاول رفع فستان عفاف الى أعلى ليرى مفاتنها عن كثب، مما جعل فريد ينتفض ويصيح:
- إيه اللي بتعمله يا مجنون.. انت ناسي دي مين؟ دي مراتي يا بني آدم؟!
صعق سوسو من تصرف فريد الذي لم يكن يتوقعه، فوقف مذهولاً كطفل كسروا لعبته، ولا يعرف كيف يعلل فعلته. فخيم على الغرفة صمت غير محبب بينهم بدده سوسو بصوته.
- أنا آسف فريدي.. الحقيقة انا عايز أشوف ركبها بعدما وقعتها انت خارج المطار.
- إيه.. انت كنت هناك؟!!
- أيوه.. المدام بعتتني علشان تطمن انك وصلت بالسلامة..
- تطمن وبس.. مش كده برضه؟
- دي أوامر المدام.. وانت عارف المدام.
تدخلت روجينا بالحديث وقالت لفريد:
- على العموم حصل خير.. يا الله بقى يا جماعة أحسن المدام مشتاقة جدا تشوفك وتشوف امورتك الحلوه.. ياه دي اوريجنال خالص يا فريدي.
استأذن فريد وذهب الى (الجراج) ليأتي بحقيبة من المؤكد انه وضع بداخلها هداياه للمدام ولكل الذين يعمل معهم.
ركب فريد إلى جوار سوسو، وجلست عفاف وروجينا في المقعد الخلفي.
كانت مفاجأة كبرى لعفاف عندما رأت ان الشمس المشرقة محت في وقت قصير كل اثار الرعد والبرق والمطر، وأصبحت السماء صافية كعيون اخوتها الصغار. نظرت الى الشوارع فلم تجد أثرا يذكر لمياه المطر، فتمتمت في سرها:
- عجيبة البلد دي.. المطر دا كله بعديه شمس وسما صافية، وشوارع نظيفة لا وحل ولا طين.. والناس عجايب.. يبقى ايه دا سي سوسو والست روجينا.
عندما ذكرت اسم روجينا في سرها، رشقتها بنظرة سريعة، وفي داخلها شعور خجول يقول لها انها رأتها قبل اليوم. لكن كيف يكون لي هذا.. وهذه هي المرة الأولى التي أتعرف بها عليها في أستراليا.
بينما هي تلقي بنظرهاعلى روجينا، كانت هذه الأخيرة على وشك اشعال سيجارة، وعندما وقعت عيناها على عفاف قدمت لها علبة السجائر، لكن عفاف هزت رأسها علامة للرفض، وازاحت بيدها الناعمة علبة السجائر.
وصلت السيارة الى منزل المدام، أو بالأحرى الى قصر المدام.
نزلت عفاف مع روجينا، وهرول فريد الى داخل القصر وهو يحمل حقيبته. دخلت عفاف القصر ولم تر أثرا لزوجها. أخذتها روجينا الى بهو كبير، كل شيء فيه يصلح لأن يكون في معرض للتحف، طلبت روجينا من عفاف الجلوس بعد ان استأذنت لبضع دقائق.
كان فريد قد دخل مكتب المدام بمفرده. سلم عليها بشوق ورفع يدها ليقبلها. نظرت اليه نظرة متفحصة وكأنها تسأله عن محتويات الحقيبة، فقال لها:
- مفاجأة يا مدام.. يا ست الستات وأجمل الجميلات.
إبتسمت المدام في حياء مشوب بتكبر وغطرسة.
- المفاجأة في الشنطة واللاّ في المفعوصة اللي رحت واتجوزتها؟!
- حضرتك شفتيها؟!
طبعاً، أمال جهاز الامان والتلفزيون بيعملوا ايه!
طبعاً.. طبعاً.. انا نسيت.
- ما تبقاش تنسى يا فريد.. احسن.. شغلنا اللي ينسى فيه بيروح ورا الشمس.. فاهم.
- أيوه فاهم.. طبعاً.. المهم لحظة واحدة وتشوفي المفاجأة..
فتح الحقيبة وأخرج العديد من الهدايا.. بعدها أخرج لفافة من القماش وقدمها للمدام..
- ايه يا فريد.. جايبلي لفة قماش؟
- روق يا جميل.. ما تبقاش حامي علي.. أمال.. شمي اللفة وقوليلي رأيك ايه.
قرّبت لفافة القماش من أنفها وصاحت:
- حشيش.. يخرب بيتك.. إزاي قدرت تطلع بيه من الجمرك؟!
أشار الى عفاف الظاهرة في شاشة المراقبة الجالسة وحدها في هدوء وكأنها طفل بريء مطيع يسمع وينفذ.
- شوفي يا مدام.. المفعوصة دي قدرت تطلع أربع طرب حشيش درجة أولى من غير ما حد يشك فيها..
- اما انت ابن جنية حقيقي.. قوللي كانت تعرف ايه اللي شايلاه؟
- تعرف ايه يا مدام؟!.. دي تلميذة غلبانه.. يعني كنت عايزاني اتجوز واحدة مفتحة ومدردحه وتبوظ علينا الشغل.. هي دي «مشيرا الى عفاف» البنت اللي تنقصنا.. واللا ايه رأيك يا وحشاني؟!
- فرد إحنا(في دلال) دلوقتي في وقت بيزنس.. دا كل اللي جبته معاك؟
- آه.. ايوه دا كل اللي جبته.. وكمان شوية هدايا للزملا..
- فيك الخير.. احكيلي اتعرفت عليها ازاي؟ ولما اتجوزت ايه اللي عملته معاها؟
اخذ يقص عليها قصته مع عفاف، ويصور لها ليلة دخوله عليها، وما كان في تلك الليلة من سكر ومخدرات.. بل حكى لها بالتفصيل كل امورهما الجنسية.. واشمئزازها الساخر منه لدى مجامعته لها.. ولم ينس ان يخبرها كيف رأت لدى وصولها الى البيت، صورة روجينا العارية في غرفة النوم.. وكيف وقفت مثلها امام المرآة ولم تشمئز منه عندما حاول تقبيلها، وكأن الغيرة دفعتها الى ملاطفته.
إستمعت المدام اليه بأذن صاغية ولم تقاطعه اثناء حديثه.
بعد ان انتهى من سرد قصته، قامت بفتح خزانتها الحديدية واخرجت منها علبة قطيفة وطلبت منه اخفاء الحشيش وعدم اخبار احد به.. بعدها ضغطت على زر مثبت فوق مكتبها، فجاء سوسو مهرولاً. فطلبت منه ان ينادي على روجينا وباقي البنات.. وطلبت من فريد احضار زوجته بنفسه.
ما هي الا لحظات حتى امتلأ مكتب المدام بالعاملات معها، فطلبت منهن استقبال فريد وزجته بالتصفيق.
وقف فريد وزوجته امام المدام في أدب واحترام، والدهشة تعلو وجه عفاف من كثرة التصفيق والهتاف. كان على يمين المدام سوسو وعلى يسارها روجينا. تقدم فريد وسلم على المدام وقبل يدها، وقدم زوجته لها. اقتربت عفاف وصافحتها في خوف وارتباك، وهي لا تعرف اذا كانت في حلم ام يقظة. هل هذه هي أستراليا واهل أستراليا؟ ام من يكون هؤلاء؟ وأهم من ذلك.. من يكون زوجها فريد!!. قطع عليها حيرتها صوت المدام وهي ترحب بها وتأخذها بالاحضان.
رحبت المدام بعفاف وكان فريد يقوم بالترجمة. وإن كانت الترجمة لطرف واحد، فقد شلّت المفاجأة عقل وتفكير عفاف.
أهدت المدام طقما ذهبيا مرصعا بالماس لعفاف كهدية جوازها من فريد.
سهر الجميع حتى ساعة متأخرة من الليل في فرح ورقص وشرب، وعفاف ما زالت في ذهولها مما يجري حولها.
بعد ذلك أمرت المدام بوقف الاحتفال وطلبت من فريد ان يأخذ زوجته الى غرفته في القصر التي أعدتها لهما ليقضيا أجمل لحظات عمرهما.
ستة أشهر مرت منذ وطئت قدما عفاف ارض سدني.. ستة أشهر وهي تعيش في حلم وردي جميل. لم تر المنزل الذي نزلت فيه يوم وصولها. بل عاشت في قصر المدام، مثل بقية النساء والرجال الذين يعيشون داخل القصر الكبير.
الليلة الأولى نامت مع فريد.. ولا تتذكر ان تم اتصال جسدي بينهما ام لا.. او حتى ان كان قد نام معها في الغرفة من اصله.
عندما افاقت في اليوم التالي لم تجده بجوارها.. ولم ينم معها بعد ذلك.. فقد كانت روجينا رفيقتها صباحاً ومساء والمسؤولة عنها. وهي التي كانت تنام معها وقامت بتعليمها اللغة الانجليزية وأشياء اخرى كثيرة.
لم تقف اللغة عائقاً بينهما، لأن روجينا تعلمت اللغة العربية على يد عشيقها وحبيبها فريد. فكانت روجينا همزة وصل بين الجميع.
تخرج يوميا من القصر وتذهب مع روجينا او سوسو احيانا الى أماكن مختلفة، من سدني، وعندما يرخي الليل ستارته السوداء على المدينة، يبدأ السهر والرقص والغناء، حياتها ولا أجمل، شربت الخمر ودخنت السيجارة، ارتدت الملابس وفق أحدث ما تنتجه الموضة الاوروبية. لبست (الجينز) فبدا جسدها ملفوفاً وملفتاً ومغرياً. التف حولها الشباب كل يريد ان يراقصها او أن يعلمها رقصة ما. كل هذا وروجينا لم تغفل عنها لحظة واحدة، فعندما تحتاجها كانت تجدها بقربها.
تغيرت عفاف.. إزداد اعجابها بنفسها.. انانيتها جعلتها تطلع بمفاتنها في كل مرآة تجدها.. وروجينا تشجعها وتمدح جمالها ومفاتن جسدها.
رؤية زوجها أصبحت نادرة.. واذا رأته، يكون على عجلة من أمره، أما روجينا فكانت تقص عليها حكايات وحكايات عن كل مكان ترتدانه، وكانت قبل ان تنام تقدم لها شراباً ذا طعم غريب ولكنه لذيذ. بعد ان تنتهي من الشرب، كانت تعيش في عالم غير هذا العالم. عالم كله احلام جميلة تأخذها الى البعيد.. البعيد، لتحلق في سماء النغم الهاديء الحالم. انها نائمة مستيقظة، تدري بما يدور معها و حولها ولكنها لا تستطيع المقاومة.
ذات مرة، وهي على تلك الحالة، خيل لها انها رأت المدام وزوجها فريد ينظران اليها. فريد يبتسم ويتطلع الى المدام بكل فخر واعتزاز ولسان حاله يقول.. ها هي زوجته تفعل ما تفعله روجينا.. وكأنه يريد ان يثبت للمدام انه كان محقاً بزواجه من هذه (المفعوصة) حسب تعبير المدام.
(يتبع)